Sunday, October 4, 2009

المثقف الرابع! خيري منصور 10/2/2009

هناك حكاية ذات مغزى عميق تروى عن ثلاثة من الأنذال، صادفوا في طريقهم امرأة جاوزت الثمانين، وقد احدودب ظهرها وحفرت الثمانون تضاريسها في الوجه الذي برز منه الأنف وغارت العينان، وقرر الثلاثة أن يتنافسوا على لقب أنذل انسان في التاريخ، فاقترب الاول منها وضربها حتى سقطت مغشيا عليها وقد تضرجت بدمها، وعلى الفور أعقبه الثاني الذي قال بأنها تحولت الى سلحفاة مقلوبة على ظهرها فأجهز عليها حتى الموت ..
عندئذ لم يبق أمام الثالث ما يتفوق به على الإثنين، لكنه صاح بصوت من حقق نصراً: إن هذه العجوز هي أمي. لهذا استحق لقب الأنذل بين الابناء في تاريخ البشرية ...
عندما قرأت هذه الواقعة خطر ببالي النذل الرابع الذي شاهد ما جرى ورواه بلا أي تدخّل، فلم يكن في تلك الايام أقمار صناعية او هواتف نقّالة تصور ما يحدث، إذ لا بدّ من شاهد عيان... وهذا الشاهد هو الرابع، وحين كتبت الاسبوع الماضي في هذه الزاوية الحرجة عن المثقفين الثلاثة ادركت على الفور ان هناك مثقفا رابعا يشهد، ويصنّف ويروي ويصف أيضا، قد يكون الكاتب ذاته او ما يرشح من لا وعيه، لهذا اصبح لزاما على من يكتب عن الثلاثة، سواء كانوا من الأنذال او الفرسان او أثافي الثقافة الرمادية، ان يحدد موقعا وموقفا، ويتطلب هذا قدرا من الاعتراف، والشهادة عن وقائع وسياقات عيشت في نظم تزعم بأنها تقدمية رغم ما انتهت اليه من شمولية، ونظم أخرى تعيش ما قبل الدولة، ونظم ثالثة تراوح بين اشتراكية خجولة ورأسمالية متوحّشة...
لقد شهدت الأنماط الثلاثة من المثقفين عن كثب وأتاحت لي الظروف هامشا مرتفعا الى حدّ ما يحيط بالمشهد على نحو بانورامي. المثقف الداجن او اللاحم تبعا لمصطلحات اللحم الأبيض يؤدي التحية كل صباح وقبل أن يذهب الى الجامعة او الوظيفة للتمثال الهندي، الذي لا يرى ولا يسمع ولا يتكلم... وهناك فنان آسيوي اضاف الى هذا الثالوث بعدا رابعا عندما حوّل التمثال الى خنثى، فلا هو ذكر ولا هو انثى، بل هو أشبه بنوع من الضباع او الأفاعي ذات الجنس المزدوج، وهذا المثقف يحفظ عن ظهر قلب وبثقة الماكناغارتا والعقد الاجتماعي لروسو ويحفظ خطابات دانتون، ولابد انه قرأ عن روبسبير ونهاية لافوازييه حيث سقط رأسه المقطوع في سلة كانت قرب الجلاد. ويعرف هذه الاشياء وغيرها، لكنه يعتقد أنها لا تخصه، فالغضب للآخرين، وكذلك الحزن والموت، اما هو فلا شأن له بما يقرأ او يسمع، وقد تكون ردّة فعله الوحيدة على قراءة احصاءات الجوع او الوجبة الاخيرة لمن قضوا جوعا وهي ما تبقى من أسمالهم هي التجشؤ والتسبيح بحمد من وفّر له القمح والشعير.
انه يسعى لنيل شهادة حسن السلوك من الأبوين والأبناء والقبيلة والدولة، ويحرص على ان يكون عديم اللون والطعم والرائحة، بحيث يتنقل بحرية ودونما اعتراض من أحد او حدود ...
وقد تكون رواية حضرة المحترم لنجيب محفوظ مثاله الحيّ والأبدي، بحيث لا يريد اكثر من البقاء على قيد وظيفته والحصول على ترقية حتى لو كانت تافهة قبيل الموت بأيام وفي لحظات الاحتضار .

* * * * *
مثال المثقف الثاني وأمثولته معـاً زكريا بطل مسرحية الراحل سعد الله ونّوس 'الفيل يا ملك الزمان'، فهو يقبل بالتضحية شرط ان يكون الآخرون جديرين بدمه، لكنه يكتشف في اللحظة الحاسمة ان المجتمع يريد ان يحوله الى كبش فداء، ثم يتخلى عنه، لهذا عندما طلب منه أهل القرية ان يشكو للملك من الفيل الذي يقتل عددا من الاطفال كل يوم، حاول ان يبدأ، لكنه نظر حوله وخلفه فلم يسمع احدا، عندئذ قرر الانتقام، وهو مديح الفيل، ومناشدة الملك بأن يزوّجه كي تكون هناك عائلة من الفيلة تقتل اضعاف عدد الاطفال يوميا وهي تمشي في أزقة القرية ...
المثقف اليساري الذي اعتذر تحت عناوين من طراز كنت شيوعيا، او عاد اليّ الوعي، او أدركتني التوبة، وظّف خبرته وذكاءه وامتيازه الثقافي لصالح من ادّعى ذات يوم بأنهم خصومه التاريخيون، لهذا اصبح اشدّ فتكا وخطرا من العسس الأميين، وقد تكون الأوبئة التي اصابت ثقافتنا العربية في عقدي السبعينات والثمانينات من القرن الماضي سببها هذه الفيروسات الرشيقة، وسريعة التأقلم، فهي تعرف اكثر من سواها اسرار الرفاق القدامى.
ان ظاهرة زكريا تجلّت مرارا لكن ليس على صعيد بشري خالص، فثمة من انتدبوا للشكوى من ديكتاتور او سلطة غاشمة، لكن اصابهم ما اصاب زكريا من زوغان البصر وهم يجلسون بين أعمدة الرخام ويرون مظاهر من البذخ لم تمر حتى بخيالهم، وقد حدث مثل هذا في ' خريف البطريرك ' لماركيز، لكن بطل الرواية لم يصب بالدوار وهو يشم روائح العطور والتوابل ويرى الملابس البيضاء الأنيقة للخدم وقفازاتهم وهي تداعب الأواني المذهبة، لأنه تساءل: أين تعشش غربان السّلطة في هذا العالم الوثير والناعم؟؟
ان زكريا وتجلياته في ثقافتنا يحتاج الى تأملات وحفريات سايكولوجية لا آخر لها، لأن الخداع الذي مارسته النّخب المعروضة للبيع او الاعارة او الايجار قايضت وطنا بشقّة، ومستقبلا بلحظة راهنة، وتاريخا بوظيفة، وأخذتها العزّة بالاثم لانها لم تتعرض حتى الآن الى مساءلة!

* * * * * *
شهدت ذات لقاء نظمّته اليونسكو لإصدار ما عرف باسم 'كتاب في جريدة' في احدى العواصم العربية، وكان من أبرز المشاركين أدونيس وجابر عصفور، وكنّا بصدد اختيار مسرحية عربية لنشرها في الصحف المشاركة، وأذكر ان ادونيس اقترح مسرحية 'الفيل يا ملك الزمان' لأن مؤلفها الراحل ونّوس كان في طور الاحتضار، وسرعان ما اعترض ثلاثة من المشاركين لأنهم قادمون من ممالك.. وعنوان المسرحية ' الفيل يا ملك الزمان '!!
ثم رشح كتاب آخر للراحل ونّوس هو 'مغامرة رأس المملوك جابر' فاعترض ايضا بعض المشاركين، وحين ذكر عنوان رواية للطيّب صالح هي 'عرس الزين' اعترض ايضا احد المشاركين، فاقترح الحضور مسرحية رائدة لتوفيق الحكيم هي 'السلطان الحائر' لنفاجأ باعتراض جديد من مشارك آخر. هذه عيّنة من ثقافة اصابها الحذر وكثرة الاحترازات بالشّلل .. وإن كنت ارويها الآن فذلك ليس على سبيل الاستطراف، بل باعتبارها وسيلة ايضاح ميدانية تبيّن ارتهان الثقافة للسياسة، وما تعجّ به ذاكرات المثقفين عن الاشباح!
المثقف الرابع يجد نفسه في أقصى العزلة والصّمت لأنه يدرك بأنه خارج التصنيف والخانات والجداول التي تتراشق بها اتحادات الكتّاب او الكتبة في عالم عربي لم تتبلور فيه مهنة المثقف، فهي صفة مرنة ومطاطية، تُمنح مجانا للأميين بمقياس غير اكاديمي، وعلى المثقف الذي يرى بعينيه ويسمع بأذنيه، ولا ينحني للتمثال الهندي صباح مساء ان يشهد بأن بدائله المجهزين في الثلاجات هم النقيض التاريخي والمعرفي له، تماما كما ان النقيض الفعلي للديموقراطية هو الشبيه الشكلاني الزائف، ويتوهم هذا البديل بأنه قادر على ان يكون مع الله والشيطان في وقت واحد، وبالتالي مع السّلطة والحرية. ان حالته هي الوحيدة التي لا تقبل الاقامة في المساحة الرمادية، فإما ان يكون هناك... او هنا، والمقولة الكلاسيكية عن اعطاء ما للرب للرب وما لقيصر لقيصر انتهت الى اعطاء كل شيء للقياصرة... وهناك حواريتان خالدتان تختصران هذه التراجيديا قدر تعلقها بالمثقف، الاولى سومرية دارت بين سيد وعبده التابع، وانتهت الى ان ضجر السيد وأعدم العبد لأنه مجرد صدى لصوته، والثانية بين شاعر وطاغية، رواها رسول حمزاتوف . فقد سأل هذا الطاغية الشاعر كم يساوي في نظره، فأجاب خمسة آلاف دينار.. فانتفض الطاغية وهو يزبد وقال ان ثمن حزامه الذهبي خمسة آلاف دينار.. عندئذ ضحك الشاعر وقال له : وهل انت الا حزامك؟؟ ولا بأس ان نضيف حوارية أخرى لحمزاتوف ايضا عن طاغية قرر اعدام المثقف الوحيد الذي أعلن العصيان ولم يسبّح بحمده، وعندما اجتمع الناس في ساحة عامة لكي يشهدوا الاعدام اصيب الطاغية بنوبة صحو مفاجئة وصاح بالجلاد: اترك لهذه البلاد مثقفها الوحيد!!!

* * * * * * * *

ان من روى حكاية الانذال الثلاثة سيضاف اليهم اذا اكتفى بنقل الواقعة، ولم يتدخّل لإنقاذ تلك العجوز، لهذا فإن المثقف الرابع قد يكون الجدار الرابع في البيت او البعد الرابع في مفهوم ظلّ مبتوراً واحادي البعد لعدة قرون، ومن استثمروا الجهل والفاقة والأمية وظنّوا بأنهم نجوا بجلودهم وبما نهبوا وما شهدوا به من زور، عليهم انتظار المساءلة بدءا من ابنائهم وأمهاتهم اللواتي توزع دمهن بين الانذال الثلاثة!!!

No comments:

Post a Comment