عرف التاريخ نوعين من الإبادة، إحداهما دموية، والأخرى سلمية بيضاء، وقد تكون الابادة الثانية اشد خطورة وتنكيلا من الأولى، لأنها تتم بتواطؤ من الضحية ذاتها، عندما تتأقلم مع الصورة التي ترسم لها، ولكي تنجز الابادة السلمية لا بدّ للضحية ان تكون قد أوغلت في الماسوشية، واستمراء القضم، والثقافة ليست في منأى عن هذه الابادات، انها جوهرها وليس في الصميم منها فقط، سواء تمثّلت في لغة او نصوص او أية مرجعيات، لهذا يشكل انقراض اللغات الآن هاجسا جذريا لدى ثقافات تستشعر الخطر عن بعد، واللغة التي تنقرض تأخذ معها كل ما كتب فيها، لأنها ليست مجرد اناء يكسر فيسيل ما يملأه او ينقل الى اناء آخر، وذلك لأن جدلية الفكر واللغة وجمالياتها يتجاوز ثنائية الشكل والمحتوىِ، او الثمرة وقشرتها، فاللغة ليست قشرة لحضارة او ثقافة، انها الأنساغ، والجذور، ونحن نفكر بها أولا، وثمة فنون كالشعر هي فنون لغوية بامتياز لأنها تتأسس على المغامرة داخل اللغة، وقد دفع هذا الاستثناء سارتر الى اعفاء الشعرء من الالتزام الذي طالما كان اطروحته الفكرية قدر تعلق مهنة الكتابة بالتاريخ .
الابادة الحمراء، او الدموية، قد لا تحقق ما تحققه الابادة البيضاء، لأن الاولى تستولد ردود أفعال فورية، وتجتذب شهودا كي تبقى الجريمة ناقصة، اما الثانية فهي الجريمة الكاملة الوحيدة في التاريخ، لأن المفعول به يندغم في الفاعل بل يتماهى معه، ويتلاشى فيه، ونحن الان إزاء ابادة ثالثة، هي نصف دموية ونصف بيضاء، فالسياسة تتولى النصف الاحمر والثقافة تتولى النصف الابيض بلون الكفن لا بلون الياسمين او الثلج، وقدر تعلق هذا بالعرب المعاصرين، فإن امثولة النكبة الفلسطينية رغم تحفظنا على هذا المصطلح لأنه مستعار من كوارث الطبيعة وليس من كوارث التاريخ، قدمت نموذجا لثلاثة انماط من الابادة، فالبداية كانت احتلالا تحول الى استحلال، اي شرعنة السطو ونيل الاعتراف الدولي به، وتحويل المسروق الى استحقاق، ثم كانت المرحلة الثانية وهي اذابة الهوية القومية من خلال الثقافة والفولكلور، لأن استيطان الأرض يتطلب استيطانا موازيا للذاكرة، وهذا ما يفسر سطو اسرائيل على مظاهر فولكلورية في فلسطين، والزعم بأن اشكال التعبير والطقوس الشعبية في مختلف المناسبات هي ذات جذور يهودية، فالطارىء غالبا ما يكون مسكونا ومهجوسا بالريبة لهذا يسعى الى نيل الاعتراف بما اقترف، لأن مثل هذا الاعتراف في حال تحقق هو الضمانة الوحيدة للفرار من المساءلة، في بعديها السياسي والاخلاقي !
'''
ان هذه المرحلة التي دشنها الاعتراف غير المتكافىء منذ خمسة عشر عاما هي مزيج من ابادتين مجرّبتين دموية وبيضاء، وقد بدأت المسألة بما سمي كسر الحاجز النفسي، وهذه عبارة تبدو عابرة في أدبيات الميديا الاختزالية، لكنها ذات دلالات بالغة العمق والتعقيد، فالحاجز النفسي يتأسس على عداء كان سببه الأذى الكبير الذي الحقه طرف قوي بطرف أضعف منه، وتوشك عبارة الحاجز النفسي ان تكون المرادف المجازي لثأر مؤجل، ما دام الظرف الراهن لا يتيح للمعتدى عليه ان ينتقم لنفسه او يتحرر من السطو المسلح الذي حاول تدجينه وحذف هويته، فالتحالف الان استراتيجي وحاسم بين ثلاثة مستويات من الابادة، التي تكون ضحيتها خليطا من اللحم البشري والثقافة واللغة واخيرا الهوية والكينونة .
واذا كانت ردود الافعال السياسية والعسكرية على الابادة الحمراء مشروطة بما يحاصر الضحية ويحول دون استخدام ارادتها، فإن ردود الافعال الثقافية والمعرفية ليست على هذا النحو، وقد لا تستكمل الابادات الثلاث اهدافها الا حين تفرغ الثقافة من محتواها ومن شحنتها ودورها في إعادة الوعي السالب الى وضعه السوي، وما هذا التأقلم المتسارع مع الامر الواقع الا البداية الثانية لانجاز ابادة محرومة من الشهود، لأن اول ما يمكن قوله عن الضحية الخرساء والمتماهية مع جلادها، بل المتلاشية في اطروحاته الثقافية هو ان الاخرين لن يكونوا ملكيين اكثر من الملك، او ضحايا اكثر من الضحية، وما يجب التذكير به في هذا السياق وفي هذا الاوان الرمادي، هو ان الضحايا مستويات منها ما هو امتثالي وماسوشي ومتأقلم ومنها ما هو العصيان ذاته، واذا استبد وباء التأقلم بالضحية فإنه يحولها الى عدو نفسها بامتياز، وهذا ما يفسر لنا انقضاض الضحايا على ضحايا آخرين من جلدتهم بدلا من الانقضاض على الفاعل والذي يرشح ضحاياه الى ائتلاف وتناغم في مصير واحد، ان هذا أبسط الدفاعات الغريزية لدى الكائنات، لكن الانسان انفرد بهذه السايكولوجيا التي تعفّ عنها حتى الحشرات والهوام وهي تدافع عن وجودها وسرّ بقائها، وهناك حالات من ردود الافعال الباسلة على مختلف صيغ الابادات تعيد للغة ومنجزاتها الجمالية الاعتبار، فقد تقوى قصيدة عزلاء الا من رؤاها وجمالياتها وشحنتها الانسانية على صدّ ابادة منظّمة لأن فلسفة الابادة وفقه التطهير العرقي لا ينكسر امتداده الا عند حدود لغة محروسة بمبدعيها، وقد يكون النموذج الذي قدمه الفلسطينيون في المناطق المحتلة عام 1948 مدخلا مناسبا في هذا السياق، فهم منذ المستوطنة الاولى، اعلنوا العصيان على الترجمة القومية، وتشبثوا باللغة والذاكرة والتاريخ مثلما تشبثوا بالتراب، فكانوا بعد عقدين من الاحتلال التام والعزل القسري رافدا اساسيا في حركة الابداع العربي، وهذا بحد ذاته مقاومة في أقصى درجات التصدي، لأنهم لو تكاثروا عضويا فقط ولم يفرزوا هذا المنجز الثقافي لكان الوضع مغايرا... خصوصا في عصر لم يكن انقراض الهويات والشعوب فيه عضويا وماديا فقطـ، فهناك انقراض معنوي قد يطال شعبا برمته، رغم انه بان على قيد الحياة، لكن اية حياة !! انها ادنى مفاهيم البقاء الذي يتاح حتى للديدان والطحالب !
'''
للثقافة ايضا كما للأجساد الحية دورات دموية وخلايا بيضاء للمناعة، وهي تتعرض احيانا لأنيميا من طراز آخر، اشدّ فتكا، خصوصا اذا انسحب المثقف من الحلبة، وتشرنق كي يجتر ذاته الفقيرة، ويعيد انتاجها حتى وهو ينظر الى الشمس او سلسلة جبال، ولا يعنينا ما يقال او ينشر من توصيفات للمشهد السياسي العربي، والهشاشة الدفاعية لدى العسكرتاريا الصفراء، لأن هذا كله لن يكون له معنى الا اذا فقدت الثقافة مناعتها، وتحولت الى ظل وصدى وسادت عليها الروح الامتثالية الببغاوية، بحيث يجد المثقف نفسه كالمضبوع في الحكاية الشعبية، يعدو راجفا خلف الضبع الذي نفخ في وجهه وهو يناديه يا أبي ...
وثقافتنا العربية الان مضبوعة، ولا سبيل الى اعادتها للرشد التاريخي الا باسترداد الوعي، بعد كل هذه القرون لا العقود من السبات، والاستغراق في غيبوبة معرفية، لم تكن الغيبوبة السياسية الا من تجلياتها وافرازاتها السّامة !
واذا كان لا بد من فواصل تاريخية هي بمثابة مقتربات منهجية لاستقراء الابادات الثلاث، فإن عام 1492 وهو عام سقوط غرناطة، فاصل تاريخي بامتياز، دفع اكثر من مؤرخ وباحث في عصرنا الى اعادة النظام العالمي الجديد الى تلك الفترة او ذلك السقوط، وهو العام الذي تزامن مع اكتشاف العالم الجديد او الزائر غير المرغوب فيه حسب تعبير شهير لريجيه دوبريه، وقبل غرناطة، كان سقوط بغداد عام 1258 علامة فارقة، حيث أعلنت البومة الخريف ونعبت في الغسق، كنقيض للمثل الانكليزي القائل بأن السنونوة الاولى تعلن الربيع.. وقد نحتاج الى عقدين قادمين او ثلاثة كي نتأكد من ان سقوط بغداد الثاني في مطلع القرن الحادي والعشرين هو شاهدة ثانية على ضريح مغمور بالغبار، وقد يختزل هواة جمع القشور سقوط العواصم الكبرى بسقوط نظام او جنرال او حتى دولة، والحقيقة ان للسقوط دلالات أخرى تتجاوز هذا الاختزال الثأري والقراءة العوراء والكيدية للتاريخ، وكأن على النظام السياسي العربي ان يدرك في تلك الظهيرة السوداء انه فقد عذريته السياسية او ما كان يتوهم انه كذلك، خصوصا بعد ان اتضح ان الدولة العربية السايكوبيكوية هي شجرة لبلاب لا سنديانة او نخلة .
'''
الابادة الثالثة المستولدة من الابادتين الحمراء والبيضاء هي ثقافية، واللغة احد اهدافها البعيدة بل الاستراتيجية، فاذا كان ابو الطيب قد وقف غريب اللسان والقلب في شعب بوان ذات يوم فإن ذرية برمتها قد تكتشف في لحظة ما بأنها ترطن باللغة الأم، وتفتش في سرب الغربان الذي يغطي أفقها عن ريشة بيضاء او حتى رمادية، وقد تجدها، لكن في غراب اشيب .
اننا لا نحتاج الى مناسبة لفتح مثل هذه الملفات المغمورة بالغبار او الملقاة في خنادق امتلأت ببول الكلاب والمارة، وان كانت نوبة السعارالصهيونية التي تعتري دولة مسكونة بهاجس اسبارطي تحرضنا على الاسراع في فتح هذه الملفات وما يسمى عبرنة التضاريس الفلسطينية واسماء المدن والمعالم هو مقدمة لاقصاء اللغة العربية عن الاماكن الممهورة بها، لكأن هناك تاريخا آخر يبدأ بعد التاريخ .
وما يشعرنا بالهلع هو لا مبالاة الثقافة الرخوة بهذه الافخاخ، التي تستدرجها كي تصبح ثقافة أقلية تنتهي الى فولكلور وطقوس موسمية . العَبرنة والتهويد هما مستويان من الابادة، يستكملان ما بدأت به الأَسرَلة، فالاستيطان بدأ بالارض ثم تمدد الى اللغة واخيرا الى الثقافة كلها، وثمة ضحايا لديها الاستعداد ان تقايض دمها كله بحفنة علف او بوسام اقل قيمة من ريشة دجاجة ميتة .
لقد أفرط مؤرخو هذه الحقبة في وصف ما يسمون المابعديات بدءا من ما بعد الحداثة وما بعد الصهيونية وما بعد الاستعمار، واخيرا ما بعد الانسان وما بعد التاريخ، لكنهم اهملوا شيئا اساسيا هو ان هذه المابعديات الشكلاينة عودة غير مظفرة الى الماقبليات بدءا من ما قبل الدولة وما قبل التاريخ وما قبل القانون !
لقد اعلنت الدقّة الثالثة على خشبة المسرح المنهار الابادة الثالثة !!
الابادة الحمراء، او الدموية، قد لا تحقق ما تحققه الابادة البيضاء، لأن الاولى تستولد ردود أفعال فورية، وتجتذب شهودا كي تبقى الجريمة ناقصة، اما الثانية فهي الجريمة الكاملة الوحيدة في التاريخ، لأن المفعول به يندغم في الفاعل بل يتماهى معه، ويتلاشى فيه، ونحن الان إزاء ابادة ثالثة، هي نصف دموية ونصف بيضاء، فالسياسة تتولى النصف الاحمر والثقافة تتولى النصف الابيض بلون الكفن لا بلون الياسمين او الثلج، وقدر تعلق هذا بالعرب المعاصرين، فإن امثولة النكبة الفلسطينية رغم تحفظنا على هذا المصطلح لأنه مستعار من كوارث الطبيعة وليس من كوارث التاريخ، قدمت نموذجا لثلاثة انماط من الابادة، فالبداية كانت احتلالا تحول الى استحلال، اي شرعنة السطو ونيل الاعتراف الدولي به، وتحويل المسروق الى استحقاق، ثم كانت المرحلة الثانية وهي اذابة الهوية القومية من خلال الثقافة والفولكلور، لأن استيطان الأرض يتطلب استيطانا موازيا للذاكرة، وهذا ما يفسر سطو اسرائيل على مظاهر فولكلورية في فلسطين، والزعم بأن اشكال التعبير والطقوس الشعبية في مختلف المناسبات هي ذات جذور يهودية، فالطارىء غالبا ما يكون مسكونا ومهجوسا بالريبة لهذا يسعى الى نيل الاعتراف بما اقترف، لأن مثل هذا الاعتراف في حال تحقق هو الضمانة الوحيدة للفرار من المساءلة، في بعديها السياسي والاخلاقي !
'''
ان هذه المرحلة التي دشنها الاعتراف غير المتكافىء منذ خمسة عشر عاما هي مزيج من ابادتين مجرّبتين دموية وبيضاء، وقد بدأت المسألة بما سمي كسر الحاجز النفسي، وهذه عبارة تبدو عابرة في أدبيات الميديا الاختزالية، لكنها ذات دلالات بالغة العمق والتعقيد، فالحاجز النفسي يتأسس على عداء كان سببه الأذى الكبير الذي الحقه طرف قوي بطرف أضعف منه، وتوشك عبارة الحاجز النفسي ان تكون المرادف المجازي لثأر مؤجل، ما دام الظرف الراهن لا يتيح للمعتدى عليه ان ينتقم لنفسه او يتحرر من السطو المسلح الذي حاول تدجينه وحذف هويته، فالتحالف الان استراتيجي وحاسم بين ثلاثة مستويات من الابادة، التي تكون ضحيتها خليطا من اللحم البشري والثقافة واللغة واخيرا الهوية والكينونة .
واذا كانت ردود الافعال السياسية والعسكرية على الابادة الحمراء مشروطة بما يحاصر الضحية ويحول دون استخدام ارادتها، فإن ردود الافعال الثقافية والمعرفية ليست على هذا النحو، وقد لا تستكمل الابادات الثلاث اهدافها الا حين تفرغ الثقافة من محتواها ومن شحنتها ودورها في إعادة الوعي السالب الى وضعه السوي، وما هذا التأقلم المتسارع مع الامر الواقع الا البداية الثانية لانجاز ابادة محرومة من الشهود، لأن اول ما يمكن قوله عن الضحية الخرساء والمتماهية مع جلادها، بل المتلاشية في اطروحاته الثقافية هو ان الاخرين لن يكونوا ملكيين اكثر من الملك، او ضحايا اكثر من الضحية، وما يجب التذكير به في هذا السياق وفي هذا الاوان الرمادي، هو ان الضحايا مستويات منها ما هو امتثالي وماسوشي ومتأقلم ومنها ما هو العصيان ذاته، واذا استبد وباء التأقلم بالضحية فإنه يحولها الى عدو نفسها بامتياز، وهذا ما يفسر لنا انقضاض الضحايا على ضحايا آخرين من جلدتهم بدلا من الانقضاض على الفاعل والذي يرشح ضحاياه الى ائتلاف وتناغم في مصير واحد، ان هذا أبسط الدفاعات الغريزية لدى الكائنات، لكن الانسان انفرد بهذه السايكولوجيا التي تعفّ عنها حتى الحشرات والهوام وهي تدافع عن وجودها وسرّ بقائها، وهناك حالات من ردود الافعال الباسلة على مختلف صيغ الابادات تعيد للغة ومنجزاتها الجمالية الاعتبار، فقد تقوى قصيدة عزلاء الا من رؤاها وجمالياتها وشحنتها الانسانية على صدّ ابادة منظّمة لأن فلسفة الابادة وفقه التطهير العرقي لا ينكسر امتداده الا عند حدود لغة محروسة بمبدعيها، وقد يكون النموذج الذي قدمه الفلسطينيون في المناطق المحتلة عام 1948 مدخلا مناسبا في هذا السياق، فهم منذ المستوطنة الاولى، اعلنوا العصيان على الترجمة القومية، وتشبثوا باللغة والذاكرة والتاريخ مثلما تشبثوا بالتراب، فكانوا بعد عقدين من الاحتلال التام والعزل القسري رافدا اساسيا في حركة الابداع العربي، وهذا بحد ذاته مقاومة في أقصى درجات التصدي، لأنهم لو تكاثروا عضويا فقط ولم يفرزوا هذا المنجز الثقافي لكان الوضع مغايرا... خصوصا في عصر لم يكن انقراض الهويات والشعوب فيه عضويا وماديا فقطـ، فهناك انقراض معنوي قد يطال شعبا برمته، رغم انه بان على قيد الحياة، لكن اية حياة !! انها ادنى مفاهيم البقاء الذي يتاح حتى للديدان والطحالب !
'''
للثقافة ايضا كما للأجساد الحية دورات دموية وخلايا بيضاء للمناعة، وهي تتعرض احيانا لأنيميا من طراز آخر، اشدّ فتكا، خصوصا اذا انسحب المثقف من الحلبة، وتشرنق كي يجتر ذاته الفقيرة، ويعيد انتاجها حتى وهو ينظر الى الشمس او سلسلة جبال، ولا يعنينا ما يقال او ينشر من توصيفات للمشهد السياسي العربي، والهشاشة الدفاعية لدى العسكرتاريا الصفراء، لأن هذا كله لن يكون له معنى الا اذا فقدت الثقافة مناعتها، وتحولت الى ظل وصدى وسادت عليها الروح الامتثالية الببغاوية، بحيث يجد المثقف نفسه كالمضبوع في الحكاية الشعبية، يعدو راجفا خلف الضبع الذي نفخ في وجهه وهو يناديه يا أبي ...
وثقافتنا العربية الان مضبوعة، ولا سبيل الى اعادتها للرشد التاريخي الا باسترداد الوعي، بعد كل هذه القرون لا العقود من السبات، والاستغراق في غيبوبة معرفية، لم تكن الغيبوبة السياسية الا من تجلياتها وافرازاتها السّامة !
واذا كان لا بد من فواصل تاريخية هي بمثابة مقتربات منهجية لاستقراء الابادات الثلاث، فإن عام 1492 وهو عام سقوط غرناطة، فاصل تاريخي بامتياز، دفع اكثر من مؤرخ وباحث في عصرنا الى اعادة النظام العالمي الجديد الى تلك الفترة او ذلك السقوط، وهو العام الذي تزامن مع اكتشاف العالم الجديد او الزائر غير المرغوب فيه حسب تعبير شهير لريجيه دوبريه، وقبل غرناطة، كان سقوط بغداد عام 1258 علامة فارقة، حيث أعلنت البومة الخريف ونعبت في الغسق، كنقيض للمثل الانكليزي القائل بأن السنونوة الاولى تعلن الربيع.. وقد نحتاج الى عقدين قادمين او ثلاثة كي نتأكد من ان سقوط بغداد الثاني في مطلع القرن الحادي والعشرين هو شاهدة ثانية على ضريح مغمور بالغبار، وقد يختزل هواة جمع القشور سقوط العواصم الكبرى بسقوط نظام او جنرال او حتى دولة، والحقيقة ان للسقوط دلالات أخرى تتجاوز هذا الاختزال الثأري والقراءة العوراء والكيدية للتاريخ، وكأن على النظام السياسي العربي ان يدرك في تلك الظهيرة السوداء انه فقد عذريته السياسية او ما كان يتوهم انه كذلك، خصوصا بعد ان اتضح ان الدولة العربية السايكوبيكوية هي شجرة لبلاب لا سنديانة او نخلة .
'''
الابادة الثالثة المستولدة من الابادتين الحمراء والبيضاء هي ثقافية، واللغة احد اهدافها البعيدة بل الاستراتيجية، فاذا كان ابو الطيب قد وقف غريب اللسان والقلب في شعب بوان ذات يوم فإن ذرية برمتها قد تكتشف في لحظة ما بأنها ترطن باللغة الأم، وتفتش في سرب الغربان الذي يغطي أفقها عن ريشة بيضاء او حتى رمادية، وقد تجدها، لكن في غراب اشيب .
اننا لا نحتاج الى مناسبة لفتح مثل هذه الملفات المغمورة بالغبار او الملقاة في خنادق امتلأت ببول الكلاب والمارة، وان كانت نوبة السعارالصهيونية التي تعتري دولة مسكونة بهاجس اسبارطي تحرضنا على الاسراع في فتح هذه الملفات وما يسمى عبرنة التضاريس الفلسطينية واسماء المدن والمعالم هو مقدمة لاقصاء اللغة العربية عن الاماكن الممهورة بها، لكأن هناك تاريخا آخر يبدأ بعد التاريخ .
وما يشعرنا بالهلع هو لا مبالاة الثقافة الرخوة بهذه الافخاخ، التي تستدرجها كي تصبح ثقافة أقلية تنتهي الى فولكلور وطقوس موسمية . العَبرنة والتهويد هما مستويان من الابادة، يستكملان ما بدأت به الأَسرَلة، فالاستيطان بدأ بالارض ثم تمدد الى اللغة واخيرا الى الثقافة كلها، وثمة ضحايا لديها الاستعداد ان تقايض دمها كله بحفنة علف او بوسام اقل قيمة من ريشة دجاجة ميتة .
لقد أفرط مؤرخو هذه الحقبة في وصف ما يسمون المابعديات بدءا من ما بعد الحداثة وما بعد الصهيونية وما بعد الاستعمار، واخيرا ما بعد الانسان وما بعد التاريخ، لكنهم اهملوا شيئا اساسيا هو ان هذه المابعديات الشكلاينة عودة غير مظفرة الى الماقبليات بدءا من ما قبل الدولة وما قبل التاريخ وما قبل القانون !
لقد اعلنت الدقّة الثالثة على خشبة المسرح المنهار الابادة الثالثة !!