Tuesday, May 19, 2009

رحلة نيويورك - عمر خليفة Alquds Alarabi 5/19/2009

على مدى السنتين الأخيرتين، شكلت لي رحلات الملكية الأردنية بين عمان ونيويورك مصدرا لمواقف ومفاجآت غير متوقعة، في مكان يحرمك عادة من نعمة الاختيار: اختيار شركائك في المقعد الذي تجلس فيه، اختيار شكل المضيف أو المضيفة الذين يمرون بجانبك حين تشتهي ولا تشتهي، اختيار اللحظة التي تنام فيها، واللحظة التي تصحو فيها، واختيار نوع الطعام الذي ترغبه. قد تفوتك وجبة الطعام إذا اختار النوم أن يهبط عليك قبل دقائق من تقديمه، وقد تصحو فجأة على شخير مسافر يشبه شخير من حرم النوم عشرين عاما. قد تجلس على مقعد يميل بك إلى الخلف كلما أسندت عليه ظهرك، وإذا كان المسافر الذي خلفك فتاة جميلة فإنها قد تظن أن ميلان الكرسي نحوها محاولة سخيفة وغير حضارية لاستهلال حديث معها. لكن الشيء الوحيد الذي يمكن أن تختاره هو التلصص على المسافرين وأشكالهم، قصصهم، أصواتهم، وكل ما يمكن أن يمنحك الوقت متعة تأمله. بين أرض عمان وأرض نيويورك، تصبح السماء مسرحا مفروضا على الجميع، ممثلوه هم ذاتهم المتفرجون عليه، في مسرحية تدفع لها أكثر مما تدفع لخمسين مسرحية في مسارح برودواي الشهيرة، لكنها، في الوقت ذاته، مسرحية بلا نص، بلا مخرج، سوى الوقت الذي يخترق الجميع.
لكن رحلتي الأخيرة من عمان إلى نيويورك، يوم الخميس 22/1، قدمت أقصى ما قد وصلت إليه مسرحياتي في السماء جنونا. وحتى أكون منصفا، فقد منحتني الملكية الأردنية، منذ اللحظة الأولى، مكانة خاصة بتقديمها لي مقعدا لا يجاوره إنسان أو حيوان، مما عنى أن بإمكاني أن أمد قدميّ وقتما أشاء، وأن أتجبّد، وأشخر بلا خوف، وأذهب إلى الحمام دون الحاجة إلى استئذان الركاب الذين بجانبي بأن يفسحوا لي الطريق قليلا. لاحظت حين جلست أنني محاط برجال من كل جانب، اثنان منهما ـ الذي أمامي والذي يجلس في وسط الطائرة ـ عجوزان، وشابان آخران يجلسان في مقعد يشكل زاوية متقابلة بالرأس مع زاوية مقعدي ـ إذا سمح لي باستخدام مصطلحات الرياضيات هنا. وحدتي المتوقعة إذن في الساعات القادمة فرضت علي أن أخرج روايتين كنت قد اشتريتهما في عمان، تحضيرا لمشوار طويل من القراءة. كانت الساعة تقارب الثانية عشرة ظهرا، مما عنى أن النوم مستبعد إلى حد كبير. إحدى مضيفات الطائرة ـ وهي ليست أردنية، وكأن الأردن عاجز عن توفير العمل لأهله حتى في السماء ـ لاحظت أنني أحمل غيتارا، فعلقت ضاحكة ـ بلا استئذان ـ 'بدك تعزفلنا؟' لم أكن، في تلك اللحظة بالذات، في مزاج يسمح لي بتأمل جمالها أو مزاحها، لذلك ابتسمت صامتا وجلست في مقعدي.
مرت ساعات الرحلة الأولى بلا تواصل إنساني ملاحظ سوى خلال وجبة الغداء التي قدمها لي مضيف ـ أردني هذه المرة، مما يقتضي أن أصحح ملاحظتي السابقة لتصبح أن الأردن يحرم نساءه من العمل في السماء، لا رجاله. بعد عدة ساعات غلب النوم معظم المسافرين، لكن جمال الرواية التي كنت أقرأها منعني من مشاركتهم. فجأة توقفت قريبا من مقعدي المضيفة الجميلة تلك حين لاحظت أنني أقرأ، وكأنه فعل مستغرب أو مشين، لتسألني، بلا استئذان أيضا إن كنت أرغب في الحديث معها ـ مع أنني، والحق يقال، كنت أرغب-: 'شو عم تقرأ'؟ قلبت الكتاب إلى غلافه لأريها العنوان، ثم قرأته لها 'صخب ونساء وكاتب مغمور.' كنت أتمنى أن تكون صديقتنا هذه محبة للأدب حتى يثيرها العنوان الجذاب، لكن طريقة نظرتها إلي بعد سماعها العنوان أوحت بغير ذلك تماما. أحسست، وهي تقول لي 'شو؟' أنها تظنني مجنونا أو معتوها. رغبت بداية أن أحدثها عن الرواية الفاتنة التي كتبها العراقي علي بدر، لكنني، قبل أن أقع في مطبات قد لا تحمد عقباها، سألتها إن كانت تحب قراءة الأدب. 'مو كتير' قالت لي. شعرت للحظة أن 'مو كتير' تلك هي إجابة دبلوماسية معناها 'لا، أبدا.' تحدثنا لدقائق قبل أن ترجع إلى عملها، وأنا أشعر أن اللقاء الأول معها لم يكن موفقا أبدا، والذنب كله يقع على علي بدر الذي كان عليه أن يختار عنوانا أقل غموضا ربما.
في منتصف الرحلة شعرت أن من اللازم علي أن أقول مرحبا لأحد الشابين القريبين من مقعدي، خصوصا أن عيوننا كانت قد تقابلت كثيرا حتى تلك اللحظة. تعارفنا، وفهمت منه أنه يعمل في مطعم يملكه في ولاية أوهايو، وأنه لا يحمل شهادة، وأن الشاب الذي بجانبه هو أخوه الذي يأتي أمريكا لأول مرة. سعدت كثيرا بالحديث معه بداية، وكان واضحا عليه اللطف والبساطة، أخبرته أنني طالب في أمريكا، لكنني، لأسباب سيتم شرحها، كنت أتمنى أن لا يسألني ماذا أدرس. بدأ يقول 'في أي ولاية؟' أجبت ـ وأنا أتمنى في سري ألا يكمل الأسئلة ـ 'نيويورك'
- في أي جامعة؟
- كولومبيا. (أرجوك لا تكمل، تمنيت)
لكن اللحظة الحاسمة اقتربت
- شو بتدرس
- دكتوراه (مشان الله لا تسأل اكثر)
- دكتوراه في شو؟
هنا صمتّ للحظات. كان توضيح ما أدرسه في أمريكا مسألة شاقة بالنسبة لي، خصوصا لمن يعرف أنني درست الأدب العربي في الأردن من قبل. المسألة لا علاقة لها بثقافة الذي يسألني، لكن مجرد معرفة أن شخصا ما درس ماجستير أدب عربي ثم ذهب لأمريكا لإكمال الدكتوراه تثير التساؤل فعلا. أتذكر أنني قبل أن أسافر إلى أمريكا ذهبت مع والدي إلى طبيب يعرفه لإجراء فحوصات تطلبها السفارة الأمريكية. بارك لي الدكتور فكرة أنني ذاهب لدراسة الدكتوراه، ثم سألني ماذا سأدرس.
- 'عربي' قال له والدي.
' - شو يا خوي' قال الدكتور، بنبرة تحمل معها استغرابا واستهزاء في الوقت ذاته. أخبرني صديق لي يدرس دكتوراه في علم الأديان في كندا، بعد أن كان قد درس الشريعة الإسلامية في الأردن، أنه ذهب إلى سوبرماركت عربي ليشتري حاجيات، وهناك سأله الشباب عن طبيعة دراسته، ثم، بجملة واحدة مختصرة، حللوا له موقفهم العميق منه 'شو هادا مسخرة.'
على كل حال، كان أمامي ثلاث خيارات لأجيب أخانا في الطائرة. إما أن أقول: دكتوراه عربي، أو دراسات الشرق الأوسط، أو أدب مقارن (والأجوبة كلها صحيحة). لكنني، للاختصار، قلت: دكتوراه أدب. لكنه أجابني بسرعة: 'شو يعني شو بتعمل؟' وكان سؤالا منطقيا أيضا. شرحت سريعا ما أفعله، وأنهينا المحادثة بسلام. فجأة، بعد عدة دقائق، بدأت بسماع أغنية 'يا سعد' لعمر العبدلات تصدح من مكان ما بجانبي. تلفتّ مندهشا إلى مصدر الصوت، لأرى صديقنا ذاته متمددا على مقعده، واضعا جهازاً خلوياً في حضنه، وهو يستمع إلى أغاني تنطلق منه. فركت عينيّ لأتأكد من حقيقة المشهد الذي أمامي، وأن هذا الرجل فعلا يستمع إلى موسيقى في الطائرة دون أن يضع سماعات في أذنيه، لكن المشهد كان حقيقيا. كان الصوت عاليا إلى درجة تكفي ليسمعها الركاب في المقاعد العشرين الذين حوله، لكنهم، مثلي أنا، لم يبدوا اعتراضا. أحسست للحظات أنني سعيد بمدى القدرة التي يحملها هذا الشاب على ازدراء كل الأعراف التي تحكم سلوك الركاب في الطائرة، وأخذت أنتظر معرفة ما ستكون الأغنية اللاحقة.
لكن المفاجأة الأكثر إدهاشا جاءت من شقيق ذلك الشاب، الجديد كما يبدو على ركوب الطائرة. في ساعة لا أتذكرها تماما رأيته واقفا متجها إلى الحمام، ليعود بعد دقيقتين إلى مقعده. ثم في مشهد سريالي يشبه أفلام لويس بونويل، بدأت أشم بقايا رائحة دخان تنبعث من مقعده. أكرر: دخان. شعرت برغبة في الانفجار ضحكا، لكنني أمسكت نفسي، ورأيت أن عليّ الذهاب إلى الحمام ذاته لمعاينة آثار الجريمة. ترددت بداية، خوفا مثلا من صدفة أن يدخل الحمام بعدي أحد الركاب أو المضيفين، وهي صدفة قد تعني اتهامهم لي بأنني مصدر الدخان ذاك. لكنني استجمعت شجاعتي، ودخلت الحمام، لأرى أنه أصبح مكرهة صحية، مملوءا بدخان يغطي اللوحة التي كتب عليها أن عقوبة التدخين في الطائرة تصل إلى غرامة مالية كبيرة. ضحكت كما لم أضحك من قبل، وتأكدت من أن الحمام لا يحمل أي جهاز حساس لدخان السجائر، ودهشت ثانية من هذه الجرأة التي لا أملك نصفها.
بدأت أشعر أن هذه الرحلة ممتعة ومختلفة إلى حد كبير، لكن المسرحية لم تكن قد انتهت بعد. قبل حوالي ساعتين من وصولنا، وزّع علينا مضيفو الطائرة الأوراق التي نسأل فيها عن طبيعة رحلتنا، وعنواننا في أمريكا، وأوراق الجمارك، وما إلى ذلك. حين أخرجت قلمي وبدأت الإجابة سريعا لاحظت أن العجوزين أمامي وجانبي بدآ ينظران إليّ. فهمت ساعتها أنهما يطلبان المساعدة، أنهيت كتابة أوراقي، وكأي شاب لطيف طلبت من أحد الرجلين أن يعطيني أوراقه. كان رجلا في الستين من عمره، يعرف القراءة والكتابة، لكن عنده سؤالا أو سؤالين. طلب مني الرجل أن أتأكد من أنه كتب عنوانه صحيحا بالانكليزية، وحين أخبرته عن وجود أخطاء، قلت له أن عليه طلب ورقة إضافية من المضيفين، لكنه أجابني أنها معه. في المرة الثانية لاحظت أيضا وجود أخطاء، ووجود أوراق إضافية مع ذلك الرجل، لا ورقة واحدة. ما اتضح لي عندها هو أنه كان قد طلب نسخا ربما بعدد الأخطاء التي توقع أن يخطئها. وحتى لا يبدو أنني أتعالى عليه وعلى أخطائه، فإنني، حين اكتشفت خطأ في أوراقي، طلبت منه واحدة من نسخه الزائدة الكثيرة، فأعطانيها سعيدا.
القصة الأكثر إدهاشا جاءت من الرجل الآخر الذي يجلس في منتصف الطائرة. كان إلى جانبه ما عرفت بعدها أنهما زوجته وابنته، وكانوا جميعا يعيشون في بروكلين/نيويورك، ولا يعرف أي منهم الكتابة بالانكليزية. بدون أن ينطق بحرف، مد لي الرجل الورقة وجواز سفره وهويته الأمريكية، وكأنه يقول لي 'شوف شغلك'. بعد أن أنهيت الكتابة أرجعتها له، ليقدم لي ورقة زوجته هذه المرة، ثم ابنته في المرة الثالثة. شعرت بأنني موظف في دائرة الجوازات والأحوال المدنية، وحين اكتشفت نقصا في أوراق ابنته قررت أن أبدأ حديثا معه، فاخترت أن أبدأ بالانكليزية. نظر إليَّ الرجل فاتحا فمه، لأكتشف أنه لا يعرفها. تحولت إلى العربية، وسألته بعض الأسئلة، لكنه أجابني بهمهمات لم أفهمها. رغبت في الصراخ وتحطيم كل شيء أمامي. أردت أن أسأله إن كان يتكلم أي لغة لعينة في هذا العالم، لكن وجهه كان لغة بحد ذاته، كان ناطقا بتعب وألم لا تتحمله الحروف التي اخترعها الإنسان. خالطني شعور بالشفقة والرثاء، وهززت له رأسي. كان عربيا بالطبع، لكنه لم يفهم علي، ولم أفهم عليه. وحتى يكتمل العبث، طلبت منه هوية ابنته ثانية، لأنقل منها معلومات إلى الورقة، فأعطاني هويته، قلت له هوية ابنته، فأعطاني هوية زوجته. رغبت في الوقوف والبدء برقص يشبه رقصة زوربا في الفيلم الشهير، لكنني أمسكت نفسي، وأشرت بيدي إلى ابنته، ففهم المراد. أنهيت ملء الأوراق، ونظرت حولي لأرى إن كان ثمة مآسٍ أخرى في انتظاري.
وصلنا نيويورك دون أن يكتشف أحد قصة الدخان تلك، ودون أن تفهم المضيفة الجميلة معنى أن يجتمع الصخب والنساء والكاتب المغمور في كتاب واحد. لكنني كنت قد ملأت دفتري بملاحظات عن كل ما شاهدته، وهي لعنة تصيب من تصبح الكتابة وسيلته الوحيدة للبحث عن تفسير للأشياء. المفارقة أنني دونت ملاحظاتي في إحدى الأوراق الزائدة التي أخذتها من العجوز، وكتبت فيها رؤوس أقلام عن أحداث رحلتي حتى لا أنساها. كنت أرغب في طلب سيجارة من الرفيق المدخن، حتى أشعره بأنني عرفت ما حدث. لكنني مضيت وحيدا، أبحث عن أرض تحملني، لأخبرها عن السماء التي تتركنا، كما هي عادتها دائما، بلا معنى.
طالب فلسطيني/جامعة كولومبيا
نيويورك

1 comment:

  1. I do agree with the writer, many funny, strange and never expected thing travelers face on the planes and on Air ports as well.
    It was nice text to follow it to the end.

    ReplyDelete