انتهى عام 2009 بخيره وشره، كانت أيامه الأخيرة محبطة، فقد صدر في أيامه الأخيرة الحكم برفض الاستئناف الذي تقدمت به وجريدة «الأهرام» القاهرية ضد الحكم الابتدائي الذي قضى بتغريمي خمسين ألف جنيه مصرياً مع جريدة «الأهرام» لأني كتبت مقالاً بعنوان «أيها المثقفون اتحدوا». وكنت أريد من المقال أن يكون تحذيراً للمثقفين الذين يضيعون وقتهم وجهدهم في خلافات ثانوية، واقتراف صغائر تصغر بها قاماتهم وتضعف من موقفهم في المواجهة الأساسية مع قوى التطرف الديني التي نجحت في إصدار أحكام قضائية ضد المثقفين المصريين، ابتداء من أحمد عبدالمعطي حجازي، مروراً بجمال الغيطاني ومحمد شعير وعزت القمحاوي وانتهاء بي. وللأسف كما انتصر الشيخ يوسف البدري (الذي اشتهر بمطاردة المثقفين فضائياً، وكان له دور في التفرقة بين نصر أبو زيد وزوجه) في القضايا التي رفعها على المثقفين في العامين المنصرمين، سجّل نصره الأخير بتثبيت الحكم القضائى ضدي وجريدة الأهرام وهكذا أصبح علينا أن ندفع خمسين ألف جنيه مصريٍّ ثمناً للدفاع عن حرية الرأي والتفكير.
ولقد ذكّرني هذا الحكم بما يعانيه المثقفون في أوطاننا، فهم محصورون بين مطرقة التطرف الديني وسندان الحكومات الاستبدادية، والنتيجة انخفاض أكبر لسقف حرية التعبير والفكر وحق الاجتهاد والاختلاف.
والحق أنه لم يحزنني في هذا العام المنصرم سوى الصغار الذي شاع بين أنصاف وأرباع المبدعين، وما نتج عن هذا الصغار في بيروت بعد إعلان نتيجة «بيروت 39» وما انتقل من شرر هذا الصغار إلى القاهرة وغيرها، وظهر في الحملة الخسيسة التي انتهت باستبعاد المبدعة علوية صبح من اللائحة القصيرة بجائزة «بوكر» العربية، لا لشيء إلا لأن الألسنة الكثيرة أشادت بروايتها «اسمه الغرام» فكانت النتيجة حملة ماكرة للضغط على لجنة التحكيم بوهم وجود مؤامرة لإكسابها الجائزة، ونسي الجميع قيمة هذه الرواية التي تستحق التقدير فعلاً لا قولاً، بشهادة عشرات النّقّاد.
وعلى رغم ذلك فقد منعت الرواية في أكثر من قطر عربي، ضمن حملات التعصب وضيق الأفق على الإبداع الأصيل الذي يفرض حركته الحرة، غير عابئ بالقيود أو السدود لكن، يبقى اختلاط الأحوال في الحياة الثقافية العربية واضطراب المعايير، فيختلط الحابل بالنابل على نحو عبثي في أحوال كثيرة ولا أدل على ذلك من استمرار الخلط بين ذيوع عمل من الأعمال لأسباب لا علاقة لها بالقيمة الجمالية الموجودة في أعمال أقل ذيوعاً. وها هي أكثر من عاصمة عربية تخلط بين العمل الإبداعي الأصيل والعمل الجماهيري الذي يجذب الانتباه إليه لأسباب لا علاقة لها بالأدب أو الفن ولذلك أصبحنا نجد ظاهرة الرواية الرائجة التي توزّع عشرات الألوف من النسخة لأنها تدخل مناطق الجنس، وتقوم بدور أفلام الـ «بورنو»، كما أصبحنا إزاء الرواية الأكثر رواجاً ويصل توزيعها إلى مئات آلاف من النسخ لأن صاحبها نجح في أن يصنع توليفة مليئة بتوابل الجنس والشذوذ والهجاء السياسي الذي يقوم بدور التنفيث عن المكبوتات، لا تصعيدها إلى مستويات الفن الباقي. وهو أمر يذكرني بما كتبه أحد منظري الفن، وهو روبين كولنجوود، في كتابه «مبادئ الفن» الذي كتبه من منظور نظرية التعبير، حيث ذهب إلى أن الفن الحق تعبير أصيل، أما الفن الزائف الذي يشتبه بالفن في أعين السذج فهو الفن الذي يهدف إلى التعليم أو التسلية والترفيه، ومعهما التنفيث عن المقموع، أو الصنعة الخالصة. وأظن أننا بهذا المقياس يمكن أن نمايز بين أي عمل إبداعي لهمنغواي، مثلاً، وما كتبه داني براون في «شفرة دافنشي» التي وزعت من النسخ ما يفوق بمئات المرات ما وزعته أنجح روايات همنغواي الذي تظل أعماله خالدة، باقية، لا تتضاءل قيمتها مع الزمن.
ومن شجون العام المنصرم الذي تثاقل في رحيله، وزاد في ثقله، ما سلبنا من أعلام إبداعية وفكرية. ففي مصر فقدنا محمود أمين العالم الذي كنت آراه بمثابة أب للفكر الماركسي، وكان احترامي له عميقاً بسبب مرونته التي لم تجعله يتخلى عن مبادئه السياسية التي ظل منطوياً عليها على رغم تراجع الكثيرين من حوله بسبب «ورطات الدنيا». وقد لحق به صديقه عبدالعظيم أنيس أستاذ الرياضيات، عاشق الأدب الذي شارك العالم في كتابة «في الثقافة المصرية» الذي أحدث ضجة هائلة، عند صدوره عام 1955، مع تقديم حسين مروة الذي سبق زميليه إلى الرحيل. وأضيف إلى هؤلاء الصحافى الشريف محمود عوض الذي ظل قابضاً على قلم كأنه الجمر، فاضطهده الزمن الساداتي الذي لم يكن يصلح له.
وكان حزني عميقاً على الطيب صالح الصديق والروائي المبدع الذي أعدّه أباً للرواية الحداثية في العالم العربى، وستبقى رواياته علامات مضيئة في سماء الرواية العربية. ولا أزال أذكر حواراتنا وسمرنا في ليالي القاهرة وإعجابي بذاكرته الشعرية التي لم أر لها مثيلاً بين كتاب الرواية. وأضيف إلى هؤلاء من مصر الشاعر الشاب وليد منير الذي اختطفه المرض اللعين مثلما اختطف يوسف أبو رية الروائي الواعد، وكذلك أحمد فؤاد سليم الفنان التشكيلي، وصديق عمري الشاعر الكبير محمد صالح الذي امتدت صداقتي به إلى نصف قرن. وكم حزنت لوفاة الصديق محمد السيد سعيد الكاتب المفكر الذي كنا لا نزال ننتظر منه الكثير، فسلبه منا المرض اللعين نفسه، فارتحل عنا بعد أن كان نموذجاً فريداً لوحدة القول والفعل، والتطابق بين الفكر المتقدم والممارسة التي تضيف إلى الواقع ما يرتقي به. وأضيف إلى ذلك الجميل بسام حجار ذا الموهبة المتألقة، والمؤرخ الفلسطيني أنيس صايغ والمغربي عبدالكبير الخطيبي الذي جمعني به محمد بنيس، وقرأت في أعماله ما فتح عقلي على فضاءات أوسع وأخيراً، الشاعر على الجندي الذي أعجبني شعره وشخصه ودوره في حركة الشعر المعاصر.
وها أنذا أزداد حزناً كلما استرجعت كل هذه الأسماء وغيرها، فأشعر بالمزيد من الفقد، وأننا نخسر كل عام من تتجمل بهم الحياة وتكتحل، وتترك ذكرى فقدهم مرارة في النفس، تذكرني ببيتي أمل دنقل: كل الأحبة يرتحلون، فترحل شيئاً فشيئاً، عن العين، ألفة هذا الوطن.
ولكني أعترف أن عام 2009 لم يكن ثقيل الوطأة تماماً، ففي وسط العتمة تتولد أضواء توحي بالأمل. ولم أر هذه الأضواء إلا في الإبداع الأدبي، وعلى رأسه الرواية والمجموعات القصصية التي تؤكد أننا لم نعد في زمن الرواية فحسب، بل في زمن السرد، حيث تتضافر الرواية والقصة القصيرة. والحق أن هذين النوعين طرفا متصل سردي واحد، الطرف الأول منه يستوعب اللحظات القصيرة المكتنزة التي تقترب من الشعر في كثافتها، وما تنطوي عليه من مفارقة، وهو طرف القصة القصيرة التي تنبني حول حدث، أو فكرة، أو لحظة أو مشهد، أما الطرف المقابل فهو زمن اللحظات المتتابعة الممتدة عبر الزمان والمكان والشخصيات التي تتعدد تعدد الحبكات الفرعية والأفكار والمواقف التي تتصارع، مجسدة نوعاً من درامية السرد وإيقاعه المتباين، هو عالم الرواية التي عرّفها أحد النقاد بأنها النوع الأدبي الذي لا حدّ لتنوعاته. ويمكن أن يتعامد على هذا المتصل السردي ما هو أقرب إليه من غيره، خصوصاً حين يتحول السرد إلى فيلم روائي، أو إلى مسلسل تلفزيوني، تاريخي أو اجتماعي معاصر. وقد حاولت بسط هذه الفكرة في ملتقى القاهرة للقصة العربية القصيرة الذي رأست لجنة تحكيم جائزته التي كان لا بد من أن تذهب إلى الكاتب السوري المبدع زكريا تامر الذي وهب عمره لإبداع القصة القصيرة التي لم يشاركها في وجدانه نوع آخر، فأبدع فيها ما لم يسبقه إليه أحد، سواء على مستوى التقنية الفريدة، أو على مستوى المضامين الجسورة التي لا تكف عن تقليم أظافر الطغاة، والكشف عن مثالب الواقع بما يجعل منها تمثيلاً إبداعياً نادراً للصدق العريان.
وقد استمتعت هذا العام بقراءة عدد وفير من الروايات التي منحتني متعة خاصة، منها رواية «أبناء الجبلاوي» للكاتب الشاب إبراهيم فرغلي. وهى رواية متميزة، يصعب قراءتها على الناقد التقليدي الذي يبحث بشكل حرفي عن بداية ووسط ونهاية، تتوسطها حبكة واحدة، فرواية فرغلي متعددة الحبكات والمستويات، تتراكب طبقة فوق طبقة، على نحو معقد التركيب بما يستلزم قراءة فاهمة لعوالم روايات ما بعد الحداثة بتقنياتها النوعية. وقد أسعدني اكتشاف «ملحمة السراسوة» للكاتب أحمد صبري عبدالفتاح الذي كان الجزء الأول منها سبباً لمتعة غامرة، أطارت النوم من عيني طوال الليل، فلم أتركها حتى فرغت منها مع طلوع الصباح. وأضيف إلى ذلك «فى كل أسبوع يوم جمعة» للكاتب الكبير إبراهيم عبدالمجيد، فهي رواية تخوض أفقاً جديداً، وتفتح عوالم معاصرة تماماً، يصل ما بين جوانبها موقع في الإنترنت. وأضيف إلى ذلك رواية «القانون الفرنسى» لصنع الله إبراهيم التي لم أشعر فيها بجديد أو إضافة حقيقية لما سبق أن كتب، ولا بأس بذلك فكل كاتب له مرتفعات ومنخفضات. ولا أنسى الإبداع الشاب لمنصورة عز الدين في روايتها «ما وراء الفردوس» و «الغزال العاشق» لصابرين الصباغ ولا «بيت العائلة» لسامية سراج الدين وقد دخلت رشيدة تيمور عالم الرواية التاريخية، وأضاف حجاج أدول إلى إبداعه «رحلة السندباد الأخيرة». أما جمال الغيطاني فقد أصدر الجزء السابع من دفاتر التدوين. ولم يفرغ العام من الأصداء المدوية لرواية «عزازيل» ليوسف زيدان، فقد أصدر الأنبا بيشوي كتاباً كاملاً للرد على الرواية بعنوان الرد على البهتان، ولم تنقطع الكتابة عن المعتقلات التي تواصلت مع رواية سيد إسحق «المحاريث». ولا أنسى الرواية الأخيرة للمحلاوي محمد المنسي قنديل التي دخلت القائمة القصيرة للبوكر لجدارتها لا لجدارة لجنة التحكيم التي تحولت إلى لجنة هزلية.
أما الإبداع خارج مصر فما أكثره، عبده خال يواصل مسيرته الخلاقة، ويوسف المحيميد فاجأني بروايته «الحمام لا يطير بريده». ورجاء عالم متألقة في روايتها الأخيرة، والكاتب العراقي سلام إبراهيم لا أزال أقرأ روايته «الحياة لحظة» وعلى مكتبي عشرات من الروايات اللبنانية والفلسطينية والسورية والسعودية والمغربية. وأنظر إلى هذا الكم الذي أصبح يفوق قدرتي على القراءة، وأبتسم متذكراً الذين سخروا واعترضوا على عنوان كتابي «زمن الرواية» خصوصاً بعد أن دخلوا، رغماً عنهم، في ما أسميه، الآن، «زمن السرد»، وأضيف إليه المجموعات القصصية لكل من خيري شلبي «ما ليس يضمنه أحد» ومحمد البساطي «نوافذ صغيرة».
وبالطبع، لم يتوقف الشعر، فزمن السرد ليس قاتلاً للشعر، ولا نقيضاً له كما توهم بعض السذّج، كل ما في الأمر أن صوته خفت، لكنه موجود. وقد تأثرت جداً بديوان «لا شيء يدل» لمحمد صالح الذي فقدناه، وأبكتني فاطمة قنديل في ديوانها «أنا شاهد قبرك» سامحها الله، لكن صوتها المتميز في «قصيدة النثر» يؤكد صعود هذه القصيدة التي صادفت هوى تمرد الشبان على كل شيء فاسد في أوطاننا العربية الممتدة كالجرح الدامي من المحيط إلى الخليج ولكن إبداع الرواية يظل متفوقاً على إبداع الشعر، وذلك على نحو يمكن أن نضيف إلى ما سبق من روايات أعمالاً أخرى تشمل رواية لينا الحسن «سلطانة الرمل» ومحمود الريماوي «من يؤنس السيدة» وعمرو عبدالسميع «أنا والحبيب» وعلاء خالد «ألم خفيف كريشة طائر» ورواية ربيع جابر «أمريكا» التي ظلمتها شيرين أبو النجا في غضبها على لجنة البوكر سامحها الله فضلاً عن رواية على المقّري التي عالجت موضوع الأنا الآخر على نحو بالغ الجسارة المضمونية والتشويق التقني، ما دفعني إلى أن أقرأ «اليهودي الحالي» في جلسة واحدة، طويلة، من دون شعور بالملل، بل بمتعة السرد وجسارته في رسم شخصية اليهودي الحالي (الجميل)، في علاقته بفاطمة ابنة المفتي، وهي رواية تاريخية في ظاهرها الذي يبدأ من 1644م، ولكنها رمزية في دلالتها التي تؤكد الوصل الإنساني الذي يربط بين البشر مهما اختلفت أو تباعدت أو تصارعت دياناتهم.
ويبدو أن خفوت صوت الشعر وازى خفوت صوته النقدي، فلا أذكر كتاباً استثنائياً في نقد الشعر في العام المنصرم لكن المفاجأة المفرحة التي أسعدتني، على المستوى البحثي، فهي كتاب «السيدة مريم في القرآن الكريم قراءة أدبية» قامت بها حُسن عبود، في دراسة بالغة الجدة والأصالة، جامعة ما بين أحدث مناهج النقد الأدبي والدراسات الدينية، فقدمت كتاباً أطروحة، لا بد من تهنئتها، وتهنئة المشرف عليها رضوان السيد على إنجاز هذا البحث الذي أرجو أن لا تناله أظافر المتطرفين والجامدين دينياً.
No comments:
Post a Comment