Monday, January 4, 2010

حكايات عجوز فلسطيني: ابو اصبع ,منير شماء, 04/01/2010

في مدينتي الحبيبة صفد، في السنة الدراسية 1937 في الكلية الاسكتلندية، ايام الاضراب الكبير الذي دام سبعة شهور، احضرت حكومة الانتداب البريطانية كتيبة من فرقة البلاك ووتش الرهيبة، لتأديب ابناء صفد الذين هبوا للجهاد فأزعجوا الصهيونيين وحماتهم. وهذه الفرقة كانت (وربما ما زالت) تعتبر افضل فرقة مقاتلة في القوات البريطانية، وجنودها لا يقبلون في صفوفهم من في قلبه ذرة واحدة من الرحمة. فهم اشرس من شياطين جهنم، ولهذا السبب كانوا مهابين، يكفي اسمهم ليدب الرعب في قلوب اعدائهم. ولكن ابناء صفد... كانوا لا يعرفون الخوف فلا يخافون الا من الله تعالى، ولا يبالون من يقاتلون دفاعا عن وطنهم، فلقي جنود البلاك ووتش منهم أذى عظيماً، اذ كان بعض الشبان من القناصين يتصيدونهم في الليل ويختفون في النهار. وكانت فرقة البلاك ووتش هذه تحت قيادة قائد عتو زنيم يلقي القبض على صغار الفتيان ذاهبين الى المدرسة او عائدين منها، فيسجنهم ويعذبهم في سعيه ليعترفوا بـ'جرائم' آبائهم الذين يتصيدون جنوده في الليالي المظلمة.
وكان بعض القناصين من ابناء صفد يحاولون كف اذى ذلك القائد العاتي، ولكن لم يسعدهم الحظ وكانوا يسمونه 'ابو شنب'، لانه كان له شارب ضخم، وكان عظيم الافتخار بذلك الشنب.. يفتله وهو يختال في مشيته او يجابه الاطفال الذين كان يلقي القبض عليهم ويجرهم الى السجن والتعذيب. وكان في صفد شاب شجاع، بل في منتهى الشجاعة، يملك دكان عطار في شارع الغزاوية الرئيسي. وكانت له اصبع مبتورة، لذلك اطلق عليه الناس اسم 'ابو اصبع'! اما اصبعه المبتورة فقد خسرها عندما هاجمه فهد فتي مثله بينما كان يصطاد غزالا. فأبو اصبع هذا كان يتعيش من صيد الغزلان في الجبال المحيطة بصفد. فيترصدها قرب المغارات التي تؤوي اليها. فاذا طارد غزالا، لم يكن يكف عن مطاردته حتى تكل قوى الغزال ويرتمي منهكا عاجزا عن مواصلة الفرار، فيأسره ابو اصبع بكل سهولة ويقتاده الى صفد سالماً من اي كسر او جرح، فيبيعه للانكليز بثمن كبير. وفي احدى مطارداته لغزال في الجبال، برز له مطارد آخر... فهد جائع طمع في اصطياد الغزال، فهاجم ابا اصبع، وتعاركا، فقتل ابو اصبع ذلك الفهد، ولكن بعد ان قضم الفهد اصبع الصياد... ونجا منهما الغزال السعيد. وفي احد الايام، مرّ ابو شنب محاطا ببعض جنوده، امام دكان ابو اصبع ودخل الدكان ليشتري سكائر، ورأى على الجدار صورة ظن انها صورة فوزي القاوقجي، المجاهد الذي دوّخه وجنوده وتعذر عليه القاء القبض عليه. فاغتاظ ابو شنب ونزع الصورة وصاح بأبي اصبع 'ممنوع سورة كاوكجي' وقذف الصورة على الارض وداس عليها، فاشتد غيظ ابو اصبع وصاح به:' هادي مش صورة القاوقجي هادي صورة الملك غازي' وكان رد ابو شنب في غاية الوقاحة، اذ قال :'كاوكجي... غازي... كلّو كلاب' وعاود دوسه على الصورة وخرج وهو يفتل شاربه الضخم. ولم يكن في وسع ابو اصبع ان ينتقم منه لهذه الاهانة... وبعد نحو اسبوعين، رأي ابو اصبع ذلك القائد العاتي ابو شنب، مقبلا وحده من ناحية حارة اليهود، فخرج من دكانه وهو يحمل على ظهره كيساً من الخيش فيه كمية من العدس، وتلفت يمنة ويساراً كما يفعل اللص، ومضى مسرعا في اتجاه مسرى ابو شنب، فما رآه ابو شنب حتى لحق به وأمره ان يقف، فلم يقف، بل استمر يجري مبتعداً يتظاهر بالخوف... فأسرع ابو شنب يريد القاء القبض عليه ولكنه لم يستطع اللحاق به ... وما هي الا لحظات حتى صار ابو اصبع يجري وابو شنب يلاحقه بكل جهده. ولكن انّى لذلك الاسكتلندي السمين ان يلحق بهذا الصفدي النحيل القوي وصار الناس الذين شاهدوا هذه الملاحقة يعجبون وبعضهم يشجعون ابو اصبع وهو يضحك ويجري والقائد الغبي يجري وراءه... فاذا بعدت الشقة بينهما كان ابو اصبع يتمهل قليلاً ليبقى في مجال نظر ملاحقه، فلما وصلا الى الجسر جرى ابو اصبع فوق الجسر كالغزال الذي كان يصطاد، وابو شنب يجري وراءه وهو يصيح به ان يقف ويسلم نفسه... واستمر ابو اصبع في 'فراره' من ذلك القائد العسكري الثقيل الوزن فقطع مرج الرجوم واستمر حتى اقترب من المستشفى العام فانحنى الى اليمنين وأبطأ الجري في ذلك النهج المبلط الخالي من الناس ليتيح لأبو شنب فرصة اللحاق به... وبعد ثوان اقبل عليه ابو شنب شاهراً مسدسه وأمره ان يقف... فوقف متظاهراً بالاعياء... ورفع يديه 'في استسلام' بعد ان وضع الكيس على الارض بين ساقيه، وهو يقول:
' ما في عندي شي.'.. فيقول قائد البلاك ووتش:' سلاخ هون في الكيس.'.. فيردد ابو اصبع، في خوف مصطنع:' ما عندي سلاح. هادا عدس' فصاح به او اصبع :'ارفه ايديك' ولكن ابو اصبع رفع يدا واحدة وأمسك الكيس بالاخرى وقدمه الى ابو شنب، فأمسك ذلك الغبي بالكيس وراح، بيده اليسرى يبحث في داخله عن السلاح المزعوم... والمسدس في يده اليمنى... فانتهز ابو اصبع الفرصة وانقض على يده التي فيها المسدس فأوقعه على بلاط الزقاق وسال الدم من انفه وفمه والتوت ذراعه وكسرت ساقه وأبو اصبع داس على رأسه وصاح به:' دست على صورة الملك غازي ايها الكلب الحقير فخذ حذائي فوق رأسك ' ولم يسمع منه ابي اصبع سوى انين الألم... ثم صمت وشلت حركته، فنظر ابو اصبع فوجده قد اغمي عليه وخشي ان يكون قد مات... فأخذ المسدس والكيس ومضى في سبيله حتى وصل الى المستشفى، وأبلغ انه وجد جندياً ملقى على ارض الزقاق... يئن ويتوجع، وطلب ان يكلم القشلة، وهي دار الجنود البريطانيين، وقال لهم:' احملوا زعيمكم المجرم ابو شنب من زقاق... فقد أدّبته لوقاحته ولأنه داس على صورة الملك غازي والعاقبة لكم جميعاً... انا ابو اصبع، صاحب الدكان في شارع الغزاوية، وسألقاكم أفنيكم ان بقيتم في صفد'.
وبعد ذلك اليوم اختفى ابو اصبع من صفد... وقالوا لي انه كان ينام في النهار في احد الكهوف التي كان يأوي اليها الغزلان ويسرح ويمرح في الليل يتصيد جنود البلاك ووتش. وكان من أمهر القناصين اما ابو شنب فقد صحى من اغمائته بين ايدي جنوده الذين حملوه الى المستشفى العام فصاح بهم رافضاً ان يعالج فيه وأصر على ان لا يبقى بعد ذلك ساعة واحدة في صفد، خاصة وقد اكتشف ان ابو اصبع قد قص شطرا من شنبه الفخم بخنجر جرح شفته، فحملوه الى المستشفى الحكومي في مدينة طبريا، وما كاد يشفى حتى طلب العودة الى اسكتلندا. ودب الرعب في قلوب جنود البلاك ووتش، وقيل لي انهم استبدلوا بفرقة اخرى، والله اعلم.

No comments:

Post a Comment