Saturday, May 9, 2009

حرف وثلاث نقاط! خيري منصور القدس العربي 5/9/2009


النقطة الاولى على هذا الحرف الأصمّ هي لرينر ماريا ريلكة، الشاعر الالماني الذي قال عنه الفيلسوف مارتن هايدجر ما يبقى يؤسسه الشعراء. وكان هذا الفيلسوف قد اعترف بالفضل للشاعر الميتافيزيكي الذي قال بأننا نغادر الوجود قبل ان نتقن عادة الحياة وان الموت هو البذرة التي تولد مع الجنين وفي جذر كل شيء حيّ، وليس هذا هو المقصود بنقطة ريلكة على الحرف، انه شيء آخر، لخّصه الشاعر بعبارة مشحونة بالاسى والرواقية معا، عندما قال 'كل من يقترب مني يغتني ويهجرني'. وللأمانة فإن أول من لفت انتباهي الى هذه العبارة هو الشاعر فوزي كريم، عندما جعلها مصباحا على عتبة احدى قصائده، ولا بد ان الشاعر الذي استوقفته العبارة، أحس ذات يوم بأن الاخرين سريعو الاقتراب، ولكنهم بطيئون في الهجران، ليس فقط بحثا عن مزيد من الاغتناء بل لأن الفرار في مثل هذه المواقف يقترن به احساس بالإثم، لكنه احساس سرعان ما يتبدد كالخجل تماما، لأن الانسان مفطور بالسليقة على التّسويغ وسرعة التأقلم. لهذا فإن المرايا مضللة لمن يدمن التحديق اليها، فهو يكبر في السّن وتتغير ملامحه وتظهر الاخاديد في وجهه بالنسبة للآخرين، الذين لا يرونه يوميا ولا يشاركونه التحديق الى مراياه !
انها ثلاث خطوات... على التوالي اقتراب فاغتناء فهجران، لكن ريلكة ليس كشاعر معنيا بالتحليل السايكولوجي لهذا الهجران، فهو ككل الشعراء العظام يقطر رحيق خبرته في صور بالغة العمق وقابلة لتأويلات لا حصر لها....
تفسيرنا لهذا الهجران بعد الاغتناء هو ببساطة كون المقترب الذي يشكو اساسا من فراغ روحي عميق، ومن رغبة في تحقيق الذات من خلال عوامل خارجية، يخشى الافتضاح، خصوصا عندما يتورط في محاكاة النموذج الذي اجتذبه، فالاعجاب بالآخر ان لم يكن على مستوى ولو في الحد الأدنى من النديّة يتحول الى عاطفة سلبية، لأن كل مشبّه يذكّرنا بالمشبه به، وكل صورة تذكرنا بالأصل، بحيث لا يكتمل غياب الاصل الا اذا كانت هناك صورة شائهة تذكرنا به، فالنقيض العضوي والحقيقي لأي شيء هو ما يماثله ويقلده وبالتالي يكون على شاكلته بمعزل عن المكونات الأصلية والجوهر ..
ما قاله الشاعر ريلكة رواه مثقفون فرنسيون ومن امريكا اللاتينية عن ازرا باوند، حيث قال أحدهم ان كل من اقتربوا من الرجل واغتنوا هجروه، وما من واحد منهم لم يطعنه عندما أزفت الفرصة، لهذا فإن ' بروتوسات ' ازرا باوند وأمثاله أنكى من بروتوس في مسرحية يوليوس قيصر لشكسبير، وفي رواية 'شيء من الخوف' التي تحولت الى فيلم سينمائي عربي شهير يقترب أحد الشخوص الذين يعانون من تجوّف في بناء الذات من البطل عتريس، ويعجب به، ثم يتقمّصه لكنه ما إن يضبط عتريس مع زوجته حتى يصاب بالجنون بعد ان يدرك بأن هناك عتريسا واحدا من لحم ودم، وان من يتقمصه هو مجرد ظل او صدى !
ان حياتنا اليومية خارج النصوص تعج بأمثلة من هذا الطراز، فثمة كائنات فقيرة المناعة ورخوة في كينونتها، لهذا فهي سريعة التأثر، وهاملتية الى اقصى الحدود في ترددها وخوفها من اتخاذ اي قرار حاسم ! وما قاله الشاعر العربي أعلمّه الرماية كل يوم... لا يخرج عن هذا السياق فما ان يشتد ساعد الظلّ او التابع حتى يرمي من علّمه الرماية، وذلك أمر مفهوم من الناحية السايكولوجية، لأن التابع لا يريد أي قرينة تذكّره او تذكّر الناس من حوله بالأصل الذي ينسج بمنواله، ويقتفيه واخيرا يتقمصه !
أما الحكمة المأثورة القائلة اتقّ شرّ من احسنت اليه، فيندر ان نجد لها مرادفا في الثقافات الأخرى، وان كانت العبارة التي اطلقها يوليوس قيصر في وجه بروتوس هي الاقرب اليها، لهذا قلت ذات يوم ساخرا بأنني أصدق ما يقال عن أصل شكسبير بأنه عربي.. فقط من أجل تلك العبارة التي ولدت من (اتق شر من احسنت اليه) !

'''

النقطة الثانية على هذا الحرف هي ما أراد جان جينيه ايصاله عبر مسرحية الخادمتان، حيث ينتهي مشهد الاعجاب والتقمص الى الكراهية وأخيرا الشروع في قتل النموذج، لكن ذكاء جينيه وخبرته النفسية جعلته يحرم الخادمة من تحقيق هذا الثأر، لأنها ادركت عبر المؤلف بالطبع ان سيدتها ومخدومتها التي تقمصتها واصبحت ترتدي ثيابها وتستخدم ادوات التجميل الخاصة بها ومراياها قد اصبحت في داخلها تماما لهذا لا سبيل الى قتل السيدة الا بانتحار الخادمة، لأن السيدة لم تعد خارجها !
ان تأويلات مسرحية جينيه تشمل السياسة ايضا، فمن يولدون في ظلال زعماء ذوي نفوذ يبدأ لديهم الحلم بالحلول مكانهم، وقد تكون الانقلابات العسكرية خير مثال لهذا، وهناك مسرحية لألبير كامو تناولت هذا الموضوع بمهارة مثقف خذلته السياسة هي مسرحية 'العادلون'، فالذي يأتي بعد الطاغية ويعد الناس بالاصلاح، سرعان ما يصبح الأسوأ مما يستدعي الحنين الى سابقه .
في جميع بلدان العالم تتكررهذه الظاهرة، وان بدرجات متفاوتة، وثمة أنماط من المعارضات السياسية اذا اتيح لها ان تستحوذ على السلطة تصبح اسوأ بكثير ممن انقلبت عليهم، لأنها تكرر أفعالهم وتضيف اليها ما تشعر بأنه يخصها ضد تكرار التجربة .
بالعودة الى جان جينيه، نجد ان الافراد الذين تجتذبهم نماذج بعينها وتأسرهم بحيث تفقدهم الحول والقوة، ما إن تشتد سواعدهم حتى يبدأون بالرماية، والهدف الأول الذي يجري التدريب عليه سرا هو المعلم، ولا تبعد هذه الأمثلة كثيرا عمّا يسميه فرويد جريمة قتل الأب، فالأب هنا ليس مجرد رب العائلة، انه النموذج المحلوم بالاحتلال مكانته ودوره سواء كان قائدا او شاعرا او من اي مجال آخر، فالمعنى يتجاوز ثنائية الآباء والأبناء في بعدها العضوي، وما يكتب احيانا عن ضيق الاجيال الشابة برموز الأدب وعلاماته الفارقة ينتمي الى جريمة قتل الاب، رغم ان ثقافتنا العربية التي لم تفرز علماء نفس من طراز فرويد أفرزت جرائم قتل اخرى على صعيد رمزي، منها جريمة قتل الأخ وجريمة قتل الابن واخيرا جريمة قتل الزميل، اضافة الى جريمة ابادية قد تشمل العائلة كلّها !

'''

النقطة الثالثة على هذا الحرف ليس لها مرجعية معرفية محددة، فهي مبثوثة في حياتنا لكن شدة الألفة تعمينا عن رؤيتها، انها الضّيق النفسي الذي يشعر به الانسان النكرة او من يعتقد بأنه كذلك، بالرغم من أن الشهرة بكل تجلياتها ومغناطيسها هي مجرد وهم، وما ان يحقق الانسان قدرا منها حتى يشعر بالحصار، خصوصا اذا كان ذا شجن أصيل، وهواجس نابعة من قلق وجودي عميق، وفي احدى قصص المنفى والملكوت لألبير كامو يضطر كاتب الى ان يبني لنفسه قفصا كبيرا فوق شجرة كي يحقق العزلة التي كلما حقق شيئا منها استبيحت، ومفهوم العزلة هنا ليس بالمعنى التقليدي، انها عزلة برديائيفية بامتياز، لأن برديائيف كان أفضل من فرق بين العزل والانعزال، اما البير كامو فقد اراد بمفهوم العزلة الاقامة في لحم الوجود ذاته، اي ان يكون المرء وحيدا بقدر ما يكون الجميع، لهذا ادان كامو البشرية كلها اذا تعاملت مع سجين في اقصى العالم لأنها لا تسمع انينه، وهو المعنى ذاته الذي كتب عنه الشاعر الاسباني لوركا، عندما تحدث عن أنين حمامة جريحة أخطأتها رصاصة الصيّاد .
ان الفارق الجوهري بين فنان يحدق الى اعماقه وبالتالي الى أعماق الناس جميعا وبين فنان يتجه الى خارجه، يتجلى في المنتج الفني لكلا الاثنين، فالاول يستقرىء ذاته اولا، والثاني يحتاج الى ما يرتطم به كي يتأكد من أنه موجود، تماما كما هو الرجل الطائر في أحد براهين ابن سينا على وجود النفس وبالتالي خلودها، وهي التي هبطت كما قال من السماء الأرفع، زرقاء ذات تمنّع .
ان الفنان ليس صياد مفارقات، فهو أشبه بالنورس الذي يضرب به المثل في الرشاقة الفائقة لأنه يصطاد السمكة قبل ان يراها . ولاستكمال النقطة الثالثة، او الأقنوم الأخير في هذه التداعيات، لا بد من ربط ما بين التقمص والعزلة الطوعية، فالعزلة قد تكون وقاية من الانجذاب الكاذب، ومن خادمة جان جينيه التي انتهى بها الاعجاب الى الكراهية، لهذا تشتد العزلة عندما يستشري الوباء وتصبح العدوى أسهل من الشهيق والزفير .

'''

لقد دفع اورفيوس ثمن فضوله الوحشي عندما التفت الى حبيبته وهي تتبعه من العالم السفلي، وبذلك اخلّ بشرط سادة ذلك العالم الذين أتاحوا له ان يهبط الى حبيبته الميتة كي يعيدها الى العالم، وقد تكون اسطورته احد تجليات مفهوم الخطيئة .
لكن المثقف الذي أغواه الانجذاب الى نموذج ما بالتقمص، لا يملك حتى هذا الفضول او هذه الخطيئة البريئة، لأنه أشبه بإناء يتشكل بما يسكب فيه... ويبدو ان النقاط قد ضلّت الطريق الى الحروف، فأصبحت الأبجدية كلها صمّاء ولا يدري المرء عمّ يتحدث هؤلاء الذين حوّلوا العالم الى شبه عالم والكتابة الى شبه كتابة واخيراً الجملة الكونية كلها الى شبه جملة غير مفيدة على الاطلاق !

No comments:

Post a Comment