Tuesday, June 9, 2009

من أجل توثيق الحقائق: دور الفلسطينيين في نهضة لبنان عبد الحميد صيام

في الخامس عشر من شهر أيار(مايو) الماضي نشرت صحيفة السفير اللبنانية، وبالتحديد القسم المتعلق بالتوثيق والبحوث الذي يشرف عليه رئيس التحرير طلال سلمان نفسه، مقالا عظيما بعنوان 'الفلسطينيون جوهرة الشرق' حول الدور المحوري الذي لعبه الفلسطينيون قبل نكبة عام 1948 وبعدها في نهضة لبنان. ولأهمية المقال وددت لو أن كل عربي من محيط الوطن إلى خليجه يطلع عليه ويقبس منه شيئا من الحقيقة الساطعة.
والمقال ليس دعاية رخيصة أو تعبيرا عن تعصب أعمى لمجموعة عرقية لا ينتمي إليها الكاتب أصلا بل بحثا دقيقيا موثقا بالحقائق والأسماء والتواريخ يعرض الحقائق بطريقة موضوعية حول الدور الايجابي الذي لعبه الفلسطينيون في لبنان قبل النكبة وبعدها في المجالات الاقتصادية والثقافية والمالية والإبداعية. فالمقال يعتبر بحق صوتا صارخا ضد التيارات والمجموعات العنصرية والانعزالية التي ما إن تلتقط خطأ سياسيا يرتكبه قائد أو فصيل حتى تفتح فوهات مدافعها ضد كل الشعب الفلسطيني، بأطفاله ونسائه ومثقفيه ومناضليه وكتابه وشعرائه وأساتذته ولاجئيه.
يقول المقال إن الإزدهار اللبناني والانتعاش الاستثماري لم يبدأ إلا بعد نكبة فلسطين عام 1948 وذلك بسبب حجم الدور الإيجابي الذي لعبه الفلسطينيون في لبنان، حيث حملوا معهم ما قيمته 15 مليون جنيه أي ما يعادل مليار دولار بعملة اليوم أنعشت الاقتصاد اللبناني، كما أن انهيار ميناء حيفا ساهم في تنشيط ميناء بيروت وتحوله إلى مركز تجاري لشرق المتوسط عامة، وإغلاق مطار اللد أدى إلى توسيع مطار بئر حسن المتواضع المؤهل لاستقبال الطائرات الصغيرة فقط وتحوله إلى مطار دولي نشط. ولغاية هذا اليوم يحول الفلسطينيون العاملون في دول الخليج إلى لبنان ما قيمته 368 مليون دولار سنويا.
ثم يستعرض المقال أسماء الفلسطينيين الذين ساهموا في نهضة لبنان الحديث، فأول بنك أنشاه الفلسطيني يوسف بيدس وهو الذي أنشأ كازينو لبنان وطيران الشرق الأوسط. كما أنشأ الفلسطينيون في لبنان أول مصنع نسيج للملابس الجاهزة وأول شركة هندسة كبرى وأول شركة تأمين وأول شركة لتوزيع الصحف، وأول شركة تدقيق حسابات وأول محلات سوبر ماركت، ونظام الشقق المفروشة ، وأول من قاد طائرة الجمبو لشركة طيران الشرق الأوسط وأول من رفع علم لبنان في القطب الجنوبي الفلسطيني اللاجئ في لبنان جورج دوماني.
ثم يأتي المقال على أسماء الفلسطينيين الذين أنعشوا التعليم، وخاصة باللغة الإنكليزية، في الجامعة الأمريكية في بيروت ولمع منهم طلال أبو غزالة وحسيب الصباغ وكمال الشاعر وإحسان عباس ومحمد يوسف نجم ويضيف 'ومن بين أساتذة الجامعات الفلسطينيون نقولا زيادة وبرهان الدجاني ونبيه أمين فارس وصلاح الدباغ ونبيل الدجاني ويوسف الشبل وجين مقدسي وريتا عوض وفكتور سحاب ويسرى جوهرية عرنيطة ورجا طنوس وسمير صيقلي ومحمود زايد وعصام مياسي وعصام عاشور وطريف الخالدي'. ويؤكد الكاتب أن عدد خريجي الجامعة الأمريكية في بيروت من الفلسطينيين يكاد يساوي عدد اللبنانيين.
كما يستعرض كوكبة من الفلسطينيين المبدعين في مجالات الفن والموسيقى والمسرح ومن بين من يذكرهم الموسيقي والإذاعي المبدع حليم الرومي الذي أطلق على صوت نهاد حداد لقب فيروز، وهو والد الفنانة الكبيرة ماجدة الرومي. كما أسس صبري الشريف أول فرقة مسرحية أثرت على عمل الرحابنة وأنشا مروان جرار ووديعة حداد جرار أول فرقة فنون شعبية.
وفي الصحافة ظهرت كوكبة من الفلسطينيين في لبنان كان لها شأن وأثر كبير في انطلاقة الصحافة اللبنانية الني بزّت كل نظيراتها العربية ومن بينهم غسان كنفاني ونبيل خوري ونايف شبلاق وتوفيق صايغ وكنعان أبوخضرا وجهاد الخازن ونجيب عزام والياس نعواس وسمير صنبر والياس صنبر والياس سحاب وخازن عبود ومحمد العدناني وزهدي جار الله وليس آخرهم سمير قصير. والمقال يستعرض كثيرا من الأسماء في مجالات الرسم والفن التشكيلي ودور البحث العلمي والعمل السياحي وغير ذلك من مجالات لا يتسع المقال لتغطيتها جميعا.
مع تقديرنا الكبير للمقال وللأستاذ طلال سلمان الذي وثق كل هذه المعلومات، نود أن نضيف إلى المقال ثلاث نقاط مهمة تجنب المقال ذكرها لا عن جهل بل رفعة في أخلاق الكاتب والناشر وترفعا عن ذكر بعض الشوائب والتي قد تؤثر على رسالة المقال:
أولا: إن هناك من بين الفلسطينيين من أساء فعلا للبنان ولشعبه ولساسته ومؤسساته ورجاله ونسائه خاصة في فترة قيام 'دولة الفاكهاني' سيئة الصيت والسمعة. ففي فترة الفلتان أيام انتقال منظمة التحرير من الأردن إلى لبنان كان هناك مجموعات من الانتهازيين والجواسيس والقتلة والمهربين الذين ركبوا موجة الثورة وليس لهم علاقة بها بل وربما كانوا مدسوسين أصلا لتشويه الثورة وحرفها عن مسارها وضرب العلاقة بين الشعبين، فاستغلوا طيبة الشعب اللبناني وكرم أخلاقه فتحولوا إلى تجار سلاح ومهربين وعربدوا في شوارع الحمراء وسلحوا فريقا ضد آخر وشقوا الصفوف وأمعنوا في الفساد مستغلين البترودولارات التي ملأت جيوب الفئة الفاسدة والتي حولت الثورة الفلسطينية النبيلة إلى مدرسة فساد وإفساد. وما كادت تمر عدة سنوات حتى تحول معظم أبناء الشعب اللبناني من حضن دافئ للثورة الفلسطينية إلى محيط معاد لكل الفلسطينيين. وعندما اجتاحت إسرائيل الجنوب اللبناني وصولا إلى بيروت في صيف عام 1982 لم يطلق الجنوبيون طلقة على القوات الإسرائيلية الغازية وكانوا يقولون وقتها 'خلصنا من الفلسطينيين وخلصنا من تجاوزاتهم'. وبعد الرحيل المرّ إلى المنافي امتشق الجنوبيون السلاح وأطلقوا ثورة حقيقية بعيدة عن الفساد والمحسوبيات والشللية فأنجزوا أول انتصار حقيقي للأمة قاطبة في 24 أيار(مايو) 2000.
ثانيا: إن هناك فئة من بين الفلسطينيين الذين حصلوا على الجنسية اللبنانية، وغالبيتهم من المسيحيين كما هو معروف، تنكروا لفلسطينيتهم وكأنها تهمة يعاقب عليها القانون. وحاولت هذه المجموعة وما زالت أن تكون أكثر ملكية من الملك بل وشارك بعض أفراد هذه المجموعة الصغيرة في مذابح ارتكبت ضد الفلسطينيين في لبنان. وفي مقابلة حيّة مع واحد من هذا الصنف مع المذيعة جزيل خوري في برنامجها الاسبق 'حوار العمر' على شبكة الإل بي سي، أحمرّ وجه الضيف واصفر وتلعثم وانساب على وجهه عرق الإجهاد والخوف عندما كلمته إحدى قريباته من حيفا وكانت سعيدة جدا برؤيته وشكرت الرب لأنها استطاعت أخيرا أن تتعرف على ابن عمّـها عبر شاشة التلفزيون، وكأنها قفشته متلبسا بتهمة إخفاء أصوله الفلسطينية فما كان منه إلا أن قطعها بجملة يتيمة جافة دون أن ينظر إلى الكاميرا قائلا 'أهلا وسهلا'. وهناك أمثال هذه الشخصية الكارهة للذات كثير.
ثالثا: إن الغالبية الساحقة من الفلسطينيين من غير المجنسين والذين ما زالوا يسكنون في لبنان لا خيارا بل قسرا، يعانون من أبشع أنواع الحرمان والتهميش والإقصاء بحجة عدم التوطين. فما دام رفض التوطين قد أصبح مادة في الدستور تجمع عليه كافة القوى اللبنانية بل ويتمسك به الفلسطينيون أصلا فما هي المبررات التي تساق لمنع الفلسطيني من ممارسة أكثر من ثمانين مهنة؟ كيف يعقل تحت أي مبرر قانوني أو سياسي أو إنساني أو أخلاقي الاّ يستطيع الفلسطيني أن يمارس مهنة الطب أو المحاماة أو جمع القمامة أو توزيع البريد في بلد منفتح حضاري كلبنان بحجة رفض التوطين؟ كيف يعقل أن يسمح لكافة جنسيات الأرض بالتملك في لبنان إلا الفلسطيني الذي لا يعرف وطنا إلا لبنان؟ أليست هذه العنصرية بعينها كما قال السيد سليم الحص رئيس الوزراء الأسبق؟
وأخيرا نود هنا أن نؤكد أن الشعب الفلسطيني ليس أفضل من غيره من الشعوب العربية الطيبة المعطاءة. إلا أنه وبحكم تجربته المتقدمة في صراعه مع موجات الاستعمار الإستيطاني الإحلالي في فلسطين تمكن من إنضاج خبرة فريدة من نوعها في تمتين عناصر القوة الذاتية من علم ومعرفة وشجاعة واتساع أفق ووعي قومي وإبداع، وعمل بعد النكبة وما زال على نقل هذه المعرفة والتجربة إلى إخوته العرب، إلا أن تلك الجهود والمساهمات كثيرا ما قوبلت بالنكران والجحود.
نتمنى أن يخرج أكثر من طلال سلمان واحد وأكثر من جريدة ومجلة ودورية في الكويت والإمارات والبحرين وقطر والسعودية وليـــبيا والجزائر يتحدثون عن فضل الفلسطينيين على هذه الدول ويوثقون أدوارهم ومساهماتهم في نهضتها، بعيدا عن أخذ الشعب الفلسطيني بجريرة قياداته وسلطته وفصائله والتي غالبا لا ترتقي إلى المستوى الحضاري والعلمي والثقافي لهذا الشعب. هذه ليست دعوة عصبوية بل إحقاقا للحق وتوثيقا للحقائق التي كثيرا ما تكون أولى الضحايا عند الخلافات السياسة.

' أستاذ جامعي وكاتب سياسي يعيش في نيويورك

No comments:

Post a Comment