(1) هناك فارق مهم بين أن يعتذر إنسان لقوم أساء إليهم بعد صحوة ضمير، خاصة حين لا يكون للمعتذر منهم سلطان على من اعتذر، وبين أن يعتذر لقوم يطلب رضاهم ويخشى بأسهم. في الحالة الأولى يكون هذا اعترافاً نبيلاً بالخطأ، وفي الثانية يكون تزلفاً ونفاقاً ومذلة.
(2) اعتذار وزير الثقافة المصري فاروق حسني المنشور هذا الأسبوع في صحيفة لوموند الفرنسية عن تصريحات له صدرت العام الماضي عن استعداده لحرق أي كتب عبرية توجد في مكتبات مصرية يندرج في الباب الثاني. فالرجل يعتقد، مثل رئيسه الأسبق السادات، أن الأمر كله بيد إسرائيل، وأن التزلف إلى القوم هو الطريق الأقصر إلى بغيته في الوصول إلى أمانة اليونسكو التي ترشح لها، خاصة بعد أن أثار اللوبي اليهودي قضية 'معاداته للسامية' على خلفية تلك التصريحات.
(3) وبادئ ذي بدء لا بد أن نسجل بأن تلك التصريحات تستحق بالفعل الاعتذار عنها، ليس لأنها تنم عن تعصب ضد اليهود، بل لأنها تنم عن غباء مفرط، خاصة حين تصدر عن وزير 'ثقافة'. فالكتب، بأي لغة صدرت ومن أي مصدر جاءت، هي مصادر علم لا ينبغي أن ترفض لأن من يتضرر من الجهل هو من يرفضها. ومثل هذه التصريحات لا تليق بمدير مخابرات، ناهيك عن وزير مسؤوليته رعاية الثقافة ونشرها.
(4) وهذا هو بيت القصيد. ذلك أن وزراء الثقافة في الأنظمة الدكتاتورية لا تكون مهمتهم نشر الثقافة، وإنما خنقها، لأن نشر الثقافة والعلم يقوض بالضرورة أسس النظام الدكتاتوري. وقد أبلى فاروق حسني أحسن البلاء في موقعه هذا مما شجع حاكم مصر على استبقائه في موقعه قرابة عقدين من الزمان، رغم الانتقادات الحادة لأدائه والتي تأتي أساساً من المثقفين والعاملين في حقل الثقافة، كأن أرض الكنانة عقمت فلم تنجب سواه. ولا شك أن هذا يعود لأنه أحسن الطاعة والتزلف وإنجاز مهمة تدجين الثقافة لصالح النظام.
(5) فاروق حسني أراد على ما يبدو أن يستخدم مهاراته في التزلف التي أجادها خلال حياته العملية الحافلة لكي يكسب رضا من يظن أن بيدهم أمره. ولكن هنا يكمن الخطأ القاتل. فالبيئة التي يريد حسني أن يدخل للتنافس فيها تختلف تماماً وبصورة جذرية عن تلك التي اعتاد التعامل معها. فحيث عمل حسني كان بإمكانه أن يدوس بحذائه على كل ما له علاقة بالثقافة والمثقفين، ومع ذلك يبقى في منصبه لأنه يعرف كيف يتعامل مع من بيده الأمر. أما في الساحة التي ندب نفسه لها فإن العكس هو الصحيح، إذ أن احترام الثقافة والمثقفين هو الأساس.
(6) لا أريد أن أستعيد هنا السجال الذي دار على صفحات 'القدس العربي' بيني وبين المرشح العربي السابق لليونسكو الدكتور غازي القصيبي حيث اتهمني بأنني أصبحت 'محامي الشيطان' لأنني قلت إن فرصه في الانتخاب لأمانة اليونسكو معدومة، ولكن الحيثيات هي نفسها. فالحكام العرب يخلطون بين دورهم
كـ 'حلفاء' للغرب، يؤدون خدمات قذرة في مجالات التعذيب والقمع وبين أن يكونوا مؤهلين للجلوس على مائدة الكبار على قدم المساواة.
(7) وهناك عقبة أكبر في مجال الثقافة، لأن هذا مجال لا يملك السياسيون فيه نفس الحرية التي يملكونها في التعامل مع الملفات الخارجية. فبإمكان وزارات الخارجية وأجهزة المخابرات عقد صفقات لايعرف الشعب عنها الكثير مع دول يعتقد الجميع أنها فاسدة. ولكن هذه الحرية غير متاحة في المجالات الثقافية، حيث لم يكن من المتصور أن ينتخب لأمانة اليونسكو شخص من دولة لا يسمح للمرأة فيها بقيادة السيارة، أو دولة يعتقل فيها من يترشح للرئاسة بتهم مفبركة.
(8) هناك مشاكل أخرى أكبر تواجه فاروق حسني في محاولته لارتقاء مرتقى اليونسكو، لا تتعلق فقط بتعامله المستنكر مع الثقافة والمثقفين في بلده، بل أيضاً بطريقة إدارته لوزارة الثقافة ومؤسساتها باعتبارها ضيعة خاصة، وما أشيع عن خلطه بين الخاص والعام في موقعه. ووضع شخص مثل هذا على رأس مؤسسة دولية تعادل ميزانيتها مئات المرات ميزانية وزارته ليس مما سيتحمس له الدبلوماسيون الدوليون.
(9) مهما يكن فإن فاروق حسني لا يمكن اعتباره مرشحاً مصرياً، ناهيك عن أن يكون مرشحاً عربياً. فهو مرفوض من غالبية مثقفي مصر. ولعل ترشيحه لليونسكو هو أيضاً محاولة للتخلص كما رشح عمرو موسى من قبل لأمانة الجامعة العربية لإبعاده من الحكومة. ولكن حتى لو كان يمثل مصر الرسمية فإنه لا يمثل العرب، لأن مصر الرسمية التي تطرد المتعاطفين الأوروبيين مع سكان معسكر الاعتقال الإسرائيلي-المصري الكبير في غزة لا تمت للإنسانية بسبب، ناهيك عن أن تمثل العرب.
(10) من هذا المنطلق فإنه حتى لو نجح حسني في الوصول إلى أمانة اليونسكو وهو احتمال بعيد جداً- فإنه لن ينفع العرب، بل قد يسبب العار والحرج لهم، كما فعل من قبل سلفه في أمانة الأمم المتحدة الذي أصبح أول أمين عام يطرد من منصبه بسبب أدائه المخجل. وهذا آخر ما نحتاج له بعد أن أصبحت سمعة العرب في الحضيض عند أنفسهم قبل غيرهم.
(2) اعتذار وزير الثقافة المصري فاروق حسني المنشور هذا الأسبوع في صحيفة لوموند الفرنسية عن تصريحات له صدرت العام الماضي عن استعداده لحرق أي كتب عبرية توجد في مكتبات مصرية يندرج في الباب الثاني. فالرجل يعتقد، مثل رئيسه الأسبق السادات، أن الأمر كله بيد إسرائيل، وأن التزلف إلى القوم هو الطريق الأقصر إلى بغيته في الوصول إلى أمانة اليونسكو التي ترشح لها، خاصة بعد أن أثار اللوبي اليهودي قضية 'معاداته للسامية' على خلفية تلك التصريحات.
(3) وبادئ ذي بدء لا بد أن نسجل بأن تلك التصريحات تستحق بالفعل الاعتذار عنها، ليس لأنها تنم عن تعصب ضد اليهود، بل لأنها تنم عن غباء مفرط، خاصة حين تصدر عن وزير 'ثقافة'. فالكتب، بأي لغة صدرت ومن أي مصدر جاءت، هي مصادر علم لا ينبغي أن ترفض لأن من يتضرر من الجهل هو من يرفضها. ومثل هذه التصريحات لا تليق بمدير مخابرات، ناهيك عن وزير مسؤوليته رعاية الثقافة ونشرها.
(4) وهذا هو بيت القصيد. ذلك أن وزراء الثقافة في الأنظمة الدكتاتورية لا تكون مهمتهم نشر الثقافة، وإنما خنقها، لأن نشر الثقافة والعلم يقوض بالضرورة أسس النظام الدكتاتوري. وقد أبلى فاروق حسني أحسن البلاء في موقعه هذا مما شجع حاكم مصر على استبقائه في موقعه قرابة عقدين من الزمان، رغم الانتقادات الحادة لأدائه والتي تأتي أساساً من المثقفين والعاملين في حقل الثقافة، كأن أرض الكنانة عقمت فلم تنجب سواه. ولا شك أن هذا يعود لأنه أحسن الطاعة والتزلف وإنجاز مهمة تدجين الثقافة لصالح النظام.
(5) فاروق حسني أراد على ما يبدو أن يستخدم مهاراته في التزلف التي أجادها خلال حياته العملية الحافلة لكي يكسب رضا من يظن أن بيدهم أمره. ولكن هنا يكمن الخطأ القاتل. فالبيئة التي يريد حسني أن يدخل للتنافس فيها تختلف تماماً وبصورة جذرية عن تلك التي اعتاد التعامل معها. فحيث عمل حسني كان بإمكانه أن يدوس بحذائه على كل ما له علاقة بالثقافة والمثقفين، ومع ذلك يبقى في منصبه لأنه يعرف كيف يتعامل مع من بيده الأمر. أما في الساحة التي ندب نفسه لها فإن العكس هو الصحيح، إذ أن احترام الثقافة والمثقفين هو الأساس.
(6) لا أريد أن أستعيد هنا السجال الذي دار على صفحات 'القدس العربي' بيني وبين المرشح العربي السابق لليونسكو الدكتور غازي القصيبي حيث اتهمني بأنني أصبحت 'محامي الشيطان' لأنني قلت إن فرصه في الانتخاب لأمانة اليونسكو معدومة، ولكن الحيثيات هي نفسها. فالحكام العرب يخلطون بين دورهم
كـ 'حلفاء' للغرب، يؤدون خدمات قذرة في مجالات التعذيب والقمع وبين أن يكونوا مؤهلين للجلوس على مائدة الكبار على قدم المساواة.
(7) وهناك عقبة أكبر في مجال الثقافة، لأن هذا مجال لا يملك السياسيون فيه نفس الحرية التي يملكونها في التعامل مع الملفات الخارجية. فبإمكان وزارات الخارجية وأجهزة المخابرات عقد صفقات لايعرف الشعب عنها الكثير مع دول يعتقد الجميع أنها فاسدة. ولكن هذه الحرية غير متاحة في المجالات الثقافية، حيث لم يكن من المتصور أن ينتخب لأمانة اليونسكو شخص من دولة لا يسمح للمرأة فيها بقيادة السيارة، أو دولة يعتقل فيها من يترشح للرئاسة بتهم مفبركة.
(8) هناك مشاكل أخرى أكبر تواجه فاروق حسني في محاولته لارتقاء مرتقى اليونسكو، لا تتعلق فقط بتعامله المستنكر مع الثقافة والمثقفين في بلده، بل أيضاً بطريقة إدارته لوزارة الثقافة ومؤسساتها باعتبارها ضيعة خاصة، وما أشيع عن خلطه بين الخاص والعام في موقعه. ووضع شخص مثل هذا على رأس مؤسسة دولية تعادل ميزانيتها مئات المرات ميزانية وزارته ليس مما سيتحمس له الدبلوماسيون الدوليون.
(9) مهما يكن فإن فاروق حسني لا يمكن اعتباره مرشحاً مصرياً، ناهيك عن أن يكون مرشحاً عربياً. فهو مرفوض من غالبية مثقفي مصر. ولعل ترشيحه لليونسكو هو أيضاً محاولة للتخلص كما رشح عمرو موسى من قبل لأمانة الجامعة العربية لإبعاده من الحكومة. ولكن حتى لو كان يمثل مصر الرسمية فإنه لا يمثل العرب، لأن مصر الرسمية التي تطرد المتعاطفين الأوروبيين مع سكان معسكر الاعتقال الإسرائيلي-المصري الكبير في غزة لا تمت للإنسانية بسبب، ناهيك عن أن تمثل العرب.
(10) من هذا المنطلق فإنه حتى لو نجح حسني في الوصول إلى أمانة اليونسكو وهو احتمال بعيد جداً- فإنه لن ينفع العرب، بل قد يسبب العار والحرج لهم، كما فعل من قبل سلفه في أمانة الأمم المتحدة الذي أصبح أول أمين عام يطرد من منصبه بسبب أدائه المخجل. وهذا آخر ما نحتاج له بعد أن أصبحت سمعة العرب في الحضيض عند أنفسهم قبل غيرهم.
No comments:
Post a Comment