فى مؤتمر طبى بإحدى كليات الطب الخاصة وقف أستاذ طالباً الكلمة وقال "لماذا لانناقش فى المؤتمر الحمل المستكن؟!"، ولما سأله الحاضرون عما يقصده بالحمل المستكن، رد قائلاً : أقصد الحمل الذى يظل عاماً وعامين وثلاثة وأربعه!!، إندهش الحاضرون أساتذة وطلبة وتساءلوا: هو فيه حمل بيقعد ثلاث أو أربع سنين!!، رد الأستاذ واثقاً وساخراً من جهل زملائه :طبعاً..إذا كان الإمام مالك ظل فى بطن أمه ثلاث سنوات.
خطورة هذا الرأى أنه قد صدر عن أستاذ طبيب المفروض أنه قد تعلم المنهج العلمى فى التفكير، والمفروض أن مرجعه فى الطب هو المراجع والمجلات العلمية، وفى قضية طبية مثل معلومة أقصى مدة للحمل لابد أن يعود إلى ماتعلمه وقرأه فى هذه المراجع وليس إلى ماقرأه فى كتب الفقه، ولكن هذا الأستاذ للأسف لايعبر عن نفسه ولكنه صار يمثل ظاهرة تغلب النقل على العقل، ويلخص تياراً مستعداً للتضحية بكل ماتعلمه من طب فى سبيل تغليب نص فقهى أوالإنتصار لفتوى تراثية، بدليل أن هذا الأستاذ ليس الوحيد الذى ينتصر لمثل هذه الآراء ولك أن تعلم أن من يتزعم تيار دعم وتأييد ختان الإناث لدرجة أنه قد إختصم وزير الصحة أمام المحاكم يعمل أستاذاً للنساء والتوليد!!.
بعض الفقهاء مثل الحنفية يرون أن أقصى مدة للحمل قد تطول إلى سنتين، والمالكية والشافعية أربع سنوات، والبعض يرى أنها خمس سنوات، والبعض مدها إلى أكثر من ذلك!!، وهو كلام نقبله كنوع من الفولكلور ولانقبله على الإطلاق كنوع من العلم أو الحقيقة، ومن الممكن تبريره كما سنرى لاحقاً نتيجة سوء فهم لبعض الظواهر آنذاك مثل إنقطاع الحيض والتى لم يستطع القدماء تفسيرها إلا بأنه حمل مؤكد فحدث الإلتباس، أما أن يفرض كائن من كان على تفكيرى وعقلى أن أقبل هذه الخزعبلات تحت مسمى تطبيق الشريعة فهذا ماأرفضه أولاً للإسلام دين العقل بأن تلصق به هذه الأفكار التى تنتمى للقرون الوسطى، وثانياً أرفضه بالنسبة لعقلى الذى يفرض عليه أن يقبلها لمجرد أن المفتى قد ذكرها فى كتابه أو لأن الأزهر يدرسها فى منهجه!، فكيف أقبل علمياً مالم يشاهده طبيب نساء وولادة واحد منذ إختراع علم طب النساء والتوليد، ومالم يسجله جهاز سونار واحد حتى فى بلاد واق الواق؟!!، وكيف أقبل أخلاقياً أن أسمح بطوق نجاة فقهى لإمرأة من الممكن أن تمارس الفاحشة بعد وفاة زوجها ثم تنسب طفل الخطيئة للأب المتوفى إحتماء بمظلة الحمل المستكن أو تستراً وراء فتوى فلان أو مذهب علان كما حدث فى 19 جمادى الآخرة عام 1346هجرية فى المحكمة الشرعية فى مكه عندما حكم القاضى مصطفى عبد القادر العلوى بإلحاق نسب طفل ولدته أمه بعد موت زوجها بخمس سنين!!.
ولكن السؤال المهم هل ظل مفهوم الحمل المستكن سجين كتب الفقه لايطبق إلا فى الدولة الدينية أم تسلل إلى قوانين الدولة المدنية المذعورة من شعارات جماعات ضغط الإسلام السياسى؟، هل نحن دولة تحترم العقل والتفكير أم تقدس النقل والتكفير؟.
العلم يعرف كلمة الجنين ولايعرف أو يعترف بمايسمى الحمل المستكن أو مدة الحمل التى تتعدى عشرة شهور فمابالك بحمل السنتين والأربعه!، والمفروض بداهة أن يتبعه القانون ولايحاول مجاملة الفقهاء على حساب العلم، فهذه إجتهادات زمانهم ولابد أن توضع فى إطار هذه الظروف ولاتصبح سيفاً على رقبة المشرع، ولايعقل أن يضم القانون المصرى والسورى والخليجى نصوصاً تتحدث عن الحمل المستكن بمفاهيم القرن الرابع، فعلى سبيل المثال القانون رقم 15 لسنة 1929 " لاتسمع دعوى النسب لولد زوجة أتت به بعد سنة من غيبة الزوج"، وفى القانون 131 لسنة 1948 فقرة تقول "حقوق الحمل المستكن يعينها القانون"، وفى مرسوم بالقانون رقم 67 لسنة 1980 "الحمل المستكن أهل لثبوت الحقوق.."، وفى المادة 29 من قانون الأحوال الشخصية "على الوصى على الحمل المستكن إبلاغ النيابة العامة بإنقضاء مدة الحمل.."، وكذلك فى المادة 128 من القانون السورى، وكذلك فى قانون الولاية على المال فى البحرين.
دائماً يأتى الرد من أنصار النقل وأعداء العقل بأن الفقهاء يحسبون حساب الأشياء الشاذة التى من الممكن أن تحدث ولو نادراً، والفرق كبير بين الشاذ والمستحيل، فالمرأة التى تنتمى لفصيلة الإنسان لايمكن أن تتحول فجأة لفيل آسيوى ويتجاوز حملها السنتين!، وحتى مدة السنة الشمسية التى جامل فيها القانون الفقهاء وأصابه الحرج منهم مدة مستحيلة، وبوادر إنقباضات الولادة لها أسس ونظريات علمية مستقرة وواضحة، فالرحم ليس مخزناً صامتاً، والقاعدة هى أنه مستعد للفظ الحمل كجسم غريب ولكن الحكمة الربانية تضبط الإيقاع الهورمونى فيحتفظ الرحم بالحمل حتى يحين موعد الولادة وشرارة الإنقباض التى وضع لها العلماء نظريات منها أن عضلات الرحم عندما تصل لدرجة معينة من "السترتش" والتمدد تبدأ الولادة بدليل أن التوائم تولد مبكراً لأن التمدد أكبر، ونظرية أخرى هى أنه عند نضوج الرئة تفرز مادة البروستاجلاندين التى تذهب لمستقبلات عضلات الرحم فينقبض إستعداداً للولادة، وهناك نظرية تليف وضمور المشيمة التى لها عمر محدد لن تتخطاه ولن يصل إلى الجنين أى غذاء بعدها، ولو ظل هذا الجنين أكثر من 42 أسبوع فهو معرض للوفاة داخل الرحم، ولو أكثر من 43 فسيتوفى حتماً، ولابد من تدخل الطبيب بحسم عندما تتجاوز الأم الحامل ال 42 اسبوع، فمابالكم بجنين الخمسين أسبوع الذى يتحدثون عنه، من المؤكد أنه سيتعفن داخل الرحم، وحتى هذا الطفل المتوفى داخل الرحم لن يستطيع الطبيب تركه لمزاجه وللظروف لسبب بسيط هو أن هذا الجنين المتروك ميتاً داخل الرحم سيتسبب فى تغيرات فى تجلط دم الأم التى ستصبح معرضة للموت،ومعرضة أيضاً لجلطات السائل الأمنيوسى التى ستودى بحياتها.
إذن مدة الحمل غير متروكة للصدف والإحتمالات وتغير الأمزجة والأزمنة، ومن يقل الآن أن الإمام مالك ظل ثلاث سنوات فى رحم أمه يهزل فى موضع الجد، والذنب ليس ذنب من قال قديماً، ولكن الذنب ذنب من تبنى هذا الرأى حديثاً!!،
مناقشة آراء رجال الدين والفقهاء وإنتقادها ليست إنتقاداً للدين أو إنتقاصاً منه، والمفروض ألا تكون هناك حساسية عندما تناقش مسألة علمية أخطأ فى فهمها وتفسيرها الفقهاء قديماً، ولايجب أن نرفع السيوف متحفزين عند مناقشة هذه الآراء، فالخطأ ليس خطأ من يناقشها ولكنه خطأ من يعتبرها من صلب الدين، والأسئلة الإستنكارية التى يلقيها رجال الدين مثل هل تكذبون الفقهاء؟، ومن أنتم حتى تطاولوا قامة هؤلاء؟، مثل هذه الأسئلة معوقة لأى تقدم فكرى وعلمى، فنحن لانتهم الفقهاء بالكذب بل نضع أراءهم فى ظروف زمانهم ولانقدسها لأنها فقط صدرت عن رجال ثقات، فالحقيقة العلمية لها شروط أخرى غير مدى تقوى وورع صاحبها، وأيضاً كل من يناقش رأياً فقهياً فى العلم ليس معناه أنه يناطح الفقهاء ويطاول قامتهم، من الممكن ألا يكون أفضل منهم ورعاً وإيماناً ولكنه بالقطع يمتلك وسائل بحث عصرية أفضل منهم، وهذا لايعنى بأى حال إنتقاصاً منهم أو جرحاً لإجتهاداتهم.
قضية علمية مثل أن أقصى مدة للحمل سنة أو سنتان أو أربعة، لانستطيع أن نقبل تسللها إلى نصوص القانون وأمخاخ طلاب الأزهر لمجرد أن الفقهاء القدماء قالوها ورددوها، ولكن من الممكن أن نفسر وقوعهم فى هذا الخطأ بمفاهيم زمانهم وبيئتهم، فماقيل عن أقصى مدة للحمل رددته سيدات هذا الزمن بفولكلور هذا الزمن وعلم هذا الزمن، فسروا أى إنقطاع للحيض بأنه حمل، وبدأن فى حسابات خاطئة بناء على هذا التفسير، فكان من الممكن أن ينقطع حيض إمرأة بسبب الرضاعة سنة أو أكثر ثم تحمل أثناء هذا الإنقطاع فتضيف المدة الأولى على الثانية وتتوهم أن حملها سنتان!، والحمل الكاذب من الممكن أن يعطى نفس النتيجة، ففى هذا الحمل ينقطع الحيض وتحس المرأة بنفس أعراض الحمل تقريباً من قئ وتقلصات بل وإنتفاخ بطن، وتفسر حركة الأمعاء على أنها حركة جنين، فإن تم الحمل الحقيقى أضافت هذه المرأة الملهوفة على الحمل مدته إلى مدة الحمل الكاذب، وأيضاً إذا ولدت المرأة طفلاً بأسنان،فسرت وترجمت هذا الحدث على أن هذا الطفل تجاوز العام داخل الرحم!!، مع أن هذه الأسنان زائدة وعادة ماتسقط لينمو بدلاً منها الأسنان الطبيعية ويراها أطباء النساء الآن بدون أن يفسروا ذلك على أنه معجزة طفل ولد فى سن المدرسة!!.
قضية الحمل المستكن تفتح الباب أمام مناقشة كل ماإعتبرناه علماً وطباً داخل كتب الفقه، فلايمكن الآن فى القرن الحادى والعشرين أن نقول كما قال الفقهاء قديماً أن دم الحيض هو لتغذية الجنين وينقلب لبناً أثناء الرضاعة!، ونرمى كل ماتعلمناه فى مراجع طب النساء من تغيرات هورمونية تضبط إيقاع الدورة الشهرية وتمنع حدوثها أثناء الحمل، ولايمكن أيضاً أن نعتمد على مفاهيم ماء الرجل وماء المرأة فى تناول قضايا الوراثة والسكسولوجى وعلاج العقم، ونغض الطرف ونتجاهل مفاهيم الحيوان المنوى والبويضة والإنفجار المعرفى الذى حدث بعد إكتشاف الدى إن أيه، وكذلك المفاهيم التى تلصق بالدين على أنها فرائض طبية وهى فى الحقيقة ممارسة طبية مناسبة لزمانها مثل الحجامة التى من فرط الدفاع عنها ظننتها الفريضة السادسة.
أعتقد أن هواية التحنيط لم تندثر عند المصريين، فهاهم الآن يحنطون الدين والعلم معاً.
No comments:
Post a Comment