استثناء القصة الطويلة للراحل د. يوسف ادريس وهي 'سيدة من فيينا' فإن ما كتبه الروائيون العرب الذين هاجروا الى الغرب في النصف الأول من القرن الماضي يفتضح الرؤية الجنسوية التي رصدها على نحو دقيق جورج طرابيشي، فالشرق ذكر والغرب انثى بدءا من 'عصفور الشرق' للحكيم حتى 'الحي اللاتيني' و' موسم الهجرة الى الشمال' لكل من سهيل ادريس والطيب صالح، واذا صحّ ان نسمي تلك المرحلة تأنيث الغرب فإن ما يكتب الان بعد المزيد من الاتصال بهذا الغرب هو تخنيث بالمعنى الدقيق خصوصا بعد عودة الاستشراق بلون وصيغ مغايرة منذ عقد من الزمن .
التأنيث يقبل التزاوج بين الشرق والغرب وان كان الزوج وفق تلك الرؤية الجنسوية هو الشرق، اما الغرب فهو الانثى او الزوجة، وذلك لأسباب ساهم الاستشراق الكولونيالي في ترسيخها، بعد ان تحولت نصوص شرقية كـ 'ألف ليلة وليلة' الى نمط من الجنس الطقوسي او السحري، وقد يكون التشكيلي في نماذجه الاستشراقية تجسيدا لهذا المفهوم، ومن اتجهوا شرقا من الغرب حسب ما يقول هيرمان هيسّة في 'رحلة الى الشرق' هم أربعة أنماط، منهم الباحث عن المال او شهوة المعرفة او الفرار او سحر المرأة كما رسمها في مخيلته، وهذا الاخير كما يقول هيسة ملدوغ في صميم وجدانه، وحالم بأن يظفر بما لم يظفر به الآخرون ممن تأقلموا مع شروطهم البيئية والثقافية .
في قصة يوسف ادريس الطويلة 'سيدة من فيينا' ثمة موقف انقلابي في وعي الشرقي الذي ذهب الى اوروبا زائرا وليس للاقامة، فقد لقّنته السيدة الاوروبية درسا مضادا لثقافته، وهو ان المرأة في الغرب ليست ظامئة كما يتخيل الى ذكر شرقي ساحر .
ان مفهوم التأنيث كما استقرأه طرابيشي نقديا من خلال عدة نماذج روائية في مقدمتها 'موسم الهجرة الى الشمال' ليس هو مفهوم التأنيث كما يقدمه الان كتّاب غربيون، بدءا من مقولة اراغون الشهيرة وهي 'المرأة مستقبل الرجل' حتى ما كتبه فرانسيس فوكوياما عن تأنيث المستقبل، فالأنوثة خارج السياق الجنسوي في بُعده العضوي تشمل مناخات معرفية، اذا سلّمنا بأن المرأة كانت لستة آلاف عام ضحية ايديولوجيا الذكورة، فهي كما يقول الانثروبولوجي مالينوفسكي فقدت سطوتها ونفوذها السحري بعد اكتشاف البرونز، وتلك بالطبع مسألة يطول السجال حولها، فالأطروحات تحتمل خلافات لا حصر لها.
لقد كانت حروب التاريخ باستثناء الحرب الانثوية التي قامت بها الامازونيات عندما بترن اثداءهن كي لا تعوقهن عن استخدام القوس هي حروب الرجل، والمثل العربي القائل ان الفقر ذكر يقبل تأويلات لا نهاية لها، فالجهل ايضا يمكن ان يدرج في الخانة ذاتها وكذلك الطغيان ومجمل حصاد الباترياركية .
* * * * * * *
ما كان اراغون يقصده بتلك العبارة الصادقة لأبناء جيله وهي 'المرأة مستقبل الرجل' يتجاوز مديح الأنوثة، او انحياز العاشق، فليست إلزا تريوليه بالتحديد هي المقصودة بذلك بل الانوثة في المطلق، وكأن البشرية في صيرورتها وسيرورتها على السواء تتقدم باتجاه التأنيث بمعناه غير العضوي، وبكل ما يرمز اليه من تمدن وسلام وعطاء، فالمرأة هي حاضنة الحياة بامتياز وهي التي انيط بها على امتداد التاريخ حفظ السلالات، ذلك لأن تكوينها داخلي وحاضن، بعكس الذكر الذي ينتهي دوره عند دور اليعسوب في مملكة النّحل، وان كان يستمر في الحياة بعكس ذلك الكائن الانتحاري. ان التأنيث رغم كونه افرازا ثقافيا وتعبيرا عن علاقات ملتبسة بين الشرق والغرب يبقى طورا آخر غير هذا الطور الطارىء الذي التخنيث مكانه، فالتخنيث لا يرتجى منه اخصاب، ولو صحّ ما يقوله مؤرخو حضارات في مقدمتهم ويل ديورانت فإن الحضارات في خريفها تميل الى العقم، ويصبح الجنس فيها هدفا لذاته، بمعزل عن دينامياته الاجتماعية، وقد يصلح خريف الرومان نموذجا في هذا السياق عندما انعطبت البوصلة، وضاعت الهدفية وحلّ الخارج مكان الداخل مثلما حلّ الكم مكان الكيف. والغرب المعاصر الذي تنبأ ازوالد اشبنجلر بتدهوره عام 1917 وفي ذروة الحرب الكونية الأولى، كان على تخوم خريف يعصف بمنجزات روحية ومنظومات قيم، ولم يمض على صدور كتاب اشبنجلر اربعة عقود حتى اصدر كولن ولسون كتابه ' اللامنتمي 'وأعقبه بكتاب آخر هو 'دين وتمرد'، ترجم اى العربية لأسباب لا افهمها ' سقوط الحضارة '. علامات الاحتضار والسقوط عند ولسون هي تلك البثور التي ظهرت على جلد الحضارة المحتضرة، وهي من يسميهم اللامنتمين الذين يجدون أنفسهم مخلوعين من الجذور ولا يشعرون بالانتساب الى السياقات التي يعيشون فيها، واللامنتمي عند ولسون ليس الكلوشار الفرنسي او الصعلوك العربي الجديد، انه فيلسوف وشاعر ومؤرخ وراقص ورسام، نيتشه وتوينبي وشوبنهاور ورامبو ونجنسكي ويعقوب بوهمة وآخرون كلهم لا منتمون، واعمالهم تعبير خالد عن هذا الانفصام بين المبدع ومجتمعه. وحين اصدر كولن ولسون كتابه اصول الدافع الجنسي قدم من حيث يدري او لا يدري صورة تجسّد تخنيث الغرب، سواء من حيث رصد العلاقات الجنسية العابرة او الانماط غير المألوفة في الطبيعة. كلاهما الالماني اشبنجلر والانكليزي ولسون رسّخا بطريقتين مختلفتين مفهوم التدهور الروحي في الحضارة الغربية المعاصرة، وان كان الجنس بالنسبة لولسون المفتاح الذهبي فإن اشبنجلر رأى في العدمية الغربية ما يسميه غياب النفس الفاوستي الشرقي، فالناس كما رأى وخصوصا في سنوات الحرب لم يعودوا يخافون من الموت، لأنهم فقدوا الرغبة في الحياة وليس أي شيء آخر، وفي ثنائية الاقبال والادبار هذه تتجلى الحياة في أقصى شروطها وامكاناتها .
* * * * * * * *
الفارق بين استخدام المثقفين العرب لمصطلح تأنيث الغرب وبين استخدام المثقفين الغربيين هو ان الاستخدام العربي لا يزال جنسويا وعضويا في الصميم لاسباب عديدة منها فائض الكبت، لهذا يبدو الغرب الذي يرصدون ظواهره الجنسية أقرب الى الخنثى فلا هو ذكر ولا أنثى، لهذا لم يعد التزاوج ممكنا على تلك الطريقة التي رصدها جورج طرابيشي وهو يقرأ روايات ادريس وصالح والحكيم وآخرين .
نعرف ان المثقف في الغرب يدرك حالة الاحتقان التي تعيشها حضارته، لأن تاريخ الحضارات في النهاية وكما يرى هربرت ماركوز هو تاريخ الكبت والتصعيد، لكن مقابل هذا التصعيد القسري ثمة تسفيل ثأري، وهذا ما يتضح الان من انعتاق لا يعرف الحدوج كما لو انه تسديد مديونيات أضاف اليها التاريخ الذكر الربا الجنسي!
التأنيث يقبل التزاوج بين الشرق والغرب وان كان الزوج وفق تلك الرؤية الجنسوية هو الشرق، اما الغرب فهو الانثى او الزوجة، وذلك لأسباب ساهم الاستشراق الكولونيالي في ترسيخها، بعد ان تحولت نصوص شرقية كـ 'ألف ليلة وليلة' الى نمط من الجنس الطقوسي او السحري، وقد يكون التشكيلي في نماذجه الاستشراقية تجسيدا لهذا المفهوم، ومن اتجهوا شرقا من الغرب حسب ما يقول هيرمان هيسّة في 'رحلة الى الشرق' هم أربعة أنماط، منهم الباحث عن المال او شهوة المعرفة او الفرار او سحر المرأة كما رسمها في مخيلته، وهذا الاخير كما يقول هيسة ملدوغ في صميم وجدانه، وحالم بأن يظفر بما لم يظفر به الآخرون ممن تأقلموا مع شروطهم البيئية والثقافية .
في قصة يوسف ادريس الطويلة 'سيدة من فيينا' ثمة موقف انقلابي في وعي الشرقي الذي ذهب الى اوروبا زائرا وليس للاقامة، فقد لقّنته السيدة الاوروبية درسا مضادا لثقافته، وهو ان المرأة في الغرب ليست ظامئة كما يتخيل الى ذكر شرقي ساحر .
ان مفهوم التأنيث كما استقرأه طرابيشي نقديا من خلال عدة نماذج روائية في مقدمتها 'موسم الهجرة الى الشمال' ليس هو مفهوم التأنيث كما يقدمه الان كتّاب غربيون، بدءا من مقولة اراغون الشهيرة وهي 'المرأة مستقبل الرجل' حتى ما كتبه فرانسيس فوكوياما عن تأنيث المستقبل، فالأنوثة خارج السياق الجنسوي في بُعده العضوي تشمل مناخات معرفية، اذا سلّمنا بأن المرأة كانت لستة آلاف عام ضحية ايديولوجيا الذكورة، فهي كما يقول الانثروبولوجي مالينوفسكي فقدت سطوتها ونفوذها السحري بعد اكتشاف البرونز، وتلك بالطبع مسألة يطول السجال حولها، فالأطروحات تحتمل خلافات لا حصر لها.
لقد كانت حروب التاريخ باستثناء الحرب الانثوية التي قامت بها الامازونيات عندما بترن اثداءهن كي لا تعوقهن عن استخدام القوس هي حروب الرجل، والمثل العربي القائل ان الفقر ذكر يقبل تأويلات لا نهاية لها، فالجهل ايضا يمكن ان يدرج في الخانة ذاتها وكذلك الطغيان ومجمل حصاد الباترياركية .
* * * * * * *
ما كان اراغون يقصده بتلك العبارة الصادقة لأبناء جيله وهي 'المرأة مستقبل الرجل' يتجاوز مديح الأنوثة، او انحياز العاشق، فليست إلزا تريوليه بالتحديد هي المقصودة بذلك بل الانوثة في المطلق، وكأن البشرية في صيرورتها وسيرورتها على السواء تتقدم باتجاه التأنيث بمعناه غير العضوي، وبكل ما يرمز اليه من تمدن وسلام وعطاء، فالمرأة هي حاضنة الحياة بامتياز وهي التي انيط بها على امتداد التاريخ حفظ السلالات، ذلك لأن تكوينها داخلي وحاضن، بعكس الذكر الذي ينتهي دوره عند دور اليعسوب في مملكة النّحل، وان كان يستمر في الحياة بعكس ذلك الكائن الانتحاري. ان التأنيث رغم كونه افرازا ثقافيا وتعبيرا عن علاقات ملتبسة بين الشرق والغرب يبقى طورا آخر غير هذا الطور الطارىء الذي التخنيث مكانه، فالتخنيث لا يرتجى منه اخصاب، ولو صحّ ما يقوله مؤرخو حضارات في مقدمتهم ويل ديورانت فإن الحضارات في خريفها تميل الى العقم، ويصبح الجنس فيها هدفا لذاته، بمعزل عن دينامياته الاجتماعية، وقد يصلح خريف الرومان نموذجا في هذا السياق عندما انعطبت البوصلة، وضاعت الهدفية وحلّ الخارج مكان الداخل مثلما حلّ الكم مكان الكيف. والغرب المعاصر الذي تنبأ ازوالد اشبنجلر بتدهوره عام 1917 وفي ذروة الحرب الكونية الأولى، كان على تخوم خريف يعصف بمنجزات روحية ومنظومات قيم، ولم يمض على صدور كتاب اشبنجلر اربعة عقود حتى اصدر كولن ولسون كتابه ' اللامنتمي 'وأعقبه بكتاب آخر هو 'دين وتمرد'، ترجم اى العربية لأسباب لا افهمها ' سقوط الحضارة '. علامات الاحتضار والسقوط عند ولسون هي تلك البثور التي ظهرت على جلد الحضارة المحتضرة، وهي من يسميهم اللامنتمين الذين يجدون أنفسهم مخلوعين من الجذور ولا يشعرون بالانتساب الى السياقات التي يعيشون فيها، واللامنتمي عند ولسون ليس الكلوشار الفرنسي او الصعلوك العربي الجديد، انه فيلسوف وشاعر ومؤرخ وراقص ورسام، نيتشه وتوينبي وشوبنهاور ورامبو ونجنسكي ويعقوب بوهمة وآخرون كلهم لا منتمون، واعمالهم تعبير خالد عن هذا الانفصام بين المبدع ومجتمعه. وحين اصدر كولن ولسون كتابه اصول الدافع الجنسي قدم من حيث يدري او لا يدري صورة تجسّد تخنيث الغرب، سواء من حيث رصد العلاقات الجنسية العابرة او الانماط غير المألوفة في الطبيعة. كلاهما الالماني اشبنجلر والانكليزي ولسون رسّخا بطريقتين مختلفتين مفهوم التدهور الروحي في الحضارة الغربية المعاصرة، وان كان الجنس بالنسبة لولسون المفتاح الذهبي فإن اشبنجلر رأى في العدمية الغربية ما يسميه غياب النفس الفاوستي الشرقي، فالناس كما رأى وخصوصا في سنوات الحرب لم يعودوا يخافون من الموت، لأنهم فقدوا الرغبة في الحياة وليس أي شيء آخر، وفي ثنائية الاقبال والادبار هذه تتجلى الحياة في أقصى شروطها وامكاناتها .
* * * * * * * *
الفارق بين استخدام المثقفين العرب لمصطلح تأنيث الغرب وبين استخدام المثقفين الغربيين هو ان الاستخدام العربي لا يزال جنسويا وعضويا في الصميم لاسباب عديدة منها فائض الكبت، لهذا يبدو الغرب الذي يرصدون ظواهره الجنسية أقرب الى الخنثى فلا هو ذكر ولا أنثى، لهذا لم يعد التزاوج ممكنا على تلك الطريقة التي رصدها جورج طرابيشي وهو يقرأ روايات ادريس وصالح والحكيم وآخرين .
نعرف ان المثقف في الغرب يدرك حالة الاحتقان التي تعيشها حضارته، لأن تاريخ الحضارات في النهاية وكما يرى هربرت ماركوز هو تاريخ الكبت والتصعيد، لكن مقابل هذا التصعيد القسري ثمة تسفيل ثأري، وهذا ما يتضح الان من انعتاق لا يعرف الحدوج كما لو انه تسديد مديونيات أضاف اليها التاريخ الذكر الربا الجنسي!