Saturday, August 22, 2009

العصاميّ الذي صافح نفسه ! - خيري منصور - القدس العربي


انه ليس بطلا روائيا على غرار العصامي اوجينيه في رواية 'الغثيان' لسارتر، وهو ليس النقيض التربوي للعظامي في أدبياتنا الاجتماعية التي انفصلت وانقطعت عن الحراك الفعلي للواقع، وادرجت في متحف المواعظ، هذا العصامي هو المثقف العربي ما قبل الاخير، لأنه في اقاصي العزلة يقبض على الجمرة باللسان، ولو اتيح له ان يفعل ما فعله الإله اندره في الاسطورة لاختفى في ساق زهرة اللوتس، ما دام الشيطان قد امتلك القوة كلها وحكم العالم، واذا كان صعلوك الامس قد تقاعد بعد أن سحبت الصحراء من تحت قدميه، فإن حفيده المعاصر يعيش غربة مزدوجة وله منفَيان، أحدهما التاريخ والآخر هو نفسه، بعد ان شطرته الشيزوفرينيا الى شاهد وشهيد، فلا هو هنا ولا هو هناك، انه المنبتّ الحديث الذي لا ثقافة قطع ولا جسدا أبقى، فالانسان البدائي، يملك جسده على الاقل، ويتعامل مع الكون بحواسه المشحوذة اليقظة، لكن هذا العصامي يقتاده جسده كما تفعل القطط وهي تدنو من شقوق الابواب لتلوذ بما يتسرب من هواء بارد في عزّ القيظ .
ان العصامي الذي لا يعثر على يد ثالثة يصافح بها نفسه يضطر الى ان يبدو كما لو كان يصفق، لأن مصافحة الذات متعذّرة، تماما كما هو تقبيل الذات متعذّر ايضا، فالآخر هنا ضرورة حتى لو كان جحيما، اننا نضطر الى ابتكاره عندما يغيب، لكن المثقف الأعزل الا من حلم غير قابل للتحقق، يصبح احيانا كبطل الاسطورة المعلق بين الارض والسماء، شفتاه مشققتان من الظمأ، ويقرض باطن خديه من الجوع، بينما تدنو منه العناقيد لتنأى وكلما اقترب من الماء وأوشك على ملامسته بشفتيه نأى ايضا، واذا كانت النصوص الادبية في احد ابعادها وثائق تاريخية ووجدانية، فإن بامكان اي مؤرخ قادم ان يفعل ما فعله ذلك الناقد المكسيكي عندما استخلص تاريخ حقبة من بلاده من خلال نصوص ادبية، وهذا ايضاً ما فعله الشاعر الامريكي كيمنغز عندما اصر على كتابة اسمه بحروف صغيرة ، كي ينبىء من سوف يقرأونه ذات يوم بأنه انسان صغير عاش في زمن صغير، او عصر الترانزستور كما سماه ويلهالم رايش الذي عوقب من الاشتراكيين والرأسماليين معا، لأنه تخطى قشرة الايديولوجيا وبلغ النخاع .

' ' '

كان امام العصامي ان يبحث عن احتياطياته الاستراتيجية في ذاكرته وموروثه، او في الناس الذين حذفتهم الدولة المستبدة من اقانيمها، وأنابت سماسرتها عنهم، لكنه شعر بالخذلان، لأن استلاب الوعي لدى الناس حوّلهم الى امعاء تسعى كالثعابين، وان كانت لا تفرغ سمها الا في جسدها، ونادرا ما يعترف العصامي بهذا الخذلان والاغتراب، لأنه يعاني ايضا من استلاب في الوعي يجعله بالغ الحذر من إدانة الناس من حوله ما داموا هم كل ما تبقى، ان هذا التواطؤ بين المثقف في اقصى العزلة والناس في ذروة الانهماك بما هو ضـروري وأولي يعمّق الفجوة، ويفاقم سوء التفاهم، بحيث لا تسمى الاشياء بأسمائها، ذلك ببساطة لأن من يعملون لحساب سادة الفقر والعنف والاستبداد ليسوا كائنات هبطت من كواكب اخرى، او خرجوا من صندوق باندورا اليوناني المليء بالشرور، انهم من هذه الارض، ومن ذوي العصامي المخذول وجيرانه وأصهاره وزملائه .
وكم يبدو الجدار العازل بين نظام سياسي عربي رسمي وآخر شعبي مثيرا للسخرية، اذا عرفنا بأن الاثنين هما توأما ثقافة وأعراف وتقاليد واحدة، وهذا ما يفسر السرعة القياسية التي تعود لها المعارضات الى الاستبداد ذاته عندما تصل الى الحكم، لهذا لا سبيل الى خلق توازن وهمي بتبرئة التخلف من حصته في تبرير الاستبداد، وادامة عمــر النظم الباترياركية التي تجسده، وتحرم القاصرين من حق الفطام .
ان كثيرا من التشخيصات والاجابات على اسئلة مزمنة تبدو عديمة الجدوى، وعقيمة، لأن الخلل كما يقول التوسير يكون احيانا في الصياغة الخاطئة للأسئلة، ولو أخذنا التخلف مثالا قدر تعلقه بعالمنا العربي فإن ما يغذيه ويدفعه الى الامام مدججا بقوة لا تقاوم هو جملة من الأعراف والتقاليد والمفاهيم السائدة والتي تستخدمها الدولة الاستبدادية باستثمار ذكي وبلا حدود لإدامة بقائها وتبريره، وقد يكون ما ترسب في اللاوعي الجمعي من المخاوف والحـــذر والاحتراز من التأويل اسباب كافية لغياب الاسئلة الجذرية، واحلال الاجرائي مكان الاستراتيجي، وبالتالي التورط في عقد اجتماعي طويل، فالعرب سياسيا يعيشون ما قبل الماكنـــاغارتا وبالتـــأكيد ما قبل الدولة ايضا، لأن ديناميات الحكم والسيطرة منـــــوطة حتى الان بقــوى تراوح بين الدين والقبيلة، خصوصا في هذه الآونة التي ساد فيها حكم المال، الذي بدأ هذه المرة ينتج القبيلة، والنفوذ ويعوّض عدة مفقودات تقليدية .

' ' '

العصامي مطرود من الجحيم ايضا وليس من الجنة فقط، ولا هامش على الاطلاق للمراوحة في منطقة الاعراف حسب ادبياتنا او ما يسميه دانتي الليمبو، وهذا النمط الجديد من المنفى يتجاوز الجغرافيا والتاريخ معا، ويقترب من الميتافيزيقا، لأن هذا المطرود يضطر احيانا للهبوط الى العالم السفلي، او للتماوت على طريقة البعير كي ينجو، وبالرغم من ذلك فهو لا ينجو، لأن العقاب يشمل النوايا، وثمة محترفون لترجمة الصمت بحيث يحولونه الى نص بليغ في المعارضة، والعصيان، ان ثقافة موشومة بالوشاية منذ بواكيرها لا تطيق البطالة عن فقه الاستعداء وتحويل النّميمة خصوصا في بعدها السياسي الى نمط انتاج، وما قاله هربرت ريد عن التحالف الاستراتيجي بل الأزلي بين المثقف المرتهن والقارىء الاعمى يقبل التأويل الى تحالف من الطراز ذاته بين الدولة المهجوسة بالبحث عن شرعية استمرارها وبين المثقف الذي يعاني من عقدة اللااستحقاق، والذي يستكثر على نفسه اي شيء، لهذا فهو مستعد لأن يسبق الحرامي كما يقال في امثالنا الشعبية لإرضاء وليّ النعمة بالنسبة اليه، وولي النقمة بالنسبة لسواه. اننا جميعا نراوح بين سؤال ناقص واجابة مبهمة والمريض العربي المسجى الآن تعالج اورامه بكمادات الماء البارد، وما كان حتى الامس مجرد حمّى تحول الى التهاب سحايا... والاستخفاف على اشده بكل شيء، حتى من قبل هؤلاء الذين انتدبوا انفسهم ناطقين رسميين باسم الشقاء القومي، ومن لم يشهدوا الطائرة لحظة الاقلاع، عبثا نطالبهم بأن يتابعوا حجمها الصغير وهي تختفي وراء الغيوم، وما اقلاع الطائرة وفق هذا المفهوم الا جذر المسألة كلّها، سواء كان هاجعا في تربويات كيدية ملغومة بثقافة التنابذ والاقصاء المتبادل او في شكل السلطة التي تجد من شهود الزور ما يكفي لأن يكون الزواج شرعيا، ليس بين بطلي رواية او فيلم على غرار شيء من الخوف فقط بل بين سلطة ذكورية وشعب يصطبغ بصفات انثوية، فهو الزوجة التي تعاد الى بيت الطاعة بالقوة وهو ايضا الغنيمة لمن يسبق ويسطو على مصيره وقراره .

' ' '

ثمة لحظات تنتاب الانسان يود فيها لو انه اثنان هذا على الاقل ما قاله جان جويو وهو يكتب عن المثقف الذي ينوء بعزلته، وقد تسقط عليه فكرة كالرؤيا يزوغ معها بصره، هذا الكائن الذي يحتاج الى مجدافين وهو يعبر النهر الصّعب، يضطر احيانا الى تقبيل ذاته او مصافحتها، وقد يتزوج نفسه اذا استبدت به الوحشة، لا بالمعنى الجنسوي الساذج الذي يتبادر الى الذهن في مثل هذه الحالات، بل بالمعنى الميتافيزيقي العالي، ما دام الانسان الفاني والعابر بجسده، هو ايضا الأبدي والباقي لهذا لا نبرىء معظم من درسوا الصوفية من القصور، عندما عزلوها عن السياسة، مثلما عزل دارسو الحب العذري عن السياسة ايضا، والتهميش الاجتماعي، الى ان فتح الباحث الاجتماعي الطاهر لبيب أفقا في هذا السياق .
وانني لأتساءل احيانا عن سرّ الانقلاب في حياة مثقفين وناشطين من العرب بحيث يميلون الى الزهد وينكفئون داخل شرانقهم في النهايات... ما الذي يصاب به هؤلاء؟ هل هو اليأس الذي يتحول الى قنوط وبالتالي استقالة شاملة من التاريخ ! ولدينا من أمثولات التخلي والخذلان والردّة ما يكفي لأن نجد تفسيرا لهذه الظاهرة ليس بمعنى ان لنا كعرب طبيعة من طراز غير بشري، كما قال بعض المستشرقين ومنهم طومسون الذي وصف العقل العربي بثمرة الصّبير ورينان الذي صنّف العقل العربي بأنه ما قبل منطقي، ولكن بمعنى سايكولوجي محض، فالافراط في العسف والاستبداد يشلّ الارادة الانسانية، وقد يحول الضحية الى مريض بالماسوشية يستمرىء الألم والاضطهاد، ولا يعيش من دونهما .

' ' '

ان العصامي يقف الآن بين ارهابَيْن، وطاغيتين أحدهما سلطوي مسلح له قوة المحتل او لم يكن اسمه، والآخر تخلف مدجج بأعراف تتفوق على القوانين، والرّوم الذين يقفون خلف الروم كما قال المتنبي هم الآن من صلب هذه الضحية الخرساء، التي تتطوّع بصمتها لكي تصبح جريمة الاجهاز عليها كاملة وبلا شهود او نقصان !

No comments:

Post a Comment