Monday, January 11, 2010

حكايات عجوز فلسطيني : من هو الارهابي؟ منير شماء

نشب خلاف كبير بيني وبين مدير القسم العربي في عام 1947، مستر ستيفنسون. وكان يحفظ لي الود والاحترام ويتلطف معي في الكلام. لذلك فوجئت عندما دخل عليّ في مكتبي، صباح احد الايام، فلم يحيّني بتحية الصباح كعادته، وانما بادرني بقوله 'ماذا فعلت بنا يا منير؟' ثم قال 'تعال معي الى مكتبي'. وكان من عادته ان لا يترك على طاولة مكتبه اي ورقة، حرصا منه على اسرار عمله. فلما دخلت ذهلت اذ رأيت على مكتبه كومة ضخمة من الرسائل... أشار اليها وقال: 'أنظر!' قلت 'ماذا أنظر؟' قال 'هذه الرسائل.. مئات منها.. بست لغات او اكثر، من شتى انحاء العالم، يطالب كاتبوها اليهود برأسك!' قلت في دهشة 'يطالبون برأسي؟ لماذا؟' قال 'انهم يحتجون عليك لانك تقول في نشرات الاخبار' 'اليهود المجرمون' و'المجرمين اليهود' بدل ان تقول الارهابيون اليهود والارهابيين! انظر ماذا فعلت بنا! هؤلاء اليهود جميعاً يطالبون بطردك فورا من عملك! وكثير منهم يطالبون بمحاكمتك ويطلقون عليك اسم هتلر الاذاعة البريطانية! وبعضهم يشتمونك بأقذر الشتائم ويهددون بقتلك! 'فلم أتمالك ان ضحكت فقال 'أو تضحك؟ الا تدرك خطورة الموقف؟' قلت له 'هون عليك يا مستر ستيفنسون. انني لم اجد في اللغة العربية اي كلمة مناسبة لمعنى كلمة TERRORIST، فاستعملت كلمة مجرم'. قال 'عجبا! اني لا اعرف اللغة العربية ولكنني سمعت انها اغنى لغات العالم قاطبة! افتعجز عن ان تجد فيها الكلمة المناسبة لكلمة TERRORIST؟ ما أغرب ما تقول! 'قلت له: 'هذه هي الحقيقة. ان الكلمة المستعملة حاليا هي كلمة 'ارهابي'. ولكن الارهابي هو الذي يرهب الناس، اي يخوفهم ولا تفي الكلمة بجزء من مئة جزء من القاتل السفاح الذي ينسف الفنادق، كفندق الملك داوود في القدس، ويعلق الضباط البريطانيين على المشانق ويقتل الناس الابرياء جزافا وبالجملة! وأولى بهؤلاء اليهود الغاضبين ان يشكروني لانني استعملت كلمة مجرم التي هي أخف وألطف من كلمة TERRORIST. فالمجرم كلمة عامة لا عنف فيها اذ تنطبق على عموم المجرمين، كاللصوص والمزوّرين ومرتكبي المخالفات الصغيرة للقانون'.
قال ـ انني لا افهم هذا الكلام. فأطالبك بأن تكتب ردك الخطي حتى اعرضه على خبراء اللغة العربية!
وكتبته، وعرضه على الخبراء، وهم الاستاذ الشيخ محمد محمود جمعة، استاذ اللغات الشرقية في جامعة لندن، والدكتور سارجنت، المستشرق المستعرب الشهير والخبير الاول في العالم بلهجات القبائل اليمنية، ونيفيل باربر المستشرق وخبير اللغة العربية، وباكستون الذي ترجم الى الانكليزية كتاب طه حسين 'الايام'، واجمعت آراؤهم كلهم على تصديق كلامي. وتعجب مستر ستيفنسون، ولم ير بدا من ان يعتذر لي وترك لي الحرية.. فواصلت دأبي على ترجمة الـJEWISH TERRORIST الى المجرمين اليهود. فتلقيت مكالمات تلفونية من يهود يهددونني بالقتل والسحل والتقطيع وقلع العينين وشتى التهديدات والشتائم، ولم اعرها اي اهتمام، فكنت ارد على كل منها بعبارة مختصرة هي 'Go to hell'! ومعناها اذهب الى جهنم! ذلك لانني كنت وما أزال مقتنعاً بأن الذي يعتزم قتل الناس لا يهددهم! وبأن الاعمار بيد الله وحده. فاذا قدر الله لي ان اقتل فلا مرد لقضائه. وجاءني 'الزميل' اليهودي المدعو ليون ابو العافية (ومعنى ليون هو الاسد! يا صباح الشؤم)، جاء يحاججني ويعترض على تسميتي اليهود بالمجرمين ورفع صوته عليّ بوقاحة وقال ان العرب هم المجرمون! فعصف بي الغضب...، وما شعر الا بصفعة طرحته ارضا وبرفسة قام على اثرها يجري هارباً متهدداً. وجاءني صديقي وزميلي ادوارد عمون وقال 'خذ حذرك من هذا الوغد ليون ابو العافية! جاء يشكو لي انك ضربته ورفسته. وهو يتهددك ويقول ان عقدك مع الاذاعة لن يتجدد بعد انتهائه'. قلت لإدوارد 'انه ليون بالاسم فقط! وقد اثارني عندما قال ان العرب هم المجرمون. ولا أظن كلامه عن عدم تجديد عقد العمل الا بدافع حقده ولا اصدقه'.
ولكن ليون ابو العافية قد صدق فيما قال! فقد وصلتني رسالة قليلة الكلمات من مساعد المدير، مستر باربر، يعلمني فيها، بمزيد الاسف، ان عقدي لن يتجدد، ولم يزد على ذلك حرفا. لكنه جاءني الى مكتبي وجلس، على غير عادته، وأعرب لي عن أسفه الشديد لاضطراره لتنفيذ القرار المتخذ بعدم تجديد عقدي. فلما سألته عن السبب لم يجبني، ولكنه دعاني الى العشاء بعد يومين في ناديه. فقد كان عضوا في احد نوادي لندن العريقة. ولا اذكر اسم النادي ولكنه كان فخما وكأنه من النوادي التي ذكرها سامويل بيبس (1633 ـ 1703) في ذكرياته اليومية الشهيرة! وكرر نيفيل باربر اسفه لذلك القرار وأسرّ لي انه اتخذ من جانب 'أرقى الدوائر!' وان اعتراضه عليه لم يلق اي استحسان، وان سببه الذي لا يباح به هو استياء اليهود لتسميتي اياهم بالمجرمين. وتمنى لي ان اجد عملا خيرا مما حرمت. وأهداني نسخة من كتابه QUO VADIS الذي اختصر فيه كارثة فلسطين في عدد كبير من الوثائق الهامة والاحداث المؤرخة. وقد استعار الكتاب احد 'الاصدقاء' ولم يرجعه ونسيت من كان. والعوض على الله!
شعرت بالاحباط بعد حرماني من عملي عقابا على اختلاف على كلمة في اللغة. وحزنت لما رأيت من دليل على نفوذ اليهود في لندن. ولكنني في قرارة نفسي، حمدت الله على ما حصل لأنني سوف اعود الى وطني، وسأزور بلدتي الحبيبة صفد، وقدسي الغالية... وسأرى اقاربي وأحبابي. وكان حنيني الى فلسطين والى صفد بالذات ومن فيها يكاد يقتلني غما وهما، ففرحت رغم خيبتي، خاصة وان المرحوم الاستاذ محمد البرادعي العباسي (من صفد)، وكان كبير قضاة فلسطين، يومئذ، قد وعدني بأن أوظف مديراً لأول دار سينما عربية تبنى في فلسطين، في مدينة حيفا الجميلة، لتعويض شباب العرب عن الذهاب الى سينمات اليهود. فاختلط حزني على ضياع عملي بفرحتي بانتهاء الغربة وقرب العودة الى الحبيبة فلسطين.
ولكنني، قبل العودة، واجهتني مشكلة جديدة: فقد كنت اقوم بعمل اضافي زيادة على عملي في الـ'بي بي سي'، وكان ذلك العمل لشركة كومونت بريتيش (Gaumont BRITISH) السينمائية، وهو التعليق بصوتي على شريط الانباء 'حول العالم' الذي كانت الشــــركة تصدره مرة كل اسبوع، في استوديوهاتها في شبردزبش، ويعرض في كثير من المدن العربية في دور السينما مقدمة للفيلم الرئيسي. وكنت استهله بقولي: 'شريط الانباء حول العالم: تحية لجميع العرب في كل مكان' وأختمه بقولي 'سلام عليكم من الراوي منير شماء'.
وكان الشريط دعاية للمصنوعات البريطانية وللسياحة في بريطانيا بالاضافة الى اخبار عالمية طريفة ومسلية. فعندما علم مستر كلي (KELLEY) المسؤول عن ذلك الشريط، بعزمي على العودة الى وطني، اعترض. فأفهمتته ان الـ'بي بي سي 'قد انهت عقدي. فقال: 'لكننا نحن لم ننه عقدك. وقد كنا وما نزال نحبك ونعتبرك صديقا لا مجرد زميل في العمل، فكيف تتخلى عنا؟ 'وأخجلني بعتابه، وكان دخلي من هذا العمل تافها، لا يزيد على ستة جنيهات في الاسبوع، بينما المعلق البريطاني باللغة الانكليزية على نفس الشريط كان يقبض اضعاف هذا المبلغ.
ولكنني لم أشأ ان اخيب رجاء مستر كلي الطيب فقد طلب مني ان اوافق على بقاء العقد نافذا وان اطلب اجازة لمدة شهر او شهرين وان اعود. فقبلت بدافع المجاملة، مع النية على ان ارسل من حيفا استقالتي واعتذاري عن تعذر عودتي. وعدت الى فلسطين الحبيبة في 7 /تشرين الاول/اكتوبر 1947. وكانت فرحتي بلقاء أهلي وفرحتهم بلقائي، في منزلنا على سفح جبل الكرمل في حيفا، حديث الاسرة والجيران. لكن الفرحة كانت قصيرة الامد: فقد رأيت بعيني مبنى السينما العربية، بعد ان اكتمل، تدكه مدافع الهاون اليهودية من جبل الكرمل دكا. فدكت آمالي في ان أجد عملاً! واضطررت الى العودة الى لندن وشريط الانباء حول العالم في كانون الاول/ديسمبر 1947.

No comments:

Post a Comment