Tuesday, June 9, 2009

من أجل توثيق الحقائق: دور الفلسطينيين في نهضة لبنان عبد الحميد صيام

في الخامس عشر من شهر أيار(مايو) الماضي نشرت صحيفة السفير اللبنانية، وبالتحديد القسم المتعلق بالتوثيق والبحوث الذي يشرف عليه رئيس التحرير طلال سلمان نفسه، مقالا عظيما بعنوان 'الفلسطينيون جوهرة الشرق' حول الدور المحوري الذي لعبه الفلسطينيون قبل نكبة عام 1948 وبعدها في نهضة لبنان. ولأهمية المقال وددت لو أن كل عربي من محيط الوطن إلى خليجه يطلع عليه ويقبس منه شيئا من الحقيقة الساطعة.
والمقال ليس دعاية رخيصة أو تعبيرا عن تعصب أعمى لمجموعة عرقية لا ينتمي إليها الكاتب أصلا بل بحثا دقيقيا موثقا بالحقائق والأسماء والتواريخ يعرض الحقائق بطريقة موضوعية حول الدور الايجابي الذي لعبه الفلسطينيون في لبنان قبل النكبة وبعدها في المجالات الاقتصادية والثقافية والمالية والإبداعية. فالمقال يعتبر بحق صوتا صارخا ضد التيارات والمجموعات العنصرية والانعزالية التي ما إن تلتقط خطأ سياسيا يرتكبه قائد أو فصيل حتى تفتح فوهات مدافعها ضد كل الشعب الفلسطيني، بأطفاله ونسائه ومثقفيه ومناضليه وكتابه وشعرائه وأساتذته ولاجئيه.
يقول المقال إن الإزدهار اللبناني والانتعاش الاستثماري لم يبدأ إلا بعد نكبة فلسطين عام 1948 وذلك بسبب حجم الدور الإيجابي الذي لعبه الفلسطينيون في لبنان، حيث حملوا معهم ما قيمته 15 مليون جنيه أي ما يعادل مليار دولار بعملة اليوم أنعشت الاقتصاد اللبناني، كما أن انهيار ميناء حيفا ساهم في تنشيط ميناء بيروت وتحوله إلى مركز تجاري لشرق المتوسط عامة، وإغلاق مطار اللد أدى إلى توسيع مطار بئر حسن المتواضع المؤهل لاستقبال الطائرات الصغيرة فقط وتحوله إلى مطار دولي نشط. ولغاية هذا اليوم يحول الفلسطينيون العاملون في دول الخليج إلى لبنان ما قيمته 368 مليون دولار سنويا.
ثم يستعرض المقال أسماء الفلسطينيين الذين ساهموا في نهضة لبنان الحديث، فأول بنك أنشاه الفلسطيني يوسف بيدس وهو الذي أنشأ كازينو لبنان وطيران الشرق الأوسط. كما أنشأ الفلسطينيون في لبنان أول مصنع نسيج للملابس الجاهزة وأول شركة هندسة كبرى وأول شركة تأمين وأول شركة لتوزيع الصحف، وأول شركة تدقيق حسابات وأول محلات سوبر ماركت، ونظام الشقق المفروشة ، وأول من قاد طائرة الجمبو لشركة طيران الشرق الأوسط وأول من رفع علم لبنان في القطب الجنوبي الفلسطيني اللاجئ في لبنان جورج دوماني.
ثم يأتي المقال على أسماء الفلسطينيين الذين أنعشوا التعليم، وخاصة باللغة الإنكليزية، في الجامعة الأمريكية في بيروت ولمع منهم طلال أبو غزالة وحسيب الصباغ وكمال الشاعر وإحسان عباس ومحمد يوسف نجم ويضيف 'ومن بين أساتذة الجامعات الفلسطينيون نقولا زيادة وبرهان الدجاني ونبيه أمين فارس وصلاح الدباغ ونبيل الدجاني ويوسف الشبل وجين مقدسي وريتا عوض وفكتور سحاب ويسرى جوهرية عرنيطة ورجا طنوس وسمير صيقلي ومحمود زايد وعصام مياسي وعصام عاشور وطريف الخالدي'. ويؤكد الكاتب أن عدد خريجي الجامعة الأمريكية في بيروت من الفلسطينيين يكاد يساوي عدد اللبنانيين.
كما يستعرض كوكبة من الفلسطينيين المبدعين في مجالات الفن والموسيقى والمسرح ومن بين من يذكرهم الموسيقي والإذاعي المبدع حليم الرومي الذي أطلق على صوت نهاد حداد لقب فيروز، وهو والد الفنانة الكبيرة ماجدة الرومي. كما أسس صبري الشريف أول فرقة مسرحية أثرت على عمل الرحابنة وأنشا مروان جرار ووديعة حداد جرار أول فرقة فنون شعبية.
وفي الصحافة ظهرت كوكبة من الفلسطينيين في لبنان كان لها شأن وأثر كبير في انطلاقة الصحافة اللبنانية الني بزّت كل نظيراتها العربية ومن بينهم غسان كنفاني ونبيل خوري ونايف شبلاق وتوفيق صايغ وكنعان أبوخضرا وجهاد الخازن ونجيب عزام والياس نعواس وسمير صنبر والياس صنبر والياس سحاب وخازن عبود ومحمد العدناني وزهدي جار الله وليس آخرهم سمير قصير. والمقال يستعرض كثيرا من الأسماء في مجالات الرسم والفن التشكيلي ودور البحث العلمي والعمل السياحي وغير ذلك من مجالات لا يتسع المقال لتغطيتها جميعا.
مع تقديرنا الكبير للمقال وللأستاذ طلال سلمان الذي وثق كل هذه المعلومات، نود أن نضيف إلى المقال ثلاث نقاط مهمة تجنب المقال ذكرها لا عن جهل بل رفعة في أخلاق الكاتب والناشر وترفعا عن ذكر بعض الشوائب والتي قد تؤثر على رسالة المقال:
أولا: إن هناك من بين الفلسطينيين من أساء فعلا للبنان ولشعبه ولساسته ومؤسساته ورجاله ونسائه خاصة في فترة قيام 'دولة الفاكهاني' سيئة الصيت والسمعة. ففي فترة الفلتان أيام انتقال منظمة التحرير من الأردن إلى لبنان كان هناك مجموعات من الانتهازيين والجواسيس والقتلة والمهربين الذين ركبوا موجة الثورة وليس لهم علاقة بها بل وربما كانوا مدسوسين أصلا لتشويه الثورة وحرفها عن مسارها وضرب العلاقة بين الشعبين، فاستغلوا طيبة الشعب اللبناني وكرم أخلاقه فتحولوا إلى تجار سلاح ومهربين وعربدوا في شوارع الحمراء وسلحوا فريقا ضد آخر وشقوا الصفوف وأمعنوا في الفساد مستغلين البترودولارات التي ملأت جيوب الفئة الفاسدة والتي حولت الثورة الفلسطينية النبيلة إلى مدرسة فساد وإفساد. وما كادت تمر عدة سنوات حتى تحول معظم أبناء الشعب اللبناني من حضن دافئ للثورة الفلسطينية إلى محيط معاد لكل الفلسطينيين. وعندما اجتاحت إسرائيل الجنوب اللبناني وصولا إلى بيروت في صيف عام 1982 لم يطلق الجنوبيون طلقة على القوات الإسرائيلية الغازية وكانوا يقولون وقتها 'خلصنا من الفلسطينيين وخلصنا من تجاوزاتهم'. وبعد الرحيل المرّ إلى المنافي امتشق الجنوبيون السلاح وأطلقوا ثورة حقيقية بعيدة عن الفساد والمحسوبيات والشللية فأنجزوا أول انتصار حقيقي للأمة قاطبة في 24 أيار(مايو) 2000.
ثانيا: إن هناك فئة من بين الفلسطينيين الذين حصلوا على الجنسية اللبنانية، وغالبيتهم من المسيحيين كما هو معروف، تنكروا لفلسطينيتهم وكأنها تهمة يعاقب عليها القانون. وحاولت هذه المجموعة وما زالت أن تكون أكثر ملكية من الملك بل وشارك بعض أفراد هذه المجموعة الصغيرة في مذابح ارتكبت ضد الفلسطينيين في لبنان. وفي مقابلة حيّة مع واحد من هذا الصنف مع المذيعة جزيل خوري في برنامجها الاسبق 'حوار العمر' على شبكة الإل بي سي، أحمرّ وجه الضيف واصفر وتلعثم وانساب على وجهه عرق الإجهاد والخوف عندما كلمته إحدى قريباته من حيفا وكانت سعيدة جدا برؤيته وشكرت الرب لأنها استطاعت أخيرا أن تتعرف على ابن عمّـها عبر شاشة التلفزيون، وكأنها قفشته متلبسا بتهمة إخفاء أصوله الفلسطينية فما كان منه إلا أن قطعها بجملة يتيمة جافة دون أن ينظر إلى الكاميرا قائلا 'أهلا وسهلا'. وهناك أمثال هذه الشخصية الكارهة للذات كثير.
ثالثا: إن الغالبية الساحقة من الفلسطينيين من غير المجنسين والذين ما زالوا يسكنون في لبنان لا خيارا بل قسرا، يعانون من أبشع أنواع الحرمان والتهميش والإقصاء بحجة عدم التوطين. فما دام رفض التوطين قد أصبح مادة في الدستور تجمع عليه كافة القوى اللبنانية بل ويتمسك به الفلسطينيون أصلا فما هي المبررات التي تساق لمنع الفلسطيني من ممارسة أكثر من ثمانين مهنة؟ كيف يعقل تحت أي مبرر قانوني أو سياسي أو إنساني أو أخلاقي الاّ يستطيع الفلسطيني أن يمارس مهنة الطب أو المحاماة أو جمع القمامة أو توزيع البريد في بلد منفتح حضاري كلبنان بحجة رفض التوطين؟ كيف يعقل أن يسمح لكافة جنسيات الأرض بالتملك في لبنان إلا الفلسطيني الذي لا يعرف وطنا إلا لبنان؟ أليست هذه العنصرية بعينها كما قال السيد سليم الحص رئيس الوزراء الأسبق؟
وأخيرا نود هنا أن نؤكد أن الشعب الفلسطيني ليس أفضل من غيره من الشعوب العربية الطيبة المعطاءة. إلا أنه وبحكم تجربته المتقدمة في صراعه مع موجات الاستعمار الإستيطاني الإحلالي في فلسطين تمكن من إنضاج خبرة فريدة من نوعها في تمتين عناصر القوة الذاتية من علم ومعرفة وشجاعة واتساع أفق ووعي قومي وإبداع، وعمل بعد النكبة وما زال على نقل هذه المعرفة والتجربة إلى إخوته العرب، إلا أن تلك الجهود والمساهمات كثيرا ما قوبلت بالنكران والجحود.
نتمنى أن يخرج أكثر من طلال سلمان واحد وأكثر من جريدة ومجلة ودورية في الكويت والإمارات والبحرين وقطر والسعودية وليـــبيا والجزائر يتحدثون عن فضل الفلسطينيين على هذه الدول ويوثقون أدوارهم ومساهماتهم في نهضتها، بعيدا عن أخذ الشعب الفلسطيني بجريرة قياداته وسلطته وفصائله والتي غالبا لا ترتقي إلى المستوى الحضاري والعلمي والثقافي لهذا الشعب. هذه ليست دعوة عصبوية بل إحقاقا للحق وتوثيقا للحقائق التي كثيرا ما تكون أولى الضحايا عند الخلافات السياسة.

' أستاذ جامعي وكاتب سياسي يعيش في نيويورك

زي ما هي! الياس خوري

الشعار الانتخابي الذي رفعه رفيق الحريري عام 2000، داعيا مناصريه الى اسقاط اللائحة من دون تشطيب، في نظام الانتخابات الأكثري في لبنان، تحوّل مع انتخابات 2009، الى سمة عامة للوضع اللبناني.
في صبيحة يوم الاثنين 8 حزيران (يونيو)، اكتشف اللبنانيون مع نتائج الانتخابات، ان الانتخابات لم تغيّر شيئا في الواقع السياسي اللبناني. كأن الانتخابات لم تجرِ، وكأن الاعوام الأربعة المنصرمة، بما حملته من ازمات وحروب وخطابات سياسية، لم تكن. اذ لا شيء تغير بعد معركة انتخابية كانت الاكثر قسوة، والأشد تنافسا في تاريخ لبنان الانتخابي.
كيف نقرأ الانتخابات؟
كنت اتمنى ان يكون في مقدورنا قراءة النتائج في وصفها مؤشرات على تغيّر في الرأي العام. غير ان مقولة الرأي العام نفسها تحتاج الى تدقيق. فكرة الرأي العام تستند الى افتراض وجود حس بالمواطنة وبالفرد. اما حين تكون المواطنة انتماء الى الطائفة، فإن افتراض تغيرات الرأي العام يصير بلا معنى. فالطوائف تشكّل رأيا خاصا مغلقا، وهذا ما يجعلها معصومة عن التغير الا ككتلة موحدة.
يستطيع المراقب ان يلاحظ تشققا في الخطاب السياسي لدى الطوائف المسيحية. صحيح ان الطرفين المتنافسين: التيار الوطني الحر بزعامة ميشال عون والجبهة اللبنانية بحزبيها الرئيسيين: القوات والكتائب، استخدما لغة الشحن الطائفي نفسها تقريبا، غير ان التشقق في الخطاب العوني المتحالف مع حزب الله، انعكس تراجعا لافتا في التأييد الشعبي الذي كان يحظى به عون، مما جعله يخسر دائرتين مسيحيتين صافيتين: البترون والكورة. غير ان هذا لم يؤثر في النتائج الانتخابية، فبقي القديم على حاله.
لماذا جرت الانتخابات اذا؟
الواقع انه لم تكن هناك انتخابات حقيقية في اغلبية الدوائر، ففي الجنوب الشيعي، والشمال السني والجبل الدرزي وبيروت السنية، كانت الانتخابات اشبه باستفتاءات. المعارك حصلت في الدوائر المسيحية فقط. حتى هنا وباستثناءات قليلة حسم الصوتان الشيعي والسني الانتخابات. في جبيل وبعبدا كان الحسم شيعيا، اما في زحلة فكان الحسم سنيا. اضافة الى الحسم الأرمني لمعركة المتن، رغم ان كثافة التصويت الطاشناقي لم تفد حزب الطاشناق نفسه اذ سقط ثلاثة من مرشحيه في بيروت وزحلة، ولم يفز له سوى نائبين.
لذا انتهت الانتخابات، في الموقع نفسه الذي انتهت فيه انتخابات 2005. وثبت ان الشكوى من قانون العام 2000، الذي سمي قانون غازي كنعان، واستبداله بالعودة الى قانون 1960، لم يبدّل في الأمر شيئا. فبقي الاصطفاف الطائفي سيد الموقف، واستعاد لبنان المشهد السياسي نفسه، الذي ظهر بعد انتخابات 2005.
الطريف ان المحللين الغربيين ركزوا على الطبيعة السياسية للانتخابات، باعتبارها استفتاء على سلاح حزب الله. لكن ما فاتهم هو ان هزيمة تحالف الثامن من آذار- مارس، لم تتم على قاعدة خيارات سياسية، بل على قاعدة خيارات طائفية.
الفرق بين الخيار السياسي والخيار الطائفي شاسع. فالطوائف لا سياسة لها، سوى سياسة تحسين موقعها في السلطة. لذا بدا ان التيار العوني نجح في احداث انقلاب جذري في الرأي العام المسيحي لجهة تأييده للمقاومة الاسلامية وسورية. غير ان شعارات الحملة سرعان ما بددت هذا الانطباع، لأن العونيين كالقواتيين انغمسوا في الشعار الطائفي، مبررين خياراتهم السياسية بأنها الأفضل من اجل تحسين مواقع الموارنة في السلطة. اي ان ما بدا من الخارج مسألة سياسية بامتياز، اتخذ في الداخل اللبناني شكل المرض الطائفي الذي لا شفاء منه.
كان البعض يعتقد ان الانتخابات سوف تغيّر المعادلة السياسية في لبنان، لكن الواقع الطائفي اعلن انه عصي على التغيير. فمنذ استحضار احداث السابع من ايار- مايو 2008 الى الخطاب الانتخابي، تحصنت كل طائفة في مواقعها، وصارت الانتخابات شكلا سلميا للحرب الأهلية. وفي الحرب الأهلية لا مكان للعقل، بل تحتل الغرائز المساحة السياسية برمتها. لذا جرت الانتخابات وكأنها لم تجر. واستيقظ اللبنانيون على تبدل بعض الأسماء القليلة، لكن من دون اي تبدل في المحصلة النهائية.
قد يقول المراقب ان هذه النتيجة تعني ان لبنان محكوم بالتوافق بين طوائفه المختلفة، وهذا قد يكون صحيحا، غير ان ما يتناساه اصحاب نظرية التوافق، هو ان هذا التوافق الداخلي محكوم بتوازن اقليمي. اذ في اللحظة التي ينهار او يتخلخل فيها هذا التوازن، فإن مصير التوافق يصير في مهب الريح.
الطوائف لا تنتج اوطانا، هذه هي محصلة انتخابات لبنان. من هذه النقطة يبدأ اي تحليل عقلاني للواقع اللبناني، وللخيارات السياسية المطروحة في لبنان. غير ان الغاء الطائفية، وسيادة فكر علماني عروبي، دونهما اهوال احداث عملية تجديد جذرية في الفكرة العربية نفسها، واحداث تغيرات جوهرية في النظام السياسي، وفي القوانين المدنية. وحتى نصل الى هذا التغيير، الذي يتطلب ورشة فكرية وسياسية كبرى، سوف يبقى لبنان في 'الزي ما هي'.

Sunday, June 7, 2009

شعرية الجهل المسلّح! خيري منصور

اذا صحّ ما نسب الى محمد علي باشا بأنه قال لأحد مستشاريه عندما حمل اليه بضعة كتب كي يقرأها منها 'الأمير' لميكافيلي : انا متفرغ لصناعة التاريخ، اعط هذه الكتب لمن تفرغ للكتابة عن التاريخ، فإن ما يعادل هذا الموقف في ثقافتنا العربية وخصوصا في مجال الشعر، هو عزوف أحفاد عبقر عن القراءة، لأنها تفسد الفطرة، وثمة حسب هذه القسمة من يتفرغ لكتابة الشعر مستلهما ذاته وحدها وما تفرزه من هذيان نرجسي وثمة بالمقابل من يتفرغ للقراءة والكتابة عن الشعر او نقده، ولم يحدث من قبل ان تحول الجهل الى مطلب ابداعي، تماما كما تحوّل الفقر الى مطلب قومي، في ثقافة عنكبوتية، اعتمدت على لعابها فقط لصيد ما تيسر من الذباب، سواء كان ذباب القصائد الميّتة او ذلك الذباب الذي حيّر الشاعر والناقد كرورانسوم عندما سأله عامل في مزرعته ما الذي جعل الذباب ذباباً؟؟
وفي هذه المناسبة اتذكرعبارة كان يرددها الصديق الباقي محمود درويش كلّما تحاورنا حول الكتابة، فقد كان يقول بصوت تمتزج فيه السخرية بالغضب، دعنا من طنين البعوض ولنعد الينا... وسواء كان الطنين للذباب او البعوض او لنقد كالذي وصفه تشيكوف عندما صوّره يحوم حول كفل الحصان، فإن الموقف من الجهل مرّ بثلاث مراحل منذ بواكير ثقافتنا العربية، المرحلة الاولى ما عبّر عنه عمرو بن كلثوم عندما قال نجهل فوق جهل الجاهلينا، والمرحلة الثانية هي مرحلة الشعور بشيء من الخجل بسبب هذا الجهل، أما المرحلة الراهنة فهي الزهو بهذا الجهل لأنه مدجج بأجنحة الدجاج ومناقيرها، فلا هو يطير، ولا يستطيع الدفاع عن نفسه وكل ما يفعله هو التقاط الحبوب من النفايات او التعثر بأجنحته وهو يعدو بشكل اخرق مثير للسخرية.
كان الاقدمون منا ومن سوانا ينسبون الابداع الى مصادر سحرية، واحيانا الى الشياطين، لكن أجدادنا الشعراء انفردوا بالادعاء بأن شيطانهم الملهم ذكر وليس انثى كما قال الفرزدق، وكنا نظن ان ما تبقى من هذه الاساطير قد تحوّل الى فولكلور ثقافي ينفع الحفريات الانثروبولوجية فقط، لكننا نفاجأ بين وقت وآخر بأن الفرزدق لا يزال بيننا بكامل عموديته ومزاعمه بتهديد مربعٍ الذي قال له ابشر بطول السلامة.
كان اول ما استوقفني للكتابة عن هذا الشجن هو تهرّب شعراء من شعراء درءاً لأي حوار، وبالتالي عزوف شعراء آخرين عن الالتقاء بأي مثقف مهجوس بأسئلة كبرى، وسمعت مرارا بعضهم يقولون ان الجلوس مع فلان يثير الصداع ويفتح نوافذ على الريح العاصفة، من الافضل اغلاقها، ولا ينفصل هذا عن تهرّب اصحاب الاختصاصات والمهن عموما من امثالهم وذلك رغبة في تحقيق الذات وهميا أمام غير ذوي الاختصاص، فالطبيب الذي يتحدث بفخر عن فتوحاته الأبوقراطية امام مرضاه فقط لن يجد من يقاطعه، والشاعر الذي يستغرق ساعات في مقهى او بيت وهو يتحدث عن مغامراته في الابداع امام اناس عاديين لن يجد ايضا من يقاطعه، انه يلعب الكرة مع نفسه ويسجل اهدافا بلا انقطاع ضد نفسه ايضا، وكان من نتائج تحويل الجهل الى مطلب ابداعي ان حلّ التواطؤ مكان الحوار الفاعل، فقد يقرأ شاعر نصّا امام زميل، فيراه يشد شعره ويضرب رأسه تعبيرا عن الاندهاش، وذلك كمقدمة لموقف آخر، تكتمل فيه المقايضة، والثقافة لها مستنقعاتها ايضا عندما تفقد التيار والحراك الخلاق، بحيث تطفو على هذه المستنقعات سراخس وفطريات، وهي معروفة لدى علماء الاحياء بمقايضاتها، لكن الناقد الادبي لم يهتد بعد الى ما يماثلها في الثقافة.

'' ''
على العارف اذن ان يعتذر عن ثقل دمه وثرثرته وما يسببه من صداع لجاهل فقد براءة الجهل الأول، وتقمّص عمرو بن كلثوم، حتى لو كان ما يكتبه هذياناً لا يستحق الادراج تحت عنوان السوريالية او الدادائية، وليس معلّقة مستوفية لشرطها العمودي. هنا تطرد العملة الرديئة العملة الجيدة وليس العكس ويصبح الاستثناء السلبي وفق القاعة القصديرية التي يأكلها الصدأ هو الايجابي بل النموذج، فالمرحلة كلها كذلك، بجنرالات احصوا اوسمتهم بالهزائم، ورجال مال احصوا ثرواتهم بالتهريب والاسواق السوداء والغسيل السري، وبنجوم فن في التمثيل والغناء استولدتهم شركات الاعلان بالانبوب الملون. وقد نشرت احدى الصحف مؤخرا تحقيقا عن متعهدين جدد لتسويق مطربين وفنانين مقابل تسعيرة محددة، ان كل شيء الان مباح بقدر ما هو متاح، وما من كوابح الا ما تبقى لدى أناس يعيشون حياتهم كما لو كانوا يقطعون مستنقعا، وقد وضعوا ايديهم على انوفهم واحيانا على عيونهم.
والمسألة اخيرا هي القدرة العجيبة على خداع الذات والتصديق بأن النافذة المرسومة على جدار سوف تخدع الطير والريح والضوء، لقد تحولت ديناميات التفكيك والتذرر وقضم الذات الى متوالية فيزيائية، فأصبح التخلّف ليس مجرد مساحة غامضة او كم مهمل، انه الان يتفاقم بقوانين نمو صارمة، وهذا ما يحدث للذائقة التي تم افسادها بشكل مبرمج وممنهج، فالسوق شبه مملوك الان لحزمة من هادمي التاريخ، كمقابل لما سماه ستيفان زفايج بناة التاريخ، واذا كانت الرأسمالية في ذروة توحشها قد احدثت كل هذا الانهيار الذي طال حياة الافراد مثلما طال المؤسسات الكبرى، فإن ما أفرزته ايضا وفقا لثقافة الاستهلاك، والانسان ذي البعد الواحد حسب وصف هربرت ماركيوز على صعيد المعرفة والفنون لا يستهان به، وان كان ما يبدو منه الان هو الجزء الذي نتأ من جبل الجليد، فالكوكب برمّته عرضة للارتطام بما يشلّه ويحوّله الى أطلال وليس تايتانك فقط. لهذا تصبح التفاسير التي قدمها نقاد جادون وعلماء جمال للشكلانية التي تظهر بشكل فج واستعراضي في مراحل بعينها، هي مراحل الخريف التي تنتاب الحضارات وتفرغها من المعنى والهدف، تماما كما حدث في نهايات الحضارة الرومانية، عندما تحول النوع الى كم والداخل تمدد الى الخارج، وعصف الفراغ الروحي العميق بالانسان حتى شيّاه وحوّله الى مجرد شبه جملة في الكون!!

'' ''

عاملان اساسيان ساهما في تعويم المعيار المعرفي، اولهما التضخم المبالغ فيه حتى التسّرطن في وسائل الاعلام والاتصال والمنابر الباحثة عن علف على مدار اللحظة، وثانيهما هو الانصراف الاجتماعي عن الاسئلة والهواجس الوجودية، فالناس تصوغ أمزجتهم شركات اعلان، لا تكف عن اسالة لعابهم على ما لا يملكون وما لن يملكوا على الاطلاق، وهذا ما عالجه اريك فروم على نحو بالغ العمق والحساسية في كتابه ' ان تملك او ان تكون ' وهذا العنوان تحريف مقصود للمقولة الشكسبيرية : ان تكون او لا تكون.. تلك هي المسألة.. وقد سخر فروم مثلما فعل فالهالم رايش في نصائحه للإنسان الصغير او الانسان الترانزستور في عصر تقزّم فيه كل شيء الا التوافه فهي مجرد محارات ملونة لكنها فارغة من اللؤلؤ، واحيانا تحشى بكرات من البلاستيك ذي الألوان الفسفورية الخاطفة للأبصار!
ان قوة الجهل رغم كونها عمياء، هي الان ما يرسم تضاريس الحياة، سواء تحت شعار العولمة التي لا تعني ما هو أبعد من القطعنة ونزع الدسم والخصائص وتحويل البشر الى قطع غيار متماثلة او باسم حريّات عديمة الجذور وبلا آفاق لأنها تنحصر في نطاق اشباع الغرائز، والاستجابة العضوية لمؤثرات صناعية مدروسة ومعدّة بعناية استراتيجية. وقد تكون العيّنات التي تقدم احيانا من طلبة الجامعات في العالم ومنسوب الوعي والثقافة العامة لديهم دليلا يجسّد ما ارتهن اليه عالمنا عندما قبل بأن يعيش بالخبز وحده، ويعيش ليأكل فقط رغم انه لا يحقق حتى هذا الهدف البدائي الذي تحققه الكائنات الادنى بلا ضجيج، واسوأ ما يمكن حدوثه في مرحلة ما هو العودة الى جدول الضرب والبديهيات المنطقية لأن معي ذلك ان الشك في جدوى العقل والخبرة الانسانية قد بلغ ذروته، بحيث نضطر احيانا الى التورط بسجالات حول دور الثقافة في الفن وتأثير الفلسفة على الابداع، او الدفاع عن حق المبدع في تحصيل المعارف المنجزة في مختلف الثقافات، هذه العودة البائسة الى جدول الضرب، تحرمنا من مراكمة خبرات جديدة، ومن متابعة ما يطرأ على المعرفة بمختلف حقولها من انقلابات حفرية، والمثقف العربي قد يضطر لهدر ثلاثة أرباع طاقته ليدافع عن حقه في استخدام الربع الباقي، لأنه لم يحدث في أية ثقافة او محيط حضاري ان طولب العارف بالاعتذار عما اقترف من معرفة، وعليه ان يشرب من نهر الجهل والجنون معا كي يستطيع التأقلم والتفاهم مع من شربوا.
وقد ساهمت الفضائيات في بث ثقافة استهلاكية وبضع مصطلحات يتداولها الناس بمعزل عن سياقاتها وجذورها مما خلق وهما بالمعرفة، وهو أنكى من الجهل، لأن نقيض الوعي هو الوعي الزائف كما ان نقيض الديموقراطية ليس الديكتاتوريات كما نتصور احيانا، بل هو الديموقراطيات الشكلانية الزائفة التي تحقق اشباعا وهميا لرغبات مزمنة. والكلام لبضع دقائق او كتابة عمود صحافي من مئة كلمة قد لا يفتضح عري الامبراطور المزهو بعباءته المطرزة وصولجانه المكسور، لأن ما يبث من ثقافة شفوية ، يكفي لصياغة بضعة سطور هي في حقيقتها شيك بلا رصيد سواء في بنك صاحبها او حسابه المعرفي.

'' ''
كان الجهل البريء حافز المعرفة الأولَِ، لكنه ما إن أصبح صناعة عصرية، وتلبية لاستراتيجيات سياسية وسلطوية حتى فقد براءته، وتسلح بأنياب تدافع عنه ضد كل معرفة. وكم يبدو الكاتب حتى لو كان شاعرا او روائيا مثيرا للعطف وهو يشيح عن معارف يتصور انها خارج ملكوته الابداعي، فالاقتصاد في بعده المعرفي من صميم مشروع الكاتب، الذي يدرك الان او لا يدرك بأن هناك اسواقا وبورصات ومافيات للورق والطباعة والنشر والتوزيع، وصناعة النجاح الموسمي.
وبامكان الشاعر العربي الذي ادار ظهره للمكتبة وألقى بجسده على رصيف العالم ان يستمر في اوهامه ولامبالاته... لكن ذلك لن يعفيه من الصدمة التي تحدث عنها سبندر عندما قال بأن شاعرا من هذا الطراز في الحرب العالمية الثانية ، لم يعفه جهله بالفيزياء من قتل والده... بأمر عسكري تسربت اشاراته من مسامير المقعد الذي كان يتقاسمه مع صديقته في حديقة عامة!!