وما يروج الآن من روايات البورنو سواء بالمضامين او تصميم الاغلفة او استخدام المفردات التي طالما عوملت كما لو انها عورات في اللغة، هو تسديد مديونية من طراز آخر، هو جنسوي بامتياز، وحين تجتذب هذه النصوص قرّاءً حتى من هؤلاء الذين يتفحصونها امام اكشاك بيع الكتب فإن السبب هو ما اشار اليه منير العكش قبل اكثر من ثلاثين عاما، عندما اختبر عددا من المتلقين من خلال تقديم نماذج شعرية متباينة، منها ما هو لنزار قباني والسياب وآخرين، وتوصل العكش في تلك الدراسة الميدانية والسايكولوجية الرائدة إلى ان معظم استجابات المتلقين لشعر نزار مثلا هي عضوية، وذات منابع جسدية وهرمونية، فما يثيرهم ويهيّجهم ليس الشعر بل المفردات ذات التاريخ المكبوت، وبالطبع ستكون حصة التجريد في مثل هذه المجتمعات أقل بأضعاف من أية حصص أخرى سواء تعلق بالشعر او الفلسفة او الرسم، وقد تكون شحة الدارسين في مجالي علم النفس الاجتماعي وعلم التخلف هي السّبب في عدم تقصي ظواهر ثقافية وافرازات هلامية لمجتمعات ضلّت الطريق الى ذاتها قبل أي مكان آخر.
وهناك الآن ما يشبه النادي، وإن كان اقل من استحقاقه لهذه التسمية، لأنه تشكل جيولوجي وهو حسب تعبير شهير لازوالد اشبنجلر، يوحي لك بأن ما تراه هو جبل او بحيرة، لكنه في الحقيقة من ابتكار العين، كالسراب تماما، ان نادي الحفاة هذا يشترط للانتساب اليه أمرين، اولهما ان لا يكون لدى العضو اي هاجس او قلق او اشتباك مع واقعه، وثانيهما ان يمتلك قدرا من النفاق ببعديه الاجتماعي والسياسي يتيح له ان يكون مع الله وقيصر في اللحظة ذاتها، ومع الرأسمالي والاشتراكي ومع الاتباعي والحداثوي ما دام الرهان بل الاحتكام كلّه لنيل اعتراف حتى لو كان من مؤسسة ثقافية يقودها أميّ ٌ أعمى، وترتبط بخط تلفوني ساخن مع اجهزة الأمن.
ان هناك من تورطوا في هذا النادي نصف الليلي لكنهم استقالوا وطالبوا بسحب عضويتهم، مقابل آخرين شمّوا عن بعد الرائحة ولم يتورطوا، لكنهم دفعوا اثمانا لاستقلالهم وعدم ارتهانهم وإصرارهم على ان الفيل ليس عصفورا ، والجنرال ليس حكيما.
إن من يجرؤ على الكلام الآن ليس من اصابه العمى لشدة ما تكسرت اجفانه امام اولياء النّعم، وليس من يمشي بمحاذاة الجدار حتى لو كان آيلا للسقوط كي لا يضبط متلبسا بعاره الاخلاقي او السياسي، وثمة نمط من المتسولين يطيب لهم على سبيل العلاج والتعويض ان يمارسوا دور السادة الكرماء ويبحثوا عن متسولين او ادنى منهم كي يعطوهم شيئا مما كسبوا، ومن يصابون بضيق التنفس لمجرد طرح قضايا من هذا النّوع، انما يحترزون من افتضاحهم ولو بعد حين!
* * * * * * *
هل انتهت مهنة الكتابة عند ثلاثة طقوس لا تعيش اكثر من ايام العزاء، سواء كان في سرادق على شارع او في صالة مكيفة الهواء وذات نسب ثقافي مشكوك فيه. ..
نشر الكتاب والاهتمام بغلافه والكلمة على صفحته الاخيرة، ومن ثم حفلة توقيع حتى لو كان روادها سبعة من اصدقاء المؤلف او الناشر، ومن ثم تعليق سطحي في جريدة يومية، وبعد ذلك ينتهي كل شيء بانتظار صدور كتاب آخر.
لقد طلب مني ذات يوم ان اشارك في الكلام حول كتاب لسيّدة في حفل توقيع، وقبل ان اعتذر قالت لي الوصيفة او سمسارة الحفل التنكري ان من واجبي ان امتدح الكتاب، وذلك من اجل المساهمة في تسويقه، وفوجئت السيدة باعتذار مزدوج، ولو صحّ ما يقال عن الكتب في حفلات التوقيع فإن هذه الكتب تجترح معجزات، اذ لا يمكن لكتاب واحد ان يكون مشجبا لمقولات جمالية ينوء بسبب هشاشته بنصف واحدة منها!
وهذه مناسبة اخرى لدرء التباس او استدراك ما حول نفوذ ثقافة النميمة على عقولنا، بحيث يطلب من احدنا وهو يتصدى لظاهرة او مفهوم ان يسمي الاشخاص او يحدد تواريخ الوقائع ويأتي بالشهود، ومردّ هذا باختصار الى سطوة الشخصنة على المفهوم، فنحن نادرا ما نتعامل مع الفكرة المجردة، لأنها اشبه بالموسيقى التي لا تتخللها كلمات. حتى اللوحات، نفرض عليها ان تترجم الى كلمات كي تفهم وهذا ايضا ما يفسر لنا قلة الرسوم الكاريكاتورية التي تكتفي بخطوطها دون اضافات لغوية، وأقرب الامثلة الينا الآن، ما يقدم من افكار وندوات عن المرض عندما يبدأ بالتحول الى وباء، وانفلونزا الدجاج او الخنازير او الثقافة لا تسمح لنا بعد ان تحولت الى اوبئة بأن نتوقف عند السيرة الذاتية لأحد المصابين، او معرفة اسماء من انتقلت اليهم العدوى في الصين والهند واستراليا!
* * * * * * * *
النادي او شبه النادي في طريقة التحول ليصبح مافيا، لها صفقاتها ومقايضاتها، والشيفرا الخاصة بأعضائها، وقد يأتي يوم قريب تحكم فيه المافيا قبضتها على صحف وفضائيات ودور نشر، لأنها تصاب بالهلع من أية ريح تهدد نوافذها بالخلع، ومن أية انجازات تشكك في قيمة وصدقية معيارها المتدني والمتواطأ عليه، لكن مثل هذه الحالات لبلابية، ولا تعيش الا اذا كانت متسلقة على جدار او أي شيء آخر، فهي بلا عمود فقري، وبلا مضمون ذاتي، لهذا فمعمرها أقصر بكثير مما يتصور اعضاؤها، ولأن هذا النادي نصف الليلي وربع الثقافي والرهينة الاعلامية لم يعلن بعد رئيس مجلس ادارته او أمينه العام او الخاص بحيث نتوجه اليه بطلب الاعفاء من العضوية حتى لو كانت بالتزكية، فنحن مضطرون الى انتظار ما تبقى من هذه الكوميديا الزرقاء نسبة الى الحبر وليس الى الماء او عيني زرقاء اليمامة. ..
ما يجب وبإلحاح التذكير به في هذا السياق، هو اننا نعيش مرحلة تأدلجت فيها الخرافة، وانعطبت البوصلات كلها، الاخلاقية والسياسية والثقافية ولم تسلم حتى البوصلة التربوية والوطنية من هذا العطب، فلا ندري الى أين نحن متجهون، شرقا ام غربا ام شمالا ام جنوبا أم الى جهة خامسة. لقد كانت التفاهة في كل الأزمنة عرضا جانبيا محتملا للحضارات، وهامشا ضئيلا غير فاعل واحيانا كان الناس بحاجة اليها لكي يتأكدوا من نقيضها باعتبارها وسيلة ايضاح لا أكثر، لكنها الآن تلعب دور البطولة في السينما والمسرح والأدب والنقد والغناء واسواق المال والحراك السياسي المتلفز الطافي على السطح. لقد قال اسلافنا بحكمة تقطرت من الحنظل وليس من الياسمين او البرتقال لا خير في قوم اذا جهّالهم سادوا، وحسب حكاية شعبية بالغة الدلالة وقابلة للتأويل البشري، فإن الاسد قرر مغادرة الغابة لأن الكلب قيّده بعد ان خدعه، والقرد فك قيده وحرره، وقال ان عالما تربط فيه الكلاب وتحل القردة لا يعاش فيه.
ومنذ طفولتنا كنا نلهو بقافلة من الخشب، لجمال مربوطة الى بعضها بالسلاسل ويقودها حمار صغير، ونسأل البالغين عن سرّ هذه الاحجية لكننا لا نظفر بإجابة، ثم ادركنا الدلالة التي تتجلى في نظم حكم ومعادلات مقلوبة.
عشر مجلات ذات أغلفة صقيلة تنزلق عنها العين ومثلها من الكتب بينها روايتان او ثلاث نرتطم بها في مدخل المول والحانوت وصالات المطار وواجهات اكشاك الكتب وعلى الأرصفة، وتسعون بالمئة على الأقل من الحوارات تتم مع هذه اليعاسيب التي تروي مغامراتها في افراز العسل.. رغم ان دورها، إن كان لها دور، ينتهي عند تلك العملية الانتحارية الخرقاء. ..
التخارج الآن كنقيض للتقاطع او التداخل هو سمة الظواهر الاكثر رواجا وسيادة في حياتنا، فالكتب ليست للقراءة، والديموقراطية ليست لتداول السلطة، والجامعات لتفقيس الموظفين، وكلام المجتمع المدني كومبرادور ما بعد الحداثة الذي يتعاطى اجرا سخيا على التزييف والبَدْوَنة باسم التمدين.
سنقول اخيرا بل اوّلا ً وقبل ان تلامس اصابعنا الوتر، أن من يصابون بضيق التنفس بسبب طرح قضايا من هذا النمط هم المبتلون الذين استتروا، والمنبتّون الذين لا ثقافة قطعوا ولا خجلاً أبقوا.