(1) في الأيام الماضية، بدا وكأن العرب اصبحوا محور العالم، على الأقل عند القيادة الأمريكية وحلفائها. ففي عدة خطابات، وكل مؤتمر صحافي، للرئيس باراك أوباما، أصبح 'ربيع العرب' هو مناط الحديث، وليس فقط كقضية سياسة خارجية. فهو قد تحدث عن نهضة العرب المرتقبة باعتبارها نقطة تحول في السياسة الأمريكية، ومؤشراً كذلك على نهضة الغرب ودوره القيادي في العالم. فمن غير الغرب لديه القدرة والرغبة في دعم طالبي الحرية؟ وفي ذلك تعريض واضح بمنافسي الغرب الاقتصاديين في الصين والهند والدول الناهضة الأخرى.
(2)
كان العالم العربي وامتداده الإسلامي- قد أصبح أولوية السياسة الخارجية الغربية مع سقوط الاتحاد السوفييتي ثم معركة غزو الكويت وذيولها. ولكنه تحول بعد أحداث الحادي عشر من ايلول/سبتمبر عام 2001 أولوية خارجية وداخلية معاً. وهكذا أصبحت أقوال الفقهاء في الجهاد، ومناهج التدريس في القرآن، من اهتمامات الرؤساء والدبلوماسيين والقادة العسكريين في أمريكا والغرب، كما أصبح الترويج للديمقراطية عند العرب سياسة معلنة لأمريكا والاتحاد الأوروبي.
(3)
التحول الذي سعى أوباما لتصويره في اهتمامه بالعرب يتلخص في أنه يأمل أن يكون تواصله مع العرب ليس عبر غزوهم (وإن كان تعقب وقتل بعضهم أصبح من أكبر مفاخره) وإنما عبر مساعدتهم في تحقيق الحرية وحل القضية الفلسطينية. فهو قد أدرك، كما أدرك بوش الأب بعد ضرب العراق، أن نفوذ أمريكا في المنطقة لن يستقر بدون الحل في فلسطين.
(4)
الافتراض وراء كل هذه المشاريع هو أن أمريكا وحلفاءها مؤهلون لتصدير الديمقراطية لأن لديهم فائضاً منها، وعلى تحقيق السلم والعدل لأنهم أهل خير وعدل. ولكن الاستقبال الحار الذي لقيه رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو من أعضاء مجلسي الكونغرس الأمريكي ألقى بظلال قاتمة على هذا الافتراض.
فإذا كان رئيس دولة أجنبية، متهما حتى من غالبية شعبه بالتطرف وسوء النية، يلقى من ممثلي الشعب الأمريكي هذا الترحيب الذي يجسد الغوغائية والنفاق معاً، حتى وهو يقف ضد السياسة الأمريكية المعلنة ويهدد بذلك مصالح أمريكا نفسها، فأي نموذج ديمقراطي هذا الذي نرى؟
(5)
في عام 1992 أصدر الكاتب الساخر بي جي أوروك كتاباً عن السياسة الأمريكية بعنوان 'برلمان المومسات'، شن فيه هجوماً لاذعاً على الساسة الأمريكيين وأخلاقياتهم المتدنية، خاصة فيما يتعلق بتزلفهم لأهل المال. وقد علق أحد المنتقدين (ممن هو أكثر يمينية وازدراء لأهل الحكم) قائلاً: ما ذنب المومسات حتى يشبهن بساسة أمريكا؟
(6)
بالمقابل فإنه من السهل الانزلاق في مسار كيل النقد أكثر من اللازم للديمقراطية الغربية وتناقضاتها، ولكن السؤال الذي يثار من هذا السجال ليس هو صحة تلك الديمقراطيات (فغالب أهلها راضون عنها، عدا ما نرى في أسبانيا التي تأثرت بربيع العرب، وحق لها، فإن لنا فيها تراثاً عميق الجذور)، وإنما ما نراه من انحرافها تجاه ظلم العرب.
(7)
لكن اللوم في هذا هو على العرب أنفسهم. فمن التبسيط أن يقال أن ساسة الغرب هم برسم البيع لمن يدفع أكثر، إذ لو كان الأمر كذلك لسهل على العرب شراء الكونغرس وغيره من بائعات الهوى، فإن لهم في هذه التجارة باعا طويلا يقصر عنه باع أبناء العم. ولكن العرب غائبون بحجتهم قبل مالهم، وبضعفهم الذي يجعلهم يستجدون وهم يدفعون، بينما نتنياهو يأمر وهو يتسول.
ولا تثريب على أعضاء الكونغرس إذا ازدروا العرب وتزلفوا لنتنياهو، لأن إهمال العرب وازدراءهم لا يضر أحداً.
(8)
عندما تحرك زعماء أمريكا والغرب للضغط على إسرائيل، وإن كان ذلك على استحياء، فإنما كان ذلك عندما شعروا بأن رضا العرب ضروري لمصالحهم. ولكنهم ما لبثوا أن شعروا بأن كسب انصياع العرب لا يحتاج إلى بذل أي جهد، بل إن العرب هم أعداء أنفسهم. فحصار العراق وغزة وضرب لبنان لم يكن مجلبة لغضب العرب، بل كان مطلب بعضهم، شارك فيه كثيرون بحماس. وفيما يتعلق بالديمقراطية، فإن الغرب لم يتحرك إلا عندما نجح العرب في إسقاط حكوماتهم المستبدة أو كادوا.
(9)
عندما ألقى خطابه الأخير، كان يعبر عن الأمل في أن تشكل صحوة العرب الديمقراطية ضغوطاً على إسرائيل تعينه على الضغط بدوره على الكونغرس ونتنياهو. وهنا يكمن التحدي، لأن الديمقراطية هي في نهاية المطاف لعبة توازنات.
وما لم يثبت العرب حضورهم، حتى إعلامياً وكلامياً (أين هي الإدانات العربية لترحيب الكونغرس بنتنياهو؟) فإن تعليق الآمال بأمريكا وغيرها يكون من قبيل التعلق بالأوهام.
ولعل الأصح أن يقال ان ديمقراطية أمريكا تحتاج العرب أكثر مما يحتاج العرب تدخل أمريكا حتى يتمتعوا هم بالديمقراطية.