Monday, April 8, 2013

العرب في الحرب - الفعالية العسكرية للجيوش العربية بين عامي 1948 و 1991

يعتبر الحديث في ألأمور العسكرية في الدول العربية من المحظورات. و بسبب حساسية الوضع الجيو-سياسي في الشرق اﻷوسط، لا تحبذ الدول العربية مشاركة شعوبها في المعلومات عن مستوى هذه الجيوش و فعاليتها القتالية. و تحيط بالمعارك التي خاضتها الجيوش العربية غمامة من الدعاية الوطنية و انعدام مزمن للشفافية. و تصيب الباحث في هذه اﻷمور خيبة اﻷمل من قلة المصادر العربية التي تناقش مثل هذه المواضيع من زاوية مهنية. و انعدام المصادر و التقارير العسكرية التي لا يفرج عنها بالتقادم كما هو معمول في كثير من الدول الغربية. و يصبح اﻹعتماد على كتب المذكرات التي تهمل التفاصيل و تكون مدافعة عن وجهة نظر صاحبها حسب موقعه من اﻷحداث. و بسبب اعتماد الكثير من اﻷنظمة على الشرعية العسكرية و تعظيم مكانة الجيش بوصفه حامي الحمى و السبيل الوحيد لتحقيق اهداف مثل تحرير فلسطين، فلا يوجد استعداد لعمل اي مراجعات تستهدف المؤسسة العسكرية بالنقد.
و رغم تحسن اﻷمور قليلاً بعد تغيير بعض اﻷنظمة العربية التي خاضت تلك المواجهات، فلا تزال هذه المراجعات محدودة. و نذكر منها مذكرات رئيس اﻷركان سعد الشاذلي مثلاً الذي  قدّم عرضاً لاستراتيجية الجيش المصري  في حرب 1973  و كذلك كتاب جمال حمّاد (المعارك الحربية على الجبهة المصرية) و الذي  قدّم فيه جهدا ممتازاً في البحث في الوثائق المصرية التي أتيحت له و كذلك المصادر الإسرائيلية و إعادة سرد المعارك بالتفصيل في كل الجبهات و من وجهة نظر طرفي الصراع. و كان لا يتردد في توجيه اﻹشادة أو اﻹنتقاد لكلا الطرفين. و تعد حرب أكتوبر من الحروب النادرة التي حظيت بهذا المستوى الجاد من الدراسة ربما بسبب النجاحات العربية فيها. بينما غابت الكتب الجادة في الحديث عن حرب 1948 و 1967 و اقتصرت على كتب مثّلت  وجهة نظر التيار السياسي السائد فترة نشر الكتاب. و الحال في بقية الدول العربية أسوأ. حيث لم تقم أي من اﻷنظمة الشمولية بمراجعة موقفها العسكرية علانية (العراق في حروب 1948 و 1967 و  1973 و 1980 و 1991) و سوريا (1948 و 1967 و 1973) و ليبيا القذافي، أو حتى دول معتدلة مثل اﻷردن.
و هو ما سبب في تشوه المعرفة المتاحة عن تاريخ الحروب العربية المعاصرة وشجع  نظريات المؤامرة و الخيانة و العمالة كسبب لكل الهزائم العربية (ان تم اﻹعتراف بأنها هزائم). و أدى لغياب التقييم السليم للشعوب العربية عن مدى فعالية جيش كل دولة و قدرته على مواجهة التحديات العسكرية و اعتبار ان تاريخ الفتوحات اﻹسلامية يكفي للتدليل على اننا مستعدّون فطريا للحرب و كل ما نحتاج هو شيء من السلاح و بعض التوفيق في القيادة. مثل هذه الصور هي ما أدى لصدمة الكثيرين من الهزيمة الساحقة التي مني بها العراق في حرب عام 1991 مثلاً، حيث خرجت قوات التحالف بخسائر تافهة في اﻷرواح و المعدات أمام جيش كان يعتبر حتى ذلك الوقت من أقوى الجيوش العربية.
و لاستكمال الصورة، يضطر المتابع للجوء للمراجع المتاحة في المكتبة العالمية، مع الحذر و الانتقائية في اختيار المعلومة. حيث أن الكثير من المراكز البحثية تعمد إلى تشويه الحقائق لاعتبارات تتصل بالصراع العربي اﻹسرائيلي. و في هذه المقالة سنعرض لكتاب Arabs at War للكاتب اﻷمريكي Kenneth Pollack. و الذي عمل محللا" عسكريا" لوكالة اﻹستخبارات المركزية اﻷمريكية للخليج العربي. و مديرا لشؤون تلك المنطقة في مجلس اﻷمن القومي اﻷمريكي. الكتاب يقع  في نحو 590 صفحة ما عدا المراجع و الحواشي. وهو يقسم ﻷبواب تغطي الجيوش العربية التالية: المصري، العراقي، السوري، اﻷردني، السعودي، الليبي. حيث يستعرض تاريخ حروب كل جيش بين عامي 1948 و 1991 و يقدم تحليلا ﻷداء الجيش في كل حرب، و يحدد عوامل القوة و الضعف على المستوى التكتيكي و الاستراتيجي ثم يحدد مدى التحسن أو الضعف في تلك العوامل على مدار السنوات التي يغطيها.
1- الجيش العربي اﻷردني:
منذ تأسيس الجيش اﻷردني تحت اﻹنتداب البريطاني، في بداية القرن العشرين، كان تأثير النفوذ البريطاني تدريبا و تسليحاً هو الطاغي على هذا الجيش. و كان البداية هي لصد غزوات الواهبيين من السعودية و من ثم تطور للقيام بواجب امني. و في الحرب العالمية الثاني تم زيادة عدد القوات لتصير حوالي 10000 جندي  القوة الضاربة فيه هي لواء مدرع.  و قد تم اعطاء هذه القوات بعض الواجبات في الحرب العالمية مثل مواجهة رشيد عالي الكيلاني في العراق و قوات فيشي في سوريا. و تم  تحضير بعض الوحدات للاستخدام وقت الحاجة للدفاع عن مصر و القام بواجبات الحراسة. منذ نشوء الجيش كان التركيز على ابقاء الحجم صغيراً. و كان اﻹنضمام للجيش مبني على التطور و كان مطلباً لكثير من أبناء البادية. و كانت اﻹنتقائية عاملاً مساعداً على اختيار العناصر الجيدة التي تخدم لسنوات طويلة مما يتيح التدريب و اﻹتقان على المهمات العسكرية. و قد كانت عناصر القيادة العليا و الوسطي مطعّمة بالكوادر اﻹنجليزية مما انعكس بشكل إيجابي (حسب عرض الكاتب) على أداء الجيش في حربة الرئيسية اﻷولى:
1-1 الجيش اﻷردني في  حرب 1948:
يوجد انطباع عام لدى الكاتب أن الأردن كان يدرك ان حجم امكاناته لا يسمح بتحقيق نصر عسكري حاسم و هزيمة المشروع الصهيوني في فلسطين. و كانت الخطة هي ان تحافظ القوات على ما اعطي ﻷهل فلسطين في التقسيم و ضمها للأردن.  و من العوامل المساعدة على تحديد أهداف اﻷردن كان حقيقة ان معظم القيادات العليا في الجيش هي من الضباط البريطانيين و قد امرتهم بريطانيا بترك مواقعهم لو تجاوزت قواتهم خط التقسيم داخل اﻷراضي المعطاة للصهاينة. و عليه كانت خطة قائد الجيش الجنرال غلوب هي احتلال الضفة و الدفاع عنها مع الحرص على تقليل الخسائر البشرية.
كان أول اشتباك بين الجيش اﻷردني و العصابات الصهيونية قبل الحرب بشهر. حيث عكفت القوات الموجودة في مستوطنة عتصيون (Etsioni) على حدود القدس على التحرش بالقوات العربة في تلك المنطقة. و قرر البريطانيون ارسال قوات لتأديبهم و ضمت القوة سرية من الجيش العربي مصحوبة بالعربات المدرعة و الدبابات. و بعد قتال قرر البريطانيون ان شكان المتعمرة تلقوا درسهم و سحبوا قواتهم مع اﻹبقاء على السرية اﻷردنية و بعض المتطوعين الفلسطينيين الذين كانوا يأملون بوصول اﻷوامر من عمان لاحتلال تلك المنطقة.
و بعد اسبوع  انتظار اﻷوامر قرر قائد السرية العقيد عبد الله التل التحرك بمفرده و قام بإصدار أمر الهجوم. و رغم ان عدد سكان المستوطنات اﻷربع من رجال و نساء قادرين على القتال وصل 500 مقارنة بعدد أقل للقوة العربية. فإن السلاح العربي كان أثقل من حيث وجود السيارات المدرعة و المدافع الثقيلة و الخفيفة. نجح التل في عزل المستوطنات اﻷربع ثم تم مشاغلة المستوطنة الرئيسية بالمدفعية و بهجوم تثبيتي بينما قامت المدرعات بمناورة التفاف و سقطت المستوطنات اﻷربع بعد 3 أيام من القتال في 13 مايو.
و في اليوم التالي دخلت قوات الجيش العربي لفلسطين و قاموا باحتلال مواقع دفاعية ممتازة حول هضاب السامرة جنوب القدس. قرر غلوب أن يركز لواءً واحدا لحماية المنطقة من شمال رام الله لجنين. و اللواء الثاني تم تركيزه  حول القدس. و كان هناك تشكيل ثالث من غير المدربين بقي في اﻷردن للتمويه و منع اﻹسرائيليين من شن هحوم عبر نهر اﻷردن.
معركة القدس:
يوم 17 مايو، أمر الملك عبدالله الجنرال غلوب بالهجوم على مدينة القدس. و قد قام غلوب بمعارضة اﻷمر بداية بسبب مخالفته قرار التقسيم و تعليمات الحكومة البريطانية بعدم تجاوز تلك الحدود. في النهاية تقبل غلوب اﻷمر كوسيلة ﻹنهاء اﻹشتباكات المتقطعة في التي كانت مندلعة في المدينة على مدار 3 أيام.
قام غلوب بفصل الكتيبة الثالثة مشاة عن اللواء الشمالي و ضمها لقواته التي تنوي مهاجمة القدس. و قام اﻷردنيون بهجوم من المحورين الشمالي و الجنوبي على الحي اليهودي في المدينة القديمة مع هجوم إشغال من الوسط:
 من الشمال هاجمت الكتيبة الثالثة مدعومة بالسيارات المدرعة و المدفعية على حي الشيخ جرّاح في شمال القدس.
من الوسط هاجمت عدة سرايا مع متطوعين فلسطينيين لحصار الحي اليهودي او اقتحامه.
في نفس الوقت حاولت القوات التي سيطرت على مستوطنة عتصيون (حوالي كتيبة) مهاجمة مستوطنة بنات راحيل لتطويق القدس من الجنوب.
الهجوم الشمالي توقف بعد نجاح أولي أدى لحصار حامية جبل مسكوب. حيث فشل اقتحام بوابة ماندلبم لقطع القدس القديمة عن المناطق اﻹسرائيلية رغم التفوق الكبير في القوة النيرانية مقارنة بالقوات المدافعة التي امتلكت مدفعين مضادين للدبابات فقط و رشاشين متوسطي المدى و رغم أداء القوات اﻷردنية الجيد و استخدام القوات المشتركة. و خسرت الكتيبة نصف قوتها و عدّة سيارات مدرعة أمام حامية صغير بمدفع واحد مضاد للدروع امام حامية روتردام. أوقف غلوب الهجوم يوم 24 حفاظاً على قواته و بقي هذا المحور هادئا حتى الهدنة اﻷولى.
 صادف الهجوم الجنوبي - الذي تم بالتسيق مع لواء مصري قادم من جهة الغرب نجاحاً أقل. فبعد تلاقي القوتين تم شن الهجوم المشترك يوم 21 مايو ضد قوة صغيرة تدافع عن تلال القدس الجنوبية. و تمكن الجيشان من دحر المدافعين بسبب التفوق العددي الساحق. و لكن في المساء جائت تعزيزات اسرائيلية و تمكنت من السيطرة على المنطقة مجددا. و شهدت الثلاثة أيام التالية تبادلا للسيطرة على تلك المنطقة بين العرب و الصهاينة. و في يوم 24 مايو وصلت تعزيزات من رام الله على مستوطنة بنات راحيل لعمل هجوم تطويق جديد. و مثل الأيام السابقة، نجح العرب في أقتحام المستوطنة نهاراً قبل أن يفقدوها ليلاً. و اﻷسوأ من ذلك أن الصهاينة سيطروا على دير مطل على المنطقة كان نقطة ارتكاز الهجمات العربية السابقة. و هو ما أدى لتوقف الهجوم العربي و اتخاذ المواقع الدفاعية.
فقط في المنطقة الوسطى، تمكن الهجوم اﻷردني من تحقيق أهدافه. حيث كان الحي اليهودي محاصراً بالمناطق العربية و كان صلته باﻷجزاء اليهودية من المدينة الجديدة مقطوعة. لكن حي كان يملك ميزة دفاعية كونه كان على طراز المدن القديمة ذات الشوارع الضيقة و المنازل المرصوصة. و قد تمكن اﻹسرائيليون من إدخال بعض أفراد الهاجانا و اﻷرجون لصد الهجوم المتوقع. و قد حصل الهجوم من كل الجهات يوم 16 مايو و كان يقضم اجزاء الحي ببطء مستغلاً التفوق العددي للعرب. حاول اﻹسرائيليون إغاثة الحي بهجوم يوم 17-18 مايو لكن الهجوم الخاطف تحول لمواجهة مباشرة للقوات اﻷردنية المتمركة جيداً. و قد أثبت اﻷردنيون كفاءة عالية في تصويب النيراني للبنادق و حققوا إصابات كثيرة في المهاجمين. و على الرغم من ذلك،  شغل هذا الهجوم أعين الجيش العربي عن قوة أخرى تمكنت من احتلال جبل صهيون و دخول المدينة القديمة. و رغم المفاجئة، حافظت القوات اﻷردنية على رباطة جأشها و أعادت تجميع قواتها و هاجمت البوابة التي دخل منها الصهاينة. و بعد قتال مرير نجحوا في السيطرة على البوابة و محاصرة الحي اليهودي مجددا. و لمدة 10 أيام، حاول اﻹسرائيليون مرارا فتح ثغرة في هذا الحصار عن طريق فتح بوابة صهيون و كان الجيش اﻷردني قادرا على صد المحاولة و إيقاع الخسائر الكبيرة في المهاجمين. كان تكتيك اﻷردنيين ممتازاً، حيث كانوا يستدرجون القوات المهجمة و يسمحوا لها بالمرور من البوابة حتى اﻷحياء العربية قبل أن يحصروا في جيب قنص. و في تلك اﻷثناء استمر التطهير العسكري للحي القديم باستخدام مزيج من المشاة السيارات المدرعة و المدفعية و قت الحاجة و تم استسلام الحي بأكمله في 28 مايو.


معركة اللطرون اﻷولى:
بالتزامن مع محاولته احتلال كامل القدس، حاول غلوب حصار المدينة عن طريق قطع الطريق الضيق الذي يربط المدينة بمدن الساحل اليهودية. أمر غلوب الكتيبة الثانية مشاة - التي كانت متمركزه شمال و غرب القدس - بالذهاب جنوباً لحصار تل الرادار لقطع طريق القدس - تل أبيب. و غرب تلك الكتيبة كانت الكتيبة الرابعة مشاة بقيادة المقدم حابس المجالي تستغل الفرصة لاحتلال مقر الشرطة عند اللطرون و التي كانت قلعة حصينة على طريق القدس - تل أبيب. حيث نجح اﻹسرائيليون في بداية الحرب في طرد الحامية الصغيرة هناك لكنهم ارسلوا قواتهم لاحقا للدفاع عن بنات راحيل عند القدس في اﻷيام السابقة. و قد قام المجالي بمبادرة ذاتية باحتلال هذا الموقع اﻹستراتيجي الهام يوم 20 مايو. 

سيطرة الأردن على هذا الموقع كانت تشكل تهديداً جدياً لمدينة القدس. و قام اﻷسرائيليون بإرسال اللواء السابع المشكل حديثاً من الكتيبة 79 مشاة ميكانيكية و الكتيبة 71 و 72 المشكلة من المهاجرين اليهود الذين بالكاد كانوا يستطيعون التفاهم بسبب حواجز اللغة! و قد تم إرسال هذه التشكيلات بعجلة بسبب حراجة الموقف، إضافة إلى أن الكتيبة 32 ستقوم بالهجوم من الناحية الغربية للقلعة بينما مهمة اللواء السابع هي الهجوم من الشرق. 

القلعة المبنية من الصخر كانت حصنا منيعا. و قد قام المجالي بوضع معظم قواته نحو الجهة الغربية حيث كان ميلان التل أقل من الشرق. و كان مستعدا تماما لاحتمال تطويق جوانبه. اما الهجوم اﻹسرائيلي، فقد كان بحد ذاته سيئ اﻹعداد. حيث بدأ مساء 24-25 مايو بقصفة مدفعية تبعها الهجوم. و قد كانت بعض الوحدات متأخرة بساعات عن مواعيدها مما أخر الهجوم و بالتالي لم يعطي القصف المدفعي غير تنبيه اﻷردنيين لوقوع هجوم. و قد بدأ تحرك اللواء السابع مع طلوع النهار و تم تثبيته بالنيران اﻷردنية أول طلوع الضوء. هذا التأخير ساعد المجالي على تركيز كل قوته على الهجوم الثاني و تحول الهجوم إلى مذبحة للجانب اﻹسرائيلي لسوء أداء القوات المهاجمة و حصانة المواقع اﻷردنية و دقة نيرانها. و تم صد الهجوم مع حوالي 2000 قتيل إسرائيلي. 

يوم 30 مايو كرر اﻹسرائيليون الهجوم بنفس المستوى السيء. حيث تم الهجوم بكتيبتين فقط: الكتيبة الميكانيكية من اللواء السابع و كتيبة من لواء جيفاتي. هذه المرة كان الهجوم من الجنوب و تمكن اﻹسرائيليون من أخذ قرية دير أيوب المحاذية للقلعة لكنه لم يكن كافيا و تم صد الهجوم بسرعة اﻷمر الذي مكن المجالي من التركيز على الهجوم من الجناح الثاني من الكتيبة الميكانيكية. و رغم استبسال المهاجمين، فقد أوقعت النيران اﻷردنية فيهم خسائر فادحة و تم صد الهجوم: حيث ركّز المجالي على وضع القناصة على نقاط القلعة المرتفعة لتحقيق أصابات في الجنود الجالسين في سيارات مكشوفة. 

هاتان الهزيمتان الساحقان أدت لقيام اﻹسرائيليين بشق طريق التفافي حول القلعة لتوصيل اﻹمدادات للقدس. و رغم ذلك أصبح التفكير العسكري مصمماً على أخذ القلعة و تم التخطيط لهجوم ثالث ليلة 8-9 حزيران. و تم الهجوم باستخدام كتيبتي حاريل و يفتاخ المخضرمتين من جهتين لكن هذه المرة من نقطة أبعد تجاه الشمال الشرقي. حيث يتم تجنب النقطة الضيقة في الوادي. ما جهله اﻹسرائيليون هو أن غلوب قد أرسل كتيبة المشاة الثانية و بعض المدفعية للتعزيز. حيث استمرت الكتيبة الرابعة بحماية القلعة و اﻷجناب، بينما كان دور الكتيبة الثانية هو حماية الممر خلف القلعة حيث تم الهجوم. و بالتالي بدل تحول الهجوم من تطويقي لعزل الكتيبة الرابعة عن الثانية إلى هجوم مواجهة مع الكتيبة الثانية المدافعة عن المنطقة  من خلف تحصينات قوية. و مثل المرات السابقة قدم اﻹسرائيليون اندفاعاً قويا أمام النيران اﻷردنية و تمكنوا من احتلال بعض الخطوط اﻷمامية لكنهم اضطروا للإنسحاب بسبب الخسائر الكبيرة و الهجومات اﻷردنية المضادة و المنسقة. و تم تكرار المحاولة في الليلة التالية لكن إحدى الكتيبتين ضاعت في الليل و تم صد الكتيبة الثانية.  

هجوم العشرة أيام اﻹسرائيلي و معركة اللطرون الثانية
في 11 حزيران اوقفت الهدنة اﻷولى اﻷعمال القتالية حول اللطرون. و قام طرفي الصراع بالتحضير للجولة التالية: حيث قام اﻹسرائيليون بزيادة عدد تشكيلاتهم بتدريب المزيد من المقاتلين. الجيش العربي تلقى ضربة موجعة عندما سحبت بريطانيا كل الضباط البريطانيين الذين تمت إعارتهم للجيش العربي بسبب دخول الجيش المناطق التي حددها التقسيم ﻹسرائيل. و رغم بقاء الضباط الكبار في مناصبهم، فقد غادر قائدا اللوائين الرئيسيين في الجيش و قادة ثلاثة من كتائبه اﻷربع إضافة لعدد من صغار الضباط. تم ترفيع عدد من الضباط ( و من ضمنهم انجليز) لشغر هذه المواقع لكن استعادة منظومة القيادة و السيطرة تطلب وقتاً). 
و بغض النظر عن هذا التعطيل، استغل الجيش العربي الهدنة لتعزيز القوات و الدفاعات و المعدات. و تم تأمين الذخيرة التي كان يعاني الجيش من نقصانها، خصوصاً طلقات المدفعية. على صعيد الوضع عام، قرر غلوب ان قواته منتشرة بشكل خطير و انه يحب إعادة التمركز و تحديد العمليات الهجومية لتكون صغيرة و تهدف لتحسين الموقف الدفاعي العام. الذي شهد بعض التحسن بسبب وصول القوات العراقية جنوب السامرة اﻷمر الذي مكن غلوب من سحب قواته من نابلس و إرسالها لجنوب اللطرون، حيث توقع الهجوم التالي للإسرائيليين. و عند استئناف القتال كان للأردن 3 كتائب ملحقة بسرايا سيارات مدرعة و مدفعية حول اللطرون. 
في التاسع من تموز شن اﻹسرائيليون هجوما رئيسياً على القوات المدافعة عن القدس و ممر القدس - تل أبيب. على محور القدس اندفع اﻹسرائيليون جنوب المدينة لتأمين الجناح اﻷيمن باتجاه البلدة القديمة و شمالاً لأخذ منطقة الشيخ جرّاح و اﻹتصال مع حامية جبل مسكوب. الهجوم الجنوبي نجح في إخراج الحامية الصغيرة من جبل هرزل اﻷمر الذي حسن وضع الجناح اﻷيمن للجبهة اﻹسرائيلية. الهجوم على المدينة نفسها كان سيئاً و صدّته النيران اﻷردنية الدقيقة محققة خسائر قوية. أما الهجوم على الشيخ جرّاح، فلم يفشل و حسب. بل شن اﻷردنيون هجوماً سريعاً منحهم السيطرة على عدة مواقع قريبة. 
   
أشد القتال وقع مرة أخرى حوالي اللطرون. حيث بقي اﻹسرائيليون مصممين على احتلال الموقع و فتح الطريق إلى القدس. الخطة الجديدة كانت بعمل هجوم على مستوى فرقة لفتح مناطق أمام اللد و الرملة شمال اللطرون مما سوف يخفف الضغط على تل أبيب و يمكن الهاغانا من تركيز هجومها على اللطرون من الشمال. غلوب تعمد تخفيف دفاعات اللد و الرملة لتركيز قواته حول اللطرون حيث كانت هاتان البلدتان بعيدتان عن مواقعه الرئيسية و كانتا معرضتنا لخطر العزل في أي لحظة و بالتالي لم يكن من الممكن حمايتهما دون قوات كبيرة جداً. إضافة لذلك، فإن طبيعة اﻷرض الوعرة تمنع الصهاينة من استثمار أي نجاح في السيطرة على المدينتين لمهاجمة السامرة دون أخد اللطرون أولاً. و بالتالي كان اللطرون هو الوقع اﻷهم و أبقى غلوب عدد محدود من العناصر مع المتطوعين بقيادة القاوقجي للدفاع عن البلدتين. 

و بدأ الهجوم ليلة انتهاء الهدنة (9-10 تموز) و تكون من 3 الوية من ضمنها اللواء الثامن اﻷلي المشكل حديثا من 13 دبابة من مختلف البلدان. و كان الهجوم سليماً من ناحية العمليات و أدى لحصر المدينتين من الجهتين. و لم تقدّم قوات المتطوعين أي جهد يذكر بينما صمدت الحامية اﻷردنية قليلاً أمام اللواء الثامن عند دير طرف. و في نهاية 12 تموز نجحت القوات اﻹسرائيلية في مهمتها و وصلت للطرف الشمالي للطرون. و نبه غلوب قواته هناك أن تتحضر لجولة جديدة من القتال. 

بدأ الهجوم اﻹسرائيلي على اللطرون ليلة 14-15 تموز. حيث أرسلت كتيبة من لواء حاريل لعمل هجوم إشغال على تل الرادار. و في تلك اﻷثناء كان هجوم باقي لواء حاريل على جنوب اللطرون و هجوم لواء يفتاخ على الجهة الشمالية الغربية للموقع الحصين. و لم يكن اﻹسرائيليون يعلمون عن حجم التعزيزات اﻷردنية للموقع و أن غلوب قام بإضافة مواقع دفاعية جديدة للشمال و الشرق لحماية أطراف الموقع. و كان انطباع اﻹسرائيليين ان قواتهم لها أغلبية عددية كافية لعمل هجوم تحويط بينما الواقع ان الهجوم هو هجوم مواجهة للخطوط اﻷردنية الجديدة. و مرة أخرى كان يمكن اعتبار الميزان متكافئاً بين ثلاث كتائب أردنية مع إسناد مدفعي قوي و سرايا مدرعات ضد 5 كتائب إسرائيلية مع عدد قليل من المدرعات. إضافة لذلك كانت المواقع اﻷردنية حصينة و في مواجهة الهجوم المعادي. 

و لثلاثة أيام كانت المعارك طاحنة حوالي اللطرون. دهش اﻹسرائيليون عندما وجدوا اﻷردنيين في انتظارهم في المرتفع الشمالي و الشرقي للموقع و صد هجومهم اﻷولي مع خسائر كبيرة. و بالذات عندما قام اﻷردنيون بهجوم مرتد باستخدام السيارات المدرعة ادى لتدمير عدد من الوحدات المسحبة التي لم تتوقع مواجهة هذا السلاح و لم يكن لديها سوى عدد صغير من اﻷسلحة المضادة للدبابات. و كانت المفاجأة من نصيب اﻷردنيين في عدة مواقع تسلل إليها الصهاينة في الليل في هجوم مفاجئ. لكن اﻷردنيين سرعان ما استعادوا ربطاة جأشهم و قاموا برد الهجوم و عمل هجوم معاكس غير مسبوق في شدته كما و صفه مقدم في الجيش اﻹسرائيلي. و بين هجوم و هجوم معاكس تم تبادل السيطرة على عدة مواقع مهمة حتى توقف الهجوم يوم 17 تموز بعد ان وصل المهاجمون إلى مسافة 3 كم على أعتاب الموقع الحصين. 

المحاولة اﻷخيرة كانت يوم 18 تموز. و هذه المرة كان الهجوم بالتعرض المباشر ضد خط الدفاع الرئيسي عن القلعة لاعتقاد اﻹسرائيليين أن الهجومات السابقة أضعفت المدافعين لدرجة أن هجوماً واحداً أخيراً يستطيع حسم الموقف. جمّع اﻹسرائيليون سرية من لواء يفتاخ المرهق مع المشاة الميكانية و عدد صغير من الدبابات من اللواء الثامن. و كان اﻷردنيون مرهقون بنفس الدرجة. و كانت كثير من دفاعات القلعة موزعة على أجناب الموقع لصد أي هجوم التفافي. رغم ذلك، نجحت المدفعية اﻷردنية في قصف القوات المهاجمة بكثافة. و في هذه الظروف تمكنت الدبابات اﻹسرائيلية من التقدم في البداية حتى أدى خطأ في الإتصالات ﻹنسحابها و بالتالي اضطر اﻹسرائيليون لسحب مشاتهم. و عند هذه النقطة وقعت الهدنة الثانية التي اوقفت القتال. و لكن التقدم اﻹسرائيلي مكّنهم من وضع الطرق الموصل من السامرة للّطرون ضمن مرمى نيرانهم. و لولا وقف إطلاق النار لكان من المؤكد سقوط الموقع عن طريق قطع اﻹمدادات عنه عن طريق قصف ذلك الطريق. 

بعد الهدنة الثانية، أدرك الطرفان أن القتال وصل لمرحلة التعادل، و أن أي تقدم على اﻷرض سيكلف خسائر كبيرة في الطرف المهاجم. كذلك بدأ مخزون الجيش اﻷردني من الذخيرة يتناقص. و من الناحية السياسية، رغم خيبة أمل الملك عبدالله من عدم ضم القدس، إلا انه كان شغولاً بتأمين باقي الضفة  و السيطرة عليها خصوصاً مع وجود قوات عراقية في السامرة و مصرية في أريحا. و استمرت أعمال القنص و الغارات المحدودة حتى وقف إطلاق النار في ديسمبر. 

الفعالية العسكرية للجيش اﻷردني في حرب 1948
أداء الجيش العربي اﻷردني كان، و بدون شك، أفضل أداء لكل الجيوش العربية ضد الصهاينة في التاريخ المعاصر:
1- وحده دون كل الجيوش العربية، قاتل الجيش كجيش حديث محترف. الوحدات أظهرت قدراً ممتازاً من الثبات، سواءً على صعيد الوحدات العسكرية أو على صعيد التمسك بالمواقع حتى تحت أشد الضغوط (مثل معركة اللطرون الثانية).
2- الجنود تحلوا بشجاعة عالية بشكل دائم بشهادة اﻷصدقاء و اﻷعداء. 
3- أظهر اﻷردنيون فهماً جيداً لمفهوم العمليات المشتركة و اﻹستخدام المستمر لسلاح الدروع إلى جانب المشاة و المدفعية بشكل أفضل حتى من اﻹسرائيليين. 
4- الدقة النارية كانت عالية جداً.
5- الهجوم المضاد كان دقيق التوقيت و بقدر مناسب من اﻹندفاع. 
6- حرصت الوحدات اﻷردنية على تغطية أجنحتها و لم يصابوا بالذعر حتى عندما نجح  اﻷسرائيليون بهجومات التطويق حول وحداتهم. 
7- الجيش كان يقوم بدوريات مستمرة و بالتالي نجح في كثير من المرات في تجنب المفاجآت اﻹسرائيلية. 
8- صغار الضباط أظهروا قدراً جيداً من المبادرة و استغلال الفرص السانحة (مثل احتلال اللطرون عندما تركها الصهاينة بحماية قليلة). 
9- الضباط استخدموا اسلوب المناورة بالقوات بنجاح للحصول على أفضلية أثناء القتال، رغم أن معظم تلك الهجومات تمت بشكل تعرض مباشر على المستوى التكتيكي. 

هناك على اﻷقل عاملان يتدخّلان عند مناقشة هذه العوامل. أولاً: رغم كون اﻷداء اﻷردني أفضل من الجيوش العربية المقابلة و مساوي إن لم يكن أفضل للقوات اﻹسرائيلية، فهذا اﻷداء لم يكن ممتازاً على كل اﻷصعدة. فالخصم المقابل لم يكن بتلك الجودة، و كان هناك عوامل كثيرة في مصلحة الجيش اﻷردني. قوات الهاجاناة عام 1948 كانت سيئة اﻹعداد و التدريب. و أداء الكتائب المختلفة لم يكن على نفس المستوى. و كان هناك ضعف في التدريب و التسليح و بعض المنافسات السياسية بين القادة. بعض وحدات الهاجاناه لم تكن تهتم باﻹستطلاع كثيراً و تم مفاجأتها بتحركات أردنية كان من السهل اكتشافها. المواقع اﻷردنية في السامرة كان من السهل الدفاع عنها. كذلك كان أمام اﻹسرائيليين مواجهة 5 دول عربية مما منعهم من تركيز كل قوتهم على الجانب اﻷردني. 

و رغم كل هذه الميزات، نجحت القوات اﻷردنية فقط في جر الحرب مع إسرائيل للتعادل. نجح اﻷردنيون باستمرار في الدفاع من مواقع محصنة. مع التذكر بأن معظم الهجومات اﻹسرائيلية تمت بشكل تعرض مباشر. و رغم النجاح الدفاعي، عانت الهجومات اﻷردنية من فشل بدورها، و اقتصرت النجاحات على الحي اليهودي، مستوطنة عتصيوني و الشيخ جرّاح في أسابيع الحرب اﻷولى و كانت مكاسب قليلة ضد قوات صغيرة. أما الهجوم عل النوتردام و بوابة مانديلبام فلم يصادف النجاح. 

و عامل أخر يضاف لهذا التميز، وهو الضباط البريطانيون. و هناك إجماع بين الخبراء في الجيش اﻷردني على هذه النقطة (يذكر المؤلف العميد الباكستاني الإدروس El-Edroos و العقيد دوباي Dupay) اللذان يشدّدان على ان الفعالية العسكرية اﻷردنية مصدرها سنوات من التدريب و العقيدة اﻹنجليزية. 

و يوافق المؤلف هذا التقييم. حيث يمكن نسبة معظم النجاحات و معظم العمليات العسكرية  لصغار الضباط الذين كانوا في غالبيتهم من اﻹنجليز مع بعض اﻷردنيين من أصحاب الخدمة الطويلة في الجيش تحت التدريب البريطاني. الهجومات المضادة الشرسة، المناورات في ساحة العمليات، المرونة في العمليات العسكرية و استغلال الفرص السانحة تم تنفيذها على هذا المستوى. و كذلك المستوى المرتفع للعسكر و الجنود (مثل دقة التصويب) يشير إلى سلامة التصور البريطاني حول حصر الخدمة في نوعية جيدة من الجنود من أصحاب سنوات التدريب العالية. و كذلك اﻹتجاه اﻹستراتيجي السليم للحرب كان من تخطيط الضباط اﻹنجليز أيضاً. 

و نرد على هذا الكلام بالموافقة على المقدرة التكتيكية للجيش العربي. لكن هناك اغفال تام للجانب الإستراتيجي لتلك الحرب والقصور فيه. حيث تشير المعطيات إلى أن الملك و بريطانيا كانوا غير راغبين بأي قتال خارج اﻷراضي المعطاة في التقسيم و بل أن الضباط البريطانيون في الجيش تعمّدوا احباط أي هجوم مهما كانت قيمته العسكرية خارج هذا الخط العام عن طريق تعطيل الإسناد المدفعي الثقيل لو طلب. أو حتى رفض أي اشتباك مع الصهاينة مهما تحرشوا بقواتهم. و هذا ما أكد عليه عبد الله التل في كتابه (كارثة فلسطين). و هو كان قائداً لمعركة القدس و رغم تركيز الكاتب على الجانب التقني من المعارك، إلى أن اغفاله خطايا اﻹنجليز و أخطاؤهم ليس مبرراً على اﻹطلاق وكان من الواجب دراسة أثره أو اﻹشارة له عند ذكر ان الجيش اﻷردني - المقتدر وقتها - لم يحقق نجاحا يوازي قدراته العملية و النظرية. 

No comments:

Post a Comment