دار نقاش طويل بين المؤرخين اللبنانيين، حول جذور الدولة الوطنية اللبنانية. ثم رسا ما يشبه الافتراض المسيطر، وهو ان جذر الدولة الوطنية يعود الى امارة فخرالدين المعني الثاني. لكن اصحاب هذا الافتراض تناسوا ان امارة فخرالدين امتدت الى فلسطين، وانها كانت تشبه امارات واقطاعات نشأت في صلب الدولة العثمانية، وسعت الى توسيع استقلاليتها.
النقاش حول جذر الدولة الوطنية، وضرورة تأسيسه على قاعدة طموحات محلية، جاء كنتيجة للشكل الذي تأسست فيه دولة لبنان الكبير عام 1920، التي تحولت عام 1926 الى الجمهورية اللبنانية. فالذي اعلن تأسيس دولة لبنان كان الجنرال الفرنسي غورو، والدولة تأسست على اشلاء المملكة الفيصلية، التي سُحقت في ميسلون.
غير ان مصير لبنان لم يكن مشابها لمصير الدويلات في سورية التي اعلنها الفرنسيون، فدويلات دمشق وحلب والعلويين والدروز تلاشت وذابت في سورية، بينما استعصت دولة لبنان الكبير على الذوبان، رغم معارضة اغلبية سكان المدن الثلاث الرئيسية لها: بيروت وطرابلس وصيدا.
وهذا ما اعطى السؤال عن الجذر التاريخي للوطنية اللبنانية شرعيته، وسمح لبعض المؤرخين باعتبار الامارة المعنية نقطة انطلاق ممكنة.
لكن ما فات الجميع ان لبنان الصغير الذي تمتع بحكم ذاتي في حماية الدول الاوروبية، لم ينشأ الا بعد حرب اهلية مدمرة في جبل لبنان، انتهت الى تأسيس اول نظام سياسي تستند شرعيته الى الطوائف الدينية. فتألف مجلس ادارة على اساس المحاصصة الطائفية، يساعد المتصرف العثماني في ادارة شؤون الجبل.
لم تكن المتصرفية صيغة قابلة للحياة، ميناؤها كان بيروت، وهي عاصمة ولاية عثمانية تحمل الاسم نفسه، وغذاؤها يعتمد على قمح سهلي البقاع وحوران، الواقعين خارجها. وربما كان تأسيس المتصرفية، وفقرها المدقع احد اسباب نزيف الهجرة الى الأمريكتين، وهو نزيف سوف يستمر، ويحول الأكثرية المسيحية في لبنان الى اقلية.
الافتراض المنطقي ان جذر لبنان يعود الى الحرب الأهلية الطائفية، اي ان شرعية الوجود اللبناني، التي سمحت لدولة لبنان الكبير بالبقاء وعدم الذوبان هي شبح الحرب الأهلية.
وطن مدين بشرعية وجوده الى الحرب الأهلية، لذا لم يكن من المستبعد ان تلعب الطائفية دورا معاكسا. فالدور التأسيسي في زمن الانتداب سوف يتحول دورا تدميريا في مرحلة الاستقلال السياسي.
والغريب ان الوعي اللبناني للخطر الطائفي لم يتجاوز المستوى اللفظي. فالدعوات الى الغاء الطائفية، على السنة افراد الطبقة الحاكمة، كانت تترجم ترسيخا للبنى الطائفية في الواقع السياسي، بحيث نجح اللبنانيون في تحويل قضية كبرى كقضية المقاومة الفلسطينية الى جزء من الصراعات الطائفية على السلطة، وتابعوا الأمر بعد الخروج الفلسطيني، محولين قضية مقاومة الاحتلال الاسرائيلي الى جزء من لعبة توازنات السلطة.
لذا لم يكن انهيار مشروع 'انتفاضة الاستقلال'، عام 2005، التي اخرجت الجيش السوري من لبنان، سوى مسألة وقت، وذلك بسبب قراءة الانتفاضة طائفيا، مما ابعد عنها طائفة كاملة، وجعل مشروعها مستحيلا.
هذه هي مأساة الوطنية اللبنانية، انها معادلة ناقصة دائما، لأن الطوائف لا تنشئ اوطانا، بل تستخدم الخطاب الوطني من اجل تأكيد نفوذها في السلطة.
الولادة كانت سببا للموت، او لما يمكن ان نسميه الاحتضار الطويل. فلبنان منذ انفجار حربه الأهلية، ومنذ ذلك التصريح الشهير الذي ربط فيه مؤسس حزب الكتائب بين الكيان والنظام، وهو يؤكد ان كيانه هو نظامه، وان استمرار الكيان مرهون باستمرا النظام الطائفي.
لا شك في ان من وضع بروتوكولات تأسيس المتصرفية، كان يؤسس لنظام الحرب الأهلية المستمرة. لكن تحويل هذا النظام الى حالة دائمة، تم لسببين:
سبب اقليمي، يعود الى فشل الحركة القومية العربية في تقديم بديل حديث وعلماني لنظام الملل العثماني. ومما زاد في العجز مصادرة العسكريتاريا العربية للسلطة، وتأسيس انظمة الإستبداد، التي ساهمت في تحويل حلم الحداثة الى كابوس.
وسبب داخلي، تتحمل مسؤوليته النخب اللبنانية، التي لم تعر النضال ضد الطائفية ما يستحقه من اهتمام، بل انها انخرطت في صراعات هذه البنى تحت شعارات ثورية او قومية، متجاهلة ان لبنان لا يمكن ان يصير وطنا، في ظل النظام الطائفي، بل سيبقى ساحة تمتطي فيها القوى الاقليمية والدولية الطوائف اللبنانية، وتحولها ادوات لصراعاتها.
وهذا ما بدأ يتفشى للأسف الشديد في المنطقة العربية. اذ بدل ان تكون التجربة اللبنانية المرة درسا يتعظ منه المشرق، اذا بالمشرق الغارق في ظلام العجز، يتلبنن بمعنى ما، ويخلق لنفسه مشاكل طائفية، لا يعلم احد كيف يمكن الخروج منها.
في الماضي اعطت الطائفية لبنان شرعيته، وهي تقوم اليوم بقتله، او تمهد لإلحاقه من جديد بنظام الإستبداد العربي. وهنا تقع احدى مفارقات التاريخ، الذي يعلمنا ان الخطأ لا يستمر الا بمزيد من الخطأ.
النقاش حول جذر الدولة الوطنية، وضرورة تأسيسه على قاعدة طموحات محلية، جاء كنتيجة للشكل الذي تأسست فيه دولة لبنان الكبير عام 1920، التي تحولت عام 1926 الى الجمهورية اللبنانية. فالذي اعلن تأسيس دولة لبنان كان الجنرال الفرنسي غورو، والدولة تأسست على اشلاء المملكة الفيصلية، التي سُحقت في ميسلون.
غير ان مصير لبنان لم يكن مشابها لمصير الدويلات في سورية التي اعلنها الفرنسيون، فدويلات دمشق وحلب والعلويين والدروز تلاشت وذابت في سورية، بينما استعصت دولة لبنان الكبير على الذوبان، رغم معارضة اغلبية سكان المدن الثلاث الرئيسية لها: بيروت وطرابلس وصيدا.
وهذا ما اعطى السؤال عن الجذر التاريخي للوطنية اللبنانية شرعيته، وسمح لبعض المؤرخين باعتبار الامارة المعنية نقطة انطلاق ممكنة.
لكن ما فات الجميع ان لبنان الصغير الذي تمتع بحكم ذاتي في حماية الدول الاوروبية، لم ينشأ الا بعد حرب اهلية مدمرة في جبل لبنان، انتهت الى تأسيس اول نظام سياسي تستند شرعيته الى الطوائف الدينية. فتألف مجلس ادارة على اساس المحاصصة الطائفية، يساعد المتصرف العثماني في ادارة شؤون الجبل.
لم تكن المتصرفية صيغة قابلة للحياة، ميناؤها كان بيروت، وهي عاصمة ولاية عثمانية تحمل الاسم نفسه، وغذاؤها يعتمد على قمح سهلي البقاع وحوران، الواقعين خارجها. وربما كان تأسيس المتصرفية، وفقرها المدقع احد اسباب نزيف الهجرة الى الأمريكتين، وهو نزيف سوف يستمر، ويحول الأكثرية المسيحية في لبنان الى اقلية.
الافتراض المنطقي ان جذر لبنان يعود الى الحرب الأهلية الطائفية، اي ان شرعية الوجود اللبناني، التي سمحت لدولة لبنان الكبير بالبقاء وعدم الذوبان هي شبح الحرب الأهلية.
وطن مدين بشرعية وجوده الى الحرب الأهلية، لذا لم يكن من المستبعد ان تلعب الطائفية دورا معاكسا. فالدور التأسيسي في زمن الانتداب سوف يتحول دورا تدميريا في مرحلة الاستقلال السياسي.
والغريب ان الوعي اللبناني للخطر الطائفي لم يتجاوز المستوى اللفظي. فالدعوات الى الغاء الطائفية، على السنة افراد الطبقة الحاكمة، كانت تترجم ترسيخا للبنى الطائفية في الواقع السياسي، بحيث نجح اللبنانيون في تحويل قضية كبرى كقضية المقاومة الفلسطينية الى جزء من الصراعات الطائفية على السلطة، وتابعوا الأمر بعد الخروج الفلسطيني، محولين قضية مقاومة الاحتلال الاسرائيلي الى جزء من لعبة توازنات السلطة.
لذا لم يكن انهيار مشروع 'انتفاضة الاستقلال'، عام 2005، التي اخرجت الجيش السوري من لبنان، سوى مسألة وقت، وذلك بسبب قراءة الانتفاضة طائفيا، مما ابعد عنها طائفة كاملة، وجعل مشروعها مستحيلا.
هذه هي مأساة الوطنية اللبنانية، انها معادلة ناقصة دائما، لأن الطوائف لا تنشئ اوطانا، بل تستخدم الخطاب الوطني من اجل تأكيد نفوذها في السلطة.
الولادة كانت سببا للموت، او لما يمكن ان نسميه الاحتضار الطويل. فلبنان منذ انفجار حربه الأهلية، ومنذ ذلك التصريح الشهير الذي ربط فيه مؤسس حزب الكتائب بين الكيان والنظام، وهو يؤكد ان كيانه هو نظامه، وان استمرار الكيان مرهون باستمرا النظام الطائفي.
لا شك في ان من وضع بروتوكولات تأسيس المتصرفية، كان يؤسس لنظام الحرب الأهلية المستمرة. لكن تحويل هذا النظام الى حالة دائمة، تم لسببين:
سبب اقليمي، يعود الى فشل الحركة القومية العربية في تقديم بديل حديث وعلماني لنظام الملل العثماني. ومما زاد في العجز مصادرة العسكريتاريا العربية للسلطة، وتأسيس انظمة الإستبداد، التي ساهمت في تحويل حلم الحداثة الى كابوس.
وسبب داخلي، تتحمل مسؤوليته النخب اللبنانية، التي لم تعر النضال ضد الطائفية ما يستحقه من اهتمام، بل انها انخرطت في صراعات هذه البنى تحت شعارات ثورية او قومية، متجاهلة ان لبنان لا يمكن ان يصير وطنا، في ظل النظام الطائفي، بل سيبقى ساحة تمتطي فيها القوى الاقليمية والدولية الطوائف اللبنانية، وتحولها ادوات لصراعاتها.
وهذا ما بدأ يتفشى للأسف الشديد في المنطقة العربية. اذ بدل ان تكون التجربة اللبنانية المرة درسا يتعظ منه المشرق، اذا بالمشرق الغارق في ظلام العجز، يتلبنن بمعنى ما، ويخلق لنفسه مشاكل طائفية، لا يعلم احد كيف يمكن الخروج منها.
في الماضي اعطت الطائفية لبنان شرعيته، وهي تقوم اليوم بقتله، او تمهد لإلحاقه من جديد بنظام الإستبداد العربي. وهنا تقع احدى مفارقات التاريخ، الذي يعلمنا ان الخطأ لا يستمر الا بمزيد من الخطأ.
No comments:
Post a Comment