Monday, January 4, 2010

أنيس عبد الله صايغ: قامة تستعصي على القياس ,د. عبد القادر حسين ياسين, 04/01/2010

'طوى الجزيرة حتى جاءني خبرٌ
فزعت منه بآمالي إلى الـــــكذب..'
أبو الطيب المتنبي
غـيـَّـبَ الموت يوم الأحـد الماضي، السادس والعشرين من كانون الأول/ديسمبر، عميد البحث العلمي الفلسطيني، ومدير مركز الأبحاث التابع لمنظمة التحرير الفلسطينية، و'والد' الموسوعة الفلسطينية، المفكر الفلسطيني البارز الدكتور أنيس عـبـد الله صايغ، فأخرجه فَحسب، من صفِّ الأحياء بامتياز، حيثُ أمضى عُمُراً قاربَ الثمانية والسبعـين عاماً، إلى صفِّ الخالدين، حيث العُمرُ يتواصلُ بلا نهاية.
رحل أنيس صايغ، بعد أن أحاط بالمرحلة تماماً، ورصدها جيداً، وكان فكراً وممارسة في عمقها، وقد أدى دوره في توثيق مفاصل وحلقات الثقافة الفلسطينية وتجربتها.
ولد أنيس عـبـد الله صايغ في الثالث من تشرين الثاني/نوفمبر عـام 1931 في طبرية، التي يقول إنها 'الفردوس الذي اجتاحه الأشرار وتنازل عنه السماسرة'. فوالده عبد الله الصايغ ووالدته عفيفة البتروني أنجبا ثمانية بنين كان آخرهم أنيس. وكان عبد الله قسيساً يتبع المذهب الإنجيلي (البروتستانتي). أخوه الكبير الدكتور يوسف صايغ من أبرز الخبراء الاقتصاديين العرب، وعضو المجلس الوطني الفلسطيني واللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير، ومدير عام مركز التخطيط ورئيس الصندوق القومي الفلسطيني. وأخوه فايز الأستاذ الجامعي، ومدير مكتب الجامعة العربية في نيويورك، ومؤسس مركز الأبحاث الفلسطيني، وعضو المجلس الوطني الفلسطيني، واللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية.
انخرط معظم أفراد العائلة في صفوف 'الحزب السوري القومي الاجتماعي'، وغادروا الحزب كلٌ على حدة، لأسبابه الخاصة وتبنّوا الفكر القومي العربي .
بدأ دراسته في طبرية وأنهى الثانوية في مدرسة الفنون الإنجيلية في صيدا، التي انتقل إليها بعد الاحتلال الصهيوني لمدينة طبرية. نال شهادة البكالوريوس في العلوم السياسية والتاريخ من الجامعة الأمريكية في بيروت. وحصل على الدكتوراة من جامعة كامبردج في العلوم السياسية والتاريخ العـربي، وعـُين في جامعة كامبردج أستاذاً في دائرة الأبحاث الشرقية.
عين مديراً عاماً لمركز الأبحاث في منظمة التحرير الفلسطينية في بيروت، وعميداً لـ 'معهد البحوث والدراسات العربية ' التابع للجامعة العربية.
أسـَّسَ وترأس تـحرير أربع مجلات ثقافية شهرية: 'شؤون فلسطينية'، و'المستقبل العربي'، والسلسلة الجـديدة عـن 'قضايا عربية'، و'شؤون عـربية'، وهي مجلات تميزت بالمستوى العلمي والدقة والموضوعية مع بساطة المظهر. كما عمل مستشاراً لجريدة 'القبس' الكويتية، فأنشأ لها مركزاً للمعلومات والتوثيق.
أشرف على مشروع 'الموسوعـة الفلسطينية' (1977 ـ 1992)، مستشـاراً ومـقـرراً لمجلس الإدارة، ثم رئيسـا للتحرير، ثم رئيسـاً لمجلس الإدارة ومـديرا عـامـا. وشـارك في إدارة و/أو تحرير خمسـة مشـاريع موسوعيـة أخرى في بيروت والقـاهـرة ودمشـق وبـغـداد.
شـارك في 'اللجـنـة الدائـمـة للاعـلام العـربي' (1969 ـ 1975)، وفي لـجـنـة وضع إستراتيجيـة الثـقـافـة العربية (1982 ـ 1985) وفي لجان الترجمة التابـعـة للمنظمة العربية للثـقـافـة والعـلـوم 'الاليكسـو'، طيلة الثمانينات في الكويت وتونس.
في كتابـه 'أنيس صـايغ عـن أنيس صـايـغ' يتحدث عن حياته الدراسية، ويعـترف هذا الأكاديمي الفلسطيني العريق بأنه 'كره الدرس كطالب وكره التدريس كأستاذ طيلة حياته...'، وأن أبشع ذكرياته كانت أيام التلمذة والأستذة، وأن معاهد التعليم كانت 'أبشع الأماكن التي اضطر للتردد إليها... رغم أنه كان طالباً متفوقاً في جميع المراحل والأول بلا منازع. ..!! وكان يتمنى لو تخصص في التاريخ وليس في العلوم السياسية.
عـنـدمـا كان في الثانية عشرة من عـمـره بـعـث برسالة الى صحيفـة 'الـدفـاع' الفلسطينية مصحّحاً لها خطأً في النشر. ويشير إلى الكتب التي ألفها، فكان كتاب 'لبنان الطائفي' أولها، تلاه كتاب 'الأسطول الحربي الأموي في البحر المتوسط'، وقام بإعداد كتاب 'العلاقات السورية المصرية' في بضع سنوات، وحصل من جمال عبد الناصر على مقدمة له سنة 1954، لكنه لم ينشره (حتى الآن) لأنه لم يرض عن مستواه!
وتوالت كتبه وكان من بينها 'الهاشميون والقضية الفلسطينية' و'الهاشميون والثورة العربية الكبرى'، وقد مُنع بسببهما من دخول الأردن في الفترة 1966-1982، ولا يزال الكتابان ممنوعين من النشر في الأردن. وكَتَب 'مفهوم الزعامة السياسية من فيصل إلى عبد الناصر' كما كتب '13 أيلول' ضد اتفاق أوسلو.
وصرف النظر عن فكرة كتاب عن 'الحاج أمين الحسيني في صعوده وهبوطه'، لأنه شعر أن بعض محتوياته ستكون 'قاسية بحقّ رجل ظلمه التاريخ، ولم أرغب أن أشارك في ذلك'.
في عـام 1966 كلفه أحمد الشقيري، الذي يذكره بمزيد من التقدير والاحترام، بإدارة مركز الأبحاث التابع لمنظمة التحرير الفلسطينية، خلفاً لأخيه فايز، وتطوّر المركز تحت إدارته في بيروت من شقة متوسطة إلى ستة طوابق واسعة، بينها طابقان كاملان للمكتبة، وغادره أنيس سنة 1976، وقد نشر نحو 300 كتاب، مع مجلة شهرية، ونشرة رصد، بينما ارتفع عدد باحثيه من ثلاثة إلى نحو أربعين.
وكان ممن تعهدهم المركز العديد ممن برزوا كباحثين وسياسيين أمثال، إبراهيم العابد وأحمد خليفة وأسعد عبد الرحمن وبسام أبو شريف وبلال الحسن وجميل هلال وخيرية قاسمية وصبري جريس وعيسى الشعيبي ومحمود درويش ونبيل شعث والهيثم الأيوبي وغيرهم.
اهتم مركز الأبحاث بالتعريف بالعدو الصهيوني وأصدر سلاسل 'دراسات فلسطينية، كتب فلسطينية، أبحاث فلسطيــــنية، حقائق وأرقام، صور وخرائط، والدراسات الخاصة'. ونشر بعضها بلغـــات عدة.
ودفع النجاح العلمي لمركز الأبحاث، الصهاينة إلى محاولة اغتياله. فـفي التاسع عشر من تموز/يوليو 1972 انفجرت رسالة ملغومة عندما حاول فتحها، وأصيب في يده وكتفه ووجهه، وبعد طول علاج استرد بعض بصره ونسبة من السمع بأذن واحدة، لكن طنين الأذن لازمه طول حياته. وبعد الانفجار بعشرين دقيقة كانت الإذاعة الإسرائيلية تعلن مقتل أنيس صايغ، الذي كان 'يتولى تدريب الإرهابيين الفلسطينيين في أوروبا على القتال' في فلسطين حسب زعمها!!
ويشير صايغ إلى أن العدو الصهيوني استهدف عدداً من موظفي المركز وباحثيه، ونجح في قتل عشرة منهم وإصابة آخرين. وأثناء الاجـتيـاح الاسرائيلي لبيروت عام 1982 استهدف العدو مكتبة المركز وقام بمصادرة كل ما يهمّه فيها (نحو عشرة آلاف مجلد)، أما قصة استعادتها فكانت قصة مأساوية بحق، لأنه بعد استعادتها وإرسالها للجــزائر، جرى إهمالها من قِبل المعنيين في منظمة التحرير الفلسطينية وتعرضت للتلف والضياع.
لـقـد سعى صايغ إلى أن يكون مركزالأبـحـاث مستقلاً ومهنياً يُراعي الكفاءة والموضوعية، بينما أراد عرفات أن يتعامل مع المركز 'كما يتعامل مع هيئات منظمة التحرير ودوائرها، بتقسيم الوظائف والمِنح حسب الفصائل وعلاقاتها معه ٍخاصة تابعة له شخصياً'.
ويعتبر الدكتور صايغ أن يوم 13 أيلول/سبتمبر 1993 (توقيع اتفاقيـة أوسلو) كان يوم ولادة جديد له قرر فيه 'خوض المعركة مع العدو عبر ملاحقة حلفائه المحليين'، ويسجل بعض أنشطته في هذا المجال، لكنه يسجل إحباطه من بعض الممارسات الحزبية في المعارضة الفلسطينية.
وبـعــد؛
لـقـد كان الدكتور صايغ عاشـقا لفلسـطين، وكان ذا نزوع مثالي اليها، ولم ييأس من فكرة العودة، ولا من فكرة النصر. مشى أيامه ببطء المتزن الواثق الرصين، ولم يكترث لشيء خاص، سوى حقه الصغير، في خبز وكتاب وقلم يبوح به بأسرار كل اللحظات، لكي يظل الفلسطينيون جديرين بتراث وطنهم وقضيته!
لقد فـقـد شعبنا الفلسطيني برحيله، علما فكريا وثقافيا وعلميا ... مات أحد أعز المكافحين، بنبل وحيوية، صامتاً حيال أوجاع اللحظات الأخيرة. ستظل آثاره، سراجاً يُشعل ضوءاً أبدياً، بينه وبين وطنه، لا تُطفئه دموع الغيم، ولا أنواء البحر.
أنيس صـايغ، أيها الأسـتاذ الكبير والأخ العزيز والصديق الصدوق، هل أقول سـلامـا، أم أقول وداعـا؟ أنيس صـايغ؛ أنت أكبر من السـلام، وأكبر من الوداع.
من حسن حظي أنني عشـت في زمن الكبار.... ومن بين هؤلاء الكبار عملاق فلسـطيني تعلمت منه كيف أطرح السـؤال، وكيف أبقى مخلصـا لما تعلمت منه...على الرغم من أن كل ما يحيط بنا في هذا العالم العربي الممتـد من طنجة الى أم القـيـوين يقدم الخيبة تلو الأخرى، والنكسـة تلو الأخرى، حتى نكاد ننـدم على ما تعلمنـاه...
وما كنت فعلت.
أنيس صـايغ؛ سـلامـا وتحيـة، ففي التحيـة الحياة...
التحية هي المحافظة على وديعـتك التي أودعتـهـا لدى كل من لا يزال مؤمنـا بأن المقاومة هي كل ما نملـك، وبأن الوعي النقـدي هو الطريق.
أنيس صـايغ؛ أيـهـا الفلسـطيني الكبير، ســلامـا...!!

No comments:

Post a Comment