اذا صحّ ما نسب الى محمد علي باشا بأنه قال لأحد مستشاريه عندما حمل اليه بضعة كتب كي يقرأها منها 'الأمير' لميكافيلي : انا متفرغ لصناعة التاريخ، اعط هذه الكتب لمن تفرغ للكتابة عن التاريخ، فإن ما يعادل هذا الموقف في ثقافتنا العربية وخصوصا في مجال الشعر، هو عزوف أحفاد عبقر عن القراءة، لأنها تفسد الفطرة، وثمة حسب هذه القسمة من يتفرغ لكتابة الشعر مستلهما ذاته وحدها وما تفرزه من هذيان نرجسي وثمة بالمقابل من يتفرغ للقراءة والكتابة عن الشعر او نقده، ولم يحدث من قبل ان تحول الجهل الى مطلب ابداعي، تماما كما تحوّل الفقر الى مطلب قومي، في ثقافة عنكبوتية، اعتمدت على لعابها فقط لصيد ما تيسر من الذباب، سواء كان ذباب القصائد الميّتة او ذلك الذباب الذي حيّر الشاعر والناقد كرورانسوم عندما سأله عامل في مزرعته ما الذي جعل الذباب ذباباً؟؟
وفي هذه المناسبة اتذكرعبارة كان يرددها الصديق الباقي محمود درويش كلّما تحاورنا حول الكتابة، فقد كان يقول بصوت تمتزج فيه السخرية بالغضب، دعنا من طنين البعوض ولنعد الينا... وسواء كان الطنين للذباب او البعوض او لنقد كالذي وصفه تشيكوف عندما صوّره يحوم حول كفل الحصان، فإن الموقف من الجهل مرّ بثلاث مراحل منذ بواكير ثقافتنا العربية، المرحلة الاولى ما عبّر عنه عمرو بن كلثوم عندما قال نجهل فوق جهل الجاهلينا، والمرحلة الثانية هي مرحلة الشعور بشيء من الخجل بسبب هذا الجهل، أما المرحلة الراهنة فهي الزهو بهذا الجهل لأنه مدجج بأجنحة الدجاج ومناقيرها، فلا هو يطير، ولا يستطيع الدفاع عن نفسه وكل ما يفعله هو التقاط الحبوب من النفايات او التعثر بأجنحته وهو يعدو بشكل اخرق مثير للسخرية.
كان الاقدمون منا ومن سوانا ينسبون الابداع الى مصادر سحرية، واحيانا الى الشياطين، لكن أجدادنا الشعراء انفردوا بالادعاء بأن شيطانهم الملهم ذكر وليس انثى كما قال الفرزدق، وكنا نظن ان ما تبقى من هذه الاساطير قد تحوّل الى فولكلور ثقافي ينفع الحفريات الانثروبولوجية فقط، لكننا نفاجأ بين وقت وآخر بأن الفرزدق لا يزال بيننا بكامل عموديته ومزاعمه بتهديد مربعٍ الذي قال له ابشر بطول السلامة.
كان اول ما استوقفني للكتابة عن هذا الشجن هو تهرّب شعراء من شعراء درءاً لأي حوار، وبالتالي عزوف شعراء آخرين عن الالتقاء بأي مثقف مهجوس بأسئلة كبرى، وسمعت مرارا بعضهم يقولون ان الجلوس مع فلان يثير الصداع ويفتح نوافذ على الريح العاصفة، من الافضل اغلاقها، ولا ينفصل هذا عن تهرّب اصحاب الاختصاصات والمهن عموما من امثالهم وذلك رغبة في تحقيق الذات وهميا أمام غير ذوي الاختصاص، فالطبيب الذي يتحدث بفخر عن فتوحاته الأبوقراطية امام مرضاه فقط لن يجد من يقاطعه، والشاعر الذي يستغرق ساعات في مقهى او بيت وهو يتحدث عن مغامراته في الابداع امام اناس عاديين لن يجد ايضا من يقاطعه، انه يلعب الكرة مع نفسه ويسجل اهدافا بلا انقطاع ضد نفسه ايضا، وكان من نتائج تحويل الجهل الى مطلب ابداعي ان حلّ التواطؤ مكان الحوار الفاعل، فقد يقرأ شاعر نصّا امام زميل، فيراه يشد شعره ويضرب رأسه تعبيرا عن الاندهاش، وذلك كمقدمة لموقف آخر، تكتمل فيه المقايضة، والثقافة لها مستنقعاتها ايضا عندما تفقد التيار والحراك الخلاق، بحيث تطفو على هذه المستنقعات سراخس وفطريات، وهي معروفة لدى علماء الاحياء بمقايضاتها، لكن الناقد الادبي لم يهتد بعد الى ما يماثلها في الثقافة.
'' ''
على العارف اذن ان يعتذر عن ثقل دمه وثرثرته وما يسببه من صداع لجاهل فقد براءة الجهل الأول، وتقمّص عمرو بن كلثوم، حتى لو كان ما يكتبه هذياناً لا يستحق الادراج تحت عنوان السوريالية او الدادائية، وليس معلّقة مستوفية لشرطها العمودي. هنا تطرد العملة الرديئة العملة الجيدة وليس العكس ويصبح الاستثناء السلبي وفق القاعة القصديرية التي يأكلها الصدأ هو الايجابي بل النموذج، فالمرحلة كلها كذلك، بجنرالات احصوا اوسمتهم بالهزائم، ورجال مال احصوا ثرواتهم بالتهريب والاسواق السوداء والغسيل السري، وبنجوم فن في التمثيل والغناء استولدتهم شركات الاعلان بالانبوب الملون. وقد نشرت احدى الصحف مؤخرا تحقيقا عن متعهدين جدد لتسويق مطربين وفنانين مقابل تسعيرة محددة، ان كل شيء الان مباح بقدر ما هو متاح، وما من كوابح الا ما تبقى لدى أناس يعيشون حياتهم كما لو كانوا يقطعون مستنقعا، وقد وضعوا ايديهم على انوفهم واحيانا على عيونهم.
والمسألة اخيرا هي القدرة العجيبة على خداع الذات والتصديق بأن النافذة المرسومة على جدار سوف تخدع الطير والريح والضوء، لقد تحولت ديناميات التفكيك والتذرر وقضم الذات الى متوالية فيزيائية، فأصبح التخلّف ليس مجرد مساحة غامضة او كم مهمل، انه الان يتفاقم بقوانين نمو صارمة، وهذا ما يحدث للذائقة التي تم افسادها بشكل مبرمج وممنهج، فالسوق شبه مملوك الان لحزمة من هادمي التاريخ، كمقابل لما سماه ستيفان زفايج بناة التاريخ، واذا كانت الرأسمالية في ذروة توحشها قد احدثت كل هذا الانهيار الذي طال حياة الافراد مثلما طال المؤسسات الكبرى، فإن ما أفرزته ايضا وفقا لثقافة الاستهلاك، والانسان ذي البعد الواحد حسب وصف هربرت ماركيوز على صعيد المعرفة والفنون لا يستهان به، وان كان ما يبدو منه الان هو الجزء الذي نتأ من جبل الجليد، فالكوكب برمّته عرضة للارتطام بما يشلّه ويحوّله الى أطلال وليس تايتانك فقط. لهذا تصبح التفاسير التي قدمها نقاد جادون وعلماء جمال للشكلانية التي تظهر بشكل فج واستعراضي في مراحل بعينها، هي مراحل الخريف التي تنتاب الحضارات وتفرغها من المعنى والهدف، تماما كما حدث في نهايات الحضارة الرومانية، عندما تحول النوع الى كم والداخل تمدد الى الخارج، وعصف الفراغ الروحي العميق بالانسان حتى شيّاه وحوّله الى مجرد شبه جملة في الكون!!
'' ''
عاملان اساسيان ساهما في تعويم المعيار المعرفي، اولهما التضخم المبالغ فيه حتى التسّرطن في وسائل الاعلام والاتصال والمنابر الباحثة عن علف على مدار اللحظة، وثانيهما هو الانصراف الاجتماعي عن الاسئلة والهواجس الوجودية، فالناس تصوغ أمزجتهم شركات اعلان، لا تكف عن اسالة لعابهم على ما لا يملكون وما لن يملكوا على الاطلاق، وهذا ما عالجه اريك فروم على نحو بالغ العمق والحساسية في كتابه ' ان تملك او ان تكون ' وهذا العنوان تحريف مقصود للمقولة الشكسبيرية : ان تكون او لا تكون.. تلك هي المسألة.. وقد سخر فروم مثلما فعل فالهالم رايش في نصائحه للإنسان الصغير او الانسان الترانزستور في عصر تقزّم فيه كل شيء الا التوافه فهي مجرد محارات ملونة لكنها فارغة من اللؤلؤ، واحيانا تحشى بكرات من البلاستيك ذي الألوان الفسفورية الخاطفة للأبصار!
ان قوة الجهل رغم كونها عمياء، هي الان ما يرسم تضاريس الحياة، سواء تحت شعار العولمة التي لا تعني ما هو أبعد من القطعنة ونزع الدسم والخصائص وتحويل البشر الى قطع غيار متماثلة او باسم حريّات عديمة الجذور وبلا آفاق لأنها تنحصر في نطاق اشباع الغرائز، والاستجابة العضوية لمؤثرات صناعية مدروسة ومعدّة بعناية استراتيجية. وقد تكون العيّنات التي تقدم احيانا من طلبة الجامعات في العالم ومنسوب الوعي والثقافة العامة لديهم دليلا يجسّد ما ارتهن اليه عالمنا عندما قبل بأن يعيش بالخبز وحده، ويعيش ليأكل فقط رغم انه لا يحقق حتى هذا الهدف البدائي الذي تحققه الكائنات الادنى بلا ضجيج، واسوأ ما يمكن حدوثه في مرحلة ما هو العودة الى جدول الضرب والبديهيات المنطقية لأن معي ذلك ان الشك في جدوى العقل والخبرة الانسانية قد بلغ ذروته، بحيث نضطر احيانا الى التورط بسجالات حول دور الثقافة في الفن وتأثير الفلسفة على الابداع، او الدفاع عن حق المبدع في تحصيل المعارف المنجزة في مختلف الثقافات، هذه العودة البائسة الى جدول الضرب، تحرمنا من مراكمة خبرات جديدة، ومن متابعة ما يطرأ على المعرفة بمختلف حقولها من انقلابات حفرية، والمثقف العربي قد يضطر لهدر ثلاثة أرباع طاقته ليدافع عن حقه في استخدام الربع الباقي، لأنه لم يحدث في أية ثقافة او محيط حضاري ان طولب العارف بالاعتذار عما اقترف من معرفة، وعليه ان يشرب من نهر الجهل والجنون معا كي يستطيع التأقلم والتفاهم مع من شربوا.
وقد ساهمت الفضائيات في بث ثقافة استهلاكية وبضع مصطلحات يتداولها الناس بمعزل عن سياقاتها وجذورها مما خلق وهما بالمعرفة، وهو أنكى من الجهل، لأن نقيض الوعي هو الوعي الزائف كما ان نقيض الديموقراطية ليس الديكتاتوريات كما نتصور احيانا، بل هو الديموقراطيات الشكلانية الزائفة التي تحقق اشباعا وهميا لرغبات مزمنة. والكلام لبضع دقائق او كتابة عمود صحافي من مئة كلمة قد لا يفتضح عري الامبراطور المزهو بعباءته المطرزة وصولجانه المكسور، لأن ما يبث من ثقافة شفوية ، يكفي لصياغة بضعة سطور هي في حقيقتها شيك بلا رصيد سواء في بنك صاحبها او حسابه المعرفي.
'' ''
كان الجهل البريء حافز المعرفة الأولَِ، لكنه ما إن أصبح صناعة عصرية، وتلبية لاستراتيجيات سياسية وسلطوية حتى فقد براءته، وتسلح بأنياب تدافع عنه ضد كل معرفة. وكم يبدو الكاتب حتى لو كان شاعرا او روائيا مثيرا للعطف وهو يشيح عن معارف يتصور انها خارج ملكوته الابداعي، فالاقتصاد في بعده المعرفي من صميم مشروع الكاتب، الذي يدرك الان او لا يدرك بأن هناك اسواقا وبورصات ومافيات للورق والطباعة والنشر والتوزيع، وصناعة النجاح الموسمي.
وبامكان الشاعر العربي الذي ادار ظهره للمكتبة وألقى بجسده على رصيف العالم ان يستمر في اوهامه ولامبالاته... لكن ذلك لن يعفيه من الصدمة التي تحدث عنها سبندر عندما قال بأن شاعرا من هذا الطراز في الحرب العالمية الثانية ، لم يعفه جهله بالفيزياء من قتل والده... بأمر عسكري تسربت اشاراته من مسامير المقعد الذي كان يتقاسمه مع صديقته في حديقة عامة!!
No comments:
Post a Comment