السؤال ليس عن التسوية في فلسطين، اذ لا تسوية لا الآن ولا في المستقبل المنظور، وكل كلام آخر مجرد وهم.
نحن نعيش مرحلة جديدة من النكبة، لكنها تختلف عن السابق في واقع ان الحسم العسكري الاسرائيلي لم يعد ممكناً. عام 1948 نجح الاسرائيليون في تنفيذ جريمة التطهير العرقي الكبير من دون خسائر. حتى على المستوى الأخلاقي غض العالم 'المتحضر'، اي الغرب، النظر، وكان على العالم العربي الذي ارتضى تناسي ما جرى، ان ينتظر هزيمته المروعة عام 1967، كي يكتشف ان اسرائيل فتحت ابواب الجحيم، وان الحرب التي تشنها على الفلسطينيين والعرب، لا يمكن لها ان تنتهي.
وبالفعل فالمشرق العربي يعيش منذ ثلاثة واربعين عاما حروبا متواصلة، كأنها حلقات في سلسلة واحدة. اتخذت هذه الحروب اسماء شتى: حرب الشعب، حروب اهلية، نضال من اجل التحرر الوطني، حرب استقلال، حرب اسلامية... الأسماء كانت مجرد اقنعة او اغطية ايديولوجية، لكن جوهر المسألة واحد. لذا شهدت الحرب انزياحات ايديولوجية مستمرة في الطرفين الفلسطيني- العربي والاسرائيلي. قوميون صاروا ماركسيين وماركسيون صاروا اسلاميين، والحبل على الجرار. المهم ان تجد المعركة المفتوحة غطاء ايديولوجيا. وهذا ما حصل ايضا في اسرائيل، شارون يقفز من حزب العمل الى الليكود ومن الليكود الى كاديما، بيريس يتخلى عن العمل ليلتحق بشارون، باراك يحول العمل ذيلا لليكود والى آخره...
لا تعبّر هذه الانزياحات عن ازمة في الايديولوجيات الكبرى فحسب، بل تعبّر ايضا عن انسداد سياسي مطلق في المشرق العربي.
هذا هو المعنى العميق للنكبة المتجددة، فالمشروع الاسرائيلي مشروع كولونيالي له قوانينه الخاصة. قانونه الاساسي هو الحرب الدائمة على الجبهة الفلسطينية. يرفض اي تسوية سياسية لأنه لا يستطيع القبول بمنطق الانسحاب من الاراضي المحتلة او القبول بأي تنازلات جدية، لأن اي تنازل يعني بداية انهياره. كما انه لا يستطيع التوقف عن الغزو التوسعي قبل ان يحكم سيطرته على كل فلسطين، وحتى لو تسنى له ذلك، فليس هناك ما يضمن ان تتوقف شهيته التوسعية عند هذه الحدود.
ما يجب فهمه هو ان المشرق العربي لا يزال في المراحل الأولى من الحرب. صحيح ان حرب تشرين- اكتوبر 1973 كانت آخر حرب خاضتها الجيوش النظامية العربية، لكنها لم تكن آخر حرب خاضها الجيش الاسرائيلي. حرب تشرين انهت احدى مراحل الحرب لكنها افتتحت مراحل جديدة اكثر وحشية ودموية، كان مسرحها الرئيسي لبنان ابتداء من عام 1978 وشملت ايضا الضفة الغربية وغزة.
السؤال ليس عن الحرب المفتوحة التي صارت واقعاً لا يحتاج الى برهان، بل عن كيفية تأقلم البنى الثقافية في المشرق، وخصوصا في لبنان وفلسطين، حيث توجد ارض الاشتباك الرئيسية، مع هذا الواقع.
حين تكون الحرب مفتوحة وبلا أفق منظور، تجد الثقافة نفسها في مأزق لا سابق له. اذ ليس صحيحا اننا نستطيع، على المستوى الثقافي، مقارنة واقعنا الحالي بمرحلة الحروب الافرنجية التي اطلق عليها الغربيون اسم الحروب الصليبية. فالثقافة العربية اليوم هي وريثة النهضة والحداثة، ولا يمكن مقارنتها بالجمود الثقافي الذي جاء بعد تفكك الدولة العباسية. لذا فالمسألة الثقافية اليوم تحتل حيزا كبيرا في بناء القدرة على الصمود والمقاومة.
لكن فقدان المركز السياسي/الثقافي الذي يمكن الاتكاء عليه، يعرض الثقافة لمخاطر شتى. فبعد الانهيار المصري الذي اعقب كامب دايفيد، فقدت الثقافة السياسية العربية نصابها، حتى وان تشكّل هذا النصاب كاعتراض على الناصرية وخطابها القومي الذي ارتكز على العسكريتاريا. وبعد حرب 1973، برز الخطاب الوطني الفلسطيني كوريث للخطاب القومي، رغم انه علق في حبائل الحرب الأهلية، وبعد اوسلو وانهياراتها تداعى هذا الخطاب، خصوصا بعد هزيمة الانتفاضة الفلسطينية الثانية ليرثه خطاب اسلاموي ينتمي الى مصادر مختلفة، ومتناقضة.
هذا من دون ان ننسى الأثر المباشر لانهيار الامبراطورية السوفياتية على التداعي الفكري والتنظيمي الذي اصاب اليسار العربي في شكل عام.
كانت هذه البنى الايديولوجية متداخلة. يجب ان لا ننسى دور فكر الاخوان المسلمين في المراحل الأولى من نشوء حركة فتح مثلا، او كيفية التحول الماركسي في حركة القوميين العرب التي بدت اشبه باستبدال قبعة قديمة بقبعة جديدة. هذا التداخل جعل من الايديولوجيا اداة لاستمرار الصراع. فعندما تنهزم بنية ايديولوجية يتم استبدالها ببنية اخرى، لأن متطلبات الصراع تفترض ذلك، ولأن مقاومة احتلال استئصالي كالاحتلال الاسرائيلي لا تسمح بفسحة للتأمل واستخلاص الدروس.
هذا الواقع يعني ان ما نشهده من تبدّل ايديولوجي يبدو هائلا في الشكل، لا يعدو ان يكون مجرد تبدل في الوسائط، من دون ان يعني ذلك ابدا تبدلا استراتيجيا في الرؤية. قد يكون هذا مؤشرا على ان المشرق العربي لا يزال في مرحلة محاولة صدّ الهجوم، ولم يستطع رغم التضحيات الهائلة الانتقال الى مرحلة بلورة رؤية استراتيجية للتحرير، تبني اساسا متينا لبنية سياسية وثقافية قادرة على صوغ فكرة الانتقال من الدفاع الى الهجوم.
الدفاع افضل واشرف من الخنوع والاستسلام، لذا فان اي شكل تتخذه المقاومة، اكثر جدوى من غيابها، فالمقاومة ضرورة وواجب، حتى كدفاع سلبي عن النفس. غير ان هذا الواقع، وأفق الصراع الذي لا نجد علامات على قرب الخروج من نفقه، لا يبرران الكسل الفكري الذي يضرب النخب السياسية والثقافية العربية، ويجعلها تتلون كالحرباء بحسب مقتضيات المرحلة. بل ان هذا الأفق بالذات يطرح على الفكر السياسي العربي تحدي الخروج من المقاومة السلبية الى صوغ مشروع تاريخي جديد.
نحن نعيش مرحلة جديدة من النكبة، لكنها تختلف عن السابق في واقع ان الحسم العسكري الاسرائيلي لم يعد ممكناً. عام 1948 نجح الاسرائيليون في تنفيذ جريمة التطهير العرقي الكبير من دون خسائر. حتى على المستوى الأخلاقي غض العالم 'المتحضر'، اي الغرب، النظر، وكان على العالم العربي الذي ارتضى تناسي ما جرى، ان ينتظر هزيمته المروعة عام 1967، كي يكتشف ان اسرائيل فتحت ابواب الجحيم، وان الحرب التي تشنها على الفلسطينيين والعرب، لا يمكن لها ان تنتهي.
وبالفعل فالمشرق العربي يعيش منذ ثلاثة واربعين عاما حروبا متواصلة، كأنها حلقات في سلسلة واحدة. اتخذت هذه الحروب اسماء شتى: حرب الشعب، حروب اهلية، نضال من اجل التحرر الوطني، حرب استقلال، حرب اسلامية... الأسماء كانت مجرد اقنعة او اغطية ايديولوجية، لكن جوهر المسألة واحد. لذا شهدت الحرب انزياحات ايديولوجية مستمرة في الطرفين الفلسطيني- العربي والاسرائيلي. قوميون صاروا ماركسيين وماركسيون صاروا اسلاميين، والحبل على الجرار. المهم ان تجد المعركة المفتوحة غطاء ايديولوجيا. وهذا ما حصل ايضا في اسرائيل، شارون يقفز من حزب العمل الى الليكود ومن الليكود الى كاديما، بيريس يتخلى عن العمل ليلتحق بشارون، باراك يحول العمل ذيلا لليكود والى آخره...
لا تعبّر هذه الانزياحات عن ازمة في الايديولوجيات الكبرى فحسب، بل تعبّر ايضا عن انسداد سياسي مطلق في المشرق العربي.
هذا هو المعنى العميق للنكبة المتجددة، فالمشروع الاسرائيلي مشروع كولونيالي له قوانينه الخاصة. قانونه الاساسي هو الحرب الدائمة على الجبهة الفلسطينية. يرفض اي تسوية سياسية لأنه لا يستطيع القبول بمنطق الانسحاب من الاراضي المحتلة او القبول بأي تنازلات جدية، لأن اي تنازل يعني بداية انهياره. كما انه لا يستطيع التوقف عن الغزو التوسعي قبل ان يحكم سيطرته على كل فلسطين، وحتى لو تسنى له ذلك، فليس هناك ما يضمن ان تتوقف شهيته التوسعية عند هذه الحدود.
ما يجب فهمه هو ان المشرق العربي لا يزال في المراحل الأولى من الحرب. صحيح ان حرب تشرين- اكتوبر 1973 كانت آخر حرب خاضتها الجيوش النظامية العربية، لكنها لم تكن آخر حرب خاضها الجيش الاسرائيلي. حرب تشرين انهت احدى مراحل الحرب لكنها افتتحت مراحل جديدة اكثر وحشية ودموية، كان مسرحها الرئيسي لبنان ابتداء من عام 1978 وشملت ايضا الضفة الغربية وغزة.
السؤال ليس عن الحرب المفتوحة التي صارت واقعاً لا يحتاج الى برهان، بل عن كيفية تأقلم البنى الثقافية في المشرق، وخصوصا في لبنان وفلسطين، حيث توجد ارض الاشتباك الرئيسية، مع هذا الواقع.
حين تكون الحرب مفتوحة وبلا أفق منظور، تجد الثقافة نفسها في مأزق لا سابق له. اذ ليس صحيحا اننا نستطيع، على المستوى الثقافي، مقارنة واقعنا الحالي بمرحلة الحروب الافرنجية التي اطلق عليها الغربيون اسم الحروب الصليبية. فالثقافة العربية اليوم هي وريثة النهضة والحداثة، ولا يمكن مقارنتها بالجمود الثقافي الذي جاء بعد تفكك الدولة العباسية. لذا فالمسألة الثقافية اليوم تحتل حيزا كبيرا في بناء القدرة على الصمود والمقاومة.
لكن فقدان المركز السياسي/الثقافي الذي يمكن الاتكاء عليه، يعرض الثقافة لمخاطر شتى. فبعد الانهيار المصري الذي اعقب كامب دايفيد، فقدت الثقافة السياسية العربية نصابها، حتى وان تشكّل هذا النصاب كاعتراض على الناصرية وخطابها القومي الذي ارتكز على العسكريتاريا. وبعد حرب 1973، برز الخطاب الوطني الفلسطيني كوريث للخطاب القومي، رغم انه علق في حبائل الحرب الأهلية، وبعد اوسلو وانهياراتها تداعى هذا الخطاب، خصوصا بعد هزيمة الانتفاضة الفلسطينية الثانية ليرثه خطاب اسلاموي ينتمي الى مصادر مختلفة، ومتناقضة.
هذا من دون ان ننسى الأثر المباشر لانهيار الامبراطورية السوفياتية على التداعي الفكري والتنظيمي الذي اصاب اليسار العربي في شكل عام.
كانت هذه البنى الايديولوجية متداخلة. يجب ان لا ننسى دور فكر الاخوان المسلمين في المراحل الأولى من نشوء حركة فتح مثلا، او كيفية التحول الماركسي في حركة القوميين العرب التي بدت اشبه باستبدال قبعة قديمة بقبعة جديدة. هذا التداخل جعل من الايديولوجيا اداة لاستمرار الصراع. فعندما تنهزم بنية ايديولوجية يتم استبدالها ببنية اخرى، لأن متطلبات الصراع تفترض ذلك، ولأن مقاومة احتلال استئصالي كالاحتلال الاسرائيلي لا تسمح بفسحة للتأمل واستخلاص الدروس.
هذا الواقع يعني ان ما نشهده من تبدّل ايديولوجي يبدو هائلا في الشكل، لا يعدو ان يكون مجرد تبدل في الوسائط، من دون ان يعني ذلك ابدا تبدلا استراتيجيا في الرؤية. قد يكون هذا مؤشرا على ان المشرق العربي لا يزال في مرحلة محاولة صدّ الهجوم، ولم يستطع رغم التضحيات الهائلة الانتقال الى مرحلة بلورة رؤية استراتيجية للتحرير، تبني اساسا متينا لبنية سياسية وثقافية قادرة على صوغ فكرة الانتقال من الدفاع الى الهجوم.
الدفاع افضل واشرف من الخنوع والاستسلام، لذا فان اي شكل تتخذه المقاومة، اكثر جدوى من غيابها، فالمقاومة ضرورة وواجب، حتى كدفاع سلبي عن النفس. غير ان هذا الواقع، وأفق الصراع الذي لا نجد علامات على قرب الخروج من نفقه، لا يبرران الكسل الفكري الذي يضرب النخب السياسية والثقافية العربية، ويجعلها تتلون كالحرباء بحسب مقتضيات المرحلة. بل ان هذا الأفق بالذات يطرح على الفكر السياسي العربي تحدي الخروج من المقاومة السلبية الى صوغ مشروع تاريخي جديد.
No comments:
Post a Comment