التوتر الذي تشهده علاقة بعض دول الخليج، خاصة دولة الإمارات العربية، مع بعض الحركات الإسلامية ستكون له عواقب مزلزلة على خريطة العالم العربي السياسية، ليس أقله لأن التحالف بين دول الخليج والحركات الإسلامية الحديثة هو الذي شكل هذه الحركات، حتى لا نقول شوه توجهاتها. وبنفس القدر فإن هذا التحالف هو الذي حسب ‘الحرب الباردة العربية’ لصالح معسكر المحافظين ضد الأنظمة الراديكالية. وعليه فإن فض هذا التحالف، فضلاً عن تحوله إلى حالة صراع، سيعني إعادة تشكيل الحركات الإسلامية من جهة، وإعادة تشكيل السياسة الخليجية من جهة أخرى، ومعها شكل العالم العربي ككل.
وقد بدأ تأثر الحركة الإسلامية الحديثة بالعامل الخليجي، والسعودي تحديداً، حتى قبل نشأتها وبالقطع قبل الحقبة النفطية، متمثلاً في التقارب بين الشيخ رشيد رضا والملك عبدالعزيز آل سعود وما نتج عنه من تحول رائد الفكر الإسلامي الحديث من منهج الإمام محمد عبده المنفتح على الحداثة إلى توجه أقرب إلى السلفية.
وقد ورث الشيخ حسن البنا هذا التوجه، ومعه الإعجاب بالملك عبدالعزيز. ونتج عن هذا مقابلة جسدت العلاقة الملتبسة بين الجماعة والمملكة. فقد طلب الشيخ البنا بحسب رواية متداولة من الملك السماح بإنشاء فرع لحركة الإخوان المسلمين في المملكة، وهو ما رفضه الملك بصورة قاطعة، قائلاً إن أهل المملكة مسلمون ولا يحتاجون لمثل هذه المنظمة. وقد كان هذا تشخيصاً صحيحاً، لأن حركة الإخوان نشأت تحديداً لمقاومة المد العلماني الذي نشأ نتيجة لسياسات التحديث التي اتبعها محمد علي وخلفاؤه ثم كرستها الحقبة الاستعمارية والهجرات الأوروبية إلى مصر، وهو أمر لم تخبره السعودية التي كانت ما تزال تعيش حقبة ما قبل الحداثة وتحكم بالشرع الإسلامي الذي يتمنى الإسلاميون بلوغه.
ولكن الحداثة أدركت المملكة فيما بعد، خاصة في حقبة الخمسينات والستينات، وبصورة هجومية شرسة، تمثلت في المد القومي واليساري الذي أغوى شباب المملكة ونخبتها، ولم يسلم منه بعض أفراد العائلة المالكة. وفي تلك الحقبة التي تساقطت فيها الممالك والنظم التقليدية تحت ضربات المد القومي واليساري في العراق ومصر واليمن وسوريا ثم ليبيا، وتزعزعت في الأردن والمغرب، واجه النظام السعودي خطراً كبيراً على وجوده، ضاعفت من خطورته الصراعات الداخلية والشك في ولاء الجيش. وقد لعبت المؤسسة الدينية وقتها دوراً محورياً في التصدي لصراعات الأسرة الحاكمة عبر دعم الملك فيصل، الذي قدم بدوره قيادة حازمة وحكيمة في تلك الأيام المضطربة.
ولكن المؤسسة التقليدية لم تكن مؤهلة لخوض ‘الحرب الباردة’ ضد الآلة الإعلامية المتطورة للنظام الناصري أو ضد أيديولوجيات الحداثة المتقدمة. لهذا السبب، استعان الملك فيصل بمفكري الحركات الإسلامية الحديثة في المعركة الإعلامية والأيديولوجية، حيث وفرت المملكة ملاذاً آمناً لضحايا الأنظمة الراديكالية في مصر وسوريا والعراق والسودان وغيرها، ووظفتهم في مجالات الإعلام والتعليم والإدارة. وقد كانت هذه صفقة فيها فائدة للطرفين، ولكنها كانت ملتبسة من أكثر من وجه. فلم يكن مسموحاً لهذه الحركات بإنشاء تنظيمات داخل المملكة، وبالأخص لم يكن مسموحاً لها باستقطاب السعوديين إلى تنظيماتها. وعليه كانت الاستعانة بالإسلاميين كأفراد لا كتنظيمات.
ولكن العلاقة بين الطرفين استمرت إيجابية رغم هذا لعدة أسباب، من أبرزها أن الملك فيصل كان أقرب في توجهاته إلى فكر الحركات الإسلامية وكان شديد التعاطف معها. إضافة إلى ذلك فإن العلاقة لم تكن ندية، لأن المملكة كانت في موضع القوة.
وقد شهدت العلاقة تحولاً أكبر بعد رحيل الملك فيصل الذي صادف الطفرة النفطية. عندها كان المد الناصري والقومي قد انحسر، وكان موقع المملكة ودول الخليج قد تعزز مع بداية ما سماه محمد حسنين هيكل الحقبة السعودية. من هنا لم تعد المملكة أو دول الخليج في حاجة للإسلاميين، خاصة وأنها كانت قد طورت مؤسساتها الإعلامية والتعليمية والإدارية، مستعينة في ذلك بكفاءات من مختلف البلدان والتوجهات (بمن في ذلك جهات علمانية أو حتى غير مسلمة). ومع ذلك فقد استنفرت المملكة الإسلاميين مرتين بعد ذلك، الأولى في حرب أفغانستان بالتحالف مع أمريكا، والثانية في الحرب الباردة الجديدة مع إيران الثورة على خلفية الحرب بين العراق وإيران. ولكن هذا الاستنفار لم يكن من موقع تحالف، بل من موقع استخدام.
تحت هذه الظروف، أصبحت العلاقة بين الطرفين غير سوية، وأثرت سلباً في توجهات الحركات الإسلامية وشوهت منظورها، خاصة في ظل الاعتماد المستمر على التمويل الخليجي وعدم السماح للحركات الإسلامية بوجود شرعي فيما عدا في الكويت والبحرين، وهناك ايضاً في تحالف مع الأسر الحاكمة له ثمنه. ولكن دول الخليج استفادت من هذه العلاقة التي حصنت أنظمتها من عواقب المد الإسلامي الذي زعزع استقرار الأنظمة الأخرى.
إلا أن تطورات أخرى قربت العلاقة من نطاق الأزمة. فمن جهة نجد أن دول الخليج تبنت في السنوات الأخيرة برامج تحديثية طموحة، ومواقف سياسية، اصطدمت في بعض الأحيان ببعض القطاعات المحافظة في تلك المجتمعات كما حدث في السعودية بعد حرب الكويت في عام 1991. وقد وصل هذا التصادم قمته في أحداث سبتمبر عام 2001، مما جعل معظم دول الخليج ترى في التيار الإسلامي عبئاً عليها بعد أن كان حليفاً ونصيراً. وقد ردت معظم الدول بإسراع وتيرة التحديث وتعميق التحالف مع الغرب والقوى الليبرالية والنأي بالنفس على القوى الإسلامية، بل معاملتها كخطر. وعندما تفجرت أحداث الربيع العربي ونتج عن ذلك تأكيد صعود التيار الإسلامي بدأت بعض الدول تشعر بأن التيارات الإسلامية تمثل كعب أخيل هذه الأنظمة، باعتبارها التيارات السياسية التي تتمتع بوجود وسند شعبي داخل البلاد، مما يؤهلها لقيادة أي تحرك شعبي للتغيير.
ولكن الملاحظ حتى الآن أن دولة الإمارات هي الوحيدة التي اتخذت خط مواجهة واضحا مع التيارات الإسلامية في الداخل والخارج، بينما توخت بقية الدول الحذر، باستثناء قطر التي احتفظت بعلاقات طيبة مع التيارات الإسلامية. ولا بد من التنويه هنا بأن خلاف دول الخليج مع الحركات الإسلامية لا ينبع من توجهاتها الإسلامية وأجندتها الدينية، لأن مجتمعات الخليج محافظة بما يفوق طموحات الحركات الإسلامية التي تتبنى أجندة ‘ليبرالية’ مقارنة بالواقع الخليجي. وإنما الحذر هو من قدرة هذه الحركات على التعبئة السياسية وإدخال الجماهير في السياسة، مما يرفع سقف المطالب تجاه الأنظمة، كما هو الحال في الكويت حالياً.
مهما يكن فإن فك الارتباط قد يكون مفيداً للطرفين لأنه يعني بداية تصحيح تشوهات مرحلة الحروب الباردة الدولية والإقليمية وما أفرزته من تحالفات غير طبيعية شوهت أجندة الحركات الإسلامية وفكرها من جهة، وعرقلت التطور السياسي الطبيعي في دول الخليج والعالم العربي عموماً. فقد كان للاعتماد الزائد على الدعم والتمويل الخليجي أثر سالب على الحركات الإسلامية، خاصة في مصر واليمن، كما كان له أثر في تقوية التيارات السلفية المحافظة على حساب الفكرة التجديدي وديناميكية هذه الحركات وتفاعلها الخلاق مع بيئتها المحلية.
وعليه فيجب أن ينظر الطرفان إلى الأزمة الحالية باعتبارها فرصة أكثر منها محنة، لأنها تفتح الباب لعلاقة جديدة قد تكون صحية أكثر. وليس من الضروري أن يكون النموذج التصادمي هو نموذج العلاقة الجديدة، لأنه أيضاً مضر بالطرفين. فليس من مصلحة أحد تجريب المجرب، واتباع سياسة ‘استئصالية’ تجاه الإسلاميين على سنة مبارك وبن علي، وقبل ذلك تركيا الكمالية، وهي سياسات لم يكتب لها النجاح، بل كانت عاملاً في انهيار الأنظمة التي اتبعتها، وهي أنظمة لم تكن محافظة مثل دول الخليج. فليس البديل هو بين احتضان واستغلال الإسلاميين أو محاربتهم، وإنما هناك بديل ثالث، هو المفارقة بإحسان.
لقد أتاح الربيع العربي فرصة أمام الحركات الإسلامية للانعتاق من ربقة علاقتها الخليجية، حيث أدى سقوط الأنظمة المعادية واستعادة الحريات، فضلاً عن تولي الإسلاميين الحكم أو مشاركتهم فيه في عدة دول، إلى انتفاء الحاجة إلى الملاجئ والدعم الخارجي. وهذ بدوره يخفف من أعباء وضرورات التناسق القسري مع السياسات الخليجية، وهو ما كان يفرض تشوهات مرهقة في مواقف الحركات. ولعلنا نشهد في ضوء هذه المتغيرات ‘الحقبة ما بعد الخليجية’ في تطور الحركات الإسلامية، وهي حقبة يصعب التنبؤ حالياً بالشكل الذي ستأخذه، وإن كان المأمول أن يكون التطور إيجابياً في العموم.
Pin on Emperor Casino : play online or download
ReplyDeletePlay Emperor Casino Slot Game Online - Best Online Casino. Enjoy our huge 제왕카지노 collection of free slots, หารายได้เสริม jackpot games, jackpot & 1xbet korean live casino games!