Saturday, May 16, 2015

حرب الخليج الثانية - 1991

لا يمكن الحديث عن خطة الضربة الجوية و فلسفتها دون الحديث عن العقيد جون واردن الثالث Col. John Warden III. فقد تم تكليف هذا الرجل في شهر 8 \ 1990 (قبل الحرب ب 5 اشهر) باعداد خطة مبدئية للعملية الجوية. 

هذا الاختيار لو تم معرفته وقتها من قبل العراقيين لكان من الممكن ان يخمنوا شكل العملية الجوية! فالعقيد واردن من انصار مدرسة القصف الاستراتيجي و التركيز على مفاصل الدولة لتركيعها قبل التعامل مع الجيش، بل انه الف كتابا في المجال. و هذه المدرسة تعرضت لسنوات من الفشل في الحرب العالمية الثانية و فيتنام. و كان السبب في ذلك تقني: عدم وجود فنابل موجهة بشكل كاف، و سبب ثقافي: فقد اعتاد ضباط الجيوش البرية و المارينز على سماع القوات الجوية وهي تسرف في الوعود. لكن الواقع انه لا القصف الجوي المركز على المانيا (سنتين لم تنجح ايقاف الصناعة اﻷلمانية او حتى ابطائها) و اليابان و الفيتنام قد اوفى بالوعد. 

بينما تغير الشرط التكنولوجي بتوفر القاذفات الشبحية و قذائف الليزر التي تتبع مبدأ (قذيفة = تدمير هدف) بقي الشك العميق من الجيش و البحرية من الوعود التي قدمتها القوات الجوية. 

قام واردن برسم خمس دوائر متداخلة امام فريق عمله:
الدائرة المركزية: القيادة العراقية
الدائرة الثانية: الصناعات النفطية و الكهرباء
الدائرة الثالثة: البنية التحتية للدولة العراقية
الدائرة الرابعة: الشعب العراقي
الدائرة الخامسة: الجيش. 

و كانت الفكرة انه في دولة مركزية مثل العراق. يمكن ان تحسم الحرب بضرب الدوائر المركزية (الغير مهيئة للتعامل مع عمل جوي) بدل التركيز على الجيش. و تم وضع خارطة عملاقة لبغداد و بجانبها خارطة كبيرة لواشنطن و تم اختيار اهداف حساسة في العاصمة العراقية و ما يماثلها في واشنطن حتى يسهل بيع الخطة للجيش و المارينز. 

اعجبت الخطة شوارتزكوف و تم طلب توسيعها و تم دعوة العقيد و اردن للرياض للاجتماع بقادة القوات على اﻷرض. عرض واردن الخطة التي تعتمد على 670 طائرة و بواقع 1000 غارة كل يوم لمدة 6 ايام لضرب مراكز ثقل الدولة العراقية. و كان هناك اعتراف بأن قدرة العراق الصاروخية و اسلحة الدمار الشامل ستكون مشكلة. 

لم تعجب الخطة القادة اﻷمريكيين في الرياض، و توالت التعليقات عن كونها نظرية و تعد بالكثير دون سند عملي. و كان السؤال القاتل من لواء طيار عن وجود فرق عراقية مدرعة في الكويت، و ماذا سوف تفعل لو اختار صدام الهجوم؟ رد العقيد واردن: "سيدي، لا اظن انهم سوف يهاجمون، انت تركز كثيرا على الدفاع". صدم الحضور من هذه السهوة. فلا يجوز ان يتكلم العقيد مع اللواء بهذا الأسلوب. و اعتذر العقيد و لكن الضرر كان قد وقد. فقد طلب اللواء من اعضاء فريق العمل المساند البقاء واحدا واحدا و لم يدع العقيد واردن للبقاء في الرياض! 

هذه المصيبة كانت كفيلة يتدمير فلسفة الخطة، لكن ابقاء فريق العمل المخلص لواردن انقذها من هذا. و تم توسيع اﻷهداف الاستراتيجية من 48 الى 386 و ثم الى 700. و تم مضاعفة عدد الطائرات. 

المعلومات الاستخبارية تراوحت في دقتها بين ممتاز جدا (مثل المعلومات عن الدفاع الجوي) الى سيء جدا (المعلومات عن البرنامج النووي العراقي و صواريخ سكود). و تم اضافة اهداف تشمل الدفاع الجوي العراقي بناء على اصرار المارينز و تم استهداف فرقة توكلنا على الله بناء على طلب من شوارتزكوف لتكون نذيرا للحرس الجمهوري بحجم الجحيم القادم. 

عمليات اليوم اﻷول يمكن تقسيمها لخمس مجموعات:
1- ضربة بصواريخ توماهوك من بحر العرب. و بعض هذه الصواريخ تسمى Kit 2 و التي تنفجر في الجو ملقية الياف موصلة للكهرباء تقوم بتعطيل الشبكة الكهربائية في العراق بدون تدمير المنشأت نفسها. كان استخدام هذا السلاح السري مثال جدل بسبب الخوف من اكتشاف التكنولوجيا البسيطة من الروس مما يعرض الشبكة الكهربائية اﻷمريكي للخطر في حال وقوع حرب معهم! تم استهداف محطة كهرباء بيجي و الدورة و التاجي و  سلمان باك (ظنها اﻷمريكان منشأة بيولوجية) و محطات اخرى ذلك اليوم و غرق العراق في الظلام. بعض الصواريخ استهدفت القصور الرئاسية و مقار حزب البعث (المجموع 116 صاروخ في اول 24 ساعة)
2- ضربة بالطائرات المروحية على رادارات الانذار المبكر غرب العراق. نجحت اﻷباتشي في تدمير كل اهدافها لكن العراقيين اوصلوا جملة واحدة للقيادة: "نحن نتعرض للهجوم". هذه الرادارات كانت توفر انذارا للعراقيين باقتراب اي طائرة مغيرة من الغرب و الجنوب قبل وصولها ب 20 دقيقة.
3- غارة لرصد و تدمير الصواريخ العراقية غرب بغداد باستخدام دزينتين من طائرات F-15E و طائرات التورنيدو. مع طائرات تشويش على الرادار EF-111
4- غارة على بغداد و ضواحيها بطائرات الشبح (تنطلق من قاعدة خميس مشيط على البحر اﻷحمر). لضرب مركز الدفاع الجوي في النقيب و مرافق اخرى مثل مركز الاتصالات الدولي و مركز اتصالات الكرخ (10 قاذفات شبحية) و تم ايضا استهداف مركز الدفاع الجوي في التاجي. القنابل الليزرية المستخدمة تحتاج 10 ثوان من التوجيه من الطيار. و لكن كان هذا صعبا في بعض اﻷحيان بسبب المقاومة الشديدة من الدفاع الجوي العراقي الذي تم تنبيهه بالمكالمة اليتيمة من مركز الانذار المبكر.

ذكرنا حتى اﻷن 4 مكونات من ضربة الافتتاح. و بعد انتهاء الساعة اﻷولى كانت تبدو اﻷمور مشجعة للتحالف، فقد تم ضرب كل المواقع المطلوبة في الساعة اﻷولى (دون خسائر). كان هناك شكوك في دقة اصابة بعض طائرات الشبح و فيما كان تعطل الكهرباء في العراق ناتجا عن صواريخ التوماهوك ام ان العراقيين قرروا قطع الكهرباء بأنفسهم. و في نفس الوقت لا يزال العراق بوضع جيد و الخسائر طفيفة. فلم تنجح الضربة في اصابة اي من القيادات العراقية. و كل الاعطال و الاضرار (باستثناء رادارات الانذار المبكر) من الممكن تجاوزها. اﻷهم من ذلك ان شبكة الدفاع الجوي بقيت متماسكة و اظهرت بعضا من قدراتها في التحرش بطائرات الشبح لدرجة عدم القدرة على توجيه القذائف نحو الهدف. فوق ذلك لم يكن مطلوبا و لا متوقعا من الدفاع الجوي العراقي التعامل مع الطائرات الشبحية او صواريخ التوماهوك. بل المفروض ان يجلس و ينتظرالفريسة اﻷهم: طائرات العدو و قاذفاته التقليدية التي كانت في الطريق نحو المواجهة مع عودة طائرات الساعة اﻷولى. فكيف تم تدمير منظومة الدفاع الجوي العراقي خلال الساعات القادمة بما افقد العراق السيطرة الجوية بأبخس اﻷثمان؟ يتبع في الحلقة الثالثة.


-----------------------

 في الحلقة السابقة تم مناقشة فلسفة الهجوم الجوي الذي قرر التحالف شنه على العراق. و كيف ان الاستراتيجية هي التركيز على مفاصل الدولة و حرمان الجيش العراقي من التموين و ضرب مرافق الدولة قبل ضرب الجيش. و كيف ان ضربة الافتتاح اشتملت على ضرب محطة الرادار المبكر غرب العراق و عدة اهداف استراتيجية باستخدام صواريخ توماهوك و طائرات الشبح. و هذه الضربات بطبيعة الحال تمثل ما يقارب من شكة الدبوس لدولة كبيرة و جيش كبير كالجيش العراقي. و كان كل افراد الدفاع الجوي العراقي - و اﻷمريكي - ينظرون بمشاعر متضاربة نحو كم الطائرات الهائلة التي تبدو متجهة نحو العراق و الظاهرة على شاشات الطرفين! اسراب كاملة من طائرات F15 و F16 و F-18 و B52 و F111 و  A6 و  التورنيدو بمجموع الف طائرة في ذلك اليوم العصيب. تساندها 4 طائرات اﻷواكس و عشرات طائرات التزويد بالوقود الموجودة فوق الأراضي السعودية.

هذه "الارمادا" من الطائرات كانت تهدف الى:

1- ضرب المزيد من اﻷهداف الاستراتيجية.

2- اكتساح منظومة الدفاع الجوي العراقي.

3- صيد الطائرات المقاتلة العراقية التي قد تخرج لاعتراض الطائرات المغيرة (أوكلت هذه المهمة لطائرات  F15C التابعة للسرب 53 التكتيكي و تم منع طائرات البحرية اﻷمريكية من طراز F14 من المشاركة في هذه المهمة بسبب ضعف قدراتها على التمييز بين الطائرات الصديقة و العدو من مسافة بعيدة، و هو مثال من قصص كثيرة عن الاحتكاك بين افرع الجيش اﻷمريكي).

4- ضرب صواريخ سكود الموجودة غرب العراق و الغاء تهديدها لاسرائيل.

5- "زيارة" فرق الحرس الجمهوري المدرعة و ضربها.

و كما يعرف اي متابع، فهذه اكثر مراحل العمل الجوي حراجة: فشبكة الدفاع الجوي لا تزال متكاملة، و احتمال حصول الاخطاء من قبل القوات المغيرة كبير. و حتى العمليات العسكرية الناجحة مثل حرب 1967 للجانب الاسرائيلي و غزو النورماندي تم فيهما خسارات كبيرة في سلاح الجو في اليوم الأول (40 طائرة اسرائيلية و 117 طائرة لغير الحلفاء على الترتيب). و اي "مذبحة" لسلاح الجو قد تنعكس على المزاج الشعبي اﻷمريكي المتردد اصلا في خوض الحرب و قد تدفع شوارتزكوف لهجوم بري مبكر.

اضافة لذلك ان الغارة ليلية. و الطيران الليلي اخطر نسبيا من طيران النهار حتى في المراحل التدريبية. و تجد انه حتى في جيش متقدم كالجيش اﻷمريكي يكون هناك اقتصاد في التدريب الليلي. و نضيف لذلك ان الكثير من الطيارين (و بعضهم طار اكثر من 2000 ساعة) يخوض معركة بهذا الشكل ﻷول مرة. و كان الاتفاق ان يتم تقسيم السرب لنصف نهاري و نصف ليلي. و صارت مشكلة كبيرة كون السرب الليلي يعني ان تكون يقظا في الليل و تنام - و هنا المشكلة - في النهار وسط ضجيج القاعدة الجوية. و صار الطيارون يلجأون للعقاقير المنومة و المنشطة لدرجة ان طبيب السرب نبه القائد لهذا و تم منعها باﻷمر العسكري و مع تكثيف التدريب قبل الهجوم بدأت الاحتكاكات تزداد بين الطرفين.

و بالعودة للمعركة الجوية، فقد انتبه ضباط الرادر العراقيون لما يشبه السرب من الطائرات المغيرة على شاشة الرادار. و تم فتح رادارات التتابع - و التي تكون مقفلة خوفا من كشفها و استهدافها - من اجل اسقاط هذه الاهداف. و شعر العراقيون بالفرح عندما بدأت التقارير عن اسقط عدة اهداف بصواريخ السام بكفاءة ممتازة.

هذا الفرح و الاحتفال لم يطل طويلا، فقد تبين ان هذه الاهداف لم تكن طائرات، بل كانت درونات! فقد استخدم اﻷمريكيون طائرات بدون طيار من طراز BQM-74 و التي كانت مبرمجة لتطير اليا نحو بغداد و تزويد جسمها بعواكس تجعلها تبدو بحجم الطائرة على الرادار. و على مسافة 3 دقائق خلفها كانت 70 طائرة تطير و تنتظر ان يفتح العراقيون راداراتهم لاستهدافها مباشرة. و كانت هذه القوة تطير تحت الصمت الراداري حتى لا تنكشف الخطة باستثناء كلمة السر (ماغنوم) لاطلاق صواريخ الهارم (استخدم البريطانيون نظام اكثر تطورا اسمه ALARM). و باطلاق 200 صاروخ تم تعيينها على الرادارات العراقية بعد كشفها بهذا الشكل المخزي تم تحييد الدفاع الجوي العراقي الذي كلف المليارات و سنوات من التجهيز. و صار للعراق بطاريات سام و مضادات طائرات تعمل بشكل مستقل و منعزل مما اضعف الدفاع الجوي كثيرا.

المحزن في اﻷمر ان الاسرائيليين استخدموا نفس اﻷسلوب بالضبط عام 1982 لتدمير الدفاع الجوي السوري في البقاع. فكيف فات على العراقيين تعلم العبر من ذلك الهجوم؟ و حتى لو قلنا ان العداوة بين الطرفين منعت ان يرسل العراقيون وفدا للاطلاع  على دروس المواجهة (كما تفعل الجيوش المحترمة) الم يكن من الممكن تعلم هذه الدروس من الروس أو حتى من خلال الرصد و التجسس؟ فعلا امر محزن ان الدفاع الجوي لجيش عربي قوي تم تكسيحة للمرة الثالثة خلال ساعات في 25 عام. مرة لمصر و مرة لسوريا و مرة للعراق.

و لم تنته غارات تلك الليلة بعد، فبعد الهجوم اﻷول بطائرات الشبح (و الذي تم ايضا بصمت راداري كامل) اتت موجتان اخرتان: اﻷولى من 8 طائرات و الثانية من 12 طائرة. و الاهداف كانت مشابهة للضربة الشبحية اﻷولى: مقرات الدفاع الجوي و القواعد الجوي و المقر الرئاسي في ابو غريب و مواقع كيماوية و مخازن سلاح. و قد استخدم العراقيون المدفعية المضادة و الصواريخ بدون اي تقييد. و كانت تعبيرات الصدمة ظاهرة على وجوه طيارين الشبح و هم يطيرون بين الحياة و الموت بين نيران المدفعية المحيطة بهم من كل جانب دون ان تراهم (البصمة الرادراية للشبح قد تظهر على شاشة الرادار للحظات قبل ان تختفي) و كان من الصعب في هذه الظروف تأمين عشر ثوان من الطيران الثابت لتوجيه قنابل الليزر اﻷمر الذي جعل دقة اﻹصابة اقل من 50%. و لنا ان تخيل المشهد لو عرفنا ان كل طائرة في السرب عادت لقواعدها و هي تظن انها الوحيدة التي نجت في ذلك اليوم العصيب! لكن الحظ كان الى جانبهم و لم يخسر الامريكان اي طائرة شبحية في تلك الليلة. بل من الف غارة في ضربة الافتتاح فقد اﻷمريكيون طائرة واحدة فقط و كانت من طراز F18 ، نجح طيار Mig25 عراقي بالتسلل بين نطاق تغطية طائرتي اواكس (و كل طائرة ظنته يتبع قطاع الثانية و لمح اطلاق صاروخ هارم و تمكن من اصطياد الطائرة المطلقة. و هذه كانت اكبر فرصة للعراق في ايذاء العدو و قد ضاعت.

جاء بعدها دور ال B52. و كانت اول غارة لهذه الطائرة الفذة منذ حرب فيتنام. تم تكيفها بضرب 4 مطارات و قام البريطانيون بضرب مطاري الأسد و التقدم. البحرية الأمريكية ضربت منشأة تصليح للمقاتلات العراقية و قامت طائرات A-6 بضرب منشأة سكك الحديد في البصرة، و قامت قوات الجيش و البحرية و القوات الجوية السعودية بضرب مطار الشعيبة في الكويت (مجموع 38 طائرة) و قامت طائرات F111 بضرب مخازن الكيماوي قرب قاعدة ال H3 و سلمان باك و الديوانية. و تم ضرب ابراج التحكم في مطارات الجلبة و بلد في جنوب العراق و مطارات على سالم و احمد الجابر في الكويت.

طبعا الجانب اﻷمريكي واجه مشاكل كثيرة بدوره: قنابل لم تنطلق، طائرات عادت بسبب اعطال، نسبة اصابة ضعيفة بسبب المقاومة العراقية او اخطاء الطيارين. اخطاء الطيارين في التعامل مع الدفاع الجوي العراقي (اطلاق فلاشات التموية الحراري لتحييد الصواريخ العراقية بشكل خاطئ اصاب بعض الطياريين بالعمى لعشرة ثوان كاملة كادت فيه طائراتهم ان تسقط!).

و لكن هذا لم يغير الصورة كثيرا. مع اطلالة فجر 17 يونيو. كانت الحرب الجوية في حكم المحسومة و هي ثاني حرب يخسرها العرب في ضربة الافتتاح. و تبعات سوء التخطيط العراقي على المستوى العملياتي سوف يدفع ثمنها العراق جيشا و شعبا لخمسة اسابيع من القصف. من الرياض اتصل شوارتزكوف بكولين باول في واشنطن و قال له اﻷخبار الخارقة. و لكنه قال له: ننتظر رد الفعل العراقي. فماذا كان في جعبه العراق من سهام ليرد على الهجوم اﻷمريكي الكاسح؟ يتبع في الحلقة القادمة.


----------------------------------


حرب الخليج اﻷولى - العراق يتحدى

لمواجهة التهديد العراقي باستخدام صواريخ سكود، نشرت امريكا 132 قاذف باتريوت حول الرياض و حول مناطق اخرى حساسة. كل قاذف يحوي 4 صواريخ. واحد مخصص لاسقاط الطائرات (وهو ما كان الهدف اﻷصلي لتصميم الباتريوت) و ثلاثة صواريخ اكثر تعقيدا لضرب الصواريخ. دخل الباتريوت الخدمة على المسرح الأوروبي عام 1985، و كان استخدامه بدأ يتطور تدريجيا نحو اعتراض الصواريخ عندما بدأت الحرب مع العراق.

شرق السعودية كان اهم هدف هو مطار الظهران العسكري. و كانت المنطقة محمية بخمس بطاريات - كل واحدة تتحكم بأربع قاذفات باتريوت:
1- فوكس تروت في مدينة الجبيل
2- اكو في مطار الملك فهد
3- دلتا في ميناء الدمام
4- برافو و الفا في مطار الظهران
5- تشارلي في البحرين

كل الطواقم كانوا في غاية الاستعداد و التوتر في اول 24 ساعة. و لكن ساعات التحديق في شاشات الرادار لم تسفر عن شيء. فلم تشاهد اي طائرة عراقية أو صاروخ خارج الحدود العراقية. انقطع حبل الانتظار في الساعة 3 فجر يوم 18 يناير عندما دوت صافرات الانذار في القاعدة و تبعها اعلان برصد اطلاق صاروخ سكود في العراق و انذار الجميع بلبس واقي الكيماوي و بدء ترتيبات الاشتباك مع الهدف.

كان اسلوب الامريكان في رصد السكود العراقي ينتمي لحرب الفضاء، حيث تمركز قمران صناعيان فوق العراق و كل منهما مزود بتلسكوب يرصد الأشعة تحت الحمراء (المرتبطة بالحرارة). و بمجرد رصد الحرارة الكببرة من انطلاق صاروخ سكود، يرسل الساتل اشارة الى مركز الرصد في امريكا و الذي يرسلها اليا للرياض و البنتاغون. كان الملازم المناوب يعلم ان امامه 3-5 دقائق قبل وصول الهدف لشاشة الرادار امامه بسرعة اكبر من سرعة الصوت بعدة مرات.

مرت 3 دقائق، و بعدها 5 دقائق، و بعدها 10 دقائق، و لم يحصل شيء على شاشة الرادار. و تبين ان الصاروخ كان بعيدا ناحية الغرب و خارج مدى الرادرا الخاص بالبطارية الفا. تنفس الطاقم الصعداء و جلسوا بانتظار صافرة انتهاء الخطر.

بعد ساعة و نصف ضرب الانذار السكون في القاعدة و هذه المرة لم يطل الانتظار، ظهر الهدف و كان يتقدم نحوهم بسرعة رهيبة. كان النظام معدا للعمل بشكل اوتوماتيكي بمجرد ان يلتقط الحاسوب الاشارة و يحسب مسار الصاروخ المتوقع. بحلق الملازم بلوحة التحكم الصامتة! توتر امر الكتيبة و طلب من ضابط الاطلاق التحول الى النظام اليدوي و الاطلاق فورا. و لكن قبل ان ينفذ اﻷمر كان الباتريوت قد انطلق اليا. يكفي لمعرفة حجم الضجيج ان نتذكر ان الباتريوت يتسارع من صفر لسرعة الصوت قبل ان يمر كامل الصاروخ من الفوهة. كان من المفروض ان ينفجر الباتريوت بجانب السكود مطلقا 300 شظية بحجم مكعب الثلج، و كل مكعب ثلج يحمل طاقة تصادم تماثل سقوط سيارة على الارض من 90 طابق. و كان اي خطأ في الحساب كفيل يعدم تدمير السكود كاملا.

خلال ثوان اختفى السكود من على شاشة الرادار و افاد الحاسوب ان الهدف قد دمر على اﻷرجح. احتفل الطاقم بهذا النصر و منح الجيش الكتيبة شرف اول اسقاط للسكود في الحرب.... قبل ان يسحب هذا الشرف بعد عام! فما الذي جرى؟

الحيقيقة ان لا احد يعلم مالذي اصابه الباتريوت. فلم يعثر على حطام الصاروخ. و لكن وقتها كان الجميع مقتنعا بنجاح الباتريوت و اعلن شوارتزكوف يعدها بساعات عن اعتراض ناجح. و بدأ ما يسمى بلظاهرة السكود الشبح. حيث يظهر السكود على الرادار و يتم اطلاق صاروخ و يشير الحاسوب لاصابة و لكن بدون اي حطام.

لم يكن هذا هو اللغز الوحيد، فقد لاحظ الفنيون ان السكود العراقي:
1- اسرع من السكود السوفياتي بحوالي 40%. 
2- مقطعه الراداري اصغر
3- منحى سقوطه لولبي و ليس منحني بشكل قوس مثلما هو متوقع.
4- مقابل كل صاروخ واحد يكشفة القمر الصناعي، وجدت كتائب الدفاع الجوي عدة اشارات على الرادار و تم اطلاق صاروخ على كل منها.

كل هذا كان شأنا ثانويا احتاج عدة ايام من التفكير قبل الوصول لحل له، لكن كان هناك مشاكل اهم امام اﻷمريكان، فقد كان الانذار اﻷول - و الذي لم يرصد في السعودية - صحيحا، و كان الصاروخ المطلق نحو الغرب، باتجاه تل ابيب. فقد كان قرار صدام ان يرد الضربة اﻷمريكية بضرب اسرائيل، و التي لم يكن فيها باتريوت (عرض اﻷمريكان تزويد الاسرائيليين بباتريوت - بطواقم امريكية - قبل بدء الحرب لكن الصهاينى رفضوا).  كان نصيب تل ابيب في تلك الليلة 6 صواريخ و حيفا اثنان. بمجرد التقاط الاشارة كان الامريكان يحسبون المسار و يقدرون مكان السقوط و يتم ابلاغ الاسرائيليين لتبدأ صافرات الانذار هناك.

جلس المطبخ السياسي في قلق، و كانت اول التقارير تشير الى التقاط بقايا مواد تستخدم كسلاح كيماوي في احد مواقع السقوط، و ان عدد سيارات الاسعاف في تل ابيب كبير جدا. كان القلق الأمريكي ليس من تأثير الهجوم العراقي، فحتى ضربة كيماوية بالكاد ستقتل 10-100 مواطن بسبب صغر حجم الرأس الحربي و الترتيبات الاسرائيلية. لكن الذعر كان من قيام اسرائيل بعمل مضاد مما قد يحرج العرب و يخرجهم من التحالف. تم طلب تل ابيب من البيت الأبيض و كانت الرسالة التالية:
"الخط المطلوب مشغول، يرجى المحاولة في وقت لاحق". يتبع

---------------------------

مع طلوع صبح اليوم الثالث من الحرب كانت المشاعر في كلا المعسكرين متضاربة. فمن جهة نجحت الضربة الافتتاحية اﻷمريكية بشكل ممتاز، و من جهة اخرى كان الرد العراقي مهما و ساهم في رفع معنويات بغداد و حلفاءها و بشكل خاص الشعوب العربية. فبكل بساطة قام العراق بفعل ما لم يتم تخيله و ضرب اسرائيل و هو اول عمل على هذا المستوى منذ حرب 1973.

كانت قيمة الضربة الصاروخية العراقية من الناحية العسكرية: صفر. فصاروخ سكود مدى الخطأ في اصابته حوالي كيلومتر واحد! و الرأس الحربي لا يزيد عن الف كيلو. و حتى لو تم تركيب رأس كيماوي فلن يحدث اي شيء امام جيش يتدرب على الحرب الكيماوية منذ 100 عام و في صحراء مفتوحة.  أو على دولة جبهتها الداخلية مؤهلة للتعامل مع هكذا تحدي كإسرائيل.

لكن التداعيات الاستراتيجية و السياسية كانت مقلقة جدا لو لم يتم احتوائها. فنظرية الردع الاسرائيلية تستند على القدرة على نقل المعركة ﻷرض العرب بسرعة. و أن أي ضربة عربية يجب الرد عليها فورا و بقوة لاستعادة الردع. و لكن هذا الرد سوف يحول الحرب من حرب لتحرير الكويت من غزو العراق لحرب بين اسرائيل و امركيا من جهة و العراق من جهة اخرى مما قد يخلق تصدعات في التحالف الذي امضى بوش 5 اشهر في بناءه. و بالتالي كان المطبخ السياسي اﻷمريكي متفقا: يجب منع اسرائيل بأي شكل من ضرب العراق بشكل مباشر.

تم تحقيق الاتصال  تل ابيب بعد عدة دقائق و تبين ان التقارير عن هجوم كيماوي كانت خاطئة. و طلب اﻷمريكان من تل أبيب الهدوء و تم الاتصال بالقاهرة و دمشق و الرياض لتنسيق المواقف.

لكن اسرائيل ليست بمن تهدئها الكلمات، فخلال دقائق اظهرت شاشات البنتاغون صعود 60 طائرة مقاتلة اسرائيلية للسماء. و لم تعرف واشنطن ان هذه طلعة اغارة على العراق او انها مجرد طلعة دفاعية من غارات محتملة للطيران العراقي. و اتصلت واشنطن بتل أبيب مرة اخرى لتأكيد التهدئة. فكان ان رد وزير الدفاع الاسرائيلي (موشيه ارين) بأن طلب مسارات واضحة للطيران الاسرائيلي لضرب غرب العراق و التنسيق مع الجيش اﻷمريكي في ذلك.

شعر بعض اعضاء المطبخ السياسي اﻷمريكي انهم لن يستطيعوا ردع الاسرائيليين اكثر من ذلك. فقد كان شامير صادقا معهم عندنا تعهد بعدم ضرب العراق استباقيا في شهر ديسمبر. و من ناحية الخطط كان من الممكن ترك المنطقة غرب خط طول 42 مفتوحة للاسرائيليين ليضربوا العراق هناك بدون احتمال الاشتباك مع اﻷمريكان. اراد الأمريكيون المماطلة، فقالوا للاسرائيليين (مثل هذا العرض يحتاج موافقة الرئيس اﻷمريكي مباشرة) و ذلك بهدف كسب الوقت. و في نفس الوقت تم الاتصال بالقيادة العسكرية للتحالف في الرياض و تم حثهم على ايلاء موضوع الصواريخ العراقية اكبر اهتمام ممكن (كان رد فعل شوارزكوف ببساطة: و ايه يعني؟ ما الجيش بتاعنا بيتضرب كمان. قلهم يجمدوا شوية بقى!). و في نفس الوقت اشتعل جدال في المطبخ اﻷمريكي من مدى جدوى السماح لإسرائيل بالتدخل في الحرب. "مالذي ستقدر اسرائيل على فعله و لا تستطيع امريكا ان تفعله في العراق؟".

عندها ورد اتصال من شامير، و أكد له اﻷمريكان - كاذبين - انهم يفعلون كل ما في وسعهم لضرب الصواريخ العراقية. و طلبوا منه ان يتحلى بالصبر و ان لا يقع في فخ صدام. لم يعطي شامير اي وعود بل قال انه سوف يستشير الحكومة و يعود لهم. انتهى الاتصال و بعدها بدقيقة اراد الامريكان استثمار موقف شامير و اتصلوا بوزير الدفاع الاسرائيلي! و لاحظ هنا كيفية ادارة الصراع السياسي حتى بين الحلفاء. و يجب ان نذكر ان العلاقات بين امريكا و اسرائيل كانت سيئة جدا بسبب ضغط اﻷمريكان الشديد على الاسرائيليين للجلوس لمؤتمر السلام مع العرب (و هو ما حصل مرة اخرى بنجاح هذه المرة بعد الحرب). اما على المستوى اﻷمني و العسكري فكان التعاون جيدا و العلاقات ودية.

"نحن نشعر باﻷسف لما حصل. و لكن هذا طلب رسمي من جانبنا بعدم الرد" و لم يقبل حتى اقتراح الاسرائيليين بارسال قوات خاصة لغرب العراق لضرب الصواريخ. و بعد انهاء المكالمة، فكر الأمريكان انه ممكن ان يقترحوا على الاسرائيليين (لو فشلوا في اقناعهم بعدم ضرب العراق) بأن يضربوه بصاروخ اريحا بدل عمليات جوية او انزال قوات خاصة يجب ان تمر باﻷردن أو السعودية مماقد يسبب مشاكل كبيرة. على العموم بسبب الضربة غير الاسرائيليون سياستهم السابقة و وافقوا على طلب اطقم باتريوت امريكية و التي بدأ التحضير ﻷرسالها فورا. مع ابقاء طائراتهم في الجو و رفع حالة التأهب على الحدود مع لبنان و كذلك رفع حالة التأهب لأطقم السلاح النووي، للمرة الثالثة فقط في تاريخ الدولة العبربية. 

انتهت هذه الجولة الدبلوماسية بنجاح - حتى اﻷن و كان من حسن حظ التحالف ان الخسائر الاسرائيلية كانت قليلة لحد الدهشة: ابنية تكسر و اجهاتها، و مئات حالات الهلع و الصدمة و حقن النفس باﻷتروفين المضاد للهجوم الكيماوي. امور تافهة بمقاييس اي حرب. و جلس اعضاء المطبخ السياسي ينتظرون تطور اﻷحداث. و تم تقسيم العمل بين رجلين: تشيني يتفاهم مع الاسرائيليين و كولن باول يتفاهم مع شوارتزكوف حول موضوع صواريخ سكود العراقية.

  بقي سؤال واحد مهم: ما العمل لو قام العراق بالضرب باستخدام الكيماوي او - و هو اﻷخطر - السلاح الجرثومي؟ في الحلقة القادمة نناقش هذه التفاصيل و معطيات هذا الاحتمال امام صانع القرار اﻷمريكي.

------------------------------------------------

 تعرضنا سابقا للدفاع الجوي العراقي وقت افتتاح الحرب عام 1991. و في هذه المقالة المترجمة نعرض لتركيب الدفاع الجوي من ناحية السلاح و التركيب القيادي. المصدر اﻷصلي:
http://www.globalsecurity.org/military/world/iraq/air-defence.htm

كان رد العراق على التحديات اﻷمنية الجديدة المصاحبة للحرب مع ايران من الغرب (المشاغبات الجوية السورية و الضربة الأسرائيلية على مفاعل تموز) باعادة تنظيم القوات الدفاع الجوي العراقي و تحديثة لخلق قيادة موحدة قادرة على ادارة معركة الدفاع الجوي على مستوى القطر كاملا. كان مركز القيادة على المستوى الوطني (ADOC) هو المسؤول عن تقييم التحديات الجوية و ترتيب اولويات التصدي لها. و كان يتبع له 4-5 مراكز فرعية (SOC) و كان كل مركز مسؤول عن اقليم محدد و يتبع كل مركز اقليمي مراكز محلية (IOC) - يختلف عددها حسب طبيعة الاقليم و اهميته - و كل مركز محلي له امكانات متكاملة تشمل طائرات اعتراض و مختلف صنوف الصواريخ و المدافع المضادة و محطات الرادار. و قام الفرنسيون بربط امكانات الدفاع الجوي العراقي بالمراكز الفرعية و بالمركز الرئيسي بنظام حديث و محوسب و هو ما عرف باﻹسم KARI. و كان ربط الأنظمة العراقية المختلطة - صيني روسي فرنسي - يتم على مستوى من التداخل يكفل التغطية المتبادلة و ضمن منظومة C-2.

اكتمل نظام القيادة و التحكم عام 1987. و لم يتم معرفة مدى نجاح الفرنسيين في ربط اصناف السلاح المختلطة التي امتلكها العراق بسبب تدهور احوال القوات الجوية الايرانية في تلك الفترة من الحرب. و لكن كان يعتقد على نطاق واسع ان النظام الحديث قادر تماما على التعامل مع تهديد جوي اقليمي ﻷي من الدول المحيطة بالعراق بكفائة. خصوصا و أن اكبر حجم ﻷي تعرض من هذه الدول لن يزيد عن 50-100 طائرة.

كان من السهل على المخطط اﻷمريكي معرفة قدرات النظام العراقي في الدفاع الجوي. ففرنسا كانت عضوا في التحالف، و أمريكا كانت حتى 2-3 سنوات صديقا للعراق. و بالتالي كان اسهل حل هو تعريض النظام المعد لاعتراض عدد قليل من الطائرات لهجوم على مستوى 1000-3000 طلعة جوية في اليوم (رقم مهول حتى بمقاييس الحروب العالمية). و كانت نقطة الضعف الثانية للنظام الفرنسي هي التراتبية الشديدة. فالمعلومات يجب ان تمر من المراكز الفرعية للمراكز الاقليمية اولا قبل ان تصل المركز الوطني. و بالتالي كان تدمير المراكز الاقليمية ال 4 كافيا بشل النظام او تعطيله جزئيا. كل مركز اقليمي كان يضم
 كتائب رصد
بطاريات SA-2 و SA-3 ( مدى طويل و متوسط )
بطاريات مضاد طائرات
بطاريات رولاند
كتائب مضادة للتشويش

اما الفيالق العسكرية فكان عليها مسؤولية الدفاع الجوي عن قواتها و مقارها. و كان الامكانات التالية متاحة على مستوى الفرقة:
كتيبة مدفع م.ط عيار  57  مم متصل بالرادار.
كتائب م.ط عيار 37 مم للدفاع الجوي قصير المدى و الشيلكا.

 توزيع الدفاعات عن الفرق اختلف حسب مهام الفرق. و كان يشمل بطاريات  SA-7 و   SA-9 المتنقلة. و عشرات المدافع و صواريخ الكتف.

----------------------
في الحلقة السابقة توقفنا عند بداية ايام الضربة الجوية، العراق فشل في تحقيق اي خسائر بمستوى مزعج للقيادة المشتركة و خسر معركة السيطرة الجوية طوعا بابقاء معظم مقاتلاته مخبأة في تحصينات (درس تعلمه العرب من مصر) و قسرا بنجاح الخدعة اﻷمريكية في كشف رادارات الدفاع العراقي و تدميرها.

و في المقابل فشل اﻷمريكان في ايقاف التهديد العراقي بصواريخ سكود، و هذه الصواريخ قد لا تكون كبيرة التأثير على مستوى الرؤوس التقليدية. لكن ماذا لو استخدم العراق السلاح الكيماوي او الجرثومي؟ العراق طبعا لم يقم بهذا، لكن و ظيفة المخطط اﻷمريكي ان يدرس هذا لاحتمال و ان يتحوط له و نحن ممكن ان نتعلم كيفية تقدير اﻷمور العسكرية من دراسة فرضيات و سياقات التفكير الامريكي.

"عدم اليقين" هو الوصف اﻷمثل للسياسة اﻷمريكية في التعامل مع هذا الملف الحساس طوال فترة الحرب. فالكل يعرف ان العراق لديه مخزون ضخم من غاز الاعصاب و اسلحة كيميائية اخرى و كان لديه منشات كبيرة للتصنيع و التخزين (مثل الموجودة في مدينة المثنى) و كان لدى العراق خبرة في استخدام السلاح مع ايران. و صلت تقديرات المخابرات المركزية الى ان مخزون العراق يصل لحوالي 1000 طن. و تشمل القذائف و القنابل و ان قسم من هذا المخزون تم نقله على اﻷرجح للكويت.

و قبل بدء العمليات الحربية، كانت تقديرات الاستخبارات اﻷمريكية ان العراق غير قادر على تحميل صواريخ سكود بالعوامل الكيميائية. و استدلوا على ذلك من صور الاقمار الصناعية لمواقع تجريب الصواريخ. الا انهم غيروا هذا التقدير بمجرد بدء الحرب و قالوا ان العراق "من الممكن" ان يكون قادرا على ذلك. مما جعل قادة الجيوش يغضبون على هذا التراجع الذي لا يهدف الا اكثر من تأمين الوكالة من اي مساءلة فيما لو.

السؤال الاصعب للادارة الامريكية كان: ماذا سوف نرد لو اختار العراق الضرب بالكيماوي؟ تم عمل لجنة لدراسة الموضوع و كانت الخيارات التالية مطروحة:
1- تدمير 17 هدف - من بينها قصور رئاسية - كرد فعل انتقامي.
2- تدمير 3 سدود (2 على الفرات و واحد على دجلة) شمال بغداد مما سيسبب فيضان بعمق ربع الى نصف متر و يدمر البنية التحتية الصناعية للعراق.
3- اقترح شوارتزكوف ارسال رسالة للعراق بأن الرد على الكيماوي سيكون بالنووي (لم يكن هذا مطروحا على اﻷرض، لكن شواتزكوف قال ان العرب لا يفهمون الا لغة القوة و رسالة كهذه لن تضر).

اللجنة استقرت على انه من غير المقبول عدم الرد على اي استخدام عراقي لهذا السلاح، فهو سيفتح الباب لدول العالم الثالث بامتلاك الكيماوي كسلاح ردع رخيص ضد امريكا. و لكن اللجنة لم ترتح للرد على العراق بالنووي او حتى اغراق بغداد فهو قد يضعف موقف التحالف الاخلاقي. و لكن ماذا عسى ان تفعل المزيد من الضربات و انت تقصف كل يوم ب 3000 غارة؟ و كيف تفهم بغداد - بعد تدمير الكثير من وسائل الاتصال - ان الضربة اتت كرد فعل؟

عموما فقد مرت 3 اجيال من المحاربين منذ استخدام الالمان للسلاح الكيميائي ﻷول مرة في الحرب العالمية الاولى، و قد تطورت وسائل الوقاية للجنود لتصبح سترات كاملة واقية للجندي بشكل كامل. صحيح ان سرعة المقاتل تنخفض للنصف لكنه يبقى قادرا على القتال. الجيش اﻷمريكي و الناتو كان معتادا على تدريبات الحرب الكيميائية بسبب توقعها من جهة الاتحاد السوفياتي.

العامل الاخر المطمئن للحلفاء هو طبيعة السلاح الكيماوي نفسه: فلإشباع كيلومتر مربع واحد بغاز الخردل يحتاج العراقيون رياح مناسبة و الوقت الكافي لايصال 150 قذيفة لتلك المنطقة. و حتى لو حصل ذلك، ففي صحراء مفتوحة من السهل ابعاد القوات هذه المسافة.

و كما نجح الحلفاء في ردع المانيا النازية عن استخدام السلاح الكيماوي، تمت حملة اعلامية مكثفة تضمنت نشر صور تجهيز قوات الحلفاء للحرب الكيماوية، و كذلك حذر بيكر طارق عزيز في لقائهم الشهير من نتائج هذا الامر و انه العواقب ستمس حزب البعث خصوصا. و المح تشيني الى انه سيتفهم ان ترد اسرائيل بالنووي لو تم ضربها بالكيماوي. و لكن للتاريخ، لم يكن هناك تصور امريكي واضح للرد على احتمال سلوك العراق هذا المنعطف الخطير.

و هذا السؤال يطرح مرة اخرى، و بشكل اكثر خطورة بالنسبة للسلاح البيولوجي. و قت الغزو كانت التقديرات ترجح ان العراق ليس قادرا بعد على تصنيع بكتيريا الانثراكس و عنصر البوتولينيوم. و لكن خلال عدة اشهر راجعت و كالات الاستخبار تقديراتها و اشارت لوجود برنامج عراقي نشيط في المجال. و ما ان وصلنا لشهر اكتوبر 1990 ازداد مستوى التحذير الى ان برنامج العراق البيولوجي قادر على ضرب الحلفاء بمواد تسبب خسائر خلال 4 ساعات من ايصالها. و هو ما يعني انه عامل مؤثر في اي معركة.


سبب السلاح البيولوجي العراقي قلقا كبيرا للحلفاء. فسمية البوتولينيوم اكثر من غاز السارين ب ثلاثة مليون مرة!! و رأس سكود واحد يحمل هذا الغاز سيكون قادرا على تلويث 3700 كيلومتر مربع!! و ليس للغرب او الشرق اي خبرات عسكرية مع هذا السلاح في الحروب. و قد دمرت امريكا مخزونها من السلاح البيولوجي اواخر الستينات بعد خطا "بسيط" ادى لقتل 6000 رأس ماشية! و لم توجد اي معاهدات لحظر انتشار هذا السلاح.

حدد المخطط الامريكي 18 موقع محتمل للسلاح البيولوجي العراقي، من ضمنها مخازن حصينة. و يأتي سؤال عن امكانية ضرب هذه المرافق دون تدمير العراق بسلاحه! و كم درجة الحرارة اللازمة حتى يتم قتل البكتيريا. و ما هي المدة التي تبقى فيها المنطقة ملوثة بعد الضربة؟ و السؤال القانوني، من المسؤول عن الضحايا في هذه الحالة؟ و هل يؤدي تسمم انهار العراق لتسميم الخليج العربي؟ حتى اسئلة مثل كيف يتم التعامل مع جثث القتلى من الحلفاء لو تم ضربهم بهذا السلاح (معروف انه يشوه الجسم بشكل بشع و تبقى الجثث معدية) و قد اصر البريطانيون على عدم شحن الجثث اثناء الحرب حتى لا تضر بالمعنويات، و تم استئجار برادات لهذا الغرض.

6 اسابيع كاملة مرت في نقاشات حول التعامل مع السلاح البيولوجي العراقي. كان الاعتقاد ان حرارة 5500 درجة مؤي لمدة 3 ثوان ستكون كافية لقتل العامل البيولوجي. و بدأ التفكير في استعمال النووي التكتيكي لهذا الغرض. و لكن هل من المعقول استخدام سلاح دمار شامل لايقاف سلاح اخر؟ و تم عمل دراسات بقنابل الوقود قبل الحرب لدراسة مدى نجاعتها. كان هناك فكرة اخرى بمنع العراقيين من الوصول لمخازنهم بتلغيمها و بضربها بالقنابل العنقودية. و وصل اقتراح بضرب المستودعات قبل شروق الشمس - حيث الريح ساكنة - و حيث تكفي الاشعة الفوق البنفسجية بقتل 2% من البكتيريا كل دقيقة. و تم التركيز على ضرب المولدات الكهربائية القريبة لقطع التيار عن الثلاجات الحافظة، و سادت فكرة انه اذا عانى بعض سكان العراق من هذا فهو ذنب قيادتهم اولا و هو رادع جيد للعراقيين و غيرهم من عمل برنامج كهذا.

تبقى مسألة حماية قوات التحالف. فالعامل البيولوجي يحتاج لقاحات. و هذا كان موضوع شائك. فمخزون الجيش من لقاح الانثراكس محدود و كانت الصورة اسوأ بالنسبة للبوتولينيوم. و كان يتم انتاج اللقاحات من الاحصنة باصابتها بسلالة ضعيفة من البكتيريا، و بعدها بأقوى و هكذا حتى يصبح الحصان قادر على تحمل الجرثوم العادي. و بعدها يتم السحب من دمه لعمل لقاحات. و لك ان تتخيل عزيزي القارئ ان كل لقاحات الجيش اﻷمريكي مصدرها حصانين! و من المستحيل على الحصانين - المحالان على المعاش - ان ينتجا امصال تكفي القوات اﻷمريكية. و طبعا طلب البريطانيون لقاحات لكل جنودهم و طلب الامير خالد بن سلطان لقاحات "للعائلة المالكة على اﻷقل" - حسب المصدر. اتصل شوارتزكوف بواشنطن للمشورة و قالوا له (دبر حالك و مالناش دعوة). و لم يعجب شوارتزكوف اقتراح الاركان ان يتم تطعيم القيادات الحساسة فأصدر امرين عسكريين:
1- تصرف اللقاحات فقط للقوات الاكثر عرضة للهجوم: و عليه حصل 8000 جندي على لقاح البوتولينيوم و حوالي 150 الف على لقاح الانثراكس.
2- شراء المزيد من الاحصنة لعمل لقاحات. و ببداية الحرب اصبح للجيش 100 حصان "ينزفون من اجل القضية".

هذه كانت استعدادات دول التحالف لخيار شمشون العراقي. و تأمل كيف ان اكثر جيوش العالم تقدما عادت لشراء الاحصنة بعد كل هذا الزمان لأغراض الحرب!

ملاحظة ختامية:
 بعد الحرب اكتشفت الامم المتحدة برنامج كبير للعراق في هذا المجال (اﻷسلحة الجرثومية) بدأ في 1986 في منطقة سلمان باك و لكنه لم يصل بعد لمرحلة التصنيع لسلاح فعال او لوسائل توصيله للعدو.

------------------------------------------------------------

ناقشنا في الحلقة السابقة خطورة احتمال لجوء العراق للخيار الكيماوي او البيولوجي، و ناقشنا تحليل الادارة الامريكية لقدرات العراق و تقديرها لنواياه، و احتياطاتها من هذا الخيار و الذي لم يشر اي طرف من الجانب العراقي ممن كتبوا او تحدثوا عن الحرب لوروده على قيادتها اثناء الحرب.

نعود الان للمشكلة الموجودة، و هي استهداف العراق لاسرائيل ببضعة صواريخ كل يوم، قلبت ليل الدولة العبرية لنهار، و ادخلتها في الحرب قسرا. و لك ان تتخيل شعور الاسرائيليين و هم يرون جيشهم العتيد "يحتفظ بحق الرد" يوما بعد يوم. و كان الجميع يعلم، و على رأسهم الادارة الأمريكية، ان صبر الحكومة الاسرائيلية على ما يحصل محدود. فبدأ العقل الأمريكي يفكر و يخطط بحلول لمشكلة القصف العراقي الصاروخي على المستويين الاستراتيجي و التكتيكي.

على المستوى الاستراتيجي تفتقت عقلية مستشار اﻷمن القومي و قتها (ديك تشيني) عن خطة ارسال قوات لاحتلال غرب العراق، و بالتحديد القطاع بين نقطتي ال H2 و ال H3. حيث:
1- سيمنع ذلك العراقيين من تهديد اسرائيل
2- يقطع عمليات التهريب التي تسرب للعراق بعض ما يحتاجه من مواد.
3- تشكل ورقة ضعط على العراق للخروج من الكويت

 لم يكن لتشيني اي خبرة عسكرية احترافية، حتى انه لم يخدم في فيتنام. لكنه كان قارئا نهما للتاريخ العسكري، و كان يسمع كل شاردة و واردة في الاجتماعات الحربية، و يحضر ضباطا كبارا ليعلموه اصول العمل العسكري و كان يملك اكبر مجموعة خرائط رأها اي عسكري في الجيش اﻷمريكي، و بالتالي جاء الاقتراح ممزوجا ببعض العلم العسكري. و لم يكن من السهل على الجيش اهمال مقترح مستشار اﻷمن القومي، و بالتالي تم دراسة الموضوع و تم ايجاد عدة عيوب في هذا الاقتراح:
1- انها لا تخدم الهدف الاساسي من الحرب "تحرير الكويت"
2- قد تعرض الحلفاء لاحراج سياسي فيما لو قال صدام: احتلال باحتلال، خذوا الشرق و لي الجنوب!

و تم افهام تشيني ان احتلال منطقة بهذه المساحة (100 * 200 كيلو متر مربع) سيتطلب فرقتين و سيكون كابوسا لوجستيا بدون مردود واضح، و قليلا قليلا اختفت الخطة عن الساحة. و لكن الرسالة وصلت لقيادة اﻷركان: حلوا هذا الموضوع بسرعة. فتم التخطيط لعملية قصف غرب العراق سيتحدث عن تبعاتها الاعلام كثيرا. غارة على نقطة ال H3 لاسكات الصواريخ الأرضية، و كان القرار ان تأتي الغارة من حاملة الطائرات سرقسطة (ساراغوسا) ليلة 17-18 يناير. ضمن اول اسبوع من الحرب. 

من بين طائرات الغارة كان سرب من طائرات ال  A-6 بقيادة الكابتن مينيث، صاحب ال 3500 ساعة طيران على هذا السرب، من ضمنها 1000 هبوط على حاملة الطائرات، وهو امر في غاية الصعوبة لدرجة ان الجميع يجزم ان معدل دقات قلب الطيار اثناء الهبوط الليلي على حاملة الطائرات يكون اعلى كثيرا من معدل تلك الدقات في اي معركة جوية.

كان الجو غير مشجع على الطيران فقد كان هناك اضطرابات جوية و عواصف وصلت لارتفاعات عالية في الجو. حتى ان التزود بالوقود من الجو كان اصعب من العادة.

اثناء الطيران بدأ الكابتن مينيث يتذكر تفاصيل العملية. كانت اول مفاجأة ان قائد العمليات لم يقيده بأي ارتفاع لتخطيط العملية، فقد كانت العادة ان يطلب قائد العمليات منهم ان يخططوا لقصف على ارتفاعات عالية لضمان اكبر فرصة في وجه الدفاعات الجوية. و لعدم وجود تقييد، و لضمان دقة الضرب، قرر مينيث ان يكون ارتفاع السرب بين 1 و 2 كم عن الأرض وقت القصف. و كان هناك مدرستان في خصوص القصف الجوي: مدرسة ترى ان تكون قريبا جدا من الارض و مدرسة ترى ان تكون بعيدا جدا و ان تعوض عن قلة الدقة بتكرار القصف. و كان المخطط اﻷمريكي يفضل الخيار الثاني، خصوصا بعد حرب فيتنام، حيث كانت 70% من خسائر الطيران من نيران م م ط التي لا تصيب غير الطائرات القريبة نسبيا. و كانت التعليمات بشكل عام ان تكون كل الطائرات على ارتفاع 4 كم على الاقل (باستثناء طائرات F111 و F15). و قد تدخل قائد العميات الجوية في اول يوم و طلب من قادة السرب تعديل الخطط و الالتزام بالارتفاع العالي، لكنه لم يعلق على خطط ذلك اليوم - و تبين انه انشغل عن مراجعة الخطة. و كانت فكرة مينيث ان يفاجئ العراقيين الليلة بهجوم منخفض الارتفاع و ان يتخلص من تهديد صاروخ ال SA-6 و هو اكثر ما كان يخيف الطيران اﻷمريكي من العتاد العراقي.

درس مينيث خارطة القاطع منذ شهور و حفظ تفاصيلها: قاعدة ال H3 تبعد عن الأردن حوالي 50 كم و توجد فيها ست بطاريات SA-6 (متوسط المدى) و بطاريتا رولاند (قصيرة المدى) و عدة بطاريات م م ط و بعض الطائرات المقاتلة. أما موقع ال H-2  فهو في شمال شرق هذه القاعدة و فيها 6 بطاريات رولاند و نفس كمية م م ط. و كانت حطة مينيث هي الموقع الاول و تم ترك الموقع الثاني لطائرات حاملة الطائرات كينيدي. كان سلاح الجو قد ضرب الصواريخ قبلها بيوم، و كانت مهمة طيران البحرية هي ضرب الهناجر و المستودعات اماكن التزويد و الوقود.

و صلت طائرة مينيث برفقة 3 طائرات بعد التزود بالوقود. و كانوا على ارتفاع منخفض جدا جدا. و بدأت المضادات العراقية بالعمل حتى قبل وصول الطائرات للهدف ب 25 كم! و سمع مينيث على الراديو ان طائرات الحاملة كينيدي فشلت في التزود بالوقود من الجو و عادوا ادراجهم دون قصف لكنه قرر الاستمرار في عمليته.

كما حصل في اول ليلة، كانت الدرونات تسبق سرب مينيث في محاولة لكشف الرادات العراقية للطائرات صائدة الرادارات، و انقسم السرب لقسمين كل اتجه نح القاعدة من جهة، و لكن كان موعد اﻷمريكان مع المفاجآت هذه المرة: فقد غطى العراقيون ارض القاعدة الجوية بالمشاعل التي اضاءت الطائرات المغيرة و كشفتها تماما بسبب ارتفاعها القريب! و ما نفع التشويش على الرادار اذا كان طاقم الدفاع الجوي يراك يعينه.

راوغ مينيث شلالات نيران م م ط و القى القنابل و هرب. و بعد دقيقة انتبه ان الطائرة الثانية معه اختفت، حيث تبين ان صاروخ رولاند استهدفها و انفجر قريبا منها مما اسقط الطائرة و تم اسر الطيارين. الطائرة الثالثة نجت و لكن الرابعة اصيبت و عادت بصعوبة لتهبط خلف الحدود مع السعودية. 

وصلت عدة تعليمات صارمة لتذكر حول الارتفاعات المسموحة للطائرات، و لكن الحقيقة ان الموضوع كان اقرب الحظ منه للخطأ. فالطائراتان المصابتان ضربتا بصواريخ و ليس م م ط. و كان من الممكن ان تصابا على اي ارتفاع او ان تضربا من طائرات العراق لو صدف ان كانت احداها هناك. و كان الاسقاط ايضا من نصيب طائرة F-15 ذهبت لتقصف البصرة، حيث كشفت نيران مصفاة بترول ضربت قبلها بساعات الطائرات المغيرة لأطقم الدفاع الجوي، لن يعرف اﻷمريكان مصير الطيارين حتى سلم العراق جثثهم بعد وقف اطلاق النار.

كان حظ اﻷمريكان - و البريطانيين - سيئا في الطيران المنخفض، و ادى نجاح العراق في هذه المواجهات لتغيير التكتيكات بشكل صعب مهمات تتطلب دقة شديدة مثل قصف منصات الصواريخ. و جولة اخرى تحسب للعراقيين في هذا الملف (شبه اليتيم) الايجابي لهم. و سنرى في الحلقة القادمة تطور التكتيكات الامريكية لحل المشكلة.

-----------------------------

مع استمرار صافرات الانذار تدوي في تل ابيب كل يوم، سواء كانت الانذارات حقيقية او وهمية، تزايد الضغط السياسي على الادارة الاسرائيلية، و بدوره ازداد الضغط السياسي الاسرائيلي على الادارة الامريكي، حتى صار ديك تشيني ينام في مقر العمليات، و ازداد الضغط السياسي على العسكريين الامريكيين، حتى صار كولن باول ينام في البينتاغون. و كان السؤال: كيف يستطيع العراقيون ادامة القصف الصاروخي و ما الحل؟

وزاد الطين بلة ضعف اللباقة السياسية للجنرال شوارتزكوف، حيث وصف الضربات العراقية بانها "عديمة الاهمية" و انه كان "سعيدا لرؤية العراقيين يقومون بالضربات حسب ما توقع بالضبط" وهو ما اثار المسؤليين السياسيين في امريكا و اسرائيل، حيث تسائل احدهم ان كان شواتزكوف سمع بكتابات كلاوزفيتز -المقررة على اي ضابط-  الذي وصف الحرب بانها امتداد للسياسة. و صار هناك نقاش حاد بين باول و شوارتزكوف حول اهمية ايلاء الموضوع اهمية اكبر بسبب محتواه السياسي و ليس لاي اثر عسكري ( فاول قنبلة ضربت بغداد كانت قدرتها التدميرية مساوية لعشرة صواريخ سكود). و رفض شوارتزكوف بشكل قطعية ادخال اي ضابط عمليات اسرائيلي لغرفة العمليات للمشاورة حول الاهداف التي يمكن ضربها من الجو.

و شكل التغيير في سلم الاولويات اثناء بداية العمليات الجوية عامل توتر للمخطط و المنفذ. و كان من المتوقع ان تزيد الاخطاء نتيجة لذلك. و قد شاهدنا قرصة قوية لطيران التحالف عندما حصل تساهل في موضوع الطيران على ارتفاع منخفض. و سوف نسرد تاليا عملية جوية اخرى لم تسر بالشكل المطلوب اول اسابيع الحرب.

في قاعدة الخرج الجوية في المملكة العربية السعودية كان سرب F-15 يحضر لعملية قصف مستودع ذخيرة داخل العراق.  و عند الثانية ظهرا بتوقيت الرياض، و قبل موعد الغارة بست ساعات، تم تغيير اهداف العملية الجوية. فقد اكتشفت المخابرات وجود اكبر مجمع عراقي لتحضير الصواريخ غرب العراق في مدينة القائم و كانت هناك احتمالات قوية بوجود تحضيرات عراقية لقصف اسرائيل الليلة.

من طلعاتهم السابقة اطلق الطيارون الامريكيون على مدينة القائم اسم "SAM's town" بسبب كثرة بطاريات السام في المدينة. و كانت الخطة ان يضرب السرب الاول المدينة الساعة العاشرة و بعدها يقصف السرب الثاني نفس المدينة بعدها بنصف ساعة.

كان الطيارون الأمريكيون في غاية الضيق من هذا التغيير المفاجئ في العملية. و رغم تفهم الدافع السياسي للعملية لكن هذا القرار لم يتح لهم اي مجال للتحضير الدقيق للعملية:
1- لم تتوافر معلومات كافية عن تفاصيل الدفاع الجوي حول مدينة القائم
2- لم يتم ارسال قائمة الاهداف و احداثياتها الا عندنا كان الطيارون على وشك صعود طائراتهم!
3- تم تغيير التوقيتات مرتين!

و كان اكثر الناس غضبا - بطبيعة الحال - هو قائد العملية (المقدم سكوت). و الذي فقد طيارين قبلها بيومين في البصرة (راجع الحلقة السابقة) و قال لقائد العمليات انه هذه الظروف هي بالضبط ما يخلق الفشل و المشاكل.

و بدأت المتاعب مع اول الطلعة الجوية، فقد كان الجو شمال السعودية سيئا جدا مما جعل التزود بالوقود جويا فوق منطقة عرعر تحديا كبيرا، و تبين ان طائرات F-4  التي طلبت من البحرين للاسناد لم تعلم بالمواقيت الجديدة و بدون هذه الطائرات المعدة لضرب رادارت العدو لم يكن مع طائرات الغارة اي حماية من الرادارات العراقية، و كان القرار ان تستمر الغارة بدون هذه الحماية.

و تستمر الأخبار السيئة بالورود، فقد ارسلت طائراتا التشويش على الرادار من طراز EF-111 و تحمل كل منها تجهيزات تشويش تزن 3 طن و بقدرات بث تصل الوف الواطات. و هذه العملية تتطلب مهارات من ضابط التشويش و تكون فعالة اكثر كلما كانت الطائرة اقرب للرادار. و بمجرد ان اتمت طائرات التشويش الدورة الثانية حول المدينة، خرجت لهم طائرة ميغ-25 و بدأت تقترب منهم بسرعة كبيرة. و اطلقت الميغ صاروخا على كل طائرة و لم يصب اي منهما. لكن الطائرتين انسحبتا من المنطقة و لم يكن سرب القصف يعلم انه ذاهب لقصف مدينة السام بدون اي تشويش!

اقترب تشكيل من 6 طائرات ف-15 من المدينة، و كانت التعليمات ان يكون القصف من فوق 6 كم على الأقل كارتفاع. و بدأت الدفاعات الجوية العراقية (مدافع م.ط) الضرب قبل وصول الطائرات ب 50 كم! و قبل الوصول لمسافة 10كم من المدينة بدأت أول بطاريات السام في الاطلاق. مرت اول 3 طائرات بسرعة و القت القنابل و اسرعت بالهرب، و لكن الطائرة الرابعة اصيبت بصاروخ و اسقطت و اسر الطياران و احدهم برتبة عقيد و اسمه ايبرلي بعد يومين من التخفي عن العراقيين.

على مل يبدو نجحت الضربة الجوية في ايقاف القصف العراقي في تلك الليلة، و ساعدت حقيقة سقوط الطائرة في اقناع الاسرائيليين ان الأمريكان جاديين فعلا في هذا الملف، و مع تكامل استعدادات الباتريوت الأمريكي الذي وصلت 6 بطاريات منه الى اسرائيل. افادت استطلاعات الرأي ان 80% من الاسرائيليين يؤيدون سياسة الحكومة في عدم الرد بشكل مباشر. و في نفس الوقت، سمح الامريكان لتل ابيب باختبار صاروخ اريحا في البحر المتوسط كنوع من الرسالة لصدام حسين.

مع بدأ التركيز على موضوع الصواريخ فيما يخص الحملة الجوية  و اكتمال شبكة الدفاع الجوي الامريكي حول اسرائيل كان هناك فريق من الجنرالات الامريكيين غير راض عن النتائج حتى الان. فالقصف الجوي عن ارتفاع كبير لا يسمح بدراسة تفاصيل العمليات العراقية و مدى تأثرها بالضربات الجوي. و شكل نجاح العراق في اتمام الاطلاق و المغادرة خلال 6 دقائق معضلة كبيرة لسلاح الجو للتحالف. فكان الحل هو ارسال قوات على الأرض. و تم عمل الدراسات الأولية في واشنطن - بدون علم هيئة الأركان - و بدأ رسم الخطوط العريضة ( القاعدة الرئيسية ستكون في عرعر) و ان الهدف الاساسي سيكون ضرب مناطق الاطلاق العراقية الثلاث في الغرب. أولها سيكون على طريق عمان بغداد و الثاني بجانب مدينة القائم و الثالث عند مدينة شاب الحيري(؟). و ستكون اهداف القوات هي ضرب منصات الاطلاق و قواعد الدعم و الاسناد.

------------------------------
من مميزات الشخصية الغربية بشكل عام، التركيز على الافكار اكثر من الافراد. و ينسحب هذا على النظم الادارية بدرجات متفاوتة، حيث يكون من المقبول ان يتكلم الصغير و الكبير موجود، او ان يتم مقاطعة المتكلم، او طرح اراء مخالفة تماما لما يريده من هو اعلى رتبة. و هو ما يخالف اساليب التربية الشرقية (مثل اليابان و كوريا) أو حتى المنطقة العربية. و تجد في الجيوش و المؤسسات الامنية الغربية قنوات لمناقشة الافكار حتى و ان لم يقتنع بها القائد، و ربما لتجاوزه ان لزم الأمر. و مثال ذلك قصة استخدام القوات البرية في البحث عن الصواريخ العراقية.

بدأ نقاش هذا الخيار بين لوائين في البنتاغون: اللواء واين داوننغ (مسؤول الوحدات الخاصة في قاعدة في ولاية نورث كارولينا) و اللواء كيلي: قائد العمليات الخاصة للاركان المشتركة. كان الموضوع حساسا لدرجة ان داوننغ لم يخبر رئيسه عن هذه الزيارة "الودية". تم طرح المعلومات الجديدة عن تقديرات استخبارية بوجود 3 نطاقات عراقية لاطلاق الصواريخ غرب العراق كما ذكرنا في الحلقة السابقة. و ان الحل الانسب هو التوغل بالقوات الخاصة للتحرش بتلك المناطق.

مبدأيا، كانت القوات الخاصة غير منشغلة بأي مهما محددة. فقد كان هناك خطة لتحرير موظفي السفارة اﻷمريكية المحاصرين في الكويت عن طريق القوات الخاصة، و جرى التدرب على الموضوع في صحراء نيفادا، و لكن شوارتزكوف كان مترددا في استفزاز بغداد لبدء القتال قبل الوقت المناسب له. و بالتالي بقيت الخطة بانتظار ساعة الصفر، و التي لم تأتي بسبب سماح العراق للموظفين بالخروج من السفارة و السفر ﻷمريكا في شهر ديسيمبر.

المشكلة اﻷكبر التي كانت تواجه مثل هذا النوع من العمليات هو الصراع الفكري بين الجيش التقليدي و القوات الخاصة. يؤمن الجنرالات بشكل عام ان الحرب لا تكسب بعمليات يقوم بها بعض الافراد الخارقين للعادة، بل انت تكسب الحرب عندما يكون "معدل" اداء قواتك افضل من اداء قوات عدوك على المدى الطويل. و كانت الصفعة التي تلقتها قوات الدلتا في عملية تحرير رهائن السفارة الايرانية مثال مفضل على خطورة هذا الاسلوب من العمل.

نضيف لذلك ان موضوع العمليات الخاصة برمته يقع تحت يد الجنرال كارل شتاينر Carl Stiner و الذي تصارع مع شوارتزكوف حول استخدام وسيلة العمل التقليدي منذ اول يوم من العلميات. و كان شوارتزكوف ينظر بتوجس من ان استخدام بضع مئات من الجنود داخل حدود العراق قبل بدء الحرب سيؤدي لمشاكل سياسية و عسكرية هو في غنى عنها. و بمجرد ان طرح شتاينر فكرة انشاء مقر عمليات في الرياض صار موضوعا في القائمة السوداء للجنرال شوارتزكوف، و من هنا كان قرار نائبة داوننغ ان يسير بهذا المشروع دون علم ستاينر خوفا من فيتو شوارتزكوف!

المشكلة الثانية كانت بريطانيا، فقد كانت قوات ال SAS موجودة في غرب العراق، حيث ان قائد الحملة البريطانيا كان قائدا للقوات الخاصة فيما سبق و كان من انصار اسلوب هذا العمل، و قد اقنع شوارتزكوف فيما ما فشل فيه شتاينر! ادخال بعض الوحدات لغرب العراق لاعمال التخريب و التشويش قبل بدء الحرب الجوية بيومين. و كانت فكرة ان شوارتزكوف سمح للقوات الخاصة البريطانية و منع قوات الدلتا سبة في نظر كل ضباط هذا التشكيل، لكن هذه القوات في النهاية تعتبر احتياطي خاص لغرفة العمليات التي يقودها شوارتزكوف.

و من ناحية اخرى، شكل احراج صواريخ العراق فرصة لمثل هذا المخطط ان يتجاوز تعسف شوارتزكوف. فقد اصبح الموضوع شاغل القيادتين السياسية و العسكرية للتحالف. و صارت التقارير تطلب كل ساعة عن حجم الغارات الجوية التي نفذت على الصواريخ العراقية و النتائج. عرضت الفكرة على كولن باول و رد "مثير للاهتمام لكن ليس بعد، مزيد من الدراسات". و لكن الحظ يتدخل هذه المرة، فقد نجح صاروخ عراقي في تجاوز الباتريوت و دمر 1700 شقة في ضاحية رامات غان في اسرائيل و قتل 3 بالصدمة القلبية و جرح حوالي 100.

و قد ابلغ دوننغ شتاين بالخطة التي طبخت من وراء ظهرة، و تجاوز شتاين عن هذه الطعنة و صار داعما للخطة في اوساط القرار. و بينما كان شوارتزكوف يقول للصحافة ان مسلحة غرب العراق كبيرة جدا و لا تستطيع وحدات القوات الخاصة عمل اي فارق، كان وراء الاكمة ما و رائها. و اضاف شوارتزكوف ان كل مواقع الاطلاق الثابتة تم معالجتها و تم ضرب 16 منصة متنقلة. و بينما كان الشق الاول المتعلقة بالمنصات الثابتة صحيحا، كان الشق الثاني لا يسنده غير تقارير طيارين مبالغة في التفاؤل. و رفضت استخبارات الجيش تأكيد تدمير اكثر من منصتين و رفضت المخابرات المركزية تأكيد اي تدمير للمنصات المتحركة!

كان هناك فرصة كبيرة للولايات المتحدة لدراسة الصواريخ العراقية في اثناء حرب العراق مع ايران. و يعرف الامريكيون ان صواريخ الحسين و صواريخ الحجارة(؟)  كانت اطول مدى من السكود و لكن بدون اي قدرات توجيهية بعد الاطلاق. المشكلة كانت في معرفة تفاصيل عمليات الاطلاق العراقية، و ما هو تسلسل القيادة و عدد المنصات. و كانت التقديرات بوجود 18منصة متنقلة، و تم رفع الرقم ل 36 بعد بدء الحرب بعد ان ادرك المحلول سهولة تصنيع منصة اطلاق متنقلة! و كان العراقيون ماهرون في تمويه الشاحنات لدرجة ان مفتشي الامم المتحدة لم يكونوا قادريين على التمييز بين المنصات الحقيقية و المزيفة دون الاقتراب لمسافة 20 متر على الأرض!

و بالتالي اختفت نبرة الثقة حيال هذا الموضوع، و بعد البدء ب 24 طائرة ف-15 لمواجهة المنصات المتحركة تم اضافة 24 طائرة ف-16 و 24 طائرة ا-10 بدون اي فائدة! و كان الطيار يشاهد الصاروخ يخترق الفضاء و لا يستطيع ان يجد من اطلقه قبل دقائق. و كانت قمة البؤس التخطيطي ان طلب من الطائرات المحلقة رمي قنبلة كل نصف ساعة على مواضع اطلاق محتملة لاخافة العراقيين! و بعدها تم اقتراح ان يتم توجيه 200 طائرة لقصف كل غرب العراق لثلاثة ايام و ملئه بالالغام. سأل شوارتزكوف: هل سيخفف هذا الضغط عن بغداد؟ الجواب كان نعم. هل سيقصر امد الحرب؟ الجواب كان لا. و تم رفض الاقتراح.


-----------------------------------

ارتأيت ان نتوقف قليلا لمناقشة مساهمة سلاح الجو البريطاني في هذه الحرب. السبب اﻷول هو كون بريطانيا ثاني اهم مساهم في الحرب. و السبب الثاني هو ان هذه المشاركة كانت متميزة على مستوى العمليات و فيها الكثير من العبر.

اثناء النقاش الحاد بين سلاح الجو الامريكي و طيران البحرية، كان قائد العمليات الجوية يقول دائما لأي طرف يعترض: اذا رأيت ان هذه المهمة اكبر من طاقتك، سوف اطلب من البريطان القيام بها. و فعلا، طوال الحرب الجوية، لم يعتذر البريطان عن اي طلب مهما صعب باستثناء حالتين. هذا الالتزام بالواجب صاحبه مشكلة كثرة الخسائر العسكرية في سلاح الجو الملكي في اول اسبوع من الحرب، و هو ما انعكس حراجا سياسيا للحكومة في لندن. فقد خسر الانجليز 5 طائرات تورنيدو (من اصل 45) اول اسبوع من الحرب، و تم خسارة افراد طواقمها العشرة قتلا او اسرا. و من ضمنهم كان قائد السرب Nigel Elsdon و عادت طائرتان بصعوبة بعد اصابتهما في الجو. ببساطة، كان سلاح الجو الامريكي عجيبا في حظه، و كان سلاح الجو البريطاني عجيبا في سوء حظه اول اسبوع.

احصائيا كانت الخسائر ضمن المتوقع، لكن المحرج كان ان نسبة الخسائر في التورنيدو هي الاعلى بين كل انواع الطائرات المشاركة في التحالف.

 هذا الاحراج العلني، كان لا يقارن بالاحراج السري عندما ترك قائد سرب خطط المعركة في سيارته في لندن اثناء نزهة و سرقت السيارة مع الخطط!! وجدت الشرطة السيارة و لكن بدون الحاسوب. و بعد عدة ايام تم ارسال الحاسوب بالبريد لمركز شرطة. ثم محاكمة العميد و تم تجريده من مسؤولياته. و قدر الخبراء ان خطط الحرب لم تسرب و استمرت على نفس الخطة.

في التدريب ركز الانجليز على الطيران على ارتفاع منخفض (50-70 متر) و كان تفسير الامريكان لذلك هو ان انظمة التشويش البريطانية ليست على مستوى الامريكية في محاربة السام.

في خطط الناتو لحرب محتملة مع الاتحاد السوفياتي، كانت مهمة البريطانيين هي قصف قواعد حلف وارسو كل 12-24 ساعة بقنابل JP-233 و كان التدريب على على القصف على ارتفاع منخفض. و يحسب للعراقيين انهم اشادوا مطاراتهم متحسبين من هكذا قصف، فالممرات كانت طويلة جدا، و كان هناك اكثر من مسار للهبوط و الاقلاع، و حتى ان بعض المطارات كان فيها مصانع لانتاج الخرسانة المسلحة لسرعة التصليح!

 كانت تقديرات الاستخبارات الحربية البريطانية ان العراق يتبع الاسلوب السوفياتي في الاغراق الصاروخي مقارنة بالمدفعية المضادة. و هو ما تبين خطأه اثناء الحرب. و المشكلة الثانية هو ان القنبلة 233 العتيدة لم يتم التدرب عليها كفاية في بريطانيا بسبب قصر الممرات الجوية هناك! و اختلاف الارضية الرملية في العراق عن الصخرية في بريطانيا.

و بدأ التعديل التكتيكي، اولا تم ارسال الطائرات لتقصف معا بدل من التسلسل (الامر الذي كان يكشفها و يعزلها امام الدفاع الجوي العراقي. و لكن الخسائر بقيت عالية، و لم يكن امام احد القادة البريطانيين الا ان يقول: كان حظنا سيئا للغاية، و لكن الحظ السيء لا يستمر للابد. و حتى ان اﻷمر اثر على اعصاب الطيارين (و قد ارسل احدهم لبريطانيا للعلاج بعد انهيار نفسي).

و بنهاية اليوم السادس، تم تغيير العمليات. فلا يوجد طيران عراقي معاد و بالتالي لا داع لعمل مهمات خطيرة لتعطيل المطارات. و تم رفع ارتفاع الطيران لمدى متوسط و استخدام قنابل "غبية" و لكن كانت الدقة سيئة جدا. و عندما اقترحت القيادة العودة لقنابل 233 صاح قادة الاسراب الجوية احتجاجا. و خسر البريطانيون تورنيدو واحدة بعد ذلك الاسبوع الصعب و لم يستمر الحظ السيء للابد.

و بقي لغز سلاح الجو العراقي قائما. اين يذهب العراق بقواته (800 طائرة من ضمنها 41 ميغ 29 و 75 ميراج). لماذا تنازل العراق عن السيادة الجوية بسهولة (مقابل 17 طائرة تحالف و 50 طائرة عراقية اسقطت)؟ هل يظن ان الحرب قصيرة؟ هل يريد ان يركز على الطيران الامريكي في تركيا (عدد طائرات اقل). و كان العراق قد امن 594 مخبأ حصين بسمك اكثر من متر و ابواب وزنها 40 طن و كانت حتى مؤمنة من الاغراق المائي.

و لوهلة قفز الامريكان لاستنتاج مهول حول سبب تحفظ العراق في استخدام سلاحه الجوى. عمليات انتحارية ضد اسرائيل او الرياض بعدة مئات من الطائرات. و قد اثار الاقتراح الرعب لدى الامريكان بسبب ما يمثله من هزيمة نفسية للغرب (مقابل خسارة عسكرية اكيدة للطيران المهاجم). و تم قبل الاولويات في الاستهداف الجوي ليعود الطيران العراقي كأولوية في "جدول الضرب". و هو عنوان العمليات الجوية للاسبوع التالي. 

--------------------------------------------------------------------------

بعد طول حيرة للامريكان من سبب تقييد العراق لطلعاته الجوية في الاسبوع الاول من الحرب، قفز الى ذهن مركز العمليات استنتاج - تبين في ما بعد عدم صوابه - من ان العراق قد يكون يحضر لعمل جوي كبير - انتحاري بطبعه - باستخدام السلاح الجوي لضرب معنويات حلف حفر الباطن. و انتقل التركيز على المستوى الاستراتيجي يوم 21 يناير 1991 الى ضرب الطيران الجوي العراقي في المرابض المحصنة. و انعكس هذا التوجه لخططت عملية - كما هي العادة - خلال 48 ساعة.

و كان سلاح الجو قام بعمل دراسات في صحراء نيوميكسيكو على الكيفية التي يجب عليها التعامل مع الدشم الحصينة. و خلال اول الغارات تعلم الطيارون ايضا ان قنابل ال 2000 رطل تستطيع ان تعمل دمارا جزئيا في التحصينات بشرط ان تضرب المربض بشكل عمودي دقيق. و الا فسوف تنزلق عن السطح بدون اي دمار حقيقي. اما ضرب الابواب فكان يحتاج مهارات تصويب عالية جدا. و بالتالي تم الاتفاق على ان يتم ضرب الملجأ بقنبلتين بينهما ثانية واحدة فقط. الأولى تشق الخرسانة و الثانية تدخل في نفس النقطة لتدمر الطائرة.

و قد فشل طياروا سلاح البحرية في تدمير المرابض العراقية بقنابلهم المضادة للتحصينات. و بالتالي طلبوا اعفائهم من هذا القصف و التركيز على قصف الطائرات العراقية المكشوفة.

و كان هناك اخفاق اخر بداية هذا النوع من الغارات بالنسبة لطائرات الشبح. حيث اوصت الاستخبارات العسكرية باستخدام القنابل من نوع GBU-10 بدلا من GBU-27. حيث تميزت الاولى بامكان اطلاقها من علو كبير بينما كانت قدرتها على الاختراق اقل. و قصفت 12 طائرة - كل واحدة بقنبلتين. مرابض قاعدة بلد. و عند دراسة الغارة لم يشاهد اي دخان بل فقط وميض الانفجار. مما دل على ان القنابل لم تخترق التحصينات. 

غضبت القيادة من هذا الاخفاق و تم تعديل القنابل لغارة قادمة على بلد خلال ايام. و على ما يبدو فقد استنتج العراقيون من الغارة الاولى ان تحصينات القاعدة اقوى من غيرها فدفعوا كمية كبيرة من الطائرات داخل كل المرابض. و حصلت الكارثة بتدمير اكثر من 375 مربض في تلك الليلة!

و خلال يومين من بدأ حملة الاسبوع الثاني ارسل العراقيون 20 مقاتلة الى ايران. و ارسلت ايران رسالة للتحالف ان هذه الطائرات لن تطير قبل نهاية الحرب. بل وصلت تقارير للأمريكان ان الايرانيين بدأو يطلون الطائرات على لون طيران الجمهورية الاسلامية!

معلومة: اول اسبوع من الحرب كانت نسبة اصابة طائرات 117 (التي تحمل ادق ذخيرة بين القوات الجوية) 100 اصابة من167 و كانت الاخطاء تتباين بين ميكانيكية، اخطاء طيار، او الجو السيء.


و في نهاية الاسبوع الاول من الحرب لم يفقد العراق اكثر من 2-3% من اليات الحرس الجمهوري، و كان التموين يسير على ما يرام للكويت. و بالتالي حذر باول من ان الحرب قد تستمر شهورا طويلة و ان العراق يراهن على صلابة الجبهة الداخلية الامريكية (كانت استطلاعات الرأي تشير الى شعبية 84% للرئيس بوش، و لكن بدأ الامريكان يشعرون بالملل من الحرب و ينتظرون النصر السريع).و بالتالي تم حسم الحرب الجوية، و بقي الان اسابيع من القصف على الاهداف العراقية الارضية و معركة الكف مقابل المخرز. و كم كان حكيما لو ان العراق خرج من الحرب في هذه اللحظة. حيث ان النتيجة كانت محسومة سلف لكنه سوف يوفر على الجيش و الشعب اسابيع المعاناة و يحافظ على مقدرات الدولة.

لكن العراق اراد استغلال النجاح التكتيكي لصواريخ سكود و ضاعف من حجم عملياته الصاروخية:
يوم 25 يناير 10 صواريخ
يوم 26 يناير 6 صواريخ

يوم 28 يناير ارسلت القيادة الاسرائيلية فريقا من 3 قادة (من بينهم باراك) للبنتاغون ليعرضوا - ﻷول مرة - تفاصيل خطط تدخلهم في العراق. حيث تجمع الخطة بين القصف الجوي و العمليات الخاصة. و مرة اخرى رفض تشيني تدخل الاسرائيليين لكنه اعجب بالخطة و نقلها للجيش لدراسة عمل مماثل. فردت القوات الخاصة انها بدأت بالفعل بعمل خطط كهذه (راجع الحلقات السابقة) و طلبوا من تشيني ان يحميهم من غضب شوارتزكوف لو لم يعجبه الامر. وازن تشيني و باول الأمر قبل الموافقة. فلم يريدوا ان يفرضوا على شواتزكوف قوات لا يريدها و لكنهم ارادوا افهامه انه ليس اللاعب الوحيد. و تمت الموافقة و سألوا قائد العمليات الخاصة (متى يمكنك التحرك) و كان الرد: فورا!

تأمل عزيزي القارئ سلاح المبادرة. حيث قامت القوات الخاصة بتحضير خططها لوحدها و عرضها على صاحب القرار بمجرد ان فتح الموضوع و كانوا جاهزين للتحرك فورا! اتصور ان هذه الثقافة غائبة تماما في البيئة العربية (بيئة انتظار الاوامر).

و على صعيد العمليات الجوية كان التحالف يقصف غرب العراق بحوالي 1200 غارة مخصصة فقط للسكود! و كان هناك 10 طائرات A-10 بشكل مستمر تراقب غرب العراق بالمناظير على امل التقاط اي اشارة. و لكن العراق ابدى كفائة تقنية عالية جدا في هذا الموضوع. و تفنن المهندسون في عمل صواريخ وهمية و وضعها وسط انابيب وقود لتشبة انفجار الصاروخ لو قصفت! و حتى تم توليد الحرارة بشكل صناعي لعمل اثر على اللواقط الحرارية.

و قد كشف السعوديون انهم مولوا دراسة مسحية قام بها العراق في نهاية الثمانينات على طول البلاد و عرضها. و تم البحث في كل ارشيف الجيش السعودي بحثا عن نسخ الخرائط بدون فائدة. فلم يجدوا اكثر من 4 خرائط تفصيلية لغرب العراق, و وجد الامريكان ان العراقيين يستخدمون يعض المناطق المرمزة في هذه الخارطة (كونها درست تفصيليا) في بعض الاطلاقات، و تم بالتالي التركيز عليها.

و درس الامريكان النشاط العراقي الراداري قبل اطلاق الصواريخ. حيث يحتاج العراقيون لبيانات الرياح لتعديل مسار الصواريخ و كذلك يجب التأكد من عدم وجود نشاط جوي معاد عند موقع الاطلاق. و رغم وجود رابط بين تشغيل الرادارات و الاطلاق، فقد كان من الصعب استخدام ذلك لتحديد موقع الهجوم. و فشلت محاولات الامريكان في التنصت على اللاسلكي العراقي، فقد كان في العراق شبكة اتصال ارضي متميزة و كان من الصعب قطع الخطوط و التنصت عليها مما مكن العراقيين من ابقاء الاتصال اللاسلكي ضمن الحدود الدنيا.

وصل قائد قوات الدلتا لمقابلة شوارتزكوف الذي قال له:
1- تذكر انك تعمل تحت امرتي هنا.
2- لو سمعت انك دخلت حدود العراق بنفسك فسوف تعفى من مهماتك فورا. لا نريد احراجا سياسيا او اعطاء العراقيين قائدا يعرف الكثير من المعلومات.

و ذهب القائد لعرعر للاشراف على عمليات البحث عن السكود على الأرض.

----------------

ذكرنا سابقا ان جهود التحالف المكثفة اول اسابيع الحرب الجوية كشفت ان العراق يطلق صواريخ السكود من 3 مناطق في غرب العراق. و قامت قوات SAS البريطانية بالتركيز على المنطقة الجنوبية محاولة دفع العراقيين الخروج منها للمنطقتين الاخريين و بالتالي تسهيل مهمة فريق الدلتا الامريكي.

و رغم التدريب العالي لقوات النخبة البريطانية، فقد كانت المهمة عسيرة جدا. كان عماد الوحدة 22 حوالي 250 مقاتل بنطلقون من الجوف في المملكة العربية السعودية. و بسبب قلة و سائل النقل بعيدة المدى و ضعف وسائل الرصد الليلي عند البريطانيين، فقد ارسلوا نحو اقرب مناطق السكود من الحدود. و قد سارت بعض القوات على الاقدام و بعضها باستخدام اللاندروفر المحملة بصواريخ ميلان و بعضهم باستخدام الدراجات النارية.

كان البدو مصدر قلق للبريطانيين، و كانت القاعدة ان البدو لو اكتشفوا وجود قوات النخبة، فاﻷرجح انهم سيبلغون العراقيين عنهم.

كان الجو ايضا في الصحراء العراقية مصدر تحد كبير. و خلال اول اسبوعين من الاختراق البريطاني مات جنديان من التجلد! احدهم سبح في نهر و الاخر اضطر لدخول الماء هربا من العراق. و قد اضطر افراد ال SAS لاشعال النار تحت الروفر حتى تشتغل! و عند نهاية الحرب ستكون خسائر الحرب 4 قتلى و 5 اسرى. و رغم المقاومة العراقية الشرسة، فقد بدأ العراقييون يخففون من استخدام الجيب الجنوبي.

كانت هذه المعطيات التي وصلت داونينغ. و كان التركيز على على عدة كيلومترات مربعة بين نقطتي ال H2 و H3. و كانت تمشط من 20-40 جندي ﻷسبوعين.  

كانت مهمة الجنود الاساسية هي الرصد، و بالاخص رصد القوات العراقية ليلا و طلب الضربات الجوية. و تحسبا من البدو، كان الامريكان يتجنبون المراعي الخضراء. و كلما اقتربنا من مدينة القائم اصبح غطاء الارض اكثر خضرة و بالتالي ازداد القلق من البدو. و ازدادت الحراسات العراقية و المواقع التي تستحق الضرب.

و قد اظهر العراقيون نشاطا كبيرا في مطاردة قوات الدلتا غرب العراق. و مرة اصيب احد جنوب النخبة و اشتعلت مطاردة لمسافة 70 كم قبل ان ينجح الامريكان في اخفاء اثرهم. و مرات كثيرة اضطرت طائرات اف-15 للتدخل لايقاف كارثة بعد سقوط الكوماندوز في كمائن عراقية.

بقي شوارتزكوف مشرفا على كل صغيرة و كبيرة للقوات الخاصة، و تم السماح بزيادة القوات لتصبح 800 جندي منهم 200 على ارض المعركة. كانت اكبر الخسائر هي بفعل حادث سقوط هيلوكبتر تحمل 7 بسبب عاصفة ثلجية قرب عر عر.

و كان تأكيد اي عملية ضرب للسكود صعبا جدا و محل مقاومة من الاستخبارات المركزية. و بدأ الامريكان القاء الالغام و الشراك لاجبار العراقيين على السير في طرق محددة ليتم ضربها هناك. و استمر السكود بالاطلاق و لكن بوتيرة اقل. و اخيرا اكدت الاستخبارات ان اطلاق السكود من المنصات المتحركة صار محصورا فقط في حزام بعرض 25 كم غرب القائم.

ازاء هذا النجاح ارادت الوحدات الخاصة الاخرى ان تشارك! و قدمت عشرات، بل مئات الطلبات من نخبة البحرية و الرينجرز و غيرهم لعمليات مثل تخريب الكابل الضوئي من بغداد للبصرة او ضرب خط قطارات موصل للقائم. و كان الرفض هو الجواب الغالب. ﻷن شواتزكوف لا يريد ازعاج العراقيين و استفزازهم قبل ان تجهز القوات البرية الغربية.

من العمليات التي وافق عليها شوارتزكوف، ارسال اجهزة ارسال للمقاومة الكويتية عن طريق الانزال البحري. و قد فشلت بسبب يقظة العراقيين. و كانت عملية اخرى مشتركة من الرينجرز و قوات خاصة بريطانية لقطع الكابل الضوئي بين بغداد و كربلاء (و لم يجدو الكابل).


---------------------------


مع بدء حملة مطاردة صواريخ السكود على الارض (من قبل القوات الخاصة) و من الجو (طائرات التحالف) و في الفضاء (صواريخ الباتريوت) في الاسبوع الثاني من الحرب، بدأت قوات التحالف تواجه مشكلة من نوع جديد. ففي يوم 22 يناير (خامس ايام الحرب) كان مخزون الامريكان من صاروخ باتريوت PAC-2 (المعدل لضرب الصواريخ الباليستية) 499 صاروخ. و كانت الشركة المصنعة تستطيع بناء 4 صواريخ جديدة كل 24 ساعة.

المشكلة كانت ان البطاريات ال 27 الموزعة بين الخليج العربي و اسرائيل كانت تطلق 10 صواريخ باتريوت على كل صاروخ عراقي! و على هذا المعدل سينتهي المخزون الامريكي من الباتريوت في الاسبوع الثالث من فبراير، موعد الحملة البرية.

و قد فهم المهندسون الامريكيون سبب ان السكود العراقي كان يظهر كبضعة صواريخ على شاشة الرادار - مما كان يستدعي الحاسوب ان يضرب صاروخين على كل اشارة. فلزيادة مدى صاروخ سكود السوفياتي، قام المهندسون العراقيون بتخفيف الحمولة المتفجرة و اطالة قسم المحرك بما يبدو انه لحام اجزاء اضافية في الصاروخ لحمل الوقود. و كان ضغط التسارع على بدن الصاروخ كفيلا بتكسير اللحام و انفصال بعض اجزاء الصاروخ اثناء الهبوط. ببساطة، كان اللحام السيء كفيلا لتصغير المقطع الراداري للصاروخ و تحويله لمجموعة صواريخ و قت الدخول، بما يشبه اخر ما توصلت اليه امريكا و روسيا في المجال. مع الفارق طبعا.


و كان من المفروض على الطاقم الامريكي ان يطلق صاروخين على كل صاروخ حسين ساقط (لرفع نسبة التدمير). و لكن الطواقم عندما كانت ترى عدة قطع من الصاروخ تطلق اثنين على كل قطعة. و كان الباتريوت لا يرسل بيانات المسير و نقطة الانفجار، و بالتالي كان من المستحيل التحقق من فعالية الصاروخ. و بدأ الاسرائيليون يشككون في فعالية الباتريوت. و لكن لم يجرؤ احد ان يقول للصحافة ان سلاح امريكا المدلل لم يكن الحل الكامل للمشكلة العراقية.

و يضاف لذلك ان الباتريوت كان يطلق احيانا بفعل التشويش الالكتروني عندما كانت البطارية متموضعة بجانب مطارات (مثلما هو الحال في اسرائيل). و قد حصلت اطلاقات غير مرغوبة بمجرد ان جرب طيارون حربيون اسرائيليين معدات تشويش طائراتهم! و في يوم 25 يناير، ارسل العراق 7 صواريخ حسين على اسرائيل، و صرف 31 باتريوت لصدها.

و لمواجهة الازمة، سافر نائب رئيس الاركان الامريكي لشركة رايثون يوم 26 يناير. و كانت التعليمات بسيطة: يجب خفض نسبة الباتريوت المطلقة امام كل سكود و زيادة الانتاج. و كان الرد بتطوير برنامج حاسوب لمقاومة الاشارات الكاذبة، و كذلك توجيه الطواقم لعدم ضرب المحرك و الاجزاء المتطايرة من الصاروخ (كونها كانت تلاحق الصاروخ بسرعة ابطأ). اما تسريع انتاج الصواريخ فكان مستحيلا. و قبل ان يعود للجبهة، مر نائب رئيس الاركان بمصانع السلاح و مصانع الاكفان. حيث تم تجهيز 16 الف كيس لبقايا الجنود للاحتياط. و تم ترتيب الخطط لتوثيق الجثمان (تصوير الاسنان بالاشعة و المقارنة بالسجلات) و الدفن بعد المراسم. و كان هناك قلق من انعكاس عمليات دفن واسعة على الروح المعنوية، فاعلنت منطقة المقابر منطقة مقفلة على الاعلام تحسبا.

كل الحلقات السابقة شملت مواجهات في العراق الكويت و بضعة مدن سعودية و في فلسطين المحتلة بفعل القصف و القصف المضاد. الحلقة التالية سيكون عنوانها المواجهة البرية، و اسم الموقع اكثر من كاف لتعريف المعركة: مدينة الخفجي السعودية. حيث كانت الجبهة هادئة اول اسبوعين من الحرب. و كان كل النشاط العسكري عبارة عن قصف اعلامي امريكي بالمكبرات الصوتية يدعو العراقيين للاستسلام، و يرد العراقيون عادة ببعض الرمايات.

----------------------------
معركة الخفجي:

ساحة المعركة:

الحدود الجنوبية الكويتية السعودية. و بالحديد الشريط الحدود المستقيم من البحر لغاية اقصى غرب الحدود (تسمى نقطة المراقبة 4، و فيها مركز قيادة القوة الحدودية مع 30 جندي امريكي و بعض افراد الجيش السعودي). قررت القيادة العراقية التقدم على محورين: جنوبي شمالي على الساحل لدخول مدينة الخفجي الحدودية، و شمالي جنوبي اقصى غرب الحدود لاحتلال النقطة 4.

انتشرت قوة من 1200 من المارينز لتغطية المنطقة كاملة حول النقطة 4 لتكون ستار حماية لفرقة المارينز الاولى المتمركزة في منطقة كبريت على بعد 50 كم جنوبا.

كانت مهمة القوات الامريكية مراقبة العراقيين و توجيه ضربات التحالف الجوية لو لزم الامر. و باستثناء حادث دهس قتل فيه 3 جنود من الطرف الامريكي، لم يشهد اول اسبوعين من الحرب الكثير. يوم 26 يناير بدأ العراقيون بالتشويش على اللاسلكي الامريكي، شمل التشويش موجات UHF , VHF و HF. و بالتالي انعزلت كتبيتي الحراسة باستثناء نظام SINCGARS الذي يقوم بتغيير ذبذبات الارسال بسرعة حتى لا يتم التشويش عليه. تم انذار القوات و حاول المقدم Cliff Myers الاتصال بالقيادة العليا بدون اي نجاح. و ماهي الا دقائق حتى نبهتهم وحدات اخرى الى حركة القوات العراقية على الجانب الكويتي. و تم تنبيه العقيد الى تقدم حوالي 50 اليه عراقية الى موقعه. و قام الخط الامامي - 7 جنود مع رشاشات و بضعة صواريخ TOW - بتحضير مواضع دفاعية و انتظروا العراقيين.

انتظر الامريكان حتى وصلت القافلة العراقية لمسافة 100 متر قبل بدء الاطلاق. تم اصابة دبابة T-55 و تعطل التقدم العراقي قليلا، و اطلق الخط الدفاعي الاول اشارة ضوئية للاستغاثة. لمح المقدم الاشارة من مركز القيادة و ارسل كامل السرية نحو الخط الدفاعي (كانت الاليات تبعد 5 كم غرب النقطة). و اصبح للامريكان 7 مدرعات مسلحة بتاو حراري مع مناظير ليلية و 13 مدرعة مسلحة برشاشات 25 مم بدون قدرات رؤية ليلية. و عليه تم ابقاء مدرعات الرشاشات في الخلف. و اطلق اول 3 صواريخ تاو بدون اي اصابات عراقية، بل ان الصاروخ الثالث ضرب مدرعة امريكية مواجهة للعراقيين و قتل 4 امريكان.



نتوقف لحظة لدراسة هذا التحرك العسكري العراقي:
 هدف التحرك: حسب كتاب (قبل ان يغادرنا التاريخ) للفريق الحمداني، فقد زار الرئيس صدام حسين الفيلق الثالث بقيادة اللواء صلاح عبود. و طلب منه شن هجوم بمستوى فرقة لاحتلال الخفجي لجر العدو للحرب البرية، و تم اختيار الفرقة الالية الخامسة بقيادة العميد ياسين المعيني و اسناد الفرقة المدرعة الاولى (العميد حسين زيدان) و الفرقة الالية الاولى (العميد حسين حسن) (مصادر اخرى تذكر انها كانت الفرقة الالية الثالثة).

و كانت هذه الفرق من افضل فرق الجيش العراقي، و شاركت بشكل مهم في سلسلة الهجمات في اخر سنتين من الحرب العراقية الايرانية. و كانت الخطة ان تتقدم الفرقة الالية على طول الحدود و تشتبك مع العدو بحثا عن نقطة ضعف. و الاشتباك مع القوات العربية المسؤولة عن الدفاع عن القاطع، و بينما تكون قوات المشاة بتثبيت القوات المدافعة، تقوم الفرقة الالية بالهجوم عليها من الجهة الغربية لحصر القوات المدافعة بين المشاة الالية العراقية شمالا و الفرقة المدرعة العراقية من الغرب و شاطيء البحر من الشمال. و بعدها يتم الانسحاب. 


و نتابع مع الهجوم العراقي الرئيسي، حيث تقع مدينة الخفجي جنوب الكويت بحوالي 10 كم، و كانت مدينة حدودية صغيرة يسكنها 15 الف نسمة. غادروها اول ايام الحرب بسبب القصف العراقيى. و كانت توجد قوة نخبة امريكيى عدد 20 للرصد و تحديد مواضع قصف الطيران. و تقع قوة اكبر على بعد 50 كم جنوبا. و امضى كلا الطرفين اول اسبوعين من الحرب بضرب الصواريخ و استدعاء الطيران و التحرش النيراني. و كانت اكبر ضربة جوية امريكية ادت لمقتل العشرات من الجنود العراقيين يوم 26 يناير.

بعدها بثلاثة ايام بدأ فريق الرصد يتابع نشاطا عراقيا مكثفا. و شملت الحركة - على غير العادة تحريك دبابات و شاحنات في وضح النهار في مساحة مشجرة تدعى غابات الوفرة. و تم استدعاء طائرات A-10 و طائرات الهاريير. و لا حظ الامريكان العراقيين كانوا حريصين على ازالة اي حطام مدمر عن الطرق الحدودي. و استسلم 3 جنود للامريكان و اخبروهم عند الاستجواب ان الضباط الكبار في الفرقة قد هربوا شمالا (و على الارجح كان الامر مدبرا لخداع الامريكان). و بالتالي استبعد الامريكان اي هجوم على المدى القريب.

عند المساء استمر الامريكان في الرصد بالمناظير الحرارية. و تم رصد تحرك اكثر من 100 عربة عراقية تتقدم تجاه الحدود. طلبت القوات الامريكية دعما جويا، لكن كل الطائرات المتوفرة كانت مشغولة بالتعامل مع الهجوم العراقي المموه من الجهة الغربية. و خلال ساعة عبرت طليعة القوات العراقية الحدود و انسحب الجنود الامريكان من الموقع. في موقع اخر مجاور استطاع الامريكان توجيه عدة غارات من طائرات الكوبرا المروحية قبل ان ينسحبوا بدورهم.

و توالت التحذيرات و الانسحابات من القوات الامريكي و القوات السعودية من النقاط الحدودية و شمال ووسط المدينة  و تم التجمع على حدودها الجنوبية عند محطة تحلية المياه التي تحوي برجا مرتفعا، حيث يمكن رصد الاربع طرق الرئيسية المؤدية للمدينة. و من الجدير بالذكر، ان الامريكان تركوا بعض معداتهم و خرائط عسكرية! و لم ينتبه العراقيون او لم يتح لهم الوقت لتفتيش المقار و الحصول على هذه المكاسب بدليل ان الامريكان وجدوا كل شيء على حاله عندما عادوا بعد بضعة ايام! و بعد تقدير حجم القوة العراقية تم الانسحاب لمدينة المشعاب جنوبا. لقد نجح العراق في احتلال مدينة الخفجي السعودية. الجدير بالذكر انه بقي للامريكان 12 جندي في المدينة (مجموعتين من 6 افراد) كانوا ينفذوا مهام اخرى و لم يتمكنوا من سماع تعليمات الانسحاب. و عندما اتضح الموقف كان القرار ان تبقى هذه القوات مختفية داخل المدينة و تقوم بتوجيه النيران بدل ان تنسحب معرضة نفسها للخطر.



من جهة الامريكان فقد كان هناك مفاجأة و حيرة و صدمة:
المفاجاة كانت من حسن التخطيط العراقية و من سرعة و حجم الهجوم، اضافة للمستوى العالي التكتيكي للقوات المهاجمة (وهذه شهادة تقدير للضباط في تلك الفرق).
الحيرة كانت من دوافع الهجوم العراقي، فمدينة الخفجي لا قيمة استراتيجية لها. و احتلالها لن يأتي بأكثر من فرقعة اعلامية لا تستحق التضحية بفرقة الية كاملة ستكون معرضة للتدمير بمجرد ان يبدأ طيران التحالف التعامل معها. و لكن هذا قد لا يتم قبل يوم او يومين، و بالتالي امام القوات الامريكية المدافعة مهمة التعامل مع القوات العراقية بمعركة ندية حتى ذلك الوقت، و اهم خطوات ذلك هو توقع مدى الهجوم العراقي، تحريك 3 فرق لاحتلال مدينة صغيرة ام ان العراق سوف يدخل اعمق للجنوب. و هنا نأتي للصدمة:
الصدمة تأتي عندما نعرف ان جنوب الخفجي تقع مدينة المشعاب التي تحوي ميناء مهم و مخازن للتزويد للامريكان و على عجل تم زرع 500 كغم من المتفجرات على الطريق بين الخفجي و المشعاب عند النقطة التي يمر فيها الطريق من مستنقعات لتعطيل حركة العراقيين لو ارادوا الهجوم. الخيار الثاني للعراقيين، و الاكثر قلقا للامريكان كان قاعدة كبريت العسكرية، فهي لا تبعد عن الحدود اكثر من 20 كم و فيها مستودعات هائلة للسلاح وضعها الجيش الامريكي للتحضير للعملية البرية. نعم عزيزي القاريء، لو عرف العراق بسر هذه القاعدة ( الغير محمية ضد اي هجوم) لتم احباط الهجوم الامريكي البري ﻷسابيع طويلة! و هو مثال على سوء تخطيط امريكي على مستوى العمليات اللوجستية، و برهان على ان اهم سلاح في الحرب هو المعلومة. يتبع

------------------




نتابع مع التقدم العراقي غربا:
النقطة 4 تم فيها ايقاف التقدم العراقي بفعل طيران التحالف و اصرار القوات الامريكي في تلك المنطقة على الدفاع. فبعد تقدير حجم القوة العراقية المهاجمة، تراجعت القوات الامريكي لترك مسافة 2 كم و محاولة تصيد الاليات العراقية الثقيلة المتقدمة. و قد استخدم المارينز تكتيكا جديدا. حيث ان مدرعاتهم التي تحمل التاو هي الوحيدة المجهزة بالمناظير الحرارية، و استخدمت المناظير لتوجيه الرشاشات الثقيلة لتضرب الدروع. و الرشاشات الثقيلة لم تكن قادرة على خرق الدرع العراقي، لكنها كانت كافية ان تترك علامة اشارية لطائرات A-10 لتعرف اين الدبابات العراقية! و تم اصطياد دبابتين عراقيتين بهذه الطريقة.

و مع اقتراب العراقيين اكثر، انسحبت القوات الامريكية الف متر اخرى و بدأت اطلاق التاو. و انسحب مرة اخرى لنفس المسافة و استخدم الرشاشات لتحديد اماكن الدروع العراقية، و لكن فشلت الطائرات الامريكية في اكتشاف الهدف مرتين. و هذه من مشاكل طائرة A-10 التي تملك نظام بدائي للمراقبة اثناء الليل، حيث يتم دراسة الهدف من خلال عدسة حرارية موجودة على صاروخ مافريك يكون ضمن حمولة الطائرة و هذه النظام لم يكن يميز بين الصديق و العدو. و كان هناك سرب واحد فقط من A10 مخصص للطيران بالليل لمثل هذا النوع من الدعم. و للتغلب على مشاكل الرؤية بالليل، كانت تعليمات قوات الدلتا باطلاق المشاعل الحرارية لكشف المنطقة امام الطائرة. و لكن بسبب نقص هذه المشاعل، لم يتم التدرب عليها بشكل كاف و تورد السجلات ان قوات الدلتا اطلقت مشعلا فوق القوات المدرعة الامريكية قبل ان يسارع افراد القوة في دفن ذلك المشعل. و الخطأ الاكبر كان حين توجه صاروخ مافريك - الخطأ كان حاسوبي - نحو مدرعة امريكية و دمرها و قتل 7 من المارينز. و اصيب قائد القوة بالرعب، فاصابة مدرعة من الخلف يعني ان العدو يطبق عليك الحصار. و بعد فحص الموقف تبين للنقيب ان موقف قواته سليم. و انسحب 1000 متر اخرى. الساعة الان منتصف الليل. و خلال 4 ساعات من القتال قتل 11 من المارينز كلهم بنيران صديقة. و بعد توقف بسيط استمر التقدم العراقي، ليواجه بغارات مكثفة من الكوبرا و A10 ادت لتدمير 4 دبابات بصواريخ تاو.

على الغرب من نقطة 4 استمر الهجوم العراقي 9 ساعات اخرى. و بعد تقدم تحت ستار الدخان و بهجوم مشترك من المشاة و الدرع العراقي تم احتلال نقطة 6. و لكن تم استدعاء الطيران و ضرب القوات هناك.

بحلول الصباح بدأ العراقيون ينسحبون من المراكز التي احتلوها و ارسل الامريكان المزيد من الغارات على اثر القوات المنسحبة.


الهجوم العراقي الشرقي:
استيقظ العالم على خبر احتلال العراق المدينة. و كان تقدير الامريكان ان عدد القوات هناك حوالي 600 جندي. و بالخطأ دخلت سيارتا نقل للجيش الامريكي للمدينة المحتلة و قد هرب طاقم الاولى، اما طاقم الثانية فقد اسر. و اشتبك السعوديون في النقطة 1 مع العراقيين قبل ان تعود القوة العراقية للكويت.

الان بدأت المناقشات حول الخطوة التالية. تقع مدينة الخفجي ضمن مسؤولية القوات العربية المشتركة. و قد كان هناك اقتراح ان تحاصر المدينة حتى تستسلم القوات العراقية، لكن وجود 12 جندي امريكي في المدينة عقد الموضوع. اوضح الامريكان للسعوديين ان الجنود في المدينة قادرين على اعطاء احداثيات مدفعية ليوم او اثنين. و قرر السعوديون الهجوم فورا.

في تلك الليلة تقدمت قوات سعودية و قطرية و امريكية نحو المدينة من الجنوب لجس نبض الدفاعات العراقية. و لكن الهجوم العربي كان عشوائيا حيث كانت تسير السيارات المسلحة في الشوارع و تطلق النار على كل شيء و كان رد العراقيين عشوائيا بالمثل، و لعدة ساعات كانت مدينة الخفجي اشبه بمدينة بيروت اثناء الحرب الاهلية. و عند الفجر عادت القوات العربي و انسحبت. كانت الخسائر العراقية طفيفة في ذلك اليوم، في غالبها من ضربات المدفعية التي وجهتها القوات الامريكية المحصورة، و التي لم تجرؤ على ترك مخابئها بسبب الضرب العشوائي اثناء الهجوم التحضيري.

و لكن الكارثة العراقية وقعت في الشمال، حيث ارسل قائد الفيلق اللواء 26 المدرع كقوات تعزيز لمدينة الخفجي. و رغم تحرك الرتل اثناء الليل الا ان الفارق كان ان السماء هذه المرة كانت مزدحمة بطائرات التحالف من مختلف الانواع تنتظر اي هدف للضرب و كانت المذبحة عندما اصابت قذيفة سعودية اول دبابة من اللواء اثناء مروره من حقل الغام عراقي (روى ضابط من اللواء للأمريكان عند اسره انه شارك مع اللواء في كل معاركه في الحرب مع ايران، ان خسائر اللواء في نصف ساعة من القصف الامريكي تجاوزت خسائره من كل تلك المعارك). حتى ان لهيب النار اصاب السعوديين بأربع خسائر من الضرب الامريكي الجوي (اتهم الامريكيون طائرة قطرية بهذا الخطأ) و كان للعراقيين فرصة للضرب ايضا. حيث تم اسقاط طائرة AC-130 امريكية مسلحة كانت تدور حول نقطة 8 بحثا عن صاروخ فروغ عراقي. طلب منهم قائد العملية الجوية الانسحاب قبل طلوع الفجر، و لكنهم ماطلوا قبل تنفيذ الامر. و اصاب الطائرة صاروخ سام عراقي و قتل في هذا الاسقاط 14 جندي امريكي. ادرك قائد الفيلق اللواء محمود ان اي تعزيز مدرع سيلاقي نفس مصير اللواء 26 و بالتالي اصدر اوامره بايقاف المرحلة الثانية من الهجوم العراقي للحفاظ على القوات.

طلع فجر يوم 31 يناير و قرر السعوديون الهجوم لاستعادة المدينة هذه المرة مع فشل العراقيين في تعزيز قواتهم في الليل. و تحسبا من وصول اي تعزيزات عراقية، قامت سرية قطرية بحراسة الطريق الشمالي مع اسناد امريكي مدفعي و جوي. و دافع العراقيون بعناد و كانت المعركة اشبة بمعركة الامس من حيث عشوائية الضرب. و في منتصف المعركة، توقف السعوديون للصلاة! و صاح الجنرال Boomer من قيادة المارينز، هل هذه هي القوات التي ستخترق الدفاع العراقي الجنوبي!

و استمر القتال، و اعترف الامريكان للسعوديين بالشجاعة المصحوبة بالضعف التكتيكي. و بدل تمشيط المدينة حيا حيا، كان الاندفاع السعودي مباشرة نحو قلب المدينة. و عند الوصول للثلث الجنوبي من المدينة، اصاب صاروخ عراقي مضاد للدروع هدفه و قتل 6 جنود سعوديين. و تمكن الامريكان المحاصرين من الانسحاب و مع نهاية النهار تم تحرير المدينة.

كانت خسائر العراقيين 30 قتيل و 466 اسير (منهم 30 جريح). و قتل 19 جندي سعودي و قطري و جرح 36 منهم. و قتل للامريكان 25 جندي (شامل المعارك في الغرب).

من الناحية الاستراتيجية - صرح شوارتزكوف - كانت احتلال الخفجي مثل قرصة البعوضة. و لكن كان هناك ارتياح لأداء السعوديين في المعركة، فرغم سوء التنفيذ، الا ان المقاتلين لم تنقصهم الشجاعة و الاصرار امام قوات عراقية متميزة في الخبرات و المستوى. و بناء عليه، اصر الامير خالد ان تلعب القوات العربية دورا اكبر في الهجوم البري المرتقب، و صار للعرب جبهة خاصة بدل الاكتفاء بالسير خلف الامريكان كخط تعزيز. و وافق شوارتزكوف، حيث يسمح له ذلك بتركيز المزيد من القوات في مقاطع مواجهة اهم، مثل القوات المكلفة بتحرير المطار الدولي في الكويت.

الاهم من ذلك، ان المعركة اوضحت المستوى الحقيقي للعراقيين. فالخطة الهجومية كانت جيدة جدا، و كان هناك اتقان للحشد الالي بدون ان يكتشف الحلفاء النوايا العراقية. لكن التنفيذ  الهجومي كان سيئا لقوات كانت بدون غطاء جوي، و كان يعيب على العراقيين عدم قدرتهم على المناورة بالنيران المدفعية حسب ظروف الحرب، و حتى اثناء الانسحاب، علق العراقييون في الخنادق و حقول الالغام التي عملوها بانفسهم. و قد قدر شوارتزكوف ان الفرقة الخامسة خسرت 80% من الياتها. و الملاحظة الاخيرة على العراقيين كانت افتقادهم القدرة على تدمير العدو تماما عند الاطباق عليه و الاشتباك معه. و هذه كانت الفرصة الوحيدة للوحدات العراقية ان تنجو من الضرب الجوي بسبب التحامها مع العدو. و كان التقدم العراقي بدون استكشاف لساحة المعركة، و عند اكتشاف قوات امامهم كان الهجوم بالتعرض المباشر بدون اي مناورة. و في البداية كان العراقيون يقاتلون بقوة، و لكن بمجرد ان يتبين ان المارينز لن ينسحبوا بسهولة لمجرد ان العراقيين يهاجمون بالدروع كانت الكتائب العراقية تنسحب (و قد تكون هذه هي تعليمات القيادة، بأن يتم جس النبض في الهجوم و التقدم فقط من مناطق الضعف). و هو ما يفسر قلة الخسائرة الامريكية بيد النيران العراقية. و نفس التقييم الضعيف يشمل القوات التي علقت في الخفجي، حيث ان الدفاع كان ثابت و ضعيف المناورة و كان من السهل تماما على العراقيين التعامل على الاقل مع الهجوم السعودي القطري الاول بمناورة التفاف بسيطة و هو ما لم يتم، و حتى دقة الاصابة النارية كانت ضعيفة.

كان تقييم قيادة الاركان الامريكية للحالة العامة للخصم العراقي بعد الهجوم مختلطا، منهم من قال هذا العدو سيقاتل حتى النهاية، و منهم من قال ان ضربة واحدة قوية سوف تحطم الجيش العراقي و تنتهي الحرب معها.

و كانت المعركة فرصة لتقييم مشاكل الحلفاء. الهجوم على الخفجي كان بمحاذاة الساحل، فمالذي منع السفينتين الامريكيتين (ميزوري) و (ويسكونسن) من ضرب العراقيين بالمدفعية من البحر؟ الجواب كان الالغام البحرية التي زرعها العراقيون و الفشل الامريكي في التعامل معها و كذلك الخوف من صواريخ ارض بحر الموجودة عن العراقيين. و كان هناك مشكلة الضربات الصديقة و الخسائر الكبيرة المرتبطة بها.

---------------

مع انتهاء معركة الخفجي، عاد الجنرالات الامريكيون للصراع حول الموارد العسكرية. و خصوصا سلاح الجو. فبينما لا تزال قيادة القوات الجوية تضغط نحو استمرار القصف الاستراتيجي لتركيع العراق بدون قتال بري، بدأت اصوات الجيش تطالب بالمزيد من الضربات على القوات العراقية المتوقع مواجهتها في الكويت. و بدأ شوارتزكوف يميل لهذا الرأي. فانخفضت الضربات الجوية الاستراتيجي لحوالي 250 طلعة في اليوم. و رغم هذا فقد اصبحت واضحا ان حرب الخليج هي حرب ترسيخ مبدأ كسب الحرب من السماء. فقد كان اداء طيران التحالف مبهرا حتى مع تحويل 3 اسراب لغرب العراق لتعطيل حملة العراق الصاروخية، و كذلك مع سوء الاحوال الجوية (حسب الحسابات الجوية، كان القادة يتوقعون ان يمنع الجو السيء 15% من الغارات من تحقيق مهامها. و لكن الجو رفع هذه النسبة لحوالي 40%). و صار العراقيون مجبرين على الحركة بالليل فقط. و انخفض مقدار المواد المنقولة للكويت كل يوم لحوالي 2000 طن بدلا من 20000 طن.

و من ناحية الضرب التكتيكي للقطاعات، فقد تم تقسيم الكويت لمربعات (50كم * 50 كم). و كل مربع تم تقسيمة ﻷربعة ارباع بالتساوي. و تم تخصيص مئات الطلعات كل يوم لهذا الغرض. و كان الجيش يطالب بضربات اكثر بينما كان سلاح الجو يشتكي ان الاهداف المحددة (قديمة) و تكون القطاعات العسكرية العراقية قد تحركت قبل وصول اوامر القصف. و قد طالب الطيارون باحداثيات بدقة تقاس بالامتار و باهداف منتقاة خلال 4 ساعات. و اشتكى الجيش من استحالة هذه الشروط. و عليه، من اصل 100 استهداف مطلوب من الجيش كل يوم، لم يصل اكثر من 10 -15 للطيارين. و لم يكن الجيش مرتاحا لموضوع المربعات. حيث انه يترك اختيار الاهداف للطيارين و ليس للجيش. و تمرد المارينز و ابقو طائرات F-18 خارج نطاق التخطيط الجوي و استعملوا طيرانهم لضرب اهداف تكتيكية في قطاعهم حصرا.

في بداية فبراير، و بعد ان اتضح ان الجيش العراقي لا يزال على مستوى جاهزية مرتفع، اشتكى قادة الجيوش لشوارتزكوف مباشرة. و بعد اجتماع عاصف قال شوارتزكوف: اي طلعة جوية لا تضرب الجيش العراقي يجب ان تكون مسببة و مبررة امامي. و انخفضت عليه الطلعات على الاهداف الاستراتيجية لحوالي 250 (بدل 500 كما اراد سلاح الجو). و وسط مناورات ضباط سلاح الجو في تنفيذ اوامر الجيش بالضرب على المستوى التكتيكي، تم قصف 30% من 3067 هدف تكتيكي طلب الجيش ضربه.

و كان هناك سبب اخر لتراجع حماس القيادة عن الضربات الاستراتيجية: الصورة الاعلامية. فقد كان الاعلام موجودا في بغداد و كان هذه اول حرب تبث على الهواء مباشرة. و قد حصلت عدة حوادث مثل مقتل 18 مدنيا في الكرادة عندما تم اعتراض صاروخ من اصل 6 ضربت معسكر الرشيد . و كان هناك نقاش حول ايقاف استخدام صاروخ توماهوك. فقد اطلقت البحرية 288 صاروخ (نصف المخزون) و كان معدل الاصابة حوالي 50%. و كان كل صاروخ يكلف 2 مليون دولار. و طلب شوارتزكوف من القيادة الجوية بعدم ضرب التوماهوك نهارا. و قالوا له، من المستحيل ارسال طائرات قتالية فوق العراق نهارا بسبب شدة احتمال الاسقاط. و تم الاتفاق على عدم ارسال اي صاروخ بدون موافقة شوارتزكوف بشكل مباشر. و انتهت فعليا مهمة صاروخ توماهوك في حرب الخليج بعد ان اثبت جدارته. و طوال الشهر القادم من الحرب، كان نهار العراق العاصمة العراقية خاليا من اي قصف. و في نهاية الحرب، ارسل العراق تقريرا ان خسائره البشرية من القصف كانت حوالي 2300 قتيل و 6000 جريح. و هو ما يتفق مع تقديرات الامريكان قبل بدء الحرب الجوية.

و كان تقليل الخسائر البشرية العراقية محل اهتمام من القيادة الامريكية لظروف الحرب و طبيعة التحالف. و قد كان هناك كتيب من 10 صفحات حول الاهداف التي يجب عدم قصفها كالمساجد و المدارس و غيرها. و للمقارنة: في غزو نورماندي كان هناك مدني واحد قتيل لكل 4 اطنان من القنابل التي رميت من الجو. في حرب فيتنام كانت النسبة واحد لكل 13 طن و في حرب الخليج كانت النسبة واحد لكل 38 طن. طبعا هذه الارقام لا تعني شيئا امام العائلات المفجوعة في النجف و الدور و الديوانية و الناصرية و البصرة حيث قتل المئات.

---------------------

كان توجه العراق بارسال طائراته المقاتلة لايران مفاجأة كبيرة للامريكان. حيث كان توقعهم ان العراق قد يرسل بعض مقاتلاته غربا نحو الاردن. اما ان يرسل العراق طائراته لايران، عدو الامس اللدود فكان هذا خارج كل الحسابات.

لايقاف هروب الطائرات العراقية، تم تخصيص 3 اسراب اف-15 في دوريات على مدار الساعة شرق العراق لمنع اي طائرة عراقية من الهرب. و كانت الدوريات تغطي 5 مسارات متوفعة لطائرات العراق الهاربة (سميت المسارات باسماء انثوية: كارول، شارلوت، الين، اميلي، سندي). و كان المسار سندي هو اكثر المسارات اهمية كونه يغطي المسار المباشر بين بغداد و ايران. و كان مغطي على مدار الساعة باربع طائرات اف-15 اول زوج يدور مسارا بقطر 50 كم و الزوج الثاني يتزود بالوقود من طائرات التزويد الجوي.

كان الروتين قاتلا للطيارين الامريكيين، فالعراقيين يفضلون الهرب بالنهار حيث من الصعب على الامريكيين الاشتباك فوق الدفاع الجوي العراقي و بالليل حين يملك الامريكان الميزة يبقي العراق طيرانه على الارض. و قد كسر الروتين حادث مميز عندما رصد الاواكس طائراتا ميغ-25 عراقية تندفعان بسرعه كبيرة نحو ايران على ارتفاع 1200 متر و بسرعة حوالي 1800 كم/ساعة. تحرك زوج F-15 نحو الهدفين و اطلق صاروخا سبارو. انحرفت طائرات الميغ شمالا بسرعة 2 ماخ و هربتا من الصاروخ بعد اطلاق صاروخين على الطرف الامريكي. ناورت الطائراتان و حاولت الطائرة الامريكية الثانية اطلاق 3 صواريخ و لكن لم تنطلق لعطل فني. و بالتالي انسحبت الطائرة الثانية و لحقتها الاولى بعد اطلاق صاروخ سبارو اخر لم يؤثر على الطائرات العراقية المنسحبة.

تابع قائد السرب (ضمن الزوج الثاني من F-15 الذي كان يتزود بالوقود من الجو) المعركة على شاشة الرادر، وقدر ان العراقيين لم يكونوا يريدون الهرب لايران هذه المرة، بل ارادو استدراج الامريكان لكمين. و بعد انتهاء الاشتباك، انسحب العراقيون شرقا نحو قاعدة التقدم في ضواحى بغداد. و قدر قائد السرب انه لو انطلق باقصى سرعة ممكنة فانه سيصل للطائرتين جنوب بغداد و قبل الوصول للقاعدة الجوية و قد يستطيع اسقاط تلك المقاتلات.

و بدأ السباق. و قد درس الامريكان تكتيكا عراقيا من ايام الحرب مع ايران، حين كان العراقيون يغرون الايرانيين بمطاردة مقاتلاتهم بينما تكون طائرة ميراج F1 جاهزة للانقضاض على الفريسة من الاسفل. و كان قائد السرب حريصا اشد الحرص من مثل هذا الفخ  و بقى مركزا على شاشة الرادار لدرجة انه لم ينتبه على الرياح التي تدفعه للشمال قليلا قليلا. و لم ينتبه لخطأه حتى نظر من النافذة ليجد نفسه في وسط بغداد! و ما هي الا لحظات حتى بدأت صافرات الانذار في الطائرة تعلن فتح رادارات سام 2 و سام 3. و لكن الصواريخ لم تطلق (ربما حرصا من العراقيين على طائرتي الميغ). و عاد قائد السرب لمطاردة الميغ التي اصبحت على ارتفاع منخفض للهبوط. اطلق صاروخا سبارو بدون فائدة. و اكمل قائد السرب المطاردة و اطلق صاروخا اخر على الطائرتين العراقيتان اللتا كادتا تلامسا ارض المطار و لكن بطء الطائرات العراقية شوش على الصاروخ و ضرب الارض. و نجا العراقيون من ذلك الاشتباك. في الاسبوع التالي اسقطت نفس الدورية 4 طائرات عراقية هاربة لايران. و توقف العراقيون عن التحليق الجو تماما بعد ان كانوا  يسيرون 20 دورية في اليوم و انتهت الحرب الجوية للطيارين العراقيين. بعد نجاحهم في تهريب حوالي 90 طائرة لعدو الامس ايران.

الجدير بالذكر ان المخطط الامريكي بقي لفترة طويلة قلقا من تسمح ايران للعراقين باخراج طائراتهم من ايران لعمل هجوم جوي شامل و انتحاري، و كان ممن هدأ مخاوفهم الامير بندر و كذلك التقارير ان الايرانيين بدأوا يدهنوا شعار طيارانهم على تلك الطائرات خلال ايام من وصولها.

المصدر:
R. Atkinson
 Crusade


------------------

لاحظ نابليون ان الجنرال لا يعلم اي شيء عن ارض المعركة على وجه اليقين. و لا يعلم بوضوح اين يوجد العدو، و لا يعلم اين توجد قواته بدقة. و هذا الكلام صحيح منذ ايام نابليون و ما قبلها و ما بعدها. حتى في اول حروب العصر الحديث: حرب الخليج. و كان من اصعب مشاكل الحرب على القيادة المشتركة، ان تعرف مواضع القوات العراقية و حجم الضرر الذي اصابها. و كان تقدير اضرار ساحة  المعركة   Battle Damage Assessment مصدر خلاف منذ سقوط اول قذيفة على العراق. 

و على سبيل المثال نذكر مؤتمر صحفي يوم 30 يناير، حيث اظهرت كاميرات مركبة على طائرات اف-15 صور اصابة شاحنات زعم وقتها انها حاملات صواريخ سكود عراقية. و قد ادعت القيادة المشتركة (بعد تأكيد المحليلين من هناك) ان تلك الغارة دمرت 7 ناقلات عراقية. 

شاهدت محللين المخابرات الامريكية المؤتمر مثل غيرهم. و قد صدموا من هذا التحليل. و قد كان رأيهم ان هذه ليست منصات متحركة، بل هي صهاريج بترول! و خلال دقائق تم الاتصال بشوارتزكوف الذي دخل في نوبه غضب في وجه المحللين الذين اقترفوا هذا الخطأ. و مرت هذه الاخطاء مثل غيرها. لكن الكل كان يعرف ان اهم قرار امام شوارتزكوف: متى نوقف القصف الجوي و نبدأ الحملة البرية. يعتمد على معرفة قدرة العراقيين على القتال. 

تم تخصيص موارد هائلة لمسح ساحة المعركة. حيث استخدمت 23 نوع طائرة تجسس. من بينها طائرات U-2 الشهيرة. و فوق هذا تم استخدام 6 اقمار صناعية كانت تستخدم الكاميرات بكل انواعها. و كان من بينها ساتل keyhole القادر على رصد اجسام بعرض ربع متر! و من بينها Lacrosse القادر على رصد الدبابات حتى في اليوم الغائم اعتمادا على تقنية الرادار. و تخصص قمران اخران Magnum و Vortex بالتجسس على الاتصالات العراقية. 

و قد عمل مئات المحللين من القوة الجوية و البحرية على دراسة هذه الصور. و قد تجمع في نهاية الحرب طنين من هذه الصور و الوثائق! و كان حجم 2000-3000 غارة جوية كبيرا حتى على محللي الاستخبارات لدراسة كل ما نتج عنها. و كانت الغيوم ثقيلة بشكل غير متوقع في بعض الاحيان. و كانت بطاريات السام العراقية تمنع طائرات التجسس من التوغل فوق مناطق حساسة اول اسابيع الحرب، و في المحصلة كانت الاستخبارات متأخرة عن سير الحرب بيومين او ثلاثة. و هي فترة اكثر من كافية للعراقيين لتغيير الوضع على الارض. 

بخلاف القصف التقليدي، حيث يكون تقدير الضرر بكمية مخلفات الدمار، او بحجم الثقب في سقف المصنع او المنشأة. فان قنابل التوجيه الذكي قادرة على حرب المنشأة من الداخل بينما الثقب على السطح صغير جدا. و اضطر المحللون لكثير من التقدير، و احيانا مهاتفة الطيارين لسماع انطباعهم قبل تقرير ان كان الهدف يحتاج جولة اخرى. و بعد الكثير من الشد و الرد - لدرجة ان الجنرال Liede قائد العملية الاستخبارية شارف على الانهيار العصبي، تم تغيير نظام الرصد من تقدير الضرر الى تقدير مدى قدرة الوحدة على العمل. 

مثلا في فبراير تم تقدير ان المطارات العراقية بشكل منخفض نسبيا، لكنها كانت غير عاملة بسبب ان العراقيين توقفوا عن الطيران. و بنفس الاسلوب، كان التقدير ان صواريخ سكود عانت اضرار منخفضة على الارض، لكن العراقييون خففوا الاستخدام بسبب الضغط و بالتالي تم وضع تقدير انها غير عاملة. و قبل شوارتزكوف بهذا الحل. 

اما تقدير قوة الدرع العراقي فكانت مهمة مخابرات الجيش. و التي اعتمدت على تحليل الصور و الاتصالات العراقية. و قد اتضح فشل هذا الاسلوب مبكرا. فالعراقيين لك يستخدموا الراديو الا للضرورة القصوى. صور الفضاء كانت اما بعيدة بشكل غير جيد او مركزة على دبابة واحدة او قطعة مدفعية! و تم تغير الحال و الاعتماد على ارصاد طائرة U-2 و ارصاد الكاميرات التي تحملها المقاتلات. اول فبراير قدر الامريكان تدمير 476 حتى اليوم، و بعدها باسبوع رفع العدد ل 728. 

و بمرور الايام اصبح هناك خلاف كبير بين محللي الجيش و محللي المخابرات - الذين استخدموا كوسيلة تدقيق مستقلة و كانوا يرفعوا التقارير مباشرة للرئيس. و كان محلل المخابرات مضطر لاستخدام صور الاقمار الصناعية فقط بسبب تأخر وصول صور u-2 لعدة ايام. و بالتالي اختلفت تحليلات ال CIA عن تحليل الجيش الذي استخدم اضافة لذلك تقارير الطيارين و الجنود و الضباط العراقيين الاسرى. و كان الخلاف اكبر ما يمكن في موضوع الدروع و قطع المدفعية العراقية المدمرة. و ما ازدياد الغارات الجوية كان الفارق في تقديرات الطرفين يكبر لدرجة ان الجيش ادعى تدمير 4 اضعاف القطع التي قدرت المخابرات تدميرها. و ان كان هناك هوس عند الامريكان بعدد قتلى العدو في حرب فيتنام - بشكل غطى على الصورة العامة - انتقل الهوس في حرب الخليج لخسائر الدروع العراقية. 

اخر اختراعات الجنرال Lied كانت لوحة تمثل مسرح العمليات و عليها كل من ال 42 فرقة للجيش العراقي و الحرس الجمهوري. كل فرقة تمثل بورقة مع لون: الاخضر 75%-100% جهوزية. الاصفر 50%-75% جهوزية و الاحمر اقل من 50%. خلال ايام حفظ شوارتزكوف كل الخارطة و بدأ يطلب التركيز على وحدات معينة دون حتى التظر للخارطة. و قليلا قليلا بدأ اللون الاخضر ينحسر لمصلحة اللونين الاصفر و الاحمر.


--------------------------------------

ينسى الكثير من المتابعين لعاصفة الصحراء ان انزال المارينز من الشواطئ كان من الخيارات التي تم مناقشتها مرارا و تكرارا لدرجة ان المتابعين من كلا المعسكرين توقع حصوله. و حتى اول ايام الحرب كان الجميع ينظر لسواحل الكويت منظرا انزالا دراماتيكيا. و كان العراقيون مستعدين لهجوم من هذا النوع بل و يتمنوه بسبب صعوبة تنفيذة و ارتفاع احتمال الخسائر على الطرف المهاجم. و قد حضر العراق تحصينات جدية على سواحل الكويت و اسندها بالالغام و وضع 3 وحدات في المنطقة لدفع القوات المهاجمة لو اضطر الامر. و يمكن اعتبار عدم وقوع اي جهد رئيس من هذا المحور من المفاجئات الاستراتيجية التي اتى بها المخطط الامريكي.

كانت قوات البحرية موجودة و لكن كان هناك تعليمات صارمة بعدم تجاوز خط 50 كم جنوب حدود الكويت الجنوبية في العمليات حتى لا يتم استفزاز العراق لعمل ضربة استباقية و بدء الحرب قبل جهوزية الامريكان. و تم العمل على خطة (رمح الصحراء Desert Saber) لعمل انزال للمارينز على ميناء الشعيبية يتزامن مع الهجوم البري. و بعد ايام من الالحاح وافق شوراتزكوف على دراسة الخطة و ذهب بالمروحية ليجتمع بالقيادة البحرية على متن احدى حاملات الطائرات في الثاني من فبراير.

الاخبار التي عند البحرية لم تكن سارة على الاطلاق. فالانزال البحري يحتاج المعطيات التالي:
1- تنظيف ممر بحري من الخليج العربي للساحل الكويتي من الالغام
2- يجب حماية كاسحات الالغام البحرية عند العمل قرب ساحل الكويت مما يتطلب ضرب الساحل الكويتي من الجو بقوة و من مدافع السفن.
الخطوة الثاني تحتاج حوالي اسبوع بينما كسح الالغام بطلب 18 يوما!
 3- يجب ضرب الشاطئ مرة اخرى بالمدفعية لتليين الدفاعات العراقية التي قد تشكل مشكلة امام قوات الانزال و هو ما يحتاج 5 ايام اضافية.

اي ان البحرية تحتاج 28 يوما للتحضير قبل اول انزال على الشاطئ الكويتي. و بالتالي لو وافق شواتزكوف على العملية، سيحتاج ان يؤخر الهجوم البري لأول مارس. و هذا طبعا بفرض ان كسح الالغام سيتم بدون مشاكل.

بعد الحرب كان الرأي السائد ان الخاصرة الضعيفة للبحرية هي الالغام البحرية. فكاسحات الالغام كانت - حسب شوارتزكوف- قديمة، و بطيئة، و غير فعالة. و كانت مشاكل الامريكان في الموضوع تعود الا ان تقسيم الواجبات في الحرب القادمة مع روسيا ستكون ان ياتي الامريكان بالسفن الكبيرة اما باقي دول الناتو فمن واجبها التعامل مع الالغام. و كان هناك عدم اهتمام بما قد تشكله دولة من العالم الثالث من خطر في هذا المجال. و قد عبر اكثر من ضابط من دول صديقه عن قلقه من اسلوب ادارة الامريكان لهذا الموضوع.

كانت تقديرات المخابرات الامريكي ان العراق يملك بين الف و الفين لغم بحري. معظمها عبارة عن الغام تشتغل عند الاتصال معها - من مخلفات الحرب العالمية الاولى. و قد رصد العديد منها بعد ان جرفها التيار. و لكن كان هناك الغام تنفجر بتأثير الحقل المغناطيسي للسفن او حتى من صوت دوران المحرك في الماء. و لا يعرف احد اين زرع العراق هذه الالغام بسبب تشدد شوارتزكوف في عدم الدخول في المياه القريب من الحدود الكويتية لا بحرا و لا في الجو.

في مواجهة هذا، كان للبحرية كاسحتان الغام جدد مصممتان للمياه العميقة و 3 قوارب و 6 مروحيات. و لم يكن اي من هذه المرتبات قادر على كشف الغام على عمق اقل من 10 متر. و اضيف لذلك 5 كاسحات بريطانية، و 3 من بلجيكا و بضعة سفن من السعودية.

كان تنظيف المياه من الالغام يمر ب 3 مراحل.
1- تطير مروحية فوق القاطع و تجر معها ما يشبه الشفرة تحت سطح الماء لقطع اي اتصال للغم بالقاع و بالتالي يطفو و يسهل التعامل معه.
2- تطير مروحية بمصدر اشعة مغناطيسية و الصوتية تشبه الخارجة عن السفن لخداع اللغم لينفجر.
3- تقوم سفن الكسح بمسح المنطقة مرة اخرى لكشف اي لغم نجى من الاجراءات السابقة.

كانت العملية طويلة و النتائج غير مضمونة، حيث ان تغير حرارة المياه، و التيارات، و حتى ذكاء تصميمات الالغام تمنع الاجراءات السابقة من تفجير كل شيء. فبعض الالغام مبرمج ليسمح بمرور عدة سفن قبل ان ينفجر. و كانت حسابات البحرية ان مسحين على منطقة ملغومة بمساحة 50 كم مربع يكفي لجعل نسبة الامان 60% فقط.

و ليست هذه المشكلة الوحيدة التي ترافق الانزال البري. فالعراق يملك الكثير من صواريخ (دودة القز Silkworm) ارض بحر و صواريخ Exocet الجو بحر. و كان من غير المسبعد ارسال طائرات عراقية في مهمات انتحارية. و كان من المطلوب ضرب كل عمارة مرتفعة على الشاطىئ قبل عمل اي انزال و الا ستكون نسبة الخسائر المحتملة مرتفعة. و كان شواتزكوف من انصار مدرسة (تحرير الكويت دون تدمير الكويت). اضافة الا ان قصف مناطق قرب مصفاة الشعيبية - فيها محطة غاز - قد تؤدي لكارثة.

دار شوارتكوف يكرسيه و واجه مدير العمليات البرية Walter Boomer. و سأله السؤال المتوقع: هل تستطيع الهجوم برا بدون مساعدة الانزال البحري؟

صمت الجنرال لثلاثين ثانية كاملة قبل ان يجيب. كان يعتمد في ان فرقتي المارينز سوف يدخلون الكويت من الجنوب مع اسناد مدفعي و على الارض و لوجستي من البحرية. و ان 3 فرق للجيش العراقي ستكون مشغولة في التعامل مع ذلك الهجوم. و هو سيحتاج لمزيد من التموين بسبب عدم توفر الدعم من البحر قبل دخول الكويت. و لكن امام كل هذا كان لا يمكن ان يقبل تأخير الهجوم لعدة اسابيع بشكل قد يكشف المفاجأة. اضافة الا ان الهجوم فيه خطورة غير مبررة على القوات. و كان الجواب: نعم. و لكن بشرط ان تبقي البحرية ضغطها ووجودها على العراقيين ليبقوا يظنون ان الهجوم قادم من هناك. و لو كان هناك مشاكل في الهجوم البري ممكن فتح تلك الجبهة عند الضرورة.

كان هذا القرار صحيحا 100% من جانب شوارتزكوف. و هو يمثل جانبا مهما في القيادة احيانا (تجنب الخسائر غير الضرورية) احيانا في مقابل (قبول خسائر للهدف الاكبر). و في ضوء تطور الاحداث سوف يتأكد شوارتزكوف ان عدم وضع مصير الهجوم في يد كاسحات الالغام كان قرارا سليما. فقط كان مستواهم (و مدى سوء حظهم) اسوأ مما توقع.  


------------------------------------------------------------------------

بعد الاجابة على التفاصيل الاستراتيجية خلال الاسبوع الاول من فبراير، و التي حددت طبعة و محاور الهجوم الرئيسية على الكويت و جنوب العراق. حيث تم عمل تمويه بانزال بحري على شواطئ الكويت و ان محور الهجوم الرئيسي سيكون من الجنوب الكويتي نحو مدينة الكويت. و لكن الجهد الرئيسي سيكون من الغرب بالتقدم نحو الكويت و جنوب العراق لمحاولة حصار الجيش العراقي كاملا. و الذي كان تواجده في كل الكويت يخالف ابسط بديهيات التخطيط الدفاعي كما اشارت القيادة العسكرية العراقية مرارا و تكرارا.

نقول بعد ان تم وضع الخطوط العريضة، بدأ السباق مع الزمن في حسم ملايين التفاصيل الصغيرة لتحرك قوات بهذا الحجم و من جيوش مختلفة و تحت تحد لوجستي كبير. اسئلة مثل اين تتمركز القوة الفلانية و جدول التقدم و كيف نؤمنهم. و قد كان هناك جبهتان منفصلتان:

1- التقدم من جنوب الكويت شمالا اسند للمارينز و القوات العربية المشتركة. و كانت مهمة هذه القوات الهجوم الاسنادي، و لك يطلب منهم ان يقهروا حوالي 170 الف جندي عراقي و يجبروهم على الانسحاب. فقط تثبيتهم حتى تأتي القوة الضاربة من الغربي لحصار هذه القوات. و كان عدد قوات هذا المحور حوالي 70 الفا. و كانت نتيجة معركة الخفجي و الرصد الامريكي تشير الا ان الجيش العراقي بدأ يتفكك. و كانت قيادة المارينز (جنرال بومر Boomer) حريصة على اختيار محور هجوم يستغل اضعف نقطة في الدفاع العراقي. و تم تعديل محور الهجوم 5 مرات! و لم يتدخل شوارتزكوف في الموضوع رغم شكوى بعد قيادات الاركان من هذا التردد. و كانت اكبر مشاكل المارينز هي توجيه الفرقتين في الهجوم حتى يتقدمان معا بدون تغيرات و بدون تداخل يعيق الحركة. و تم دراسة اقتراح ان تتقدم فرقة واحدة من خاصرة الكويت نحو الشرق للسيطرة على مرتفعات الجهراء. لكن كثافة الدفاع العراقي في تلك المنطقة لم يكن مشجعا. و في النهاية تم اقرار الهجوم من الجنوب بالفرقتين. و ان يتم تقدم كلا الفرقتين من نفس نقطة الاختراق! و كان هذا خيارا مليء بالتحديات. فأن تقوم الفرقة الاولى بفتح ثغرة في حاجز الالغام العراقي و بعدها حاجز الاسلاك الشائكة و تدع الفرقة الثانية تتقدم قبلها (اي الهجوم ب 5 الاف الية بينما تتوقف بجانبها 5 الاف الية اخرى) قد يؤدي لازمة طرق طولها 50 كم. تحت نيران المدفعية و تخيل لو ان العراق ضرب بالكيماوي على تلك المنطقة. سوف تصبحة الثغرة مقبرة للقوات الامريكية. و بقي هذا مصدر قلق للمارينز حتى اتى اقتراح من العميد كيز keys. حيث وصلت معدات ازالة الغام من اسرائيل للسعودية الامر الذي يسمح بعمل ثغرة اخرى. و كان الاقتراح من ان تكون الثغرة 60 كم غرب الثغرة الاولى. عبر حقل ام غدير النفطي. حيث من المستحيل ان يتوقع العراقيون الهجوم من منشأة صناعية مليئة بالعوائق كلانابين و غير هذا و هو ما سيخفف القوة الضاربة للهجوم بتوزيع القوات. و صدم بومر من الاقتراح. و لكن العميد كان شخصا محل ثقة. و بعد يوم من التردد، وافق بومر على الخطة.

2- التقدم من الغرب الى الشرق نحو شمال الكويت و جنوب العراق. هناك تدخل شوارتزكوف يكل التفاصيل. و قد كان حجم القوات حوالي 255 الفا. و مرة اخرى تم توزيع الجهد على فيلقين: الفيلق 18 المجوقل يدخل شمال الكويت لقطع اي اسناد من بغداد. و الفيلق السابع - باسطول دباباته الكبير - كانت تعليماته تدمير الحرس الجمهوري و منع اي اسناد من الوصول للكويت حتى لا يتسنى للعراق عمل هجوم مضاد.

كان السؤال الاهم امام الاركان هو: اين يتوقف الهجوم الثاني؟ كان اول اقتراح هو قاعدة الجلبة جنوب الفرات. حيث تشرف على الطريق السريع رقم 8 و تقع حوالي 100 كم غرب البصرة. حيث ان النجاح في قطع هذا الطريق سيعزل العراقيين. و لكن شواتزكوف بقي يقدم نقطة التوقف في كل نسخة من الخطة حتى وجد المساعدين انفسهم يدرسون خريطة السماوة على بعد 150 كم غرب الجلبة. حيث تم عمل خطط لقطع 3 طريق تؤدي للمدينة و كذلك الهجوم على الناصرية القريبة منها. و الحقيقة لم يشرك شواتزكوف اركانه حول اسباب هذا التعديل. و كان الظن انه يريد ان يخيف بغداد بحجم التهديد حتى لا ترسل اي تعزيزات نحو الكويت.

و لكن مع كل تقديم لنقطة التوقف، يصبح سؤال التموين اكثر صعوبة. فالقوات تحتاج 15 مليون غالون في اليوم، ترسل عبر صهاريج مسافة 600 كم من ميناء الجبيل السعودي حتى قيادة الفيلق المجوقل و بعدها 200 كم اخرى للسماوة. اضافة لهذا فان ادخال الجيش الامريكي حرب شوارع في المدن العراقية و الخسائر المدنية المحتملة كان عاملا سلبيا اخرا. اخيرا تراجع شوارتزكوف و اعاد القوات لنقطة التوقف الاولى. خصوصا و ان القوات الامريكية كانت ستكون بعيدة جدا عن معركة الحرس الجمهوري لو تطلب الامر اسنادا.

 كانت حرب الصحراء امرا جديدا على هذا الجيل من القادة الامريكيين، و اصطحب الكثير منهم كتاب "اوراق رومل" و كتاب "جنرالات الصحراء" لدراسة طبيعة المعارك في هذا الظرف. و كانت الصحراء انسب كثيرا لجيش مرن متصل و صاحب سيطرة جوية و عقيدة تشجع على المرونة و المناورة في القتال. و كان التشبيه دائما بان قتال الصحراء هو اشبه بقتال البحار. و لكن كان هناك تحديات مثل الاجناب المكشوفة و كذلك صعوبة تعيين المدفعية. اضافة الا ان الدعم بالطعام و السلاح و الوقود يحسم الحروب الصحراوية. مثلا ابدع الانجليز في شمال افريقيا في هذا المجال عن طريق بناء سكة حديد و انبوب ماء خلف قواتهم. عامل اخر مهم في حرب الصحراء، الهزيمة قد تكون الاولى و الاخيرة. فلا يوجد ملاذ للجيوش المهزومة ان تهرب و تختبئ خلفها.

و لو كانت الحرب الصحراء تشبه حرب البحر، فقد كانت دبابة الابرامز هي خير سفينة للقوات الامريكية. حشد الامريكان حوالي 2000 دبابة على مسرح العمليات. هذا الوحش الذي يزن 67 طن مع مناظر حرارية تكشف فوق 3 كيلو و قدرة على الضرب من الحركة و بسرعة 50 كم في الساعة (و اكثر على الارض الصلبة). و كان مجموع الاليات المحشودة من الطرفين حوالي 10 الاف. و قارن هذا بالعلمين (الفين) و بمعركة كيرسك (8 الاف) لنجد ان حرب الخليج حطمت الرقم القياسي باكبر معركة اليات.

افضل الدبابات العراقية - T-72 - كانت تقل عن وزن الابرامز ب 20 طنا. و كانت قذيفتها غير قادرة على اختراق الدرع الامريكي الامامي (سماكة قدمين و زاوي 60 درجة) حتى من مسافة متر واحد!! و لكن مقتل الابرامز كان الوقود = 8 غالون لكل ميل! اي انها تحتاج اعادة تعبئة بعد 8 ساعات من العمل بحوالي 500 غالون! و كان القتال على اسلوب طور في بداية الثمانينات. حيث يجب على قائد القوة معرفة تحركات العدو ضمن عمق 150 كم و احباط اي نوايا هجومية له باستدعاء القوات الجوية و القوات الخاصة عند الضرورة و التركيز على المرونة و السرعة و المفاجأة. و كانت مصادفة ان اول تطبيق حقيقة لهذا الدرس سيكون في الصحراء، حيث الوضع المثالي لهذا الاسلوب.


------------------------------------

ننتقل الان مستوى اخر في القيادة و العمليات. حيث نناقش بعض جوانب حشد و تنظيم الفيلق السابع المدرع. اكبر فيلق شكل في الجيش الامريكي. كانت مهمة الفيلق بدأت تتمحور منذ بداية شهر نوفمبر بأن يقوم بتدمير الحرس الجمهوري، حتى يضمن عدم قدرة العراق على تهديد الخليج مرة اخرى. و لمحبي الحرس الجمهوري ان يشعروا بالفخر ان امريكا حشدت اكبر فيلق في تاريخ العمل العسكري لهذه المهمة: 146 الف مقاتل و 1400 دبابة. تحت قيادة الجنرال فرانكس Franks. و هو قائد هادئ الشخصية لدرجة توحي بالتردد و عدم الحزم احيانا و قد وصف احد المساعدين تردد رئيسه بقوله: لا يستطيع ان يقرر ان يبول في بنطاله لو كان مشتعلا! و قد بترت قدمة في حرب فيتنام. و كان من اشد المعجبين بالعقيدة القتالية الجديدة المعروفة باسم AirLand و التي تستفيد من تطور التقنيات العسكرية للجيش الامريكي.

في شهر ديسيمبر، كان اكبر شاغل للجنرال فرانكس هو نقس قواته من المانيا! نعم عزبزي القارئ، القوة الضاربة الامريكية لم تكن قد وصلت ارض المعركة بعد، و كأننا اما فريق رياضي قادم ليلعب مباراة على ارض الخصم قبل ان يعود. كان من المفروض ان يكتمل الحشد يوم 15 يناير، لكن الحرب بدأت و لا تزال الوف اطنان المعدات مبعثرة بين المانيا و السعودية. و حتى اول فبراير كان هناك بعض المعدات التي على الطريق.

و بينما كان الفيلق الثامن عشر المجوقل على اهبة الاستعداد للذهاب الى اي مكان في العالم بسرعة، لم يكن هذا بين خطط او تنظيم الفيلق السابع. فلم يكن الفيلق مستعدا لنقل اي قوات اكثر من كتيبة. و بدأ الجنرال صراعا مع الزمن لنقل 37000 قطعة معدات. حتى انه تم دراسة نقل المعدات عبر الاتحاد السوفياتي باستخدام القطارات نحو تركيا. و لكن اشار احدهم ان عيار سكك الحديد الروسية مختلف عنه في المانيا. و خلال اسابيع التنقل، استخدم الفيلق 465 قطار و 312 معدية و 578 طائرة و 140 سفينة للوصول للدمام.

امام تحدي نقل هذه الحجم من الاليات، و في المدة المحددة كانت المشاكل اللوجستية لا تنتهي. مثلا تحتاج الدبابات لنوع خاص من الناقلات (lowboy). و كل اوروبا تحتوي على 300 ناقلة فقط! و اضطر الامريكان لارسال سلال الطعام لمشرفي سكك الحديد لابقاء خطوط تحميل القطارات عاملة لما بعد الدوام الرسمي. و بعدها كانت مشكلة المناولة في الموانيء (3000 حاوية). و كان القرار ان يتم تعبئة و شحن الحاوية خلال 72 ساعة، حتى او اضطرت القوات الامريكي لشحن حاوية فارغة. مما يبقى التدفق ثابتا و يسرع العملية. هذا غير تعطل السفن في البحر. و بعدها الوصول للدمام و نقل الحاويات من خلال شاحنات (تم دراسة اقتراح مد سكك حديد و لكن لم يتم الموافقة عليه). و مرة اخرى كانت مشاكل تأمين الناقلات المناسبة و التي تم حلها بالاستئجار من دول مجاورة.

و لكن تم الانجاز، تم نقل قوات الفيلق بعدد دبابات يتجاوز الدبابات المشاركة في العلمين خلال 3 اشهر من المانيا الى السعودية. و جلس الجنرال الامريكي اما 3 خرائط لجنوب العراق، كل واحدة بمقياس رسم مختلف. و كان يمضي الساعات يحدق الخرائط و يمثل بيديه سيناريوهات المعركة المقبلة مع نخبة قوات العراق.غ

كانت توقعات المخابرات الامريكية ان يقوم العراقيون بمد خط الدفاع الاول (الالغام و الخندق) الذي عرف باسم خط صدام طوال حدود الكويت و بعدها غربا ب 150 كم عبر الحدود السعودية العراقية. و بعدها تبدأ الصحراء تشكل عائقا طبيعيا امام حركة الدبابات. و كانت الخطة الاولية هي تقدم الفرقة الاولى غرب وادي الباطن عبر الخط و التقدم مع الانجليز لمواجهة دبابات الجيش العراقي. بينما يكون محور اقتراب باقي الفيلق هو في شمال هذه الفرق داخل العراق و بعدها الدخول شرقا لمواجهة الحرس الجمهوري.

كانت القرارات كالتالي:
1- ارسال الفرقتين المدرعتين الامريكييتين: الاولى و الثالثة شمال شرق حتى منطقة البوسية و الانحراف غربا.
2- التقدم على جبهة ضيقة: 40كم. حيث فضل فرانكس ان يضرب بقبضة بدل ان يضرب بخمس اصابع.
3-  توقع فرانكس 3 معارك: مع مشاة الجيش العراقي عند الخط الاول، مع دروع الجيش العراقي القادمة لدعم المشاة، و اخيرا الحرب مع الحرس الجمهوري.
4- رفض فرانكس رفضا قاطعا اي اقتراحات من قيادة اركانه بأن يقوم بوقفة تعبوية بعد 150 كم من التقدم. حيث قال لاركانه: الفيلق هو مثل حاملة الطائرات، من الصعب ايقافه اذا تحرك، و من الصعب تحريكه اذا توقف. حيث اشارت اخر العاب الحرب ان القوات ستحتاج 24 ساعة لتعود لنفس زخمها. و كان موقف الجنرال قويا لدرجة ايقاف اي نقاش حول هذه النقطة. و لكن سيفتح الموضوع مرة اخرة عندما يضطر الجنرال لاتخاذ هذا القرار اثناء المعركة.

---------------------------------------------------------------------------


مع دخولنا شهر فبراير و اقتراب موعد الهجوم البري. كان هناك احباط في القيادة الجوية الامريكية من عدم فعالية سلاح الجو الامريكي ضد الدروع العراقية. التي كان يملك العراق منها الالوف. وقد كان احباط الامريكان من الاجراءات العراقية في تأمين الدبابات واضحا:

1- قام العراقيون يتغطية دروعهم باكياس الرمل، مما حجبها بشكل كامل من ارتفاع 3-4 كم، المدى المسموح به بالطيران لطائرات التحالف.
2- حتى لو رصدت الالية، فقد كانت في العادة موجودة في داخل مربض ارضي يحميها من كل الضربات باستثناء الاصابة المباشرة.

ازاء هذه المعطيات اجتمع قائد عمليات الجو مع العقيد Thomas Lennon. قائد السرب السادس لطائرات F111. خدم العقيد في حرب فيتنام و لكن لم يكن ذو شعبية كبيرة بين الطيارين. و قد كان معروفا عنه تبديل مهام الطيارين و فنيين الاسلحة باستمرار حين لا يعجبهم اداؤه. و كان يتعمد اشعال المنافسة بين الطيارين بوضع لوحة بعدد اصابات كل طيار في غرفة تخطيط العمليات! و لكنه لم يكن يخشى ان يواجه الرتب الاعلى حين يتطلب الامر دفاعا عن طياريه و رجاله. و يشهد له ان ولا طائرة من سربه قد سقطت. رغم ان حسابات الجيش كانت تتوقع 20% كنسبة خسائر.

في المحادثة تم استعراض الاسلحة التي ممكن استخدامها لضرب الدروع العراقية بشكل فعال. اول اقتراح كان قنابل CBU-87 العنقودية، لكن لينون رفضها على اساس انه لا يمكن توجيهها. و استقر الرأي على قنابل GBU-12 و هي قنبلة وزنها 250 كغم توجه بالليزر.

كانت طائرة F111 تعود لحرب فيتنام. و كان دورها كقاذفة و ليس كصائدة دبابات. و لكنها كانت مزودة بنظام كشف حراري اسمه Pave Tack. و لكن اثناء تدريبات الحرب، فشل النظام في تحديد مواقع اي من الدبابات الامريكية في الجبهة. و لكن قرروا اعادة التجربة مع الدرع العراقي هذه المرة. و كانت المفاجأة ان النظام اصبح فعالا! و كان السر هو انه قبل الهجوم كانت الدبابات التي حاولوا رصدها مبعثرة و كانت المحركات مطفأة. اما العراقيين فكانت حشودهم متقاربة و كان اطقم الدبابات يبقون الدبابة تعمل حتى في الليل. الامر الذي يكشفها للنظام. و حتى الرمل كان يمتص حرارة الشمس طوال النهار و في الليل يبدأ باشعاع الحرارة بمعدل مختلف عن بدن الدبابة المعدني. اضافة لذلك ان تقليب الرمل في الليل لحفر اي خندق جديد يعطي بصمة حرارة مختلفة بسبب برودة الطبقات السفلى من التربة.

و خلال اول طلعة على فرقة المدينة شمال الكويت تم تدمير 7 دبابات من اصل 8 قذائف اطلقت! و بدأ ما يشبة موسم الصيد للدبابات و المدرعات العراقية على يد طيران التحالف. و كانت تقارير الخسائر بالمئات كل يوم (رغم اعتراض المخابرات المركزية الامريكية على هذه الارقام). و كان هناك اتهام بان الطيارين يقصفون نفس الهدف اكثر من مرة، او ان قطعات من الجيش تحسب انها من الحرس الجمهوري. و قد قدرت القيادة الامريكيى انه تم تدمير 1400 دبابة من اصل 4280 و لكن المخابرات الامريكية اكدت تدمير 358 من هذه الدبابات فقط! و شعر شوارتزكوف بالغضب ان الرئيس الامريكي قد يتردد في قبول موعد الهجوم المقترح على اساس ان الجيش العراقي لا يزال قويا. و لكن كان مستشار الرئيس مستعدا لقبول خطة الهجوم بشرط واحد: ان تكون منطقية و سهلة بحيث يفهمها مدني مثله! و سافر كولن باول و ديك تشيني للرياض لسماع الملخص الاخير لاستعدادات القوات و خطط الهجوم.


----------------------------------------------------------------------------------------------------------

يوم 8 فبراير، سافر كولن باول و ديك تشيني و بول ولفويتز الى الرياض لحضور اجتماع مع كبار القيادات العسكري في الجيش لعرض تفاصيل الخطة النهائية. احب ان اشارك بعض المقتطفات من هذه الاجتماعات لنعرف جزءا من طريقة تفكير القيادة في المعركة القادمة:

1- لم تتأثر احكام مستشارين الرئيس بموضوع اختلاف ارقام المخابرات المركزية عن تقديرات الجيش من حجم الدروع العراقية التي دمرت. و اعطي الامر لتقدير رئاسة الاركان.
2- اوضح كولن باول لتشيني ان المدفعية العراقية (و هو صنف السلاح الوحيد الذي كان للعراقيين فيه تفوقا واضحا على الامريكان حتى هذا اليوم) ستكون عديمة الفائدة. السبب الاول هو ان معظمها ليست ذاتية الحركة بل يجب قطرها. مما يقيد الحركة. ثانيا انها في مواضعها الثابتة لن يكون بمقدورها ملاحقة حركة القوات المشتركة. ثالثا، ابقى القصف الجوي على قطع المدفعية ضباط السلاح بعيدين عن اسلحتهم بما يمنعهم من تخطيط الرمايات و عمل المسوحات و القياسات اللازمة. و بالتالي فالمدفعي العراقية عمياء من الناحية العملية.

بدأ الاجتماع في اليوم التالي. و كانت تعليمات شوارتزكوف للاركان واضحة: اي معلومة يطلبها مستشار الرئيس تعطى له في الحال. و بدأ الجنرالات عرض موقف كل سلاح:

2- سلاح الطيران تعهد بأكثر من مئة غارة جوية على ساحة المعركة كل ساعة!

3- البحرية عرضت خطة الهجوم البرمائي على الشعيبية لو احتاج الامر. و بعد مناقشة طويلة من باول حول عدد الخسائر المحتمل استنتج - مثل شوارتزكوف- ان هذه العملية لن تتم الا في الضرورة القصوى.

4- شرح مشاة البحرية اندفاعهم جنوب مسرح العمليات نحو الشمال باتجاه مدينة الكويت. و مرة اخرى طلب منهم باول عدم الاندفاع نحو اقوى مناطق الدفاع العراقية خوفا من الخسائر. كل ما هو مطلوب منكم اشغال العراقيية عن الفيلقين المندفعين من الغرب.

5- الاستخبارات توقعت ان يقاتل العراقيون من مبدأ الدفاع الثابت. و لكن قد تقوم بعض الوحدات بالمناورة  ومحاولة عمل الدفاع الايجابي و الهجوم المرتد. و امطر باول و تشيني ممثل الاستخبارات باكثر من 12 سؤال حول تقديراتهم لخسائر العراقيين - محور الخلاف مع المخابرات المركزية. كيف يتم الحساب، لماذا يتم الاستعانة بتقارير الطيارين، مدى دقة هذه التقارير، هل يستخدم العراقيون اهداف مزيفة كدبابات؟ الخ.  بعد حوالي 45 دقيقة من الاجابة على هذه الاسئلة اوضح الجنرال انه لو ضاعفت القوات الجوية مجهودها سيصبح للعراق نصف القوة التي دخل بها الحرب يوم 21 فبراير. التفت شوارتزكوف على هورنر (عمليات جوية) و سأله هل هو قادر على هذا؟ رد عليه، انه يمكنه ان يحقق اكثر من هذا خلال اسبوعين.

الاجتماع المسائي كان مخصصا لعمليات الجيش البرية:
6- شرح الجيش قدرات الفرق ال 11 العراقية التي تواجه الفيلق السابع الامريكي. و شرح الجنرال فرانكس كيف ينوي تجاوز 5 فرق مشاة. ضرب الاحتياطي المدرع خلفها و من ثم قتال الحرس الجهوري خلفها. و قد طالب الجنرال ب 3 اسابيع من التمرين بالنار قبل البدء بالهجوم بمجرد تكامل العتاد. و تكلم الجنرال لساعة بينما الوقت المخصص كان حوال نصف ذلك. مما اثار سخط شوارتزكوف الذي لم يكن يظن الكثير بالجنرال فرانكس على اي حال و وصفه بالبطيء كثير التفكير والتردد بشكل مرضي.

7- شرح الجنرال غريفيثس قائد الفرقة الاولى مدرعة خطط قواته و كانت الخطة هي الانعطاف عند البوسية و التوجه شرقا لضرب الحرب الجمهوري. و هنا اوقفه باول و سأل عن احتمال اعاقة قواته جنوبا قبل الوصول للبوسية. و هنا رد الجنرال انه لا يتوقع ان توقفه القوات العراقية عن هذا و لكن لو حصل فسوف تتدخل القوات المجوقلة  - الفيلق 18. و قد اشار الجنرال لمشاكل محتملة في: الذخيرة، قطع الغيار، الوقود، و البسة و اقنعة للحماية من الكيماوي.


8- اخيرا و ليس اخرا، نصل للجنرال مكافري. نجم من نجوم القيادات العليا في الجيش (من ضمن 400 جنرال). حيث كان اصغر قائد فرقة في تاريخ الجيش، و له سجل مشرف من الشجاعة في فيتنام حيث كاد ان يفقد ذراعة في هجوم للسرية التي يقودها على تحصينات العدو. و منذ بداية الخريف كان مكافري يتوقع ان يتم هزيمة الجيش العراقي بفيلق واحد (من اصل 3 شارك بها الامريكيون) فقط خلال اسبوع! كان دور الفرقة 24 مدرعة ان تدخل المنطقة بين قاعدتي الطليل و بلد و التقدم نحو الحرس الجمهوري نواحي البصري. و قد قدّر ان يطلق 17000 طن من الذخيرة وان يصرف 2.5 مليون غالون وقود في الهجوم. و كان صريحا في تقدير خسائره: حيث قدر ان يخسر بين 500 و الفين مقاتل (من اصل 26 الف) اثناء الهجوم و هو يميل للجانب الاقل. سألة تشيني من اين اتى بالرقم.

10 كتائب، كل كتيبة فيها 4 سرايا = 40 سرية
كل سرية ستخوض معركتين = 80 معركة
كل سرية ستخسر 25 جندي في المعركة كمعدل  لو قاوم العراقيون بقوة. و خسارة السرية 25 جندي في المعركة هو ثمن مقبول.

بعد عدة اسئلة قال تشيني للجنرال: انا اقدر هذا العرض جنرال، لكن ما اريد ان اعرف هو التالي: مالذي يقلقك انت في هذه الحرب؟

و رد الجنرال ببطئ: انا انسان حريص جدا. و قد جرحت في القتال 3 مرات. و ابني في الفرقة 82 المجوقلة. و اقول لك انه لا يوجد شيء يدعو للقلق في هذه الحرب:
اولا: الجيش حديث العتاد والعقيدة القتالية
ثانيا: اللوجستيات في ماكنها
ثالثا: معنويات القوات ممتازة

اتوقع ان نقضي على العراقيين خلال 10 -14 يوم. لا اشعر بالاطمئنان لذكر ذلك لك، لكني اظن ان العراقيين ليسو جيدين جدا. "

انتهى الاجتماع العام، و في الاجتماع الخاص تم منافشة ساعة الصفر. اقترح شوارتزكوف يوم 21 فبراير مع عدة ايام هامش احتياطا للجو. و قد حثه كولن باول على الاسراع ﻷن معدل صرف سلاح الجو للذخيرة مرتفع. و قد كان الثلاثي مرتاحا من عزم شوارتزكوف على الاسراع بالعمل بعد ان كانوا يتندرون على "حملة ال 365 يوم الجوية" قبل 3 اشهر. و قد المح شوارتزكوف من قبل للرئيس انه سيستقيل لو ضغط عليه سياسيا ليقوم بالهجوم قبل اتمام استعداد قواته البرية. و كان السؤال الفخ: "هل سنستفيد اي شيء لو مددنا الحملة الجوية بعض الوقت؟" الذي سأله ولفويتز ليمنح شوارتزكوف الفرصة ﻷن يطلب مزيدا من الوقت. و رد شواتزكوف، "كلا نحن جاهزون".

و قبل العودة توقف تشيني و باول في خميس مشيط في زيارة لسرب F-117 و قاموا بالتوقيع على احدى القنابل الليزرية الموتجهة للجبهة:
"الى صدام - مع محبتي. ديك تشيني، وزير الدفاع"
"الى صدام - لم تحركها و الان سوف تخسرها" رئيس الاركان.


-----------------------------------------------------------------------------------------------------------------------

استهداف المقار القيادية في العراق و كارثة العامرية

كان تركيز غرفة عمليات الحرب الجوية للتحالف على القيادة العراقية كبيرا منذ بدء الحرب. و قد وصلت قائمة الاهداف ضمن هذا البند الى 35 ملجأ و مقر قيادة و سيطرة و مقر يوم 17 يناير - اول ايام القصف الجوي. و ستصل اهداف هذا البند الى 46 قبيل نهاية الحرب. و اغتيال قادة العدو هدف قديم قدم الحرب نفسها. لكن غالبية قصص النجاح كانت من قبيل الصدفة مثلما حصل مع الجنرال عبد المنعم رياض عام 1969 و الذي قتلته قذيفة اسرائيلية. اما النجاح المنسوب لعمل استخباري فهو نادر جدا. و اكبر مثال عليه كان كسر الشيفرة اليابانية و رصد و اسقاط طائرة الادميرال ياماموتو - مهندس ضربة بيرل هاربور بعد بدء الحرب العالمية الثانية بقليل.

و كان امل المخطط الامريكي ان تنجح تقنيات الاستطلاع و التجسس اضافة للقنابل الموجهة في قتل القيادات العراقية. و كان على رأس الاسماء طبعا صدام حسين. و قد صرح الجنرال مايكل دوجان - رئيس اركان القوات الجوية - ان صدام هو محور جهود عمليات التحالف. و قد طرده تشيني من وظيفته بعد هذه الزلة الاعلامية. حيث كان القانون الامريكي يمنع اغتيال القادة الاجانب. و بالتالي للحفاظ على نص القانون، يجب على الضباط التأكيد ان ما حصل كان عملية قصف ﻷهداف عسكرية و انه صادف ان كان صدام في تلك المنطقة.

السبب الاخر لمحاولة ابعاد صدام عن دائرة الاستهداف - علنا - كان ما حصل في بنما عام 1989. عندما غزتها امريكا ب 25 الف جندي و امضوا 4 ايام - محرجة - بحثا عن قائد البلد. و بالتالي كان التوجه هو ان الحملة لا يجب ان تكون ضد شخص. بل لتحقيق هدف.

و كان التقديرات تتراوح بين القادة. شوارتزكوف ظن الاحتمال (عاليا) ان يتم قتله في الحرب، و رئيس اركان القوات الجوية (الجديد) قدر الرقم ب 30%. و الكل كان يعرف قدرة الرئيس العراقي على النجاة من محاولات الاغتيال.

و بدأت الحرب الجوية على امل تحقيق هذا الهدف و انهاء الحرب مبكرا. و خصصت عدة ضربات على القصور الرئاسية في بغداد، مقر قيادة في ابو غريب، مقر صدام في التالجي كلها على اثر معلومات انه امضى الليلة السابقة هناك.

و لكن الحلفاء لم يملكوا معلومات "طازجة" عن وجود الرئيس العراقي. و استنتجت المخابرات انه صدام ينام في بيوت عادية و انه نادرا ما يمضي ليلتين في نفس المكان. و مع استمرار الحملة الجوية تم سحب الكثير من الطائرات لضرب الجبهة تمهيدا للحرب البرية و بالتالي تراجع احتمال اصطياد القائد العراقي.

و قنع المخططون الامريكيون ان صدام، و ان بقي حيا، فانه لا يملك القدرة على توجيه الجيش - مشكلة كبيرة في مجتمع تقليدي تاتي فيه الاوامر من فوق - اكثر مما كان لدى نابليون عام 1815. و صار البعض يرى ان ضرب المقار الاستخباراتية و الامنية العراقية قد يخفف من قبضة النظام على الشعب مما يسمح بالقيام بثورة.

على قائمة الاهداف المحتملة كمراكز قيادة، كانت شبكة الملاجئ اتي انشأتها شركة فنلندية في اوائل الثمانينات. حيث تم بناء 25 ملجأ في منطقة بغداد و ضواحيها. و في عام 1985 تم اضافة المزيد من التحصينات لعشرة من تلك الملاجئ و شملت التحصينات عزلها من المجال الكهرومغناطيسي المولد من ضربة نووية. و قد حصلت الاستخبارات الامريكية على مخططات هذه الملاجئ العشرة و استنتجت انها ملاجئ للقيادة  العراقية. اظهرت الصور الفضائية ان العراقيين احاطوا الملاجئ بسياج و لكن لم تظهر اي تحركات تشي ان هذه الملاجئ مأهولة. و كانت الخطة ان يتم قصفهم ثالث ايام الحرب الجوية. و لكن رأت القيادة تأجيل الضربة كون الملاجئ فارغة.

في بداية فبراير، شغلت 3 من هذه المقرات. و كانت المعطيات الاولية تشير الى ان وزارة الاعلام و وزارة الدفاع تشغل 2 من هذه المقرات. اما المقر الثالث فكان في ضاحية العامرية قرب شارع الاردن جنوب غرب بغداد. و كان الملجأ في حى للطبقة المتوسطة الى جانب مدرسة و مسجد. و كانت العلامة الاشارية امام المبنى تقول: "دائرة الدفاع المدني - ملجأ عام رقم 25" و قد اطلق عليه الامريكان اسم ملجأ الفردوس بسبب قربه من منطقة الفردوس.

تقارير الاستخبارات تشير الى ان الملجأ تم طلائه بشكل مموه في شهر يناير. و اشارت الصور اللاحقة الى ازدياد النشاط حول الملجأ و وجود سيارات عسكرية خارجه. و بدءا من 5 فبراير بدأت الاستخبارات الامريكية تلتقط اشارات لاسلكية حول المبنى. و بدأت الشكول حول ان المبنى تستخدمه المخابرات العراقية بسبب ان المبنى الاصلى قرب نادي الخيول تم ضربه اول الحرب.

يوم 10 فبراير زار مسؤول المخابرات غرفة العمليات الجوية و اقترح اعادة المبنى لقائمة الاهداف. و بدورها المخابرات العسكرية درست المزيد من الصور للملجأ و تم التساؤل حول احتمال انه ملجأ مدني و ليس عسكري؟ و لكن لم توجد اي ادلة تشير الى استخدامه بشكل مدني، مع وجود دائم للسيارات العسكرية حوله الملجأ. و لكن قائد العلميات الجوية لم يقتنع بهذه الادلة. و قال ان العراق دولة بوليسية، و انه حتى المطاحن قد يتم طلاؤها بشكل عسكري مموه.

لكن بعدها بأيام، وصلت معلومات من احد جواسيس واشنطن القليلين في العراق - مسؤول عراقي متعاون مع الامريكان. و قد ابلغ الجاسوس - الثقة - ان المخابرات بدأت تستخدم الملجأ رقم 25. و عندها تم اعادة الملجأ لقائمة الاهداف. و تم ضرب الملجأ يوم 13 فبراير من طائرتين F-117 كل منها القت قنبلة 2000 رطل موجهة بالليزر.

اكثر الناس حظا ممن كانوا في الملجأ هم من مات فورا. اما الباقي فعانوا من حريق مهول و ركام. استغرق اخراج الجرحى و الموتى لساعات. و قال العراق ان الضحايا 400 قبل ان يتم تعديل الرقم لاحقا ل 204 قتيل.

تم ايقاظ قائد العمليات الجوية من نومه و قيل له: "التقطنا اشارات لا سلكية من بغداد، يبدو ان الملجأ كان فيه مدنيين, ستصل الاخبار الى سي ان ان قريبا". و قد اتصل بالسرب الذي نفذ العملية و قال لهم لو حصل اي خطأ فهو ليس خطأهم. و وقعت واشنطن في حرج كبير، و صار على الجيش ان يشرح كيف ان حربا لاخراج العراق من الكويت ادت لقصف ملجأ في بغداد! و ذهب باول حاملا الصور و ادلة المخابرات ليشرح للرئيس الامريكي بوش ماذا حصل.

و ساهمت هذه الكارثة  ( و كارثة القذيفة البريطانية التي ادى خطأ ميكانيكي الى اسقاطها على سوق و قتل 130 عراقي بدل ضرب جسر قريب) في تخفيف الطلعات على المدن ﻷقصى حد. و صارت موافقة كولن باول شخصيا مطلوبة قبل اي مهمة مماثلة.


---------------------------------------------------------------------------------------------------------------

اسرائيل تحاول ضرب العراق قبيل بدء العمل البري

مع مرور شهر على بدء الحرب الجوية. كانت مشكلة ضربات العراق الصاروخية قد تراجعت لمرتبة متأخر من سلم اهتمامات قادة الاركان. قوات الدلتا و القوات الخاصة البريطانية نجحتا في حصر الاطلاق الصاروخي ضمن نطاق ضيق في حول مدينة القائم، و كان هناك بين 75-150 غارة كل يوم على تلك المناطق لاخماد اي جهد عراقي لاطلاق صواريخ الحسين. و حتى الطرف العراقي توقف عن اطلاق الصواريخ باستثناء عندما يكون الجو سيئا، مما يسمح بمزيد من التمويه. و تراجع معدل الاطلاق من 5 كل يوم الى واحد كل يوم. و بدأت مشكلة تناقص احتياط صواريخ الباتريوت تقل بسبب قله الحاجة لاطلاقه.

و قد تم اصلاح الخلل الحاسوبي في نظام الباترويت بالتحديث للنسخة الاحدث من البرمجية (تسمى النسخة 34) و قد وصلت يوم 4 فبراير للسعودية و اسرائيل. كان لدى اسرائيل 6 بطاريات باتريوت. و قد امرت قيادة الدفاع الجوي الاسرائيلي باطلاق الصواريخ بشكل يدوي بدءا من 25 يناير بسبب مشكلة الاسراف في الاطلاق عند التشغيل على النمط الالي.

كان الحكم على فعالية الباتريوت محور نقاش مستمر و خلاف رأي قوي بين الامريكان و الاسرائيليين. فبينما كان شواتزكوف يمدح النظام امام وسائل الاعلام و يصفه بالدقيق بنسبة 100% و انه من 39 مواجهة مع الصاروخ العراقي كان الاسقاط 39. اما في تل ابيب و سفارتها في واشنطن فقد اقترح على تسمية هذا الكلام ب "هراء الباتريوت". و كان للاسرائيليين منطق قوي وراء رأيهم السلبي في المنظومة. حيث لم تمتلك اي من المنظومات ال 21 الموجودة في السعودية نظام تسجيل بيانات ليكون قادرا على تسجيل مسار الصاروخ و معلومات ارتطامه بالصاروخ القادم. حيث كان القادة الميدانيون يخشون ان تتداخل انظمة المراقبة مع الكترونيات الصاروخ نفسه. من جانبهم كان للاسرائيليين 3 انظمة تسجيل و نظام حاسوبي يتتبع كل شظايا السكود، و رغم كون النظام الاسرائيلي بدائيا الا ان بياناته كانت تشير بقوة الى عدم فعالية الباتريوت.

و تردد البنتاغون في كشف اي من هذه التفاصيل او التراجع عن الباتريوت بوصفه بطل حرب. و لم يعترف الا بعد الحرب باكثر من عام ان الاصابة - بنسبة تأكيد عالية - كانت موجودة ب 10 حالات اعتراض فقط حيث تم تدمير الرأس المتفجر. اما في حالات اخرى فكان يتم حرف مسار الرأس المتفجر فقط! و لكن الملحق الاسرائيلي في واشنطن قال لخبراء جيش بلادهم ان يخفوا هذه التفاصيل. "الباتريوت هو افضل سلاح لأنه السلاح الوحيد الموجود، لماذا نتبرع بهذه المعلومات لصدام حسين بأن الباتريوت لا يعمل!".

في المقابل لم يتردد الاسرائيليون في مشاركة الامريكان انطباعاتهم عن نظام الباتريوت في الاجتماعات. يوم 4 فبراير في مقر وزارة الدفاع في تل ابيب قالها الجنرال بن نون صراحة للعقيد جولدبيرغ - قائد خلية ادارة نظام الباتريوت في البنتاغون - "الباتريوت لا يعمل". من اصل 12 اشتباك حللها الاسرائيليون تم تدمير 3 رؤوس فقط من قبل الباتريوت. "ربما يجب ان تتوقفوا عن تصنيع النظام قبل اصلاحه". فكان رد العقيد " سيدي، هل تفضل ان لا يكون عندك شيء حتى نستطيع انتاج نظام كامل؟". و قد نقل العقيد هذه الانطباعات للبنتاغون بعد يومين.

و من بين عديد الاسرائيليين الغاضبين من الباتريوت، كان من اخطرهم وزير الدفاع موشيه ارين. حيث كان الجيش الاسرائيلي ان صدام سوف يلجأ للكيماوي في اخر الامر. و كان وزير الدفاع قلقا من ان قدرة الباتريوت على اعترض الهجوم الكيماوي قليلة. و قد بدأ يظن ان الفرصة قد تكون قريبة للطيران الاسرائيلي ان يضرب العراق المنهك من الحرب الجوية في هذه المرحلة.

و كان القلق الاكبر لوزير الدفاع ان حصانة اسرائيل قد تراجعت بعد ضرب العراق لها. فمنذ اربعين عاما كانت سياسة اسرائيل في الردع تحتم الرد السريع و القاسي على ادنى تحرش عربي بها. و قد بدأ الاسرائيليون يظنون ان التحالف لن يتفكك الان - بعد 4 اسابيع من الحرب - بفعل ضربة اسرائيلية. و مع مرور الايام بدأ ارين يظن ان شامير قد اقتنع. و لكنه رفض قطعا اعطاء ضوء اخضر دون اذن من واشنطن. و سافر ارين الى واشنطن لهذا الغرض ليضغط على الحليف بالسماح بضربة ردع و انتقام اسرائيلية.

صباح يوم 11 فبراير بدأ اجتماع ارين الرئيس بوش، وزير الخارجية بيكر، مستشار الرئيس ديك تشينيو غيرهم. و بسرعة استعرض الوزير الاسرائيلي الاضرار من السكود العراقي في الايام الاخيرة و اردف (نحن قريبون جدا من اتخاذ اجراء).

كان الرئيس بوش يجهل انطباعات الاسرائيليين عن فشل الباتريوت، و كان رده انه يوجد انخفاض كبير في الصواريخ العراقية المطلقة، لماذا هذا الانزعاج و الاصرار على الرد؟

رد ارين ان كل صاروخ يطلق يسبب الرعب في اسرائيل. نحن نشهد دمارا لم تشهد مثله اي دوله اوروبية منذ الحرب العالمية الثانية!

و كان رد بوش ان اخرج بطاقة من جيبه تحمل ارقام استطلاعات الرأي التي تشير الى ان غالبية الاسرائيليين يؤيدون سياسة شامير في ضبط النفس وواجه ارين بها.  و كان الرد ان هذا الدعم سيختفي مع نزول اول صاروخ يحمل رأي كيماوي على اسرائيل.

كان رد بوش: "ماذا تستطيع ان تفعل اكثر منا؟"

و لم يكن يعلم ارين بموضوع قوات الدلتا على الارض التي تطارد فرق الصواريخ العراقية. و اقترح بالتالي ارسال قوات اسرائيلية بالمروحيات لغرب العراق. و بعدها عاد الوزير لموضوع الباتريوت: في رأي ان نسبة نجاح الباتريوت لا تتجاوز العشرين في المئة.

استغرب الرئيس و سأل بيكر الضيف ان يوضح.

"من اصل 10 سكود اردنا الاعتراض، تم اسقاط فقط اثنان".

ضغط تشيني على نفسه و بدل ان يتهم الضيف بنكران الجميل رد "هناك خلاف اساسي حول تقدير فعالية الباتريوت بيننا و بين الاسرائيليين سيادة الرئيس". و انقلب جو الاجتماع الى متوتر بعد ان تفاجأ الامريكيون من الضيف الغاضب، على عكس ما توقعوا من مشاعر الشكر و العرفان.

في اجتماعات لاحقة رفض تشيني منح الاسرائيليين ممرا امنا عبر السعودية لضرب العراق. و رفض ان يعلق اذا ما كان قد ارسل قوات امريكية خاصة لغرب العراق. كل ما وافق عليه هو اعلام الاسرائيين بموعد الهجوم البري. و وافق بيكر على مساعدات بمبلغ مليار دولار. ساعد على هذه الموافق حقيقة ان صاروخ سكود نزل على تل ابيب قبيل الاجتماع بساعات و انه سقط على بعد 500 متر من بيت ارين!


-----------------------------------------

الهم السياسي الامريكي

يميل الناس في العادة الى التفكير بحرب فيتنام كاهم كوابيس العسكرية الامريكية المعاصرة. و لكن بين صناع القرار في حرب عام 1991 كانت حرب كوريا هي السيناريو الذي يجب تجنبه باي ثمن ممكن. حيث انقلبت الحرب بفعل اخطاء السياسيين و العسكريين من نصر سياسي و عسكري الى تعادل تدفع كلفته واشنطن الى اليوم.
1- اخطأت واشنطن و البنتاغون بتوسيع اهداف الحرب في اثناء المعركة.
2- الحرب انتهت بدون نصر حاسم. و بقيت الوف القوات الامريكية و الكورية في الخنادق لما يقرب الاربعين عاما (و قتها - الان صرنا في العقد السادس من "الهدنة").

و كانت مهمة "الفريق الصغير" من مستشاري الرئيس و الخارجية و الدفاع و المخابرات ان يصوغوا اهداف الحرب لتنتهي بشكل مناسب للسياسة الامريكية داخليا و خارجيا.

السؤال الذي وجب على الخلية الاجابة عنه هو ببساطة: ماذا تأمل ان تحقق الولايات المتحدة من هذه الحرب؟ و كيف يجب تعريف النصر في هذه الحرب؟

على المستوى السياسي، حدد الرئيس بوش اهداف الحرب السياسية منذ الاسبوع الاول للاحداث:
1- انسحاب العراق بشكل غير مشروط من الكويت.
2- اعادة حكومة الكويت الشرعية.
3- تعزيز امن المواطنين الامريكيين في الخارج.
4- تعزيز امن و استقرار دول الخليج العربي.

و كان السؤال هو عن حجم الانتصار العسكري المطلوب لتحقيق هذه الاهداف. هل يمكن ضمان امن الخليج طالما بقي البعث في الحكم؟

و مع النجاح الساحق للحرب الجوية، كانت غرفة المستشارين تدرس ما اذا كان الفكير في تدمير نظام صدام حسين بدل فقط التوقف عند الحدود الدولية. و لكن كان هناك عوامل يجب توضيحها:

1- معظم الحلفاء - باستثناء بريطانيا - حددوا مشاركتهم بالحرب على اساس اخراج العراق من الكويت.
2- قرار الامم المتحدة حدد المهمة باخراج العراق من الكويت.
3- مجلس الشيوخ الامريكي بالكاد وافق على حرب تحرير الكويت.

بالنسبة للجيش، كان الدرس الاهم هو تحديد الهدف بدقة و ان تكون ضمن القوات المتاحة. و ترجم شوارتزكوف خطاب بوش بهدف عسكري:
1- تدمير قدرات العراق على انتاج اسلحة الدمار الشامل
2- تدمير الحرس الجمهوري كقوة قتال هجومي مؤثر للجيش العراقي مما كان يمكن صدام من تهديد الجيران.

اي اندفاع شمال نهر الفرات كان سيحول الرسالة السياسية للمعركة بشكل ضد التحالف. و سيصير الجندي العراق يدافع عن بلده بدلا من الدفاع عن سياسة صدام حسين. و كان النهر يوفر حاجزا معقولا ضد اي عمل عسكري معاد.

اضافة لذلك كان هناك قلق من ان سقوط البعث سيؤدي لحرب اهلية في العراق و يتم تقسيم البلد بين دول مثل سوريا و تركيا و ايران. و بسبب عدم وجود بديل يميل للنظرة الغربية لحكم العراق بشكل جاهز.

حسنا، فليبق صدام على رأس بلده المحطم و جيشه المهزوم، لكن كيف سيتم تسويق ذلك للشعب الامريكي بينما الميديا و خطابات الرئيس بدأت تقارن صدام بهتلر! و كان الحل هو ان صدام يمثل نسخة مصغرة من السفاح الالماني، اي انه هتلر ايام الثلاثينات و يجب وقفه عند حده قبل ان يصير وحش الحرب العالمية الثانية. و المبدأ الثاني كان ان احتمال الاطاحة بالرئيس في انقلاب عسكري كان عاليا جدا في حسابات الامريكان.

و بالتالي اصبح الموضوع ان الجيش الامريكي قادر على كسب الحرب و حتى احتلال العراق، لكن ثمن ذلك - بناء البلد على الصورة الغربية و التوهان في النزاعات السياسية المحلية - سيكون غاليا جدا و يجب عدم التورط فيه.

 و في بلد الصورة الاعلامية فيه مهمة جدا. كان من المهم ان تنتهي الحرب على صورة انتصار شامل: مثل ما حضرت اليابان لتوقيع صك الاستسلام على السفينة ميزوري في الحرب العالمية الثانية. و لكن القلق كان ان العراق يرفض ان يستسلم بشكل رسمي و يقوم العراقيون بالمشاغبة عبر خط وقف اطلاق النار. فهل يظهر العراق العناد الكافي ان تحتاج امريكا ان تبقي 40 الف مقاتل لزمن مفتوح مثلما هو الحال في كوريا الجنوبية؟ هذا هو الكابوس الذي اقض مضاجع الامريكان و الانجليز.

السناريو الاخر المقلق جدا للخلية المصغرة كان المناورة السياسية العراقية: ان ينسحب العراق من معظم الكويت و ان يبقى جزيرة بوبيان و منطقة حقل الرميلة. هذا السيناريو الكابوس كان كفيلا بتدمير التحالف المعد لقتال العراق. فقليل من قوات الدول المشاركة مستعدة ان تخوض حربا برية من اجل اجلاء جزيرة خالية و التدخل في نزاح حدودي. و قد امضت خلية العمل اسابيع في التفكير في اجراءات لاذلال العراق و اظهارة كمهزوم فيما لو اعلن العراق الانسحاب من الكويت قبل بدء الحرب. و كان التفكير في ان العراق لو طلب وقف الحرب قبل بدء العمل البري، فسيتم اعطاؤه 48 ساعة فقط لاخلاء كل الكويت من قطعاته. و تم عمل جداول مفصلة لتحرك كل قطعاته خلال هذه المدة و الا فالحرب قائمة. و حتى هذه الخطة - التي ستحرم العراق من المعدات الثقيلة لجيشه - ستبقى الحرس الجمهوري (ألموجود خارج الكويت تقريبا) بخير. و عليه يمكن التفكير بحركة الخطاف و الهجوم العسكري الامريكي على انه صمم لا لضرب الجيش العراقي في الكويت. بل اصلا لتعجيل القتال مع الحرس الجمهوري خلفه.

و عليه يوم 14 فبراير، عندما ابرقت موسكو لواشنطن ان بغداد بدأت تغير حساباتها و ان عزيز قادم لموسكو للتشاور. شعر المطبخ السياسي الامريكي بالرعب. و بعدها بيوم اعلن راديو بغداد ان المجلس الثوري بدأ يعرض على صدام خيارات تشمل الانسحاب من الكويت. و عمت موجة التفاؤال في العالم. و لبث بوش مع مستشاريه ساعات يدرس العرض العراقي قبل ان يتنفسوا الصعداء. فالعرض يشترط وقف الحرب الجوية، و سحب القوات الاجنبية من المنطقة خلال شهر، و انسحاب اسرائيل من الضفة و الجولان، و الغاء قرارات مجلس الامن السابقة. و بالتالي اعطى العراق امريكا كل الذرائع لرفض العرض.

--------------------------------------

كما ذكرنا سابقا، تم تحديد يوم 21 فبراير كموعد مبدأي للهجوم البري للتحالف. و لكن تبين بعد وقت قصير ان هذا الموعد كان مفرطا بالتفاؤل. حيث لم يكن المارينز قادرين على اكمال الاستعداد ضمن هذه المدة. و بالتالي يوم 14 فبراير طلبت اركان المارينز من شوارتزكوف التأجيل لثلاثة ايام. مرر شوارتزكوف الطلب لكولين باول.

باول لم يكن مسرورا البتة. خصوصا و ان الاشارات بدأت تصل من موسكو عن ان العراق على وشك قبول حل سياسي يحفظ لصدام ماء الوجه. اضافة لذلك فقد كان باول قلقا من انه بمجرد قبول التأجيل اول مرة، فلن تكون اخر مرة يتم فيها مثل هذا الطلب. و بعد توضيح ان هذا الوقت قد يقلل خسائر الهجوم من محور جنوب الكويت اضافة الى ان التنبؤ الجوي يتوقع جوا افضل. اقتنعت القيادة السياسية بالتأجيل.

و بينما كان الجنرال جون يوسوك John Yeosock يحضر الفيلق الامريكي و ينقل 73000 الية عبر السعودية للحدود مع العراق (بدون ملاحظة الجانب العراقي) اثر التعب و الارهاق على الجنرال. فذهب للمستشفى يوم 14 فبراير. و رغم اعتراضه فقد تبين ان الحالة تستعي جراحة فتم ارساله ﻷلمانيا و تم اسناد القيادة للجنرال كالفين والر Calven Waller الذي كان يختلف عن يوسوك في كل شيء! حيث كان يؤمن بالحركة السريعة و كان غير مرتاح لخيار يوسوك بالهجوم على محورين بل اراد دمجهما بمحور واحد. و كان والر من صنف القادة الذين يفضلون القيادة من الامام. فغير مقر العمليات من قرية الاسكان حوالي الرياض الى الميدان. حيث يستطيع الاشراف بدقة على عمل الجنرالين: فريد فرانكس (الفيلق السابع) و جاري لوك (الفيلق الثامن عشر مظليين).  وكان كلا القائدان مرتاحان للتغيير.

و بدأ والر يمر على كل لواء و يمطر القيادة بالاسئلة و كان السؤال الاهم: كيف ستخوض المعركة المخططة لك؟ و كانت الكاريزما لهذا القائد عالية جدا، مما شحن ضباط الاركان و رفع الروح المعنوية بعد اسابيع من التمرن على نفس الخطط. و في نفس الوقت، والر لم يكن يتسامح مع الطلبات الحمقاء. فعندما ارسلت له قيادة الفيلق السابع تطلب منه 35 الف صاروخ تاو و نصف مليون قنبلة يدوية صاح فيهم قائلا: كل قوات العدو في مسرح العمليات هي عبارة عن 1700 دبابة، و ليست كلها ضمن خطط فيلقك، فعلا ماذا ستضرب 35 الف قذيفة تاو؟ و القنابل اليدوي؟ هذا فيلق مدرع متنقل، اين تنوي ان تشتبك مع العدو بقتال متلاحم بحيث تحتاج ل 5 قنابل يدوية لكل جندي في الفيلق؟ و كان هذا الاسلوب الحاد مناسبا لتخفيف المشاحنات بين الفيلقين على كل قطعة سلاح. حيث كان هناك شعور بالندية و الغيرة بين الطرفين. فقد غضب قادة الفيلق 18 من سحب المدفعية و الدرونات لمصلحة الفيلق السابع. و كان الفيلق السابع يشك ان الفيلق 18 يبقي افضل الخرائط بحوزته و يخترع اعداء على الارض ليعيد تلك القوة المسحوبة. و في يناير طالب الفيلق 18 بالسماح له بالدوريات العميقة و بالقصف المروحي و المدفعي لتليين الاهداف قبل الهجوم البري، لكن الفيلق السابع اعترض ان هذا قد يكشف النوايا للعدو.

----------------

بعض اخطاء الحملة الجوية

كان اسلوب قيادة الجنرال بستر غلوسون Buster Glosson يتسم بالاقدام و المجازفة في خطط العمليات الجوية. و ان كان هذا الاسلوب يؤدي به لبعض المغامرات و المشاكل، الا ان سرعته في التعلم و التكيف مع النتائج اعطى سلاح الجو للتحالف فعالية كبيرة في حل المشاكل المصاحبة لقصف القوات العراقية. و هنا نلخص بعضا من الاخطاء التي وقع فيها اثناء الحملة الجوية:

1- في اول ثلاثة ايام من الحملة الجوية، كان تدمير الجسور في العراق اولوية عملياتية. و خصص لها 180 غارة باستخدام الذخائر الغير موجهة. و رغم تحذير ضباط الميدان من ان هذا الاسلوب لن ينجح - و هو درس من المفروض ان يكون الامريكان تعلموه من فيتنام - لكن الجنرال اصر و كان يأمل ان تقدم التكنولوجيا في التوجيه المبدأي سوف يكون في صالحه. و النتيجة انه لم يدمر و لا جسر عراقي واحد في ايام الحرب الثلاث الاولى. و كان ان اضطر بستر لطلب طائرات الشبح مع القذائف الموجهة لتصحيح الخلل. و اتصل بمهندس مدني من الجامعة التي تخرج منها للمشورة حول افضل الطرق لضرب الجسور (الجواب كان باستهداف منطقة اعلى بقليل من نقطة التقاء الجسر بالشاطئ). و بدأت الجسور العراقية تهوي بمعدل 7 -10 في الاسبوع.

2- عندما بدأ الامريكان بتسيير دوريا غرب العراق لمنع مقاتلات العراق من الهرب نحو ايران يوم 31 يناير، توقف العراقيون عن الطيران تماما لمدة 4 ايام. و بدأ بستر يقلق من تأثير دوريات الليل على الطيارين و الادوية المنشطة التي كانو يأخذونها. و بالتالي اوقف هذه الدوريات يوم 4 فبراير. و مباشرة هربت اكثر من 30 طائرة عراقية خلال يومين! و عادت الدوريات من جديد يوم 6 فبراير.

3- في منتصف فبراير، و مع اقتراب الحرب البرية، بدأ بستر يعتمد اكثر فأكثر على الغارات التكتيكية. و تم رفع الحظر على الطيران المنخفض الذي تم وضعه اول الحرب خوفا من السام العراقي. و كان بستر يقدر ان بطاريات السام العراقية تلقت من الضرب ما يجعلها لا تشكل خطرا كبيرا. و طلب بستر من طائرات A-10 التحليق على ارتفاع 1 كم بما يكفي للطيارين ان يستخدمو المناظير المكبرة لمسح المنطقة بحثا عن اي الية عراقية ثقيلة. و في نفس الوقت بدأ يسمح لهذه الطائرات البطيئة و المدرعة بالتوغل اكثر شمال الحدود - حيث تواجد الحرس الجمهوري. و هذه الطائرات المفروض ان تعمل بعمق بسيط خلف خطوط العدو حتى تستطيع العودة في حال ضربت او تمت مطاردتها من طائرات مقاتلة. و لكن النجاح الرهيب لها اثناء الحرب ادى لدفعها لعمق 100 كم شمال الحدود السعودية الكويتية. و كانت المهمة الاولى بهذا العمق ضرب فرقة المدينة المنورة حرس جمهوري. و قد تردد رئيسه المباشر و لكنه اقنعه بانه امر يستحق المحاولة. و انه سيقوم بالتجربة مالم يامره بعدم فعلها. قال القائد العام لسلاح الجو: لا اظن انها فكرة سليمة لكن القرار قرارك.

و كانت النتيجة ان اسقطت الطائراتان اللتان قصفتا فرق المدينة. و قتل احد الطيارين و اسر الاخر. و قد كتب قائد السرب لقيادة الاركان الجوية رسالة مطولة شرح فيها ان الحرس الجمهوري توقف عن استخدام السام طوال اسبوعين من القصف الجوي على ارتفاعات كبيرة و لكنهم بمجرد ان رأوا طائرات A-10 تحلق على ارتفاع منخفض اطلقوا 8 صواريخ سام عليهم مما اسقطت طائراتان واعطب الاخرى (عادت الطائرة المضروبة - من قبل فرقة توكلنا على الله - و في بدنها 300 ثقب من شظايا صاروخ سام انفجر بجانبها). و اشتكى قائد السرب انه لا يجب ان تعمل طائراته في ذلك العمق داخل ساحة القتال. و عليه نجح مقاتلوا الحرس الجمهوري في خداع الامريكان عن طريق ضبط الاطلاق حتى تحين الفرصة المناسبة. و منعت طائرات A-10 من القتال بعمق اكثر من 50 كم لغاية بدء الحرب البرية، و كان عليهم العودة لارتفاعات عالية مما منعهم من استخدام رشاش الطائرة السباعي المرعب.

--------

ملامح المعارك البحرية في الحرب

كثيرا ما يغفل دارسوا حرب الخليج عن الجانب البحري في هذه الحرب. و قد يكون من اسباب ذلك هو قلة اهتمام الجيوش العربية بالبحرية شكل عام و اعتبارها السلاح الثالث من حيث الاهمية بعد سلاح البر و الطيران في الحروب العربية المعاصرة.

في المواجهة بين العراق و امريكا كان الوضع اقرب للحرب الغير متماثلة، فالعراق بالكاد يملك اي قطع بحرية تنافس ما لدى ايران او السعودية بسبب صغر مدخله المائي فما بالك مع اقوى قوة بحرية في العالم. و سوف ابدأ سرد هذه المواجهة بذكر اسلحة العراق و سفينتي الولايات المتحدة التي اشتركت في هذه المواجهة.


1- اسلحة العراق: كان السلاح العراقي الاهم هو سلاح الالغام و الصواريخ. و كان لدى العراق تشكيلة مهمة من الالغام البحرية اهمها:

الغام الالتصاف البحري التي تزرع على السطح و لا تنفجر الا عند ملامسة بدن السفينة و هذه الالغام تعود للحرب العالمية الاولى في بساطة تصميمها و كانت تحمل شحنة بين 150 و 200 كغم. و كان العراق يصنعها محليا.


الغام العمق: و هي الغام اكثر تعقيدا و تعمل على صوت المحرك للسفينة. حيث يكون اللغم مزروعا بشكل عميق لا يسمح برصده و فيه ما يشبه السماعة التي تلتقط اصوات المحركات و عندما يقترب محرك السفينة ينفجر اللغم. استورد العراق كمية كبيرة منها اثناء الحرب مع ايران.

صواريخ دودة القز Silkworm. و هذا الصاروخ الصيني من طراز ارض بحر اشتهر بشكل كبير في اثناء حرب الخليج الاولى عندما استخدمه العراق و ايران لضرب سفن و ناقلات نفط الطرف الثاني. و كان مداه حوالي 200 كم و الرأس الحربي يصل ل 500 كغم. و يتم توجيهه بالرادار.

صواريخ جو بحر (اكسوسيت) بمدى 180 كم. تطلق من طائرات العراق مع احتمال استخدام هجمات انتحارية للطائرات باسلوب الكاميكازي

 2- سفن التحالف:

السفينة ويسكونسن و (مثلها السفينة ميزوري): تعتبر من اخر السفن الحربية المدفعية التي انشأتها الولايات المتحدة. و بدأت العمل في الاربعينات.  وزن الازاحة 45000 طن و تحمل السفينة 9 مدافع عيار 16 انش بمدى 30 كم. و 20 مدفع عيار 5 انش بمدى 15 كم. و تم تزويد السفنية بمضاد جو رشاش عيار فالانكس و صواريخ توماهوك و هاربون. يعمل في السفنية اكثر من 2000 بحار.

السفينة طرابلس. و هي سفينة انزال بحري بطول 100 متر و وزن ازاحة 19000 طن و طاقم اكثر من 660 بحار و ضابط و تحمل ايضا اكثر من 30 مروحية من مختلف الطرز للنقل و للهجوم.


السفينة برينستون و هي طراد صواريخ يعتبر من احدث السفن الامريكية العاملة وقتها. بوزن ازاحة 9800 طن و طاقم حوالي 400 بحار و ضابط. كان عمر السفينة في البحر اقل من عامين و قد كلفت حوالي مليار دولار. و هو مبلغ معقول بالنظر ﻷنظمة السفينة الالكترونية الرهيبة. و على رأسها رادار ايجيس. و رادارات كشف ارضي و جوي و انظمة تحكم بالنيران و انظمة تشويش الكترونية مع مئات الصواريخ من متختلف الانواع و على رأسها التوماهوك و الهاربون. باختصار كانت قاعدة رصد و تشويش على البحر.

سير العميات

 و قد كانت السفن الامريكية من اول القطع التي وصلت الخليج العربي. و رغم هذا الوصول المبكر الا ان سفينتي ويسكونسن و ميسوري لم تشاركا في اعمال الحرب و القصف بسبب الخوف من استفزاز العراقين لبدء الحرب مبكرا و كذلك بسبب الخوف من الالغام.

رفع الحظر يوم 3 فبراير بعد تقارير ايجابية من كاسحات الالغام البحرية. و خلال ايام بدأت السفينتين بقصف القوات العراقية على الساحل الكويتي.و قصف السفن الحربية ليس كمثله قصف! حيث يصل قطر المدفع 16 انش و كانت هذه السفن تحوي 3 مدافع معا من هذا العيار. تطلق بفارق ثانية واحدة. و في العادة تستغرق حوالي 10 طلقات فردية لضبط العيار و بعدها تضرب المدافع الثلاث معا. و كل قذيفة تزن حوالي 800 كم و تنفجر في الجو الى 3000 شظية بما يكفي تغظية ملعب كرة قدم.

و كررت السفن القصف بسبب عدم الحاجة لخدماتهم في العملية البحرية و لكون السفينتين ستحالان للتقاعد بعد هذه الحرب. و بدل ان نرمي الذخيرة في القمامة فلنطلقها على العراقيين. و قد ضحك شوارتزكوف من هذا الرد على طلبه اقتصاد الذخيرة و سمح للسفينتين بضرب ما عندهم.

بعد ان قرر الجنرال شوارتزكوف الغاء الانزال البحري على ميناء الشعيبة الكويتي، و الاستعاضة عنه بهجوم بسيط على جزيرة فيلكا. بدأت قيادة الاركان البحرية بعمل خطط العملية الجديدة. و من اجل استخدام مدافع السفينتين ميسوري و وسكونسن في القصف المدفعي، كان من الضروري ان تقترب السفن اكثر نحو شمال الكويت، مما دعى البحرية ان تحضر خطة عمل للتعامل مع الالغام البحرية.

كانت الخطة ان يبدأ مسح الالغام من نقطة تبعد 50 كم شرق شط الكويت، و هو ما افترض انه مدى ابعد من مما تستطيع سفن زراعة الالغام العراقية الوصول له. و سوف يتم فتح ممر بعرض 300 متر عبر الالغام شمال غرب و بطول 20 كم. و عند تلك النقطة ستمسح سفن الالغام مستطيل 5*15 كم حتى تتمكن السفن من ضرب جزيرة فيلكا يوم الهجوم البري - 24 فبراير حسب اخر تقدير.

قد لا يعرف الكثيرون ان الالغام البحرية هي كابوس ما بعده كابوس. و خصوص للجانب الامريكي الذي عانى الامرين في مواجهة دول تافهة بحريا مثل كوريا الشمالية بسبب الالغام. و هناك حكمة معروفة ضمن طاقم البحارة (كل سفينة ممكن ان تكون كاسحة الغام، و لكن لمرة واحدة فقط).

بدأ العمل يوم 16 فبراير على المرحلة الاولى. و انتهى التنظيف يوم 17 فبراير مساء بدون كشف اي الغام. و بالتالي قدر المهندسون ان العراق وضع الالغام البحرية بشكل اقرب للشاطئ.

هذا الاستنتاج بدا معقولا، منطقيا، و لكنه خاطئ تماما! فقط كانت الالغام العراقية شرق الموقع الحالي للامريكان! و شكلت الالغام حزاما خارجيا بطول 150 ميل و حزام داخلي لحماية موانئ الكويت و ام قصر. و الامريكان كانوا بالمنتصف. و تبين في ما بعد ان العراق وضع اكثر من 1200 لغم بحري في الخليج. و تبين ان السفن الامريكي دخلت حقل الغام عراقي في الطريق لنقطة البدء و كانت معجزة - و اهمال هندسي عراقي جسيم - ان الالغام لم تضرب ولا سفينة. فقد تبين ان كثير من الالغام لم تثبت بشكل جيد فجرفها التيار، و الغام اخرى زرعت على عمق كبير بحيث لم تصب السفن التي مرت. و قدر الامريكان ان 95% من الالغام العراقية كانت مزروعة بشكل سيء مما افقدها الفعالية. و كان بنفس فداحة الخطأ العراقي هو اهمال الامريكان ان يستكشفو مواقع الالغام العراقية. فقد منع شوارتزكوف اي نوع من الاستطلاع القريب خوفا من اشعال الحرب البرية قبل ساعة الصفر.

كان في مركز حملة مسح الالغام - و العمليات البحرية في ذلك القاطع - سفينة الانزال البحري طرابلس.. حيث يوجد عدد اكبر من الاشخاص المتوافرين للبحث عن الالغام القريبة من السطح. و يمكن استخدام سطح السفينة لاقلاع مروحيات تفجير الالغام و معالجتها.
 
مساء يوم 17 فبراير، التقط الامريكان اشارة رادار من بطارية صاروخ Silkworm على الشاطيء. وضع الطراد برنستون نفسه بين مصدر الاشارة الرادارية و السفن الاخرى  التي بدأت تبتعد عن مدى الصاروخ بحركة متموجة لزيادة صعوبة محاولة استهدافهم. و كانت سفينة طرابلس في المقدمة.

قبيل الفجر بدأت السفينة طرابلس تتحرك نحو نهاية الممر الذي تم تنظيفة. حتى تنطلق المروحيات من سطحها لتنظيف المنطقة التي ستبدأ منها سفن المدفعية القصف. و كان على سطحها 7 مراقبين للبحث عن الالغام القريبة من السطح، و لم يرصد اي منهم لغم من طراز LUGM-145 بوزن 160 كغم. و انفجر اللغم تمام الساعة 4:36 فجرا. و قد ادى الانفجار لثقب بمساحة 10*7 متر في منطقة استخدمت لتخزين مواد مثل الدهان. مما غطى السفينة برائحة المواد الكيماوية. و ظن الطاقم اول الامر ان الضربة كانت كيماوية، او ان احد المحركات انفجر. و بدأ الطاقم اجراءات التعامل مع الانفجار، حيث يجب اغلاق كل ابواب قعر السفينة لمنع تسرب المياه. يأخذ الامر عادة 10 دقائق لاقفال الابواب. و نجح الطاقم في ذلك في نصف الوقت. و لكن تسرب ربع مليون غالون ماء لقعر السفينة، و بالتالي وصلت المياه للمحركات. و بدأ سباق مع الزمن لضخ المياه خارج السفينة و لتدعيم باقي هياكلها حتى لا تتسرب المياه. و خلال ساعة كان تقرير المهندسين: سوف تنجو السفينة - مالم يتم الاصطدام بلغم اخر. و قامت السفينة باستكمال اعمال مسح الالغام بدون ان تتحرك، حيث ارسلت 12 مروحية من على سطحها ﻷكمال المهمة.

و بدل ان تتوقف السفينة برينستون فور سماع نبأ الانفجار في السفينة طرابلس على بعد 15 كم. اكملت السفينة الحركة و لكن بسرعة بطيئة جدا و مع استنفار الاطقم لمراقبة الالغام السطحية و لكن ليست الالغام العميق الصوتية. و ما هي الا دقائق حتى انفجر الى جانبها لغم صوتي من نوع مانتا تحت السفينة. و في الواقع فان اكبر الاضرار في السفن - و كذلك الاصابات - تحصل بعد الانفجار. حيث ترفع السفينة بفعل قوة الانفجار لأعلى و تهبط ﻷسفل مما يعرض هيكلها لضغط شديد يؤدي لتمزقة. و كانت اضرار الانفجار اصابت مياه التبريد (مما اوقف الرادر ايجز بسبب ارتفاع حرارته) و تعطلت صواريخ الهاربون و تعطل محول الكهرباء و بدأ الماء يتسرب للسفينة. تم اصلاح كل هذا خلال ساعتين. لكن هيكل السفينة قد تضرر لدرجة انه لن يتحمل حتى اهتزاز السفينة من حركة محركاتها. خرجت السفينة برينستون من المعركة و تم سحبها بعد ان ظلت في الماء اكثر من 30 ساعة، و لكن انظمتها المعقدة كانت جاهزة ﻷي تهديد صاروخي. و اكملت السفينة طرابلس مسح الالغام لخمسة ايام قبل ان تنسحب تاركة المجال لسفن المدفعية. كانت ضربة مهينة للبحرية ان يتم اعطاب سفينة بقدر و قدرة برينستون في عملية كسح الغام عن طريق لغم بحري.

المواجهة البحرية الاخيرة تمت بعدها باسبوع عندما ضرب العراقيون صاروخي ارض بحر على ويسكونسن و لكن تمكن فرقاط انجليزي مرافق من اسقاط الصاروخ. و الاخر فقد تاه. و انتهت المواجهة البحرية الغير متماثلة بنصر عراقي مهم. و لكنه نصر معنوي لم يغير سياق المعارك. و لعل هذا سبب اخر لنسيان المواجهات البحرية في حرب عام 1991، هذه المرة من الطرف الامريكي!


-----------------------

عمليات الخداع على المستوى التكتيكي

لعل كل خريج من اكاديميات الاركان الامريكية سواء كانت ويست بوينت او سيتاديل او غيرها قد قرأ الاقتباس التالي عن الجنرال جاكسون، احد اهم قادة الحرب الاهلية الامريكية:

"و ظيفة القائد هي الارباك و التعمية و المفاجأة".

و التاريخ الحربي القديم و المعاصر مليء بقصص الخداع على المستوى الاستراتيجية، حيث يتم تمويه الخصم حول نوايا الجيش (مكان الهجوم، وقته، اماكن القوات و اعدادها) و على المستوى التكتيكي من حيث استخدام وسائل التمويه اللاسلكية و تمرير رسائل استخبارية مزيفة و غير ذلك.

في حرب الخليج تعرضنا قليلا لأوجه الخداع على المستوى الاستراتيجي في ما يخص خطة الخطاف. حيث تم نقل فيلقين امريكيين من الساحل جنوب الكويت (حيث كان العراق يتوقع الهجوم الامريكي) الى الحدود العراقية السعودية من اجل الهجوم خلف الجيش العراقي و استهداف الاحتياطي المدرع العراقي و الحرس الجمهوري من خلفة لشل حركة الجيش العراقي لو فكر في الانسحاب من الكويت. و كان من اوجه الخداع على المستوى الاستراتيجي هو القصف من جهة البحر و الايهام ان هناك انزال بحري و عمل تدريب بحري في عمان و فتحه اما الصحافة.

على المستوى التكتيكي استخدم التحالف الكثير من التكتيكات لاقناع العراقيين بان الهجوم قادم من الجنوب. و كان يجب عليهم اقناع الاستخبارات العراقية بانه يوجد 300 الف جندي جنوب الكويت!

1- ترك الامريكان خلايا خداعية في معسكراتهم جنوب الكويت عندما تحركوا. و كل خلية تتكون من 12 جتدي يقومون بعمل مجموعة من المعسكرات الفارغة و المزيفة مما يترك انطباع بوجود 130 الف جندي، عماد الفيلق الثامن. كان التمويه في اغلبه الكترونيا. حيث تم وضع اجهزة تطلقا شارات على موجات الراديو VHF و UHF يتم تنسيق اطلاقها عبر ابراج موزعة عبر الصحراء عن طريق حاسوب لتبدوا و كأنها اتصالات معسكر على مستوى الفيلق و الفرقة و اللواء! العراقيون كانوا يسمعون فقط للضجيج (كون كل الاتصالات الامريكية مشفرة و لا يمكن اختراقها من الجانب العراقي).

2- تعمد الامريكان ارسال اشارات لا سلكية غير مشفرة من وقت لاخر ليسمعها العراقيون. مثلا كان من المعروف ان الجيش المصري مهمل في موضوع التشويش على اشاراته اللاسلكية. فقام الامريكان بتسجيل محادثات باللهجة المصرية مثل: (اتى جنود من الفرقة 24  ليسألوا اين ممكن ان يجدوا مياه). و عند رصد مثل هكذا اشارة يتحقق الجانب العراقي من ان الفرقة المذكورة تعسكر في المنطقة القريبة من مكان الاشارة.

3- تحركت الخلايا بشكل قريب من خط الدفاع العراقي (خط صدام) و استعملت الدخان في النهار و مكبرات الصوت التي تبث اصوات الدبابات في الليل.

4- تم انشاء ابنية صناعية و خنادق دبابات و استعمال المولدات الكهربائية بالليل قرب الحدود.

5- تم وضع اسطول كامل من صهاريج النفط و السيارات و الدبابات. و كلن كلها كانت مزيفة. و كانت كلفة النسخة المزيفة من الابرامز 4 الاف دولار. و كانت موصولة بمولد كهرباء ليولد شحنة حرارية يمكن رصدها عن بعد براصدات الاشعة تحت الحمراء.

و قد تيقن الامريكان من نجاح تكتيكهم عندما رصدوا اتصالات لا سلكية عراقية قبيل الهجوم تؤكد مواضع القوات المزيفة يوم 21 فبراير. اي قبيل الهجوم البري.

6- تم ارسال كتيبة واحدة دروع 10 كم داخل الحدود من جهة حفر الباطن (جنوب غرب الكويت) حتى وجدوا اول مقاومة عراقية. و بمجرد وصول الكتيبة بدأ قصف مدفعي و بمضادات الدبابات. و تبين ان العراقيين ايضا كانوا بارعين في اخفاء قواتهم عن التحاف. فقد كان هناك خنادق تحت خيام التمويه بحيث لم ترصدها طائرات الاستطلاع الامريكية. و بدل ان تستطلع القوات و تنسحب قبل اي قتال وجدت الكتيبة نفسها في مواجهة عنيفة. و خسر الامريكان في المعركة 3 قتلى و 9 جرحى و تم تدمير دبابة ابرامز و عربة برادلي. كان ثمنا مقبولا لاقناع 4 فرق عراقية في الوادي ان هذا محور التقدم الرئيسي للجيش.

بينما كان الجيش الامريكي يريد اقناع العراقيين انه قادم من الجنوب. كان الامر معقدا بالنسبة للمارينز الذين سيهاجموا من الجنوب تحديدا. و كانت مشاكل الاستطلاع عندهم كبيرة. فطائرة الاستطلاع الرئيسية RF4C خرجت من الخدمة قبل الحرب و صار الاعتماد على الدرونات التي لها مدى محدود و لا تستطيع الرؤيا من خلال دخان حقول النفط. و في النهاية بدأت القيادة تسمح بارسال دوريات الاستطلاع العميق عند خطوط العدو. و رغم سمعة سلاح الهندسة العراقي كواحد من اخسن الاسلحة الهندسية في العالم، وجدت قوات الاستطلاع السياج الشائك، و مصائد الدبابات، و بعض حقول الالغام في حال سيء.

7- قام المارينز بدورهم ببعض تكتيكات الخداع من بث تسجيلات دبابات قتالهم (M-60) و عمل بعض الانشطة التفتيشية و غارات القصف بالنابالم من جهة الساحل لصرف انتباه العراقيين عن محول التقدم الرئيسي لقواتهم. و قبل فجر الهجوم بيوم واحد، ارسل المارينز شاحنة محملة بمادة C4 الشديدة الانفجار نحو خط الدفاع العراقي الاول و نسفوها عن بعد. لم يحدث هذا العبث اي اضرار و لكنه كان نوعا من التذكير بما حصل للمارينز في بيروت عام 1982.

المصدر
R. Atkinson - Crusade


-----------------------------------------------------

الحرب النفسية في حرب الخليج

في بدايات المعركة (مرحلة درع الصحراء) تم عمل خطة مفصلة للحرب النفسية ضد الجيش العراقي. و تم هذا بمساعدة مجموعة عمل الحرب النفسية الرابعة في الجيش. استغرقت الخطة عدة اسابيع في اروقة البيروقراطية في واشنطن دون اي اخبار عن الموافقة. و بعد معركة كلامية مع شوارتزكوف، وافق تشيني على خطة معدلة في شهر ديسمبر. و بعدها اخر السعوديون تنفيذ الخطة لبعض الوقت بسبب مخاوفهم من ان دعوة الجيش العراقي لعصيان صدام حسين قد تتسبب ببدء الحرب البرية قبل اوانها. و اخيرا يوم 12 يناير، قامت طائرة نقل من طراز C-130 بقذف اكثر من مليون منشور على حدود الكويت الجنوبية بما شكل اعنف حملة نفسية في تاريخ الحروب.

كان هدف شواتزكوف الذي اشرف شخصيا على الحملة هو اقناع الجندي العراقي ان الهزيمة محتومة و سحق روحه المعنوية. ورغم الفشل في استخدام الحرب النفسية في فيتنام، فقد كان شوارتزكوف مؤمنا بنجاعة هذا الاسلوب ووجوب تجريبه. و كان يرجع لاقتباس عن المفكر العسكري كلاوسفيتز "قتل معنويات العدو مهم مثل قتل العدو نفسه".

كانت كمية المواد الاعلامية التي القيت قبيل نهاية الحرب حوالي 30 مليون منشور. و استخدم الجيش 6 مطابع للجيش الامريكي و مطابع الجيش السعودي و مطابع القطاع الخاص تعمل على مدار الساعة لانتج الاوراق بقياس 3 * 6 انش و باربع الوان. و هو ما اعتبر افضل قياس ليسمح للاوراق ان تطير اطول وقت ممكن و ان تغطي اكبر مسافة ممكنة. و تم تجريب القاء المنشورات من ابراج عالية بما يسمح بقياس زمن الهبوط و تغطيته. و تم حشو المناشير في قنابل ركبت على طائرات B-52 و F16 و F-18 مع فيوزات خاصة لتنفجر على ارتفاع عال.

تم تطوير 50 نموذج لهذه المنشورات. و قسمت الى 7 مجموعات حسب الموضوع. مثلا كان هناك منشورات بغرض التخويف، حيث تظهر صورة اكفان محمولة على سيارات التاكسي (مشهد مألوف في الحرب العراقية الايرانية). مع كلام من قبيل (الوقت ليس في صالحك).

بناء على اقتراح شوارتزكوف كان يتم اسقاط المنشورات على الوحدات قبيل قصفها بطائرات B-52 و كانت تحمل تحذيرا: هذا هو الانذار الاول و الاخير! غدا سوف تقصف الفرقة كذا مشاة. اترك موقعك الان!. و بعد الغارة ترسل منشورات اخرى "غارات الامس كانت مثالا على قوة التحالف! مرة اخرى نعطيك الفرصة للنجاة" و مرة اخرى تقصف الطائرات و تعيد القاء المناشير. مناشير اخرى تركز على ان يترك الجندي العراقي معداته و ان يسلم نفسه.


و قد تعاون الجيش الامريكي مع مهربين لالقاء 12 الف قارورة على ساحل الكويت، و كل قارورة محشوة بمنشور يظهر المارينز يرصدون الشاطئ قبيل قدوم موجة عاتية. و تم تهريب 50 الف شريط  كاسيت للعراق و الكويت تحوي اغاني عربية مشهورة و في وسط التسجيل رسائل ضد صدام حسين. و تم تحويل اذاعة صوت الخليج لاذاعة الاخبار و مواد البروباغاندا على 6 موجات. و حلقت طائرتا ُEC-130 قرب الحدود مع مكبرات صوت تبث نداءات مسجلة للاستسلام باصوات عراقيين سبقوهم في ذلك. و تم تشكيل 60 فريق مع مكبرات صوت ضخمة و نشرهم بين وحدات الجيش الامريكي و المارينز لبث نفس الرسالة.

و يبقى السؤال عن مدى نجاح تلك الحملة يحتمل مختلف الاراء. فبدل فيضان المتسربين من الجيش الذي توقعته قيادة الاركان، كان معدل التسرب اقرب للتنقيط. و معظم من تسرب كانوا مجندين من رتب منخفضة. بعد الحرب كشف مسح ميداني على اسرى الجيش العراقي انهم كلهم رأوا المواد الاعلامية. و ان 7 من كل 10 اسرى قال ان هذه المواد كانت عامل في قرارهم ان يستسلموا.

في فبراير 20 اشارت حادثة في المسرح الغربي الى ان بعض القوات العراقية صارت على وشك الانهيار. حيث رصدت طائرات الاباتش تحصين دفاعي عراقي عند ثقب الحاج (60 كم شمال الحدود) و بعد قصف لاربع ساعات (اضرار طفيفة) تم انزال 3 جنود لادارة الحرب النفسية و بثوا نداءات استسلام. و على اثر ذلك استسلم 435 من افراد الفرقة 45 مشاة. و خلال ساعات انقلبت سعادة شوارتزكوف بنجاح تلك المعركة في الحرب النفسية الى غضب. فقد اظهرت تقارير الصحافة الجنود الامريكيين الذين اسروا العراقيين و اظهرت الصور بوضوح انهم يتبعون الفرقة المجوقلة. و قال ان اي ضابط استخبارات عراقي يرى الصورة سيعرف ان الامريكان عندهم وجود كبير غرب العراق.


و في دراسة لاحقة للحرب، ظهر للامريكان ان نظام ادارتهم للحرب النفسية كان يعتريه مشاكل كبيرة. اولا لا توجد عقيدة مستقلة للحرب النفسية عن المعارك. و بالتالي تم اللجوء لما كان عند الجيش من اساليب تصلح اثناء القتال و ليس قبله. اضافة لذلك كان هناك بطء في اقرار المواد الدعائية و مشاكل في فهم نفسية الطرف العراقي (اضافة لعدم اتقان اللغة العربية!).


يلخص الجدول التالي فعالية الوسائل الثلاث المذكورة على الجانب العراقي حسب ما تبين من مقابلات من تم اسرهم:

                              المنشورات                  الراديو                         السماعات

مدى وصول الرسالة: 98%                           58%                               34%
مدى تصديق الرسالة: 88%                                46%                          18%
مدى تأثير الرسالة على
الانشقاق                      70%                         34%                              16%

من الامور المثيرة للذكر ان المارينز عمدو الى ازعاج القوات العراقية بالموسيقى حتى تطلق عليهم النار و تكشف مواضعها مما كشفها للطيران. و قد نجح التكتيك 10 مرات. و قد لاحظ الجنود ان العراقيين يطلقون النار على موسيقى رعاة البقر و موسيقى الراب. اما موسيقى الروك اند رولل و نداءات الاستسلام فلم تكن تجلب رد فعل نيراني عراقي!

سوف نظهر نماذج من المنشورات كما وردت من المصدر:









----------------------------------------------------------------------------------

اي عدو؟ فشل الاستخبارات الامريكية في تحديد اعداد الجيش العراقي.

من تابع التقارير و التصاريح الصحفية لقوات التحالف قبيل حرب 1991 كان يجد نبرة احترام كبيرة جدا للجيش العراقي. و انه عددا و عدة من اكبر جيوش العالم. و قواته متمرسة بالحروب. و لكن لو سألت عن عدد قوات الجيش المتوقع ان تحارب لوجدت عدة اجابات! و لم يكن اي منها الجواب الصحيح حتى بعد نهاية المعارك البرية. نناقش ادناه بعض جوانب تقدير قوات العدو.

يعود اخر تقدير موثوق للامريكان عن تشكيلات الجيش العراقي و عدد قوات كل تشكيل الى حرب عام 1988. و من فم العراقيين وقتها. و كان التقدير ان جيش العراق بدأ من 12 فرقة بعدد 350 الف مقاتل عام 1982 ليصير 56 فرقة بعدد 1.1  مليون بعيد انتهاء تلك الحرب الطاحنة.

في العامين بين 1988 و 1990 انشغلت المخابرات الامريكية عن هذا الجيش بأمور اخرى. و لغاية اول شهرين من الغزو كانت ارقام عام 1988 تستخدم في الحسابات العسكرية.

تبين في ما بعد ان الجيش العراقي اعيد تشكيله و تنظيمه. فالفرقة التي كانت تحوي 20 الف مقاتل لحرب الخطوط و المواضع الثابته مع ايران صارت تحوي نصف العدد. و قد زاد العراقيون من حيرة الامريكان عندما غيروا مواضع الحرس الجمهوري و ارجعوه للخلف تاركين مكانه قوات الجيش على الخط الاول.

و قليلا قليلا، بدأت الصورة تتضح اكثر لدى الجيش الامريكي، من صور الاقمار الصناعية الى القليل من الاتصالات اللاسلكية التي تم رصدها. مثلا بدل 8 قطع مدفعية في الكتيبة لا حظ الامريكان انها تقتصر على 6 فقط. و السبع دبابات في السرية تم تخفيضها الى 4.

و لكن صور الاقمار الصناعية لم تساعد كثيرا في حال حركة القطع او اعادة انتشارها، اضافة الى الحاجة للاقمار الصناعية لتصوير اضرار القصف. مما ادى لفقدان المحللين الامريكيين لأثر وحدات كاملة من الجيش العراقي!! اضافة لذلك، منعت واشنطن تحليق طائرات التجسس قبل يناير 17. و مرة اخرى تحسر الامريكان على احالة الطائرة SR-71 على التقاعد. تلك الطائرة التي كانت قادرة على مسح ممر طوله 50 كم اثناء طيرانها.


في منتصف يناير، كان تقدير البنتاغون ان مسرح عمليات الكويت يحوي 43 فرقة بمجموع 540000 جندي. و باقي 24 فرقة معظمها مجندين و ليست على نفس المستوى القتالي موجودة شمال نهر الفرات. اما تقدير الجيش فكان حوالي 450 الف جندي الى نصف مليون.

حتى اثناء القتال، كان هناك مشكلة في فهم تركيبة فرق المشاة للحرس الجمهوري. حيث كان الفيلق السابع يظن ان هناك فرقتان مشاة امامه (31 و  47) و لكن تبين فيما بعد ان الفرقتين غير موجودتين في الكويت! اضافة الى اخطاء في تسمية 4 فرق مدرعة عراقية.

و حتى بعد نهاية الحرب كان شوارتزكوف يعلن ان قواته تواجه تفوقا عدديا بنسبة 2:3 و كان يصر على ان عدد القوات العراقية في الكويت تجاوز 600 الف!

و كان من الواضح ان الولايات المتحدة فشلت في اختراق العراق امنيا. و لم يكن لديها شبكة جواسيس على الارض بحيث لم تدرك اجهزتها ان معظم وحدات الجيش العراقي لم تكن كاملة العدد. و ازداد الامر سوءا بعد 5 اسابيع من القصف.

اما الاقمار الصناعية التجسسية و طائرات التجسس فقد كانت مفيدة لمعرفة المعدات الموجودة للقوات العراقية. و لكن الصور تعطي انطباع بوجود معدات سليمة بنسبة 25% اكثر مما هو موجود. و الصورة التي تظهر كتيبة مدفعية لا تظهر ان الجنود قد تسربوا من الخدمة!

اضافة لذلك كانت الهالة التي احيط بها الجيش العراقي مصدرا اخر لزيادة الحيطة و الحذر، حتى لجيش بمستوى الجيش الامريكي كان يتدرب لقتال جيش بمستوى الجيش الاحمر، و هو عدو اعلى سوية من الجيش الايراني. و بالتالي كان هناك خطأ مزدوج في تقدير العدو، العراق استهان (او على الاقل صدام حسين، و هو صاحب اهم رأي في البلد كلها) بالجيش الامريكي، و الجيش الامريكي استهاب مواجهة الجيش العراقي.

ماذا كان تأثير هذا الافراط في الحذر؟ كان له اثر مادي و سياسي و اعلامي كبير. كمثال على الاثر المادي، فقد بالغ شوارتزكوف في طلب القوات بشكل انعكس عليه لوما و تقريعا بعد نهاية الحرب. و مثال ذلك طلب مضاعفة عدد القوات، و كذلك احضار 220 الف قذيفة دبابات (لم يصرف منها اكثر من 2%).

اما الجواب النهائي عن عدد القوات العراقية في مسرح الكويت؟ فقد بينت الحسابات النهائية ان العدد الاصلي كان 362 الف اصيب او قتل منهم 26 الف و هرب 153 الف ليصفي امام الجيش الامريكي 183 الف مقاتل عراقي. فهل كان يحتاج اخراج هذا العدد الى 700 الف مقاتل من التحالف؟

و كانت السهولة التي حسمت بها الحرب عاملا كبيرا في اطفاء حماس الامريكيين للحرب. فقد تم شحن الشعب تحضيرا للملحمة و في النهاية كانت لاشيء. و كان هذا احراجا كبيرا للمخابرات الامريكية.


كانت هذه هي عقلية الجنرال شوارتزكوف اثناء الايام الاخيرة قبل الحرب البرية. و بعد تحديد يوم 24 بدأت طلبات قادة الجيوش بالتأجيل تتوالى. فالجيش يريد وقتا لاكمال تحركه الاستراتيجي غرب الكويت و شمال السعودية، و قادة المارينز يريدون المزيد من الوقت للتمرن لخرق خط الدفاع العراقي. و الطيران طلب يومين مهلة قبل ساعة الصفر ليضرب العراقيين مرة اخرى لكن تقارير الجو تنبئ بجو عاصف يوم 24. و عليه اتصل شوارتزكوف بكولن باول طالبا منه مهلة اضافية بضعة ايام لحل هذه المشاكل

تضايق كولن باول، و هو يعرف بحكم خبرته ان اي طلب تاجيل سوف تتبعه طلبات اخرى. فببساطة لا يوجد يوم مثالي للقتال. و هناك دائما حاجات و متطلبات لسدادها. و وجد صعوبة كبيرة في اقناع مستشار الرئيس ديك تشيني في الموضوع. الذي كان يريد بدء العمليات العسكرية قبل ان يسنح الوقت للعراق بقبول قرار الامم المتحدة او البدء بالانسحاب. و هنا يظهر تباين الاهداف. فالجنرال الامريكي يريد حماية قواته و السياسي الامريكي ينظر للهدف الاكبر من الحرب: تدمير قدرات العراق الهجومية. و نشبت عراك لفظي بين شواتزكوف و باول الذي لم يكن الطرف الهادئ هذه المرة و بادل شواتزكوف صياحا بصياح قبل ان يهدأ الجنرال الامريكي و يعتذر و يظهر ما يبدو انه بدأ يتعب فعلا تحت ضغوط العملية. و قال له شواتزكوف، ستحصل على التأجيل لو اصررت عليه، لكني اريد اسبابا مقنعة. و ماهي الا ساعات حتى ابلغ شواتزكوف باول ان التنبوء الجوي تغير و صار الجو مناسبا للاسناد الجوي القريب. بقي امر اخير: طلب شواتزكوف ابعاد المخابرات الامريكية عن سير العمليات تماما. و السبب ان تقديراتهم لحجم الدمار اقل بكثير مما حسب الجيش الامريكي. و بدأت اخبار التضارب في الارقام تصل الصحافة. و تم عمل لقاء مشترك بين الطرفين لم يصل لنتيجة. و في النهاية اعلن تشيني انه يقف الى جانب تقديرات الجيش و ان على المخابرات الامريكية ترك هذا الملف نهائيا

حسم الملف العسكري و بقيت ساعة الصفر يوم 24 فبراير و جلس العسكريون في خنادقهم و غرف عملياتهم ينتظرون قدرهم. لكن كان هناك في الافق بوادر حل سياسي للازمة مما كان سيقوض الحملة العسكرية كاملة.  و هو ما شد انتباه العالم الى زيارة طارق عزيز لموسكو فقد كانت فعلا اللعب في الوقت بدل الضائع، و الامل الزائف الذي تمسك به محبو السلام و محبو العراق و اصدقاؤه على امل ان تحصل المعجزة.فماذا حصل في موسكو؟




-----------------

بين واشنطن و موسكو

مع بقاء ايام على بدء الحرب البرية. حصل ما كانت واشنطن تقلق منه: اختراق سياسي للأزمة. فقد وصل طارق عزيز الى موسكو يوم 18 فبراير. و قد عرض عليه غورباتشوف اتفاق نيابة عن التحالف الدولي (و كانت هذه خدعة دبلوماسية، حيث لم يكن للرئيس السوفياتي مثل هذا التفويض). و كان العرض كاتالي:
1- بدء انسحاب العراق الفوري من الكويت (مع مهلة 6 اسابيع لاكمال الانسحاب)
2- ضمانة سوفيتية بنجاة صدام حسين و نظامه
3- عدم دفع العراق اي تعويضات
4- معالجة مشاكل المنطقة العالقة مثل القضية الفلسطينية

"الوقت حساس جدا, و لو كنتم تهتمون لمصير بلدكم و شعبكم فيجب التصرف بدون تأخير".

و بدون تأخير، طار عزيز للعراق، و ابرق غورباتشوف 3 صفحات لواشنطن تتضمن تفاصيل الصفقة.


اول ما لفت انتباه مستشاري الرئيس هو المهلة الطويلة لصدام حسين. و رد يوم 19 فبراير بأن

1- وقف اطلاق النار لن يتم بدون ان يوافق العراق على انسحاب خلال 4 ايام (و هو ما يضمن ان يترك العراق كل ترسانته الثقيلة في الكويت). 
2- الافراج عن كل اسرى الحرب
3- اعطاء خرائط الالغام.

و تعمد الرئيس ان يوجه اهانة دبلوماسية بوصف المقترح الروسي بأنه اقل بكثير من المطلوب (في الاعراف الدبلوماسية لا يحق له التكلم بهذا الاسلوب كون المقترح ليس من بنات افكار الامريكان).

مع تعليمات جديدة من بغداد، عاد عزيز لموسكو يوم 21 فبراير. و ذهب للكرملين فور وصوله للمطار. و هناك عرض الموقف العراقي:

1- يقبل العراق بالانسحاب الغير مشروط
2- يقبل العراق بالافراج عن كل الاسرى
3- رفض العراق الجدول الامريكي للانسحاب. و طالب ان ترفع الامم المتحدة العقوبات بعد سحب ثلثي القوات العراقية.

و كان دور بريماكوف في النقاش. حيث اشار الى ان العراق تمكن من احتلال الكويت خلال ساعات! افلا يستطيع الانسحاب بسرعة؟ و رد عزيز ان الكويت احتلت بفرقتين و لكن الامارة تعج بمئات الوف الجنود العراقيين و اكد ان العراق يحتاج 6 اسابيع لاكمال المهمة. و قال غورباتشوف: الوقت اللازم للانسحاب يجب ان يكون ضمن الحد الادنى المعقول.

بعد انتهاء الاجتماع فجرا خرج فيتالي اغناتوف، المتحدث الرسمي باسم الكرملين على الصحافيين و قال لهم ان نتائج الاجتماع كانت ايجابية للغاية و عدد نقاط الاتفاق مع ابقاء موعد الانسحاب مبهما.

هذا السرور لم ينعكس في واشنطن. حيث كانت المساء في اوله، و بعيد المؤتمر الصحفي في موسكو تلقى بوش اتصالا من غورباتشوف. و الح على بوش ان يتم تنقيح مسودة اتفاق خلال نهاية الاسبوع بدون وضع موعد نهائي امريكي. و قد ظهر موقف عزيز بقبول الانسحاب غير المشروط متناقضا مع خطاب لصدام اذاعه راديو بغداد قبلها بساعات الذي كان مليئا بالتحدي و كلام مثل رفض الظلم و العدوان.

 و قال بوش للرئيس السوفياتي ان الاقتراحات لا تزال بعيدة عن قرارات مجلس الامن ال12. حيث ان الانسحاب العراقي الغير مشروط هو بند واحد فقط. و انتهت المكالمة بعد ان وعد غورباتشوف بمزيد من التفاوض مع العراقيين.

نظر بوش الى مستشاريه، و قال لهم: بدأت الامور تفلت عن السيطرة من الناحية السياسية. و خرج للعشاء و حضور مسرحية مع بعض القادة و عاد بعدها ب 3 ساعات ليجتمع مع فريقه الدبلوماسي. مع بقاء اقل من 48 ساعة على المعارك. كان من الضروري وقف كل اشكال المساعي الروسية قبل ان تمنح العراق نصرا سياسي يعمي الابصار على الهزيمة العسكرية المحتمة. و هو ما اسماه فريق الرئيس (الانتصار الناصري - نسبة لعبد الناصر). و لكن الرئيس كان قلقا ان يسبب رد فعل قوي من الطرف الامريكي على المساعي الروسية الى توتير العلاقات مع موسكو. و عليه حصلت حل جديد اعطاء العراق مهلة جديدة اقل من 40 ساعة من وقته (اي 8 ساعات قبيل بدء العمل البري) ليعلن وقف اطلاق النار و يبدأ انسحابا ينتهي خلال 4 ايام. و قالوا لغورباتشوف: اما ان تحصل على نوبل للسلام لو انسحب العراق و اوقفت الحرب، او ان ندمير الجيش العراقي.

خلال ساعات كان المقترح في صيغته النهائية:
1- قبول الانسحاب قبل السبت.
2- الانسحاب الكامل خلال اسبوع (الحت بريطانيا و فرنسا على هذا الشرط ليكون معقولا بشكل كاف للعراقيين، و اشارت حسابات البنتاغون انها مهلة كافية لسحب نصف الاليات العراقية الثقيلة فقط و خمس الذخيرة في مسرح عمليات الكويت).
3- الانسحاب من مدينة الكويت و تحرير الاسرى خلال يومين
4-  الانسحاب الفوري من الخط الدفاعي على حدود الكويت مع السعودية
5- توفير خرائط الالغام
6- بمجرد ان يعلن العراق قبوله سيتم ايقاف الغارات الجوية لمدة ساعتين للسماح للعراقيين بالبدء بتنفيذ الشروط و هذا الايقاف سيستمر طالما كان العراقيون ينفذون انسحابهم

 و قد اعلن بعض المستشارين ان حتى الجدول بهذا الشكل قد يعطي صدام فرصة ان يقول: انسحب بارادتي و نجحت بتحدي الامريكان. و كان رد مستشار اخر انهم كانو سيكنون فرحين بهذا الاتفاق لو تم قبل 6 اسابيع. و سأله سكوكروفت: الست قلقا من الحرب البرية؟

قال: لا. سوف تنتهي الحرب البرية بسرعة. و في نفس الوقت كان بوش يناقش الرئيس الفرنسي ميتران و الذي كان يرى منح العراق 3 ايام لقبول العرض الامريكي. و فيما كان الرئيس يحاول الرد دخل تقرير جديد من المخابرات المركزية ان العراق بدأ باشعال ابار النفط الكويتية في الشعيبة و ميناء الاحمدي و كان التقدير بان هناك 150 بئر يحترق. و كان هذا ما احتاجه بوش ليقنع ميتران بقبول الوقت الاصلي. ومرة اخرى ينقذ العراق التحالف من ازمة دبلوماسية! و خلال ساعات اتصل شوارتزكوف بقادة الفرق و قال لهم: وصلنا التفويض النهائية.

=======================================

كان جدول التوقيتات للعملية العسكرية يسير كالتالي:

الساعة 4 فجرا صباح الاحد 24 فبراير هي ساعة الصفر، و ينطلق على اثرها الفيلق 18 المجوقل ليخترق الحدود العراقية جنوب غرب.

 في نفس التوقيت، تندفع قوات المارينز جنوب الكويت بواقع فرقتين مع القوات العربية الشرقية. و كان الهدف من هذين الهجومين هو تمويهي. حيث اراد شوارتزكوف ان يقوم العراق بدفع الاحتياطي المدرع ليصد هذه الهجمات التضليلية نحو الاجنحة.

و كان الهجوم الاساسي مقرر له ان يتم بعد 26 ساعة. اي الساعة 6 صباح يوم الاثنين 25 فبراير. حيث يقوم الفيلق السابع بالتقدم شمالا و من ثم شرقا (حركة الخطاف) على ان يلحقه بعدها بساعة الجيش المصري على حدود الكويت الغربية مع العراق. و هنا كان قلب الحملة: يدمر الفيلق السابع الحرس الجمهوري، و يقوم الجيش المصري بمهمة تحرير مدينة الكويت.

هذا عن ساعة الصفر و ما بعدها. اما ماقبلها فقد عهد لقيادة الفرق بعمل ما يلزم لتمهيد ساحة المعركة و تحسين مواقع القوات و رصد العدو و البدء بدراسة مقتربات التقدم على الارض. و قد اعطى شوارتزكوف الضوء الاخضر بشرط، ان لا يكون العمل العسكري كبيرا لدرجة ان يبدأ الحرب قبل الوقت! و ان لا يكون العمل العسكري بحجم قد يثير حنق الروس ان الامريكان قد بدأو القتالي في وسط مساعيهم لايجاد غير عسكري. و هنا امر عجيب ان يسمح قائد الاركان لقادة الفرق بخلط السياسي بالعسكري بهذا الشكل. و لكنه خطأ لم يؤدي لكارثة و مر بدون حساب كون المسعى السياسي لم ينضج و لم يضطر الجيش الامريكي ان يبرر وجود قواته بهذا الشكل.

ازداد نشاط الاعمال القتالية على طول الجبهة. قصف مدفعي متبادل. غارات جوية للتحالف. تقدم للقوات في بعض المواضع. دوريا قتالية مستمرة. و كان اهم الواجبات فيما ما قبل ساعة الصفر هو على عاتق فرقتي المارينز. حيث كان عليهم اختراق خط الدفاع العراقي الرئيسي المعروف باسم خط صدام. و هو شبكة من الاسلاك الشائكة و الالغام و الخنادق المملوءة بالنفط غطت جنوب الكويت كلها.

بدأ المارينز بالتعامل مع هذا الخط قبل اسبوع من ساعة الصفر. فارسلو طائرات الشبح لقصف عدة محطات لضخ الوقود في الخنادق و تم اعطابها. و كثفت قاذفات ب-52 غاراتها على القطعات العراقية. و قد طلب المارنز من هذه القاذفات تجنب الاغارة على حقول الالغام. حيث لم تنج تكتيكات قصف الحقول من الجو (مع تفجير القذبفة قبل الوصول للارض لحرق اللغم) بل زادت من تعقيد عمليات اختراق حقول الالغام.

و تم استخدام النابالم و قنابل الوقود على المدفعية العراقية و فرق المشاة. و تم الاذن بارسال بضعة الوف من المارينز - الفرقة الاولى - للتقدم نحو حقول الالغام العراقية و عمل ممرات من خلاها بدئا من يوم (ي - 2). و تم ارسال القوات على شكل فريقي عمل. و كان الهدف يشمل وضع مراقبين على الخط الامامي لتوجيه المدفعية. و كانت تعليمات شوارتزكوف للقوات بعدم فتح المعركة بشكل قد يعقد التسوية السلمية مصدر غيظ و ارباك للضباط.

صباح يوم 23 فبراير (ي - 1)، وصلت الكتيبتان الى عمق 15 كم داخل الحدود الكويتية، على اعتاب حقل الالغام العراقي جنوب الوفرة. و امضى المارينز اليوم في حفر الخنادق الفردية دون ان يرصدهم العراقيون. في المساء بدأ المارينز يزحفون على الحقل العراقي و بدأت محاولة فتح 3 طرق خلال الالغام عن طريق الكشف اليدوي باستخدام سكين المشاة بدون اي مشاكل.

كان الحال مختلفا غربا. حيث دخل 2200 من المارينز حوالي 20 كم داخل الكويت للتعامل مع حقل الالغام يوم 22 فبراير. لكن تم رصد هذه القوات من قبل العراقيين و فتحت المدفعية العراقية نيرانها. تم استدعاء طائرات F-18 و طائرات الهاريير اضافة للمدفعية. بعد اسكات المدفعية العراقية مساء يوم 22 تقدم المهندسون للتعامل مع الالغام في ذلك القاطع مساء نفس اليوم. و قطع سير العمليات قصف عن طريق الخطأ بقاذفة B-52 كان على بعد اقل من 300 متر من طليعة القوات مما اخر عمليات فتح الالغام لصباح اليوم التالي. و في الصباح بدأت قوافل العراقيين المستسلمين تتسرب للجانب الامريكي، رغم اطلاق  النار عليهم من الخلف من قبل الجانب العراقي و اشتعل الضرب بالمدفعية من الطرفين مما هدد بتصعيد الاشتباك.

و قرر الامريكان - الذين بدأوا يشعرون بتأخرهم عن جدول فتح حقل الالغام ان يستعملوا الحبال المتفجرة لفتح الطريق. و لكن كانو مضطرين ان ينتظروا موافقة الاركان بسبب التحديد السياسي للعملية. و فجأة عرض بعض الاسرى العراقيين ان يروا الامريكان الممرات الامنة خلال الالغام! و تم بذلك ارسال كتيبة كاملة خلف حقل الالغام.

و تأتي بعدها مفاجأة جديدة على شكل حقل الغام اخر (الغام مضادة للافراد) على بعد 50 متر بعد الحقل الاول. و بدأ المهندسون فتح طريق بشكل يدوي بعرض 3 متر. بعد التاسعة مساءا (بعد ساعة من الانذار الامريكي الاخير) صدر الامر بالتقدم شمالا (بالقوة). و صباح يوم 24 - موعد الهجوم، كانت الممرات جاهزة للقوات لاختراق حقول الالغام.

و ارسلت بضعة فرق من القوات الخاصة خلف فرق المشاة للجيش العراقي للتخفي في الصحراء ﻷيام لرصد اي تحركات للفرق المدرعة العراقية او الحرس الجمهوري. و كان كل فريق يحوي 6 -10 جنود مساء يوم 23. بحيث يكون امامهم عدة ساعات من الليل لحفر حفر الاخفاء عن العدو اثناء النهار. الغيت مهمتان: الاولى بسبب عدم وضوح الحدود بين الفيلق الثامن عشر و السابع مما يعرض الفريق لخطر النيران الصديقة. و الثانية بسبب تحركات الطرف العراقي المكثفة قرب نقطة الانزال. على سبيل المثال تم انزال فريق جنوب فرقة توكلنا على الله ح.ج و بعد مراقبة ل 60 ساعة لم يتم رصد اي نشاط عراقي مما افهم الفيلق السابع ان العراقيين لم يقوموا يعملية احباط.

فريق اخر انزل في منطقة اظهرتها صور الاقمار الصناعية مليئة بالصخور، لكن بعد الانزال تبين ان الصخور ليست الا خيام للبدو. و تم سحب الفريق مباشرة. و مثلها فريقان اخران. اما القصة التي ستروى لاحقا فهي لفريقين تخفيا في رمال الصحراء جنوب العراق ليلا و تم اكتشافهم في النهار.

اما الجهد الرئيسي - الفرقة السابعة مدرعة - فكانت في حالة استرخاء نسبي. فالخطة ان يبدأ هجومها يوم 25 فبراير (ي + 1). و قد اراد الجنرال فرانكس ان يحتل بعض المواضع الامامية قبل هذا الموعد لتسهيل انجاز الاختراق و التقدم 200 كم شمالا و الالتحام مع الحرس الجمهوري باسرع وقت ممكن. فقام بوضع معظم دباباته (800 دبابة) على الغرب حتى تمر من جانب اخر امتداد لخط صدام. و ابقى 400 على الوسط و الشرق من جبتهته. و كانت مهمة الاختراق الاولي تقع على الفوج الثاني مدرع. و كان عليهم ان يكونوا رأس الهجوم لمسافة 100 كم شمالا. و على يمين الفوج كانت الفرقة الاولى مشاة مع تعليمات لاختراق خط صدام و تتبعها بعد فتح الخط الفرقة الاولى مشاة البريطانية.

كان ملاك الفوج الثاني 8000 جندي 125 دبابة و 116 عربة برادلي و اسطول مروحيات. و تقسم القوات الى 4 اقسام متساوية. هذا الفوج هو اقدم فوج فرسان (و بعدها دروع) في الجيش الامريكي لا يزال في الخدمة. حيث اسس عام 1836 على يد احد اهم جنرالات الجيش الامريكي: الجنرال جاكسون. و كان قائده الحالي من اكثر القادة العسكريين كفاءة في الجيش الامريكي: العقيد دونالد هولدر. و الذي كتب دليل الميدان للقوات البرية المعروف باسم: FM100-5

تمام الساعة 1:10 مساءا يوم 23 فبراير. اوقف الفيلق الصمت اللاسلكي المطلق المفروض منذ اسبوع و بدأت بطاريات المدفعية و قاذفات الصواريخ ضرب اهداف عراقية لغاية عمق 20 كم. و تم انهاء القصف بضرب قذيفتين من الفسفور في الجو لايصال الرسالة للجميع يتوقف القصف. و قامت بلدوزرات الجيش بفتح ممرات في الساتر الرملي لتقدم القوات. و تم تنفيذ المهمة قبيل نهاية اليوم و كان عليهم الانتظار 36 ساعة قبل المرحلة التالية للهجوم. او هكذا كانو يظنون.


----------------------------------------------------------------------

احداث اليوم الاول للحرب البرية - جنوب الكويت

نبدأ احداث الساعات الاولى للحرب البرية من واشنطن. فقد تلقى الرئيس الامريكي اتصالا قبيل بدء العمليات البرية من غورباتشوف يدعوه لتأخير اي عمل عسكري (لك يكن يعرف الموعد بالتحديد) و ترك فرصة اخرى للسلام. رفض بوش ذلك و قال له لو كان العراق يريد الانسحاب لانسحب قبل موعد 15 يناير. و بعد انتهاء المكالمة بدأ بوش اتصالاته البروتوكولية برؤساء كبار اعضاء التحالف لابلاغهم بموعد العمليات. و اتصل ايضا بالرؤساء الامريكيين الاحياء السابقين الاربعة و قادة الكونجرس.

خلال ساعات بدأت اول التقارير تصل واشنطن. الفيلق الثامن عشر المجوقل يتقدم كما هو مطلوب بعد ساعتين من بدء العمليات. و الامور تسير بشكل جيد للمارينز و القوات العربية الشرقية. و لا يزال الفيلق السابع مرابطا بانتظار اوامر التحرك لليوم التالي.  لا اثر لاستخدام العراق للسلاح الكيماوي و ان كان عناك تقارير عن بدء عمل تخريبي ممنهج في مدينة الكويت و حوادث اغتصاب و تعذيب  و خطف يقوم بها العراقيون (اتضح لاحقا انها كانت مبالغ بها). انظر الخريطة ادناه لدراسة محاور تقدم اليوم الاول (السهم الابيض).




الى ارض المعركة، حيث ذكرنا سابقا ان من عوامل قلق شواتزكوف كان الجو السيء المحتمل يوم 24 فبراير. و كان قد وعد المارنز ب 3 ايام من التغطية الجوية المناسبة التي تتطلب جوا صحوا. و هذا ما لم يحصل. و كان ان بدأت الامطار و الضباب و الرياح بشكل حد من الرؤيا لغاية 50 متر يوم 23 فبراير. و طبعا لن يوقف هذا الامر المعركة، فأذاعت مكبرات الصوت خطاب قائد الفرقة في قواته، انهم يدخلون الكويت محررين لا غازين،و ان ابناؤهم و احفادهم سيذكرون تضحياتهم بالفخر.

و بدأ الاقتحام من منطقة ام غدير في جنوب الكويت. و كان الهدف الاول هو اختراق خطي الغام بين ام غدير و حقل مناقيش البترولي. و كان واجب الاقتحام على عاتق الفوج 6 من المارينز. على ان تلحقهم بعد فتح الطريق لواء النمر من الجيش الامريكي (بدبابات الابرامز الاقوى من دبابات المارينز M60 ) و كان على هذا اللواء التقدم شمالا نحو الجهراء و المطلاع لقطع طريق الانسحاب امام الجيش العراقي من مدينة الكويت. و كان تقدير الفرقة ان الخسائر ستكون بحدود الالف.




بدأ الفوج السادس عملياته الساعة 4:30 فجرا. و بدأت المدفعية العراقية الضرب بمعدل منخفض و دقة قليلة بسبب عدم وجود مرشدين من الجانب العراقي. و تم ارسال مقاتلات بمعدل زوج كل 7:30 دقيقة و استخدمت 140 قطعة مدفعيى  و 9 راجمات لاسكات المدفعية العراقية الغير فعالة اصلا.

عند السادسة وصلت القوات الى عمق 20 كم داخل الكويت. عند خط الالغام الاول. و كانت الخطة تركز على السرعة من اجل امضاء اقل وقت ممكن في منطقة القتل. و الهدف كان فتح 6 ممرات في نفس الوقت في حقل الالغام العراقي. سميت من الشرق للغرب احمر 1 و احمر 2 ازرق  و3 ازرق 4 و اخضر 5 و اخضر 6.

 ام ارسال 500 مهندس لفتح هذه الطرق الستة. بدأت دبابات M-60 مزودة بكاسحات الغام تتقدم لفتح الطرق. و ثم بدأ المهندسون تحضير شحنات ناسفة. و كان اروع هذه الانظمة هو نظام MK-154 القادر على قذف 3 حبال مزدوجة متفجرة مسافة 30 متر و بعد التفجير تتقدم الدبابات للتحقق من سلامة الممر.

اول المفاجأت حصلت عند الطرق احمر واحد. فقد اظهرت اجهزة الرصد وجود مادة السارين السامة. و طلب القادة من العقيد المسؤول ايقاف العمل على هذا الخط. فرفض العقيد هذا الطلب. فقام المئات من المارينز بارتداء اطقم الكيماوي لاكمال العمل قبل ان يتبين ان الانذار كاذب.

الساعة 6:55 فتح الطريق احمر 2. و بعده الطريق احمر 1. على الجهة الاخرى كان العمل بطيئا جدا. حيث تم تدمير دبابتين عن طريق لغم بريطاني حصل عليه العراقيون من مستودعات الجيش الكويتي عند الطريق ازرق 4. اما اخضر 5 و 6 فكانت الامور اسوأ. فقط كان سمك حقل الالغام يمتد لمئة متر. حوالي ضعف احمر واحد و اثنين. و وضع العراقيون كثافة مهولة من الالغام 3 اضعاف الكثافة المعروفة في العلم العسكري. و قد تم تدمير سرفات 3 دبابات و علقت في منتصف الحقل. و فشل احد الحبال في التفجير و الاخر التف على اريال احدى الدبابات و صاح الجميع "اوقف التفجير".

رغم الفرصة المواتية لضرب المارينز فقد كانت المدفعية العراقية غير ذات تأثير. و حوالي العاشرة تم انهاء فتح الطرق الستة و تم التقدم صوب خط الالغام الثاني. و بمجرد ان تم تجاوزه قام مئات العراقيين من الفرقة السابعة و الفرقة 14 مشاة من الجيش بالاستسلام. و تم انهاء فتح الحقلين بعيد الظهر و اندفع لواء النمر شمالا. كانت المحصلة تعطيل 9 دبابات للمارينز و عربتي نقل و اصابة 14 جندي.

تم جلب اعلى مسؤول من الجانب العراقي تم اسره (عقيد) و تم استنطاقه من قبل المارينز. و قد لاحظ القادة الامريكيون ان العقيد العراقي كان هندامه مكويا و نظيفا و الحذاء لامع و كان يبدو بحال احسن من القادة الامريكان الذين اسروه.

كان اهم شيء في الاستنطاق هو تفاصيل اللغم الكيماوي الذي ضربه الامريكان. نفى العقيد العراقي استخدام السلاح الكيماوي او انه توجد اي خطط لاستعماله. و رسم خريطة لمواضع بقية قواته. و عند استنطاق قيادة اركان الفرقة ابدى الضابط صدمته من سرعة تحرك الامريكان و انه تم مفاجأتهم بهجوم من الجانب بشكل شل حركة قواته.

على مسافة 20 كم الى الجنوب عند الفرقة الاولى مارينز، كان المحور الثاني لهجوم المارينز يسير بنفس الترتيبات. و قد شرحنا انه تم خرق حقل الالغام في اليوم السابق من الاجناب. و الان الدور على القلب لعمل نفس الخرق. و كان نفس السيناريو من بعض مشاكل في تفجير الالغام الى غياب فعالية المدفعية العراقية. و من اصل 42 مدفع عراقي كان يضرب على المارينز. تم اعطاب 26 بمدفعية المارينز و 16 دمرت من الجو. الساعة 6:44 صباحا ارسلت قوات الهندسة الدخان الابيض و الاخضر دلالة على النجاح في فتح الخط الاول للالغام العراقية. و تبعه الثاني خلال 20 دقيقة بخسارة دبابة. و عند الساعة 10:30 صباحا تم اكمال فتح 14 طريق في حقل الالغام. و جرح 10 مارينز من المدفعية العراقية اثنان جراحهم سيئة. و قتل جندي واحد بلغم.

و بدأ الاندفاع نحو الحقل الثاني من الالغام وسط القصف المدفعي و الصاروخي العراقي. عندما بدأ المارينز يتعرضون للنيران الصديقة من الكتيبة المجاورة. و خلال دقائق تلقت الكتيبة 55 قذيفة دبابة دمرت شاحنيتن و عربة برمائية و قتل جندي واحد (بمجرد سماع اول طلقة ترك المارينز الياتهم وهربو خلف خندق قريب بسبب وجود الاليات على اطراف حقل الغام.

بعد الظهر وصلت القوات خلف حقل الالغام الثاني. و بدأت القوات تتجه نحو قاعدة على الجابر الجوية. و القسم الثاني نحو مطار الكويت الدولي.

جلس قائد فيلق المارينز مرتاحا يقرأ التقارير:

1- الفرقة الاولى مارينز: كله يسير حسب الجدول
2- الفرقة الثانية مارينز: كله يسير حسب الجدول
3- لا اثر للكيماوي

و بالتالي لم يتحقق عاملان للخطر كان يخشاه: جحيم من نيران مدفعية عراقية كثيفة على القوات التي تفتح الالغام مما كان سيسبب مذبحة. و عدم وقوع هجوم مرتد عراقي خلال اول 4 ساعات (كما كانت تشير تقديرات الاستخبارات العسكرية).

قال لصحفي مرافق: "لم تتحقق اي من مخاوفنا". الجنود العراقيين جنوب الكويت لم يكونوا مستعدين للقتال بشراسة، "لقد جعلنا منهم بعبعا".

بخصوص هجوم القوات العربية الشرقية على خط الساحل، فلم يصادف اي مقاومة تذكر من الفرقة الثامنة مشاة للجيش العراقي التي استسلم افرادها بعد قتال بسيط. لكن مع ذلك كانت سرعة تقدم القوات العربية ابطا من قوات المارينز التي واجهت مشاكل اكثر. و يلوم المراقبون الغربيون ذلك على بطء حركة الجيش السعودي حتى مقارنة بالحرس الوطني الذي كان مشاركا معه في نفس الجبهة.

و بالتالي نجحت فرقتان مارينز من اقلاق الفيلق الثالث -مشاة- العراقي المسؤول عن الدفاع عن جنوب الكويت و بالاخص الفرق 7 و 14 و 29 مشاة في هذا القاطع التي استسلم الوف من جنودها. مما اربك الخطة الدفاعية العراقية التي كانت تعتمد على تأخير قوات التحالف عن جنوب الكويت قبل ان يتم تحرك الاحتياطي المدرع لصد اي اختراق.على العموم كان لا يزال هناك امل للعراقيين جنوب الكويت في هذا القاطع بسبب وجود 3 فرق من احسن فرق الجيش العراقي: الاولى ميكانيك و الثالثة دروع و الخامسة ميكانيك خلف الخط الدفاع الاول جنود مدينة الكويت. و كانت خطة قائد الفيلق (الجنرال محمود) هي الدفع بالفرقة الخامسة لمواجهة المارنز يوم 25 و تم تحضير قوات الفرقة للهجوم المضاد الذي كان من ضمن خطط القيادة العراقية الدفاعية. 

------------------------------------------------------------------------------------------

احداث اليوم الاول للحرب البرية - جنوب غرب العراق

في نفس توقيت هجوم المارينز تقريبا، و هذه المرة على مسافة 300 كم غربا. اندفع خليط متميز من القوات الفرنسية و الامريكية نحو جنوب غرب العراق. و كان رأس هذا التقدم هو الفرقة السادسة مشاة الفرنسية نحو قاعدة السلمان. على ان تتبعها الفرقة  82 المجوقلة لتستمر بالتقدم نحو السماوة. و كان الترتيب اول الحرب ان تكون الفرقة الفرنسية تحت القيادة السعودية. و لكن مع حلول بداية العام طلب الجنرال الفرنسي من شواتزكوف نقله تحت اي قيادة اخرى (بأسلوب اقرب ل "أبوس ايدك وديني اي حتة تانية") و بكثير من الدبلوماسية اقنع شواتزكوف الفريق سلطان ان سبب النقل هو انه يحتاج الفرنسيين للهجوم الغربي و تم وضعهم تحت امرة الفيلق الثامن عشر.

و قامت امرة الفيلق بتعزيز الفرقة الفرنسية بلواء من الفرقة 82 المجوقلة. على ان تلحق باقي الفرقة الفرنسيين بعد بلوغهم الهدف الاول لتمشيط المنطقة من اي قوات عراقية قبل الاندفاع نحو السماوه و قاعدة الطليل. و اعطي الامريكان الفرنسيين حصة كبيرة من ال 22 كتيبة مدفعية المخصصة للفيلق. و كانت الخطة ان يتم انزال المدفعية جوا على مدى قريب من المدفعية العراقية بدل التقدم طوال المسافة تحت مرمى المدفعية طويلة المدى. و كانت القوات الفرنسية تحمل محاربين مخضرمين شهدوا الوغى في لبنان و تشاد و كانت مطعمة بفوجين من الالوية الاجنبية الشهيرة في الجيش الفرنسي.

لم يكن لدى الامريكان اي شكوك حول قدرة الفرنسيين على القتال. لكن مدى التزامهم بالخطة و الجدول الحافل كان شيئا اخر. و قد حذر قائد الفرقة 82 قائد الفيلق من ان الفرنسيين سيصلون السلمان خلال يومين بدل ساعات كما كان مقررا. و هو ما يعرض قوات الفرقة 101 المجوقلة لهجوم عراقي مضاد من وادي الفرات (كان واجب الفرنسيين صد مثل هكذا تحرك). و حتى ان قائد الفرقة قد عرض ان يقوم هو باحتلال السلمان خلال 24 ساعة. لكن تم رفض المقترح ﻷنه سيترك الفرنسيين بدون "مشاركة".

و بدأت المشاكل... المطر و الاعاصير الرملية و انثقاب اطارات. و كانت التكتيكات الفرنسية تحبذ الحذر على حساب السرعة (مثل الامريكان قبل 30 عام) و كان التقديم يتم بعد قصفة مدفعية و غارة جوية. و قد نجح الرادار الامريكي في تحديد اماكن المدفعية العراقية و تم اسكاتها بسرعة و لم يكن عند العراقيين اي سلاح كيماوي يوجب التوقف و التأمين.

بعد اختراق 10 كم داخل العراق، بدأ طوفان الاسرى يصل. و قد ذكر بعض الجنود ان حصص المؤن وصلت لحد 5 معالق ارز و قليل من الماء كل يوم. و وصل عدد المستسلمين ل 2000 جندي. مما ساهم في تأخير التقدم اكثر.

و اخيرا، وصل الفرنسيون للحدود الجنوبية للسلمان. و رغم بقاء ساعة كاملة من ضوء النهار، صدم الامريكان من الفرنسيين و هم يفرشون خيامهم بدل اقتحام الموقع!

خطط قائد الفيلق الثامن عشر للتقدم نحو الفرات بثلاث وثبات (انظر الخارطة):
1- انزال لواء من الفرقة 101 المجوقلة 150 كم داخل العراق (30 كم شرق السلمان) عند نقطة انزال تعرف باسم كوبرا في اليوم الاول. و تعلم هذه النقطة كقاعدة اسناد لوجستي للوثبات القادمة.

2- يوم 25 فبراير يتم انزال جوي للواء اخر بالمروحيات بين السماوه و الناصرية لقطع الطريق السريع رقم 8.

3- تتقدم الفرقة 24 نحو وادي الفرات شمالا حتى منتصف المسافة بين الطليل و الجلبة. قبل الانعطاف غربا نحو البصرة.



قبل كل هذا تم ارسال 4 مروحيات (2 اباتشي و 2 بلاك هوك)  الساعة 3 فجر يوم 24 لو ضع علامات ارشادية للمروحيات ال 400 التي ستحمل اللواء الاول للنقطة كوبرا. و قد قاد هذه المهمة المقدم ديك كودي، و هو نفس الطيار الذي قاد الغارة على محطة رادار الانذار المبكر في افتتاح الحرب قبل 5 اسابيع. و كان الظرف الجوي سيئا بسبب الضباب مما ادى لتحطم مروحية بسبب ارتطامها بالارض (نجا الطياران من الحادث). و ادى هذا لتأجيل حركة اللواء لعدة ساعات حتى يتحسن الجو. و هو ما تم تمام السابعة. لك ان تتخيل المنظر عزيزي القاريء. الصفحة الاولى من التنقل كانت 66 مروحية بلاك هوك و 10 طائرات هيز و 30 شينوك (سمتية مزدوجة) تحلق بسرعة 120 عقدة على ارتفاع بضعة امتار عن سطح الارض.

بعيد الوصول فتحت كتيبة عراقية النار على المروحيات من مخابئ حصينة لكن تم الرد بكثافة نارية كبيرة. و سرعان ما استسلم 300 مقاتل من تلك النقطة بعد الساعة 8 صباحا. و تتابعت ارساليات القوات و المؤن للنقطة كوبرا (شاملا مليون غالون وقود) لدرجة ان كمية الغبار المنبعثة منعت الطيارين من الطيران للعودة لمدة ساعة. و بهذا تم تحقيق هدف اليوم الاول للفيلق 101.


----------------------------------------------------------------------

نتوقف قليلا لنقل الاجواء من غرفة حرب شوارتزكوف. حيث توالت التقارير الممتازة صباح يوم الهجوم. القوات العربية الشرقية تتقدم بشكل جيد، الفرقة 101 وصلت اهداف اليوم الاول. و الفرقة الاولى و الثانية مارينز حققت اهداف اليوم الاول خلال الصباح! مما كان سيسبب مشكلة كبيرة لو تقدم المارينز شمالا بدون اسناد من الغرب. حيث سيكون جناحهم مكشوفا امام الفرقتين 10 و 6 المدرعتين العراقيتين الموجودتان غرب الكويت.

تأمل شوارتزكوف الخيارات الموجودة امامه:
1- القوات العربية الشمالية: تحوي المصريين الذين لن يكون من السهل اقناعهم تنفيذ الهجوم قبل الموعد المحدد (حيث كانت الخطة تقضي ان تهاجم القوات المصرية في اليوم التالي). و القوات السورية وافقت فقط على التقدم كخط دفاعي خلفي. و السعوديون لم يثيروا الرعب باللوائين الموجودين في ذلك القاطع.

بعد مزيد من الدراسات و المشاورات كانت التوصية لشوارتزكوف: العراقيون لن يكونوا قادرين على عمل هجوم مضاد على مستوى اكثر من لواء متزامن.

اتصل قائد فيلق المارينز و قال لشوارتكوف ما كان يفكر فيه: المزيد من التقدم سيكشف جناح المارينز الغربي. سأله شوارتزكوف، هل سينفعك تقديم هجوم القوات العربية الشمالية و الفيلق السابع للجيش الامريكي؟ رد بالايجاب. فقال انه سيتصل به بالتعليمات الجديدة.

و الان نذكر القارئ ان الخطة الامريكي كانت بالتقدم من الكويت شرقا اولا. و اقناع العراقيين ان محور الهجوم سيكون من هناك بحيث يدفعون الاحتياطي المدرع للكويت بينما تتحرك القوات الامريكية الرئيسية من الغرب لقطع طريق الانسحاب امام العراقيين و تدمير الحرس الجمهوري. و قد تم وضع مسافة 26 ساعة بين هجوم المارينز و هجوم الفيلق السابع و القوات العربية الشمالية (بحيث تبدأ العمليات الساعة 6 صباحا يوم 25 فبراير) بحيث تسمح للقيادة العراقية ان تبتلع الطعم على مهلها. خصوصا مع ادراك مشاكل الاتصال و التحكم في الجيش العراقي بفعل القصف الجوي.

ان يتم تجاوز فلسفة الخطة، و شهور التخطيط لتقدم الفيلق الامريكي كان امرا مقلقا. و لكن الاتصال مع قادة الفيلقين السابع و الثامن عشر - حوالي 9 صباحا - شجع شوارتزكوف على التقدم. حيث قالوا له انهم يمكنهم التحرك خلال ساعتين من صدور الامر. و كان هناك فعلا خيار التقدم المبكر في بداية تخطيط حركة الفيلقين. لكن تم اهماله اثناء اعداد جداول الحركة. و كان المشكل الكبير هو توافر ضوء النهار بشكل كاف لفتح الالغام. و كان هناك الكثير من التحضير حتى يتقدم الفيلق المدرع كقوة واحدة (باسلوب القبضة) ليواجه الحرس الجمهوري، و تقديم الهجوم بهذا الشكل قد يشتت القوات.

و بعد اتصال قادة الفيالق بقادة الفرق، ابدى الجميع الجهوزي للتحرك عند الظهر. حتى الانجليز وافقوا رغم انهم سيضطروا ان يمشوا على سرف الدبابات حوالي 100 كم بسبب عدم نقلها للخط الامامي بعد.

جلس الجميع ينتظر اوامر شوارتزكوف، الذي تشاور مع الفريق خالد حول مدى جهوزية القوة العربية الشمالية ان تهاجم قبل الموعد الاصلي و احتج الجيش المصري بشدة، و وصل الامر ان طلب شواتزكوف من القاهرة ان تتصل بجيشها ان يتحرك، و اخيرا وافق الجيش المصري على التحرك المبكر. و وصلت اخبار ان العراقيين نسفوا محطة التحلية في مدينة الكويت، مما يشير الى نيتهم في الانسحاب. و في الساعة 12:30 ظهرا صدر القرار. تبدأ القوات البرية الهجوم الساعة 3:00 عصرا. كان هناك شكوك حتى من قيادة الاركان من ان تقديم هجوم قوات بهذا الحجم اكثر من 15 ساعة قد يؤدي لكوارث. و حتى تمرينات الحرب كانت تشير الى مشاكل جمة في تسريع الهجوم 2-3 ساعات. و لكن تمت المقامرة و تم اتخاذ القرار.

-------------------------------

بدأت قوات المحور الاوسط (غرب الكويت) تنفيذ تقدمها. فقد فتح الفيلق السابع نيران المدفعية حسب المواقيت الجديدة الساعة 2:30 ظهر يوم 24 فبراير. و ذلك بواقع 13 كتيبة مدفعيىة و 10 كتائب راجمات صواريخ اطلقت حوالي 11 الف قذيفة و صاروخ خلال 13 دقيقة على منطقة مساحتها 20*40 كم مربع (ملاحظة، كانت الخطة الاصلية تشمل قصفا اكثر من هذا لكن تم التقليل لدواعي الاستعجال).

قبلها تقدم لواء المدرعات الثاني 20 كم داخل الحدود و اشتبك مع العراقيين قبل ان ينسحب. و قبيل موعد الهجوم الاصلي اراد فريد فرانكس قائد الفيلق تحويل الهجوم المقرر من اللواء و الفرقة الثالثة لتحيط بالقوات العراقية بالاتجاه شرقا بدل التقدم شمالا لضرب الحرس الجمهوري. و قد صدم قائد الفرقة و طار بالمروحية ليقنع قائده بالعودة للخطة الاصلية. و اخيرا كسب الجولة و عاد ليخبر قواته ببقاء محور الهجوم كما هو و قال لغرفة عملياته (لقد كسبنا اول جولة من الحرب بهذا القرار).

 عند الساعة الثالثة، تم رفع القصف المدفعي. و تحشدت قوات لواء المدرعات الثاني في المقدمة، وخلفه من اليمين و اليسار فرقتي مدرعات الفيلق السابع. وكان على الجميع الانتظار حتى يتم خرق خط صدام من قبل الفرقة الاولى مشاة، احدى فرق المشاة التي قامت بانزال النورماندي.  و قد تقدمت الفرقة على جبهة بعرض 15 كم، حيث اظهرت صور الاقمار الصناعيى وجود انفراج بين الفرقتين العراقيتين المقابلتين: الفرقة 48 مشاة كان خط دفاعها على شكل الحرف W بينما الفرقة 26 غربا كان خط دفاعها اقرب للخط المستقيم و بشكل اضعف من الفرقة المجاورة. و كان للفرقة الامريكية مسوحات حديثة عن طريق طائرة U2 و الدرونات و كانوا يعرفون موقع كل العتاد العراقي الثقيل و التشكيلات. و قدر قائد الفرقة ان الفرقتين قد خسرتا مالا يقل عن 40% من القدرة القتالية و ان 90% من مدفعيتهم قد دمرت. و قد قدر ان قدرات الفرقة الامريكية هي 12 ضعف قدرة الفرقتين العراقيتين المدافعتين معا. و هو اكثر بكثير من ال 3 اضعاف المطلوبة للمهاجم للتغلب على عدو متحصن.

و بدأ الجيش عملية اختراق بأسلوب سيثير الكثير من النقاش القانوني بعيد الحرب. حيث تم استخدام الجرافات و المداحل في طمر الخندق على من فيه من جنود عراقيين كتمهيد للتقدم. حيث تبين ان شحنات التفجير تعطلت بمعدل 60% في اختراق حقول الالغام و لم تبد القوات العراقي اكثر من مقاومة رمزية، و قد احتار الامريكيون في سبب ان الكثير من القوات العراقية كانت تواجه الغرب في ذلك القاطع او الغرب الجنوبي بدل الجنوب حيث محور الهجوم. و قد تبين للجيش اثناء تمارين الاختراق في الصحراء الامريكية، ان اسلوب ترك الجنود لناقلاتهم و فتح الالغام يدويا هو اسلوب فيه خطر على حياة الجنود. و ان الخسائر من الممكن تقليلها و زيادة سرعة فتح الطريق خلال حقل الالغام من خلال جرافات من طراز M9 المدرعة.حيث تقتحم الجرافة الحواجز بينما تطلق المدرعات نيران المشاغلة على العراقيين (كون الجرافة تشغل من قبل سائق واحد في اخرها و هو غير محم بشكل جيد). و اختار الجيش ان لا يطلق اي نداء للعراقيين بالتسليم خوفا من ابطاء الهجوم بالاسرى او اعطاء العراقيين فرصة للقصف بالكيماوي. كانت الكثير من الخنادق في حال هندسية سيئة لدرجة اثارت استغراب الامريكان.




و خرجت المسائلات حول اسلوب دفن جنود العدو احياء بوصفه جريمة حرب. و لكن الحقيقة ان مثل هذا الاسلوب معروف منذ الحرب العالمية الاولى. و تمت مراجعته من قبل الامم المتحدة في السبعينات و قبل بوصفه تكتيكا مقبولا ضمن تكتيكات الحرب التقليدية. و قد قلق قائد الفيلق اول الاختراق من الاثر القانوني لفعلته انه اتصل بمستشار قانوني للجيش للاستفتسار عن شرعية هذا الاسلوب. و كان الرد "بسبب كون الفرقة تحت القصف العراقي، فلا خطأ قانوني في التكتيك".

تم اختراق خط صدام خلال 29 دقيقة من قبل فرقة المشاة بحفر 8 ممرات مؤمنة. و نفس العدد تم تأمينة من قبل اللواء المدرع. و تم قتل جنديين امريكيين و اسر 500 جندي عراقي. و كان التقدير ان من دفن من العراقيين في اثناء ردم الخنادق حوالي 150 جندي.

و بهذا تنتهي اهم احداث اليوم الاول للحرب البري. حيث نجح الامريكيون في اختراق الدفاع العراقي جنوبا من جهة الكويت من محورين (واحد للمارينز و الاخر للقوة العربية المشتركة الشرقية) و نجح الجيش في تقديم موعد هجومه يوما كاملا و اختراق الدفاع العراقي غرب وادي الباطن (غرب حدود الكويت مع العراق) و نجحت الوثبة الاولى للفرقة المجوقلة و القوات الفرنسية جنوب غرب العراق.

في المقابل لم تكن الامور بتلك السوء امام المخطط العسكري العراقي. فالقوات التي ضربت هي قوات الخط الاول مشاة التي من المفروض ان تكون اقل القوات استعدادا بفعل القصف المستمر. و كان الاعتماد عليهم ان يؤخروا المهاجمين قدر الامكان حتى يتمكن احتياط الجيش المدرع من التقدم لصد اي اختراق قد حصل. و فعلا قام قائد الفيلق الثالث بانذار الفرقة 5 مشاة ميكانيك بالتقدم جنوبا لايقاف المارينز. و قام قائد الفيلق السابع العراقي بارسال لوائين من الفرقة 12 دروع نحو البوسية لايقاف الفرنسيين. مع تحضير قواته للهجوم الامريكي المتوقع من جهة وادي الباطن. 








===============================================

مساء يوم 24 فبراير، ذهب شوارتزكوف ليحصل على بعض الراحة استعدادا لليوم الثاني من الهجوم البري. و عاد لغرفة الحرب فجر يوم 25 فبراير بمزاج جيد و احساس بان النصر هو في متناول اليد. و كان نجاح هجوم الفيلق المجوقل عميقا داخل العراق بدون اي خسائر تذكر و كذلك هجوم المارينز الناجح جدا لا يقل عن معجزة في نظرة. العرب شرقا تقدموا بشكل جيد (بعض التأخير ربما بسبب الاسرى) و كذلك القوات العربية الشمالية نجحت جزئيا في الاقتحام (من اسباب التأخير هو قلة عدد معدات فتح طرق في حقول الالغام). و قد ذكرت التقارير ان 3 كتائب مصرية وصلت حافة حقل الالغام العراقي عند ساعة الصفر الجديدة و لكنها فضلت ان تتراجع خلف الحدود مرة اخرى اثناء الليل.

الاستخبارات تشير الى ان فرق النسق الاول للجيش العراقي: 7و 8 و 14و 18و 29 تعتبر فاقدة للقدرة القتالية بعد معارك الامس. و فرق المشاة الميكانيك: 5 و 3 قد ضربت بشدة. و كانت الفرقة الخامسة لا تزال تحاول الصمود بين مطار الكويت و مدينة الجهراء. و بقيت 3 فرق عراقية بقوتها تواجه الساحل بانتظار الهجوم البرمائي عند مدينة الكويت.


و فجأة ظهر على خارطة غرفة العمليات ما اثار استغراب شوارتكوف. العلامة المصاحبة للفيلق السابع لم تتقدم اثناء الليل! صاح الجنرال في ضباط غرفة العمليات: "ماالذي حصل للفيبلق السابع؟ هذه الخارطة خاطئة!"
"تم تحديثها للتو يا سيدي و هي صحيحة".
"احضر لي تقارير المواقع"

و عندما تبين ان المواقع على الخارطة صحيحة، احمر وجه شوارتزكوف بالغضب. "اتصل بيوسوك الان". و صاح في قائد العمليات طالبا تفسيرا لهذا الذي يراه على الخارطة، ثم صاح فيه قبل ان يرد انه لا يريد ان يعرف سبب التأخير. و ان يخبر قائد الفيلق (الجنرال فرانكس) ان بديله جاهز لو احس ان العمل اكبر من قدراته.

و قد حصل شوارتزكوف على مكالمة بنفس المضمون (و ان كانت الحدة مختلفة) من كولن باول. حيث قال له ان اساس الخطة ان لا يتمكن الحرس الجمهوري العراقي من الهروب. و الان نجد ان القوات التي من المفروض ان تحاصر الحرس الجمهوري هي القوات الوحيدة المتأخرة عن جدول عملياتها! و هذا الامر محرج خصوصا و ان الفرقتين مشاة مارينز و اللواء 24 مدرع قاموا بواجبهم باسرع من المطلوب.

و هذا الحادث سيبقى محل خلاف تاريخي بين اطرف المسألة. من جهته اتهم شوارتزكوف قائد الفيلق بعدم استغلال ضعف العدو و عدم المرونة في تنفيذ العمليات، فيما من السهل الدفاع عن موقف الفيلق بأن تقديم موعد الهجوم البري 15 ساعة امر ليس سهلا على الاطلاق الالتزام به، ناهيك عن ان اختراق حقول الالغام في الليل يزيد من المسألة تعقيدا. و قد اختار فرانكس سلامة قواته على السرعة. عموما، لا يزال الفيلق ضمن مواقيته للاشتباك مع الحرس الجمهوري بعد 72 ساعة. و قد قام قائد عمليات المنطقة بواجبه و حمى مرؤوسيه من غضبة شوارتزكوف و لكن افهمهم ان السرعة مطلوبة.

من جهة الطرف العراقي، فقد بدأت معالم المشكلة في جنوب الكويت بالبروز. فالهجوم المرتد العراقي للفرقة5    مشاة ميكانيك قد فشل فشلا ذريعا. و مازاد من فداحة الخسارة ان هذا الهجوم كان مقررا في الخطة الدفاعية العراقية و قد تم التخطيط له مسبقا و بدقة. و لكن بسالة العراقيين و تقدمهم في القتال لم يسعفهم اما المارينز. حيث لاحظ المارينز ميل العراقيين للهجوم التعرضي المباشر و الضعف في المناورة. و عليه قرر قائد الفيلق الثالث التراجع لخط دفاعي اكثر امانا عند منطقة المطلاع. و طلب من الفرقة 3 دروع عمل حائط صد لحماية القوات اثناء التوجه شمالا.


----------------

ننتقل الى جنوب غرب العراق. حيث كان هدف التوغل المجوقل للفرقة 101 الامريكية مزدوجا:

اولا: قطع خطوط التموين بين بغداد و القطاعات العراقية في الكويت.
ثانيا: تحقيق فعل الصدمة للقيادة العراقية من تواجد قوات امريكية كبيرة على بعد 200 كم فقط من بغداد.

و كان الموقع الذي يحقق هذا الهدف هو بلدة الخضر. حيث يقترب مجرى النهر من الطريق السريع رقم 8 بما يجعله موقع مثالي لأقامة نقطة عسكرية تقطع الطريق بين بغداد و البصرة.

صباح يوم 25 (اليوم الثاني للعمليات البرية) قامت 4 طائرات شينوك بانزال الدفعة الاولى من الفرقة المجوقلة بعد طيران حوالي 200 كم من السعودية. و تم انزال المعدات الثقيلة على بعد 30 كم جنوب الهدف. على ان يتم دمجها مع الكتيبتين المتوجهتين نحو وادي الفرات بعد الظهر في وجبات الانزال المروحي التالية. حيث لم يكن مدى الشينوك يسمح بالتقدم اكثر و كذلك كان هناك تخوف من اسقاطها من قبل العراقيين. و لكن التقرير الجوي اشار الى عواصف متوقعة مساءا. و بالتالي تم تقرير ارسال القوات مبكرا و الهجوم على الهدف بعد الظهر (و ليس مساءا كما كان مقررا).

سارت قافلة المركبات (60 عربة همفي مزودة بصواريخ تاو) نحو الطريق السريع وسط المطر. و سرعات ما تحول الطريق الى وحل. و بدل ان يصل السلاح الثقيل للمشاة الذين يتم انزالهم على الطريق السريع خلال ساعات قبل حلول الظلام. وصلت المعدات صباح اليوم التالي. مما ترك كتيبتي المشاة التي كانت على الطريق السريع في حال حرج لو قدرت الظروف و كان هناك قوات عراقية ثقيلة تواجههم.

على اي حال، انطلقت 66 مروحية بلاكهوك. تحمل كل واحدة بين 15-17 مظلي الى منطقة الخضر عند الساعة 3 عصرا من العربية السعودية. و كانت منطقة الانزال موحلة لدرجة ان وصل الطين لخاصرة بعض الجنود. و تامل قائد اللواء المنطقة المحيطة. و لم يحصل اي قصف عراقي مدفعي كما كان يخشى. و وسط هطول المطر الشديد بدأت تظهر علامات انارة السيارات المدنية العراقية. و توقفت اول سيارة و نزل منها مواطن عراقي لم يصدق ما رأى قبل ان يهرب بأقصى سرعة.

حسنا تم الانزال، لكن الارض الموحلة و الجو السيء و عدم وجود سلاح ثقيل اقنع القيادة بتأخير انزال الكتيبة الثانية (الالف جندي الثاني) على ارض المعركة لحين استقرار الامور. و بقيت الكتيبة الاولى معرضة لتهديد حقيقي لو وجدت اي قوات عراقية تشتبك معها. و هذا ما لم يكن موجودا. توزعت القوات على الطريق السريع و تم وضع اشارات بالعربية و الانجليزية (منطقة عمليات للجيش الامريكي - ابق بعيدا). و اول اشتباك كان مع 15 جندي مشاة عراقي و انسحبوا بعد ان تم تبادل النار معهم و لجوء المظليين لمورتر عيار 60 مم.

 و قد افسد الطين نظامين من اصل 4 منظومات تاو محمولة كانت مع القوات و تم نصب المنظمومتان الصالحتان على الطريق. و كانت الخطة ان لا يتم استهداف السيارات المفردة على اعتبار انها مدنية في الاغلب. اما القوافل فسوف تضرب. و فعلا اتت قافلة من 4 سيارات فقط الاولى تشعل الانارة الامامية و تم ضرب السيارة الاولى و توقفت باقي السيارات و هرب من فيها. و تبين ان فيها شحنة بصل!

بعد قطع الطريق بين بغداد و البصرة، لم يكن امام القوات الامريكية الا انتظار تحسن الجو. او اي هجوم عراقي متوقع. و شعر قائد اللواء بالذعر من تقارير سلاح الجو التي تشير الى قافلة من 200 سيارة عسكرية قادمة من الناصرية نحو قواته. لكن بعد دقائق توقف الموكب و عاد ادراجه. و تم تدمير عدة سيارات تحمل مسروقات من الكويت عندما ارادت اجتياز الحاجز رغم التحذير المتكرر. و اتى عمدة بلدة الخضر يتوسل القوات الامريكية ان يسمحوا لهم بهب العربات العراقية التي دمرت. حيث اشتكى من ظروف القرية السيئة. و وافق الامريكيون على ذلك.


===================

من بلدة الخضر ننتقل الى مدينة الخبر في السعودية. فبعد 6 اسابيع من الحرب، تحول موضوع صواريخ السكود من مصدر للقلق و الاستنفار الى امر اقرب للازعاج فقط. و صار معدل اطلاق الصواريخ العراقية حوالي صاروخ في اليوم. و انتاب الجميع شعور بالأمن من هذا الخطر. و بدل الهروب الى الملاجئ صار الجنود يصعدون الى الاسطح على امل مشاهدة المعركة بين السكود و الباتريوت.

تغير هذا الكلام يوم 25 فبراير. ففي الساعة 8:32 صباحا التقط القمر الصناعي الاشعاع الحراري المرافق لاطلاق صاروخ سكود من منطقة القرنة (جنوب البصرة). و خلال 3 دقائق وصل الانذار الى بطارية الدفاع الجوي في الكتيبة الثانية اللواء السابع دفاع جوي في الظهران. و بعدها بدقيقة رصدت البطارية الصاروخ العراقي و هو يصعد فوق الكويت على مسافة 100 كم. 

بسبب كون مدى الصاروخ هو خارج مدى عمليات تلك الوحدة، فقد اكتفوا بمراقبة الصاروخ طوال نصف دقيقة. و نفس الحال تكرر مع الوحدتين دلتا و ايكو اللتان رصدتا الصاروخ و لكنه كان خارج مدى عملهم. و كان الصاروخ يتجه نحو منطقة مغطاة بوحدتين الفا و برافو المتموضعتين في قاعدة الظهران الجوية و التي تعد اهم هدف عسكري امريكي في شرق المملكة العربية السعودية. الوحدة برافو كانت مطفأة منذ 4 ساعات ﻷعمال صيانة على الرادار. و جلس طاقمي الوحدة الفا على اهبة الاستعداد يستمعون لتقارير الوحدتين دلتا و ايكو حول تقدم الصاروخ. و كانت كل المؤشرات تشير الى ان الوحدة جاهزة 100% للاعتراض بمجرد بروز الهدف.

و لكن كل المؤشرات كانت خادعة. فقد تسبب خلل في برمجيات الباتريوت في اعماء رادار النظام عن الصاروخ العراقي. فقد تبين ان حسابات الباتريوت المستمرة تعطي خطأ حوالي واحد من المليون من الثانية لكل ثانية. يعني يجب ان يعمل النظام حوالي 11.5 يوم ليصير فيه خطأ ثانية واحدة. و كان نظام العمل حين تحارب عدوا كفؤا (مثل السوفيت مثلا) ان تطفئ الرادار و تغير موضع العمليات كل عدة ايام. لكن العراقيين لم يكونوا سوفيت. و اهمل الطاقم الامريكي هذا الاجراء الروتيني و لم يتم اطفاء الرادار افترة طويلة. و في يوم الحادث كان النظام يعمل بشكل مستمر لليوم الرابع على التوالي، مما شكل خطأ حسابي حوالي ثلث ثانية. و بسبب سرعة صاروخ السكود، فان هذا الخطأ البسيط في التوقيت يتحول لخطأ بحوالي 500 متر في توقع مسار الصاروخ. و بالتالي بحث حاسوب التتبع في السماء الفارغة و لم يجد الصاروخ!

و الحقيقة فقد كاشف الاسرائيليون الامريكان بهذا الموضوع في فبراير 11 بسبب استخدامهم تقنيات لدراسة مدى فعالية الباتريوت في المواجهة مع السكود (و قد رفض الامريكان استخدامها بسبب خوفهم من تأثيرها على الباتريوت نفسه). و قد حذر الاسرائيليون من ان النظام يفقد الفعالية بدءا من الساعة الثامنة من التشغيل المتواصل. و اعتبر المصنعون ان المشغلين لابد و انهم يطفئون النظام الصاروخي كل بضع ساعات (تماما كما تفعل مع حاسوبك) و اعتبر التحديث ثانويا.

ارسلت النسخة المحدثة من البرنامج (كان الهدف الاساسي هو تحسين فعالية رصد السكود من بين شظاياه). و قد وصلت الاشرطة الى نيوجيرسي يوم 22 فبراير. و وصلت الرياض يوم 24 فبراير. و كان من المقرر ان يصل الى البطارية المنكوبة يوم 26 فبراير. اي خلال اقل من يوم على الكارثة التي حصلت.

نعود لطاقمي الباتريوت المساكين. فقد استمرا يحدقان في الشاشة 90 ثانية دون رؤية اي شيء. و تحققا من عمل النظام و كان يشير الى انه يعمل بكفاءة. و ضربت صفارات الانذار في مدينة الخبر على بعد 5 كم من النظام الدفاعي. و كان هناك مستودع ضخم للجيش الامريكي و خيمت على اطرافه وحدة من 127 جندي من الاحتياط (يقومون باعمال غير قتالية). و لسبب ما تأخر اطلاق الصفارات في الخبر لما قبل السقوط بثلاثين ثانية فقط. و لم تكن في تلك المنطقة اية ملاجئ تحت الارض. و كانت تعليمات الجنود "ابق في الداخل عند سماع الانذار". و كان ان نزل الصاروخ العراقي (لعله الوحيد الذي لم يتفكك في السماء) على المستودع و على من فيه.

كان عدد القتلى 28 و الجرحى 98 اكثر من نصفهم من تلك الوحدة الغير قتالية المنكوبة التي كان معدل خسائرها في تلك الحرب اكثر من 75%!

سوء التوفيق العجيب في قصف الخبر ذكر الجميع بالتوفيق العجيب الذي صاحب الحلفاء اثناء الحرب. فلا احد يستطيع تخيل تأثير مثل هذه الضربة لو حصلت في اسرائيل اول الحرب مثلا.


==============================

"عليك ابقاء الضغط على العدو طوال الوقت" هذا كان محور مكالمة شوارتزكوف مع قيادة الفيلق السابع. و كان هناك احباط كبير في القيادة من التأخر المظهري لهذا الفيلق مقارنة بقفزات فرقتي المارينز و الفيلق الثامن عشر المظلي. و بدأ صبر الفيلق السابع على هذه الانتقادات ايضا ينفذ، حيث بدأوا بالرد بحدة على مثل هذه الاستفسارات باجابات من قبيل: "السبب انه لا يوجد اي عدو امامهم، كل ما يفعلون هو السير فوق جرذان الصحراء و سحاليها".

هذا الكلام كان سهلا على الورق. لكن اندفاع الفيلق المدرع من عنق الزجاجة (المنطقة الضيقة التي اخليت من الالغام) استغرق وقتا طويلا. على العموم، طار الجنرال فرانكس بالمروحية الى الفوج الثاني المدرع الذي كان متأخرا في جدوله. و كان مسرح العمليات يسوء كل ساعة بفعل العواصف و المطر. و قد طلب قائد الفوج (جون هولدر) من قواته عمل خط دفاع لحين قدوم قوات الفرقتين المدرعتين القادمتين من الجنوب لتعزيز اطرافه. لم يعجب القرار فرانكس و قال له: لا دفاع! لا دفاع! تقدم و اشتبك مع العدو امامك و ان لم يكن هناك عدو تقدم حتى تصل له. حافظ على الاشتباك، لكن لا تخض معارك حاسمة تثبت قواتك.

 وصل الجنرال فرانكس الى النقطة التي يجب عندها ان يقرر كيف سيواجه الحرس الجمهوري. فقد تجاوزت قواته البوسيه. و بدأ في دراسة الخارطة و تقارير الاستخبارات ليقدر ما هي نوايا العراقيين. في الاربع و العشرين ساعة الاخيرة كان لدى الطرف الامريكي صورة عن الجيش العراقي انه جيش منهك و لا يزال يحاول عمل خط صد دفاعي امام الاندفاع الامريكي. و امام الجنرال فرانكس فالخط الدفاعي الاول (الفرقتين 25 و 26 مشاة) كان بحكم المنتهي. و كلا الفرقتين لم تكن على اتصال مع قيادة الفيلق منذ اسبوع. و كانت المعنويات سيئة و العتاد الثقيل مدمر بشكل شبه كامل.

لكن خلف هذين التشكيلين توجد 4 فرق حرس جمهوري:
1- فرقة توكلنا على الله غربا
2- فرقة المدينة في الوسط
3- فرقة حمورابي شرقا
4- فرقة عدنان شمالا (عند البصرة).

و قد تحرك لواءان من الفرقة 12 المدرعة للجنوب باتجاه حفر الباطن للتصدي لهجوم مزيف قام به الفوج الاول. و تحرك لواء مدرع 50 لشمال شرق لعمل خط صد اول امام فرقة توكلنا. و فهم الامريكيون من هذا التحرك ان هذا اللواء و من خلفه فرقة توكلنا سيعملوان حائط صد تنسحب من خلفه قوات الفيلق العراقي الثالث الموجود داخل الكويت. و كان التقدير ان فرقة توكلنا ستكون سلبية الحركة بانتظار قوات التحالف مع نشر استطلاع بعمق 7 كم غرب مواضعهم لكشف اي تحرك للتحالف. و هذا ما يفسر طلب فرانكس من الفوج المدرع التقدم حتى ملامسة العدو.

مع تقدم البريطانيين في نفس الجبهة. كان التأخر البارز هو من طرف الفرقة الاولى الامريكية. التي كانت بقايا الفرقة 26 مشاه العراقية (و الكثير من افرادها الذين اصبحوا اسرى) و اخيرا شارفت الفرقة على هدفها الاخير في الشمال (مدينة البوسية) و التي يتوجب عليهم السيطرة عليها قبل الانعطف شرقا. و كانت المدينة (او بالاحرى البلدة) عبارة عن 50 مبنى. و كان فيها كتيبتان عراقيتان للدفاع عنها. و كان تقدير قائد الفرقة الاولى انه يستطيع اخذ المدينة قبل حلول الظلام. و اتصل بقائد الفيلق ليخبره انه يفضل ذلك بسبب احاطتها بالاودية و التي من الخطر التقدم فيها ليلا بسبب احتمال فقدان بعض الدبابات. الخيار لك في ان نتقدم الان (كانت الساعة 6 مساء) او ان نقصفهم طوال الليل و ناخذ المدينة عند اول ضوء. و فضل فرانكس عدم خسارة قوات بدون داع بسبب قتال الليل (رغم تعليمات الرياض المشددة بالاستعجال).  

و اخيرا بدأت اصابع (القبضة) التي سيضرب بها فيلق فرانكس تتجمع. و كان عليه الان مسؤولية تحديد اين سيضرب الحرس الجمهوري العراقي. و كان القرار ان يضرب التشكيات العراقي على حدود الكويت-العراق الغربية بدلا من ان يكمل حركة الخطاف و يستمر بالمسير نحو البصرة. و بانتظار ان يسمح شواتزكوس للفوج الاول مدرع ان ينضم لقيادة فرانكس و بحساب انه سيكون جاهزا على الخط في يوم الثلاثاء (ثالث ايام القتال) ستكون المواجهة بين خمس فرق مدرعة امريكية و خمس فرق مدرعة عراقية.

ما يجد ذكره ان الفيلق المدرع وضع عدة سيناريوهات لقتال الحرس الجمهوري. و كانت احداها خطة من 9 صفحات اطلق عليها اسم Frag plan 9. و كانت الخطة على اساس ان تشكيلات الحرس الجمهوري لن تتحرك من مواضعها ازاء التحرك الامريكي. و كانت مواضع القطعات مشابهة على الارض لدرجة ان كل ما كان على فرانكس ان يفعل هو ان يطلب تنفيذ هذه الخطة. في هذه الاثناء كان شوارتزكوف يتصل في كل فائد فيلق (من المارينز الى المجوقل) و يعنفهم و يفهم كل واحد منهم انه متأخر عن  جدوله! رغم انه طلب من تلك القوات التوقف قليلا بسبب تأخر قوات فرانكس و تأخر المصريين الامر الذي كان سيكشف اجناب المارينز و القوات المجوقلة.





=========================================
التقارير الواردة عن الاشتباكات مع قوات التحالف في اقصى الغرب نبهت قيادة الاركان العراقية الى ما يحصل. و ان هناك تهديد حقيقي ان يتم حصار كامل الجيش العراقي في الكويت. و تم التصرف كالتالي:
1- اصدار الاوامر لخمس فرق من الحرس الجمهوري و الفرقة 17 مدرعة و باقي الفرقة 12 مدرعة بصد هجوم الفيلق السابع الامريكي.
2- تم اعادة توزيع 3 فرق اخرى بين المدن العراقية الرئيسية حيث تم مثلا سحب فرقة بغداد و فرقة القوات الخاصة من شمال الكويت الى العاصمة. و تم تحريك فرقة الفاو للبصرة للبدء بتحضير الدفاعات.
3- تم اصدار الاوامر للفرقة السادسة مدرعة، الاولى ميكانيك، و الثالثة مدرعة بتغطية انسحاب الجيش العراقي امام تقدم المارينز من جهة الجهراء.



بدأت رائحة الانسحاب العراقي تصل انوف قوات التحالف. فقد بدأت تقارير الناشطين الكويتيين بايصال تفاصيل تحركات كبيرة للقوات العراقية للشمال. و كانت التقارير تذكر ان القوافل تشمل مركبات عسكرية و مدنية. وجه قائد العمليات الجوية طائرات JSTARS (طائرة تشبه الاواكس و لكنها مخصصة لرصد المركبات الارضية). ان تستطلع الموقف.

و اظهرت تقارير الطائرة تحركات كثيفة على الطريق بين مدينة الكويت و البصرة. و تم رصد حوالي 150 الية عند مدينة الجهراء شمال الكويت. و طالب قائد العمليات الجوية اطقم السرب الرابع F-15 الذي عاد للتو من مهمته ان يعود للسماء ليدمر هذا الموكب. و قام السرب بالقاء القنابل العنقودية امام الموكب و من ثم خلفه لحصره في منطقة المطلاع و خلال ال 48 ساعة التالية تم ضرب الموكب مرارا و تكرارا من قبل سلاح الجو عند منطقه المطلاع في عمليه حققت شهرة اعلامية واسعة بسبب حجم الدمار الهائل و سمي الطريق بطريق الموت.

و كان هذا هو سر غضب شوارتزكوف من تأخر الفيلق السابع المدرع. فالعراقيون ينسحبون و لا توجد قوات على الارض لتوقفهم. و سلاح الطيران لا يستطيع ان يقوم بمهمة تدمير طرق الانسحاب و منع العدو من الهرب بشكل كامل. و لكن في يوم الثلاثاء كانت القوات المتقدمة للشرق نحو الكويت تبعد 50 كم عن الحدود و 60 كم اخرى عن الطريق السريع.

عموما صارت قوات فرانكس جاهزة للهجوم. و كانت المشكلة الوحيدة هي مدينة البصية. فبينما وعد قائد الفوج المدرع الامريكي باحتلالها قبل الساعة 9 صباحا. لم ينجح القصف المكثف طوال الليل باكثر من 1300 صاروخ و 1400 قذيفة مدفعية من عيار 155 مم في دفع كتيبة العراقيين في المدينة للاستسلام. فتم محاصرتهم داخل المدينة بكتيبة معها مدفع 165 مم القادر على هدم منزل بقذيفة واحدة ليقوم بتدمير كل المباني (استسلمت الكتيبة العراقية عند الظهر) و استمر التقدم الامريكي شرقا.

اول مشكلة: الجو السيء الذي لم يسمح لمروحيات الفيلق السابع الامريكي ان يستكشف امام القوات. و بالتالي لم يكن يعرف فرانكس اين قوات الحرس الجمهوري. و كانت المشكلة لدرجة ان السرية الرابعة المدرعة (عربات برادلي) و التي تعمل امام القوات كقوات كشف اتصلت بفرانكس ليرسلوا تقرير ان الرؤيا صارت اقل من 300 متر. و بعد تردد قرر فرانكس ابقاء تلك القوات امامه بدل سحبهم.

عند وصول السرية الى حدود الكويت الغربية مع العراق بدأ اطلاق نار متفرق من الاسلحة الفردية. استطلعت السرية بالمناظير الحرارية لتجد دبابات و مدرعات و مشاة. تم ارسال التقرير بالقوات التي امامهم بدون معرفة اي فرقة امامهم. تبين لاحقا ان ما كان امامهم هو الخط الاول - مكون من 6 دبابات T-72 و 18 مدرعة - من فرقة توكلنا على الله. المدهش ان الامريكان - وقد اعماهم الغبار - دخلوا منطقة القتل العراقية و كانوا على بعد 200 متر من مدافع التشكيل العراقي الاول.

و بدأ الرمي بالدبابات العراقية. ذهبت سرية اخرى لاسناد السرية الرابعة الامريكية في مأزقها. و ضرب افراد السرية شعلة ضوئية حمراء لتحديد مكانهم. و لكن الرياح اطفأت الشعلة داخل الرمال. و توزعت خلف عربات البرادلي دبابات الابرامز. و التي بدأت تطلق النار بدون اذن. و كانت اول اصابة لعربة البرادلي من النيران الصديقة. و كان تبادل النار بين الاسلحة الرشاشة العراقية و مدافع البرادلي. و كانت القذائف العراقية بعيدة اول الامر. و لكن مع تصحيح الرماية بدأت تقترب ﻷمتار. تم انقاذ 3 من طاقم البرادلي و لكن مات احدهم من جراحه لاحقا. اصابات اخرى تحققت للعراقيين بالاسلحة الرشاشة و حاولت اطقم صيد الدبابات العراقية الاقتراب لتحقيق اصابات مباشرة. و تم ضرب برادلي اخرى من الخلف بنيران صديقة مع مقتل جندي و جرح اثنين. و اطلق الامريكيون الدخان و تراجعوا. تم تدمير 3 عربات برادلي من اصل 14. و تم اصابة كل عربة بنيران رشاشة او بمضاد الدروع. و في المقابل تم تدمير معظم القوة العراقية. في المحصلة قتل جنديان امريكيان و جرح 12. لاحظ عزيزي القارئ ان هذه المعركة كان فيها الظرف لمصلحة الجيش العراقي. فالقوة الوحيدة للعدو التي لا تمتلك الابرامز هي التي دخلت بدون اي انذار الى منطقة القتل العراقية. و كان المفروض ان يكون العراقيون اقدر على على اصابة عدوهم. و بدون طيران معادي.

سنستخدم نفس الخارطة لنذكر بسير العمليات في اقصى الغرب:
1- يجب على الفرنسيين ان يحتلوا مدينة السلمان و يكون هذا اخر هدف عسكري لهم
2- تقوم سرايا الهندسة الامريكية بتطهير المطار هناك لاستخدامه كقاعدة عسكرية لارسال الوقود و الذخيرة للقوات في الشرق.
3- تترك الفرقة المجوقلة 82 المنطقة و يتوجه شرقا للحاق بباقي الفيلق المجوقل.



مدينة السلمان كانت فارغة. قبل الحرب كانت التقديرات كان عدد سكانها 3 الى 7 الاف. و لم يجد الفرنسيون اكثر 12 شخصا هناك. عمد العراقيون لتفخيخ الكثير من الابواب و ممرات في المباني المهجورة. و قتل فرنسيان من حادث من هذا النوع.

و بدأت سرية هندسة في تنظيف المطار الكبير من الوف الذخائر التي القتها طائرات التحالف عليه طوال اسابيع القصف الخمسة. و كانت المهمة شاقة و مستعجلة و بنفس الوقت حساسة. و لكن تداخل المطالب و خوفا من عدم كفاية متفجرات C-4 المستخدمة في تفجير القذائف. بدأ افراد بعض السرايا بالتساهل في اجراءات الامن:

1- تم تجميع الكثير من الذخائر في اكوام للتفجير.
2- سرايا الهندسة صارت تعمل كمجموعة بدل ازواج.

و وقع خطأ ما و ادى لانفجار احدى اكوام الذخائر في فريق من 7 افراد. و قتلوا جميعا و بالكاد وجدت اجزاء اجسامهم. عموما. انتهت المهمة و بدأت الفرقة 82 تتقدم للشرق. و كانت الفكرة ان يمر اللواء قبل فرقة المشاة 24. و لكن رفض قائد الفرقة ان يعطيهم الاولوية. سبب هذا زحاما و شجارا كبيرا بين القيادتين قبل حل الاشكال. و شهور خلت بعد الحرب اتهم كل طرف الطرف الثاني انه هو سبب تعطيل حركة الخطاف لثلاثة ايام.  



==================================


لا يوجد تحد في العسكرية يواجه الجيوش مثل الانسحاب من ارض المعركة تحت الضغط. و يتطلب هذا من الجنود و من القادة الثقة بقادتهم و بقدراتهم. و كذلك استخدام تكتيكات مناسبة للانسحاب. اضافة للكثير من الحظ و سوء التقدير للعدو المتقدم. و الهدف من الانسحاب هو الحفاظ على ما يمكن من قوات و عتاد و معنويات لجولة اخرى ضمن ظروف افضل.

و ان كان هناك بعض المشاكل في تنفيذ الجيش العراقي لبعض الواجبات البسيطة بسبب ظروف الجيش و ظروف الحرب. فما بالك الان بهذا التحدي العملياتي الاصعب. خصوصا و ان القيادة السياسية العراقية قمعت بشدة اي تفكير بالمناورة او الانسحاب (حسبما اشار القائد رعد الحمداني في شهادته) و بالتالي لم يكن هناك اي نوع من التحضير. اضافة لمشاكل الاتصال و سيطرة العدو المطلقة على الجو. العامل الوحيد المساعد كان الجو السيء، و هو ما لن يستمر طويلا.

كان العراقيون، طوال شهور الحرب، يمارسون الصمت اللاسلكي بشكل يثير الاعجاب حقا. بحيث تم تخفيف الاتصال اللاسلكي و الاشارات اللاسلكي حتى لا يستطيع العدو ان يتنصت او ان يعرف اماكن الاتصال. و كان الالتزام العراقي في هذا الموضوع سببا لشك الاستخبارات العسكرية للتحالف ان عقوبة المخالف هي الاعدام.

المشكلة في هذا الموضوع، ان مهارة تنسيق الاعمال العسكرية و الاتصال هي مهارة تحتاج تدريب مستمر و الا تراجعت قدرات الاطقم. و هذا الاذى يسمى في الادبيات العسكرية (الصمت اللاسلكي الانتحاري).

و جلست عشرات اللواقط الاجنبية من سواتل و طائرات و قوات على الارض تنتظر اي اشارة عراقية غير منضبطة. و مع بدء طيران التحالف في قصف مراكز السلكية العسكرية. بدأت بعض وحدات الاشارة بارسال بعض الاشارات من حين ﻷخر. و كان هناك نقاش مستفيض بين المهندسين الامريكيين حول اذا كان من الافضل التنصت على الاشارات العراقية او التشويش عليها. حيث كانت توجد محطة تشويش شمال السعودية بقدرة 5000 واط. من المعروف ان الارسال اللاسلكي يبدأ بارسال مفتاح الشيفرة و بعدها الرسال المشفرة. و كان الامريكيون في بعض الاحيان يشوشون فقط على اول الارسال مما يفقد الرسالة قيمتها و يجبر العراقيين على الاتصال بدون شيفرة.

هذا بالنسبة للجيش العراقي. اما الحرس الجمهوري، فلم يتم اي ارسال لا سلكي منذ سبتمبر 15! اي منذ اكثر من 4 اشهر. و كان الاتصال من خلال خطوط ارضية مؤمنة، اجتهدت المخابرات العسكرية للتحالف في تحديد مواضعها. و تم عمل مخطط بعقد الاتصالات التي يستخدمها الحرس الجمهوري في مسرح عمليات الكويت. و قبل الهجوم البري بيوم تم تحديد انه من اصل 14 عقدة اتصالات لا سلكية و سلكية، تم قصف 10 و ترك 4 شمال الكويت على امل ان يستخدمها الحرس الجمهوري بحيث تكشف مواضع الفرق.

و نجحت الخطة. و مع اضطرار فرق الحرس الجمهوري للحركة و تغيير المواضع صارت الخطوط الارضية اقل فائدة و تم اللجوء للاشاراة اللاسلكية. و لأول مرة، تم سماع قيادة اركان فرقة توكلنا على الله ترسل اشارة للقوات بعمل ستار دفاعي. و حصل ارسال اخر من البصرة يحذر الفرقة من اختراق الصمت اللاسلكي، و تم الرد على الرسالة ان المعركة باتت قريبة و ان العدو بات امامهم بما لا يجعل للصمت اللاسلكي اي فائدة.

بعد 6 ساعات، تم اخبار حمورابي ان ناقلات الدبابات و القاطرات في الطريق لنقل دروعهم و مدفعيتهم للشمال. و تم اخبار فرقة المدينة ان تدمر اي معدات لا يمكن اخلاؤها و التحرك جنوب غرب لعمل حائط صد.

هذه المعلومات وصلت لشوارتزكوف، و اتضحت الصورة امامه. قائد فرقة توكلنا يحاول بشجاعة عمل حائط صد بألويته الثلاث زائد لوائين من فرق اخرى. و لكن نظام الاتصالات و التحكم لم يكن جيدا عنده. فهو من يحدد حركة الالوية بدلا من التنسيق مع قادة الالوية. و بالتالي ستكون توكلنا كبش الفداء. تتبعها فرقة المدينة في الدفاع. بينما تنسحب حمورابي مع ما يمكن انقاذه من قوات من جنوب الكويت للدفاع عن البصرة. و قد قدرت الاستخبارات انه من اصل 43 فرقة للجيش في جنوب الكويت، صارت 26 بحكم المنتهية. و تم اسر اكثر من 30 الف جندي. و بينما كان كولن باول يظن ان العمل البري قد يستغرق اسبوعين على الاكثر. صار الامر مسألة ايام.

كان على شوارتزكوف اتخاذ قرار اخر حول سير المعارك: الفرقة 1 المدرعة بقيت حتى الان كاحتياطي استراتيجي. و كان هناك اقتراحات بوضعها في خدمة فرانكس في هجومه المرتقب على الحرس الجمهوري منذ بداية العمل البري. لكن شوارتزكوف بقي مترددا لمدة يومين. (ماذا لو شن العراقيون هجومهم المضاد من جهة المصريين؟ و ماذا لو هزموهم بينما كل قواتنا في الشمال؟). لكن الان صار هذا الاحتمال بعيدا جدا. حيث وصل المصريون (اخيرا) لمعسكرات الابرق غرب الكويت و اخيرا وافق شوارتزكوف على زج القوات في المعركة مع الحرس الجمهوري. و هاتف فرانكس نورمان و بعد نقاش سريع (اراد فرانكس التوقف بسبب وجود لواء عراقي لم يتم تدميره بعد جنوب قواته لكن شواتزكوف قال له ان يكمل التقدم شرقا) اعطى شوارتزكوف فرانكس خلاصة الرسالة اللاسلكية العراقية و بالتالي ان ما سيكون امامه ليس 5 فرق من الحرس الجمهوري. بل فرقة واحدة هي توكلنا. و لملاحقة العدو المنسحب لا مفر من استمرار العمل حتى ليلا.

==============

صدر الامر لقائد الفوج الثاني دروع ( 8 الاف جندي - 125 دبابة ابرامز مع عربات برادلي) للتقدم نحو خط الطول 60 شرقا (60 Easting). و كانت اوامر الفيلق ان لا يزج باكثر من قوات الكشف للاشتباك مع العراقيين الى حين وصول الفرقة الاولى المدرعة (300 دبابة ابرامز). و لكن قائد الفوج توسع في الزج بقواته، ربما خوفا من تكرار ما حصل مع عربات البرادلي في المواجهة السابقة.

و كانت توقعات فرانكس ان فرقة توكلنا تتواجد عند خط طول 70 شرقا. و تم الرصد في الساعة 7:15 صباحا بواسطة المروحيات التي رصدت دبابة تي-72. و بعد ساعة ضربت قوات الكشف مدرعتين و اسروا نقيب عراقي درس في مدرسة فورت بيننغ العسكرية الامريكية و كان يتحدث الانجليزية بطلاقة. و ازدادت الاشتباكات مع اصطدام قوات الكشف بحواجز عراقية حوالي 10 كم غرب خط الطول 70.




امر فرانكس قوات الكشف بالتقدم الى خط الطول 70. و في نفس الوقت اشتدت الرياح الشمالية مما خفف مدى الرؤيا الى عدة مئات من الامتار (مدى المناظير الحرارية). و بدأت القوات تتقدم ببطئ شديد على اساس ان العدو بدأ ينسحب، فلا داعي للاسراع خوفا من الخسائر (عكس رؤية القيادة العليا في الفيلق و فيادة الاركان).

عند الساعة 4 عصرا. خفت حدة الرياح و لكن الغبار لا يزال يخفف مدى الرؤية. و قد وصل الامريكان لمسافة 500 متر من القوات العراقية (نصف المسافة المفضلة للاشتباك للدروع للأمريكان). انطلقت 3 سرايا (كل واحدة 140 جندي - 12 برادلي - 9 ابرامز) للشرق. بدأت اشتباكات بالاسلحة الفردية و تم اسكاتها. و من ثم تم اعادة تشكيل التسع دبابات لتصبح في مواجهة الشرق بينما البرادلي خلفها. و ما ان تم تجاوز التل حتى بدأ القصف. حيث كانت توجد 8 دبابات عراقية متخبئة خلف قمة التل على امل مفاجئة الامريكان بالضربة الاولى.

خلال ثوان تم تدمير 3 دبابات عراقية باستخدام المناظير الحرارية. و كانت الضربة العراقية بعيدة عن الهدف. و استغرق الملقم الالي لدبابة تي-72 10 ثوان كاملة لاعادة التذخير! و كان المراقب الامريكي يلاحظ ارتفاع سبطانة الدبابة العراقية قليلا اثناء التحميل. مما يعني انها لن تطلق النار لعدة ثوان! و لم يكن امام تلك السرية العراقية اي منظاير حرارية. و من خلال الغبار كانت المعركة اشبه بمعركة بين المبصر و الاعمى.

دقائق و انتهت المعركة بتدمير الدبابات العراقية. و تظاهر بعض العراقيين بالموت حتى تمر الدبابات الامريكية من بينهم و من ثم كانوا يحاولون اطلاق القذائف الموجهة على الابرامز من الخلف.

على بعد حوالي 2 كم شرق هذه المواجهة. كان هناك نسق ثاني من قوات فرقة توكلنا: 17 دبابة تي-72. و تم ارسال اشارة بالراديو الى السرايا بالتوقف ﻷنها وصلت حد الخط 70 المرسوم في الخطة حتى الان. و كان الرد انهم لا يستطيعون التوقف ﻷنهم في حالة اشتباك مع العدو. و مع حلول العصر تم ضرب النسق الثاني العراقي و وصلت السرايا الى مسافة 3 كم شرق الخط 70. و نفس الحال تكرر مع السرية الثانية في الشمال. مع خسارة عربة برادلي واحدة قتل فيها السائق بصاروخ تاو من كتيبة مجاورة. خسر العراقيون اكثر من 30 دبابة في المواجهتين و مثلها من عربات مدرعة. و استمرت المواجهتين اقل من نصف ساعة. اما المواجهة القوية و التي استمرت لساعات طوال فقد كانت مع السرية الثالثة في الجنوب. حيث كانت الاطقم العراقية من الذكاء بحيث انها اطفأت كل الدبابات بحيث لا تستطيع ان تراها المناظير الحرارية الامريكية. و عندما وصل الامريكان مسافة 500 متر. بدأت المعركة. كانت مشكلة العراقيين انهم اختبأوا خلف التلال بشكل كامل. و هو ما حجب رؤيتهم هم. و كلنه لم يحميهم من رمايات التاو.

و كان الامر اشبه بتدريب رماية للأمريكيين: الدبابات على شكل اقرب للخط (او V) و الدبابات الخارجية تضرب من الخارج للداخل و الدبابات الداخلية تضرب من الداخل للخارج. و عربات البرادلي في الخلف للحماية - و هي تملك مناظير رؤيا اقوى - تعين الاهداف العراقية بواسطة صلية رشاش تلحقها دبابة ابرامز بقذيفة. حاربت قوات الفرقة العراقية بقوة لكن بدون فعالية. و سجل الامريكان اصابة بدن الدبابات و المدرعات بالرشاشات العراقية و بنيران الهاونات و حتى تم رصد بعد اطلاقات صواريخ الساعر لكن بدون اي اصابات حاسمة. باستثناء اصابة واحدة من عربة BMP عراقية. اطلقت قذيفة عيار 73 ملم لامست عربة برادلي، و خلال ثوان اطلقت قذيفة ثانية و اصابت البرادلي مباشرة و قتلت الملقم و جرحت جندي اخر.

انتهت فرقة توكلنا كتشكيل قتالي متماسك. لكن بسالة الجنود العراقيين استمرت على شكل هجمات فردية بدون اي تنسيق و لمدة 3 ساعات. هم يتقدمون حتى يصلوا منطقة القتل للقوات الامريكية و يتم ضربهم و هكذا. و قد كانت هناك اسهامات من المدفعية و من الطيران في ضرب الفرقة العراقية حتى انتهى القتال حوالي الساعة 10 مساءا.

الحصيلة: اطلاق اكثر من 300 دانة مدفع و صاروخ تاو. تدمير اكثر من 200 الية عراقية. تدمير لواء من فرقة توكلنا و اجزاء من الفرقة 12 المدرعة. و هنا ظهرت نتيجة اول معركة حقيقية بين الجيش الامريكي و الحرس الجمهوري: لا مجال للمقارنة. عموما الخسارة التكتيكية العراقية كانت غير ذلك من الناحية الاستراتيجية (كرأي شخصي). فقد كانت مهمة الفرقة العراقية هي ايقاف تقدم الفيلق المدرع الامريكي لشراء وقت للجيش العراقي لينسحب. و قد اشتروا لهم نصف نهار بمساعدة الجو. 





========================================

في اليوم الثاني للقتال البري. و بعد ان بدأت الصورة العسكرية شبه محسومة. بدأ كولن باول يبحث عن الموعد المناسب لوقف اطلاق النار! و تكررت تقديرات اقتراب الحسم مع اليوم الثالث في كل اتصال بين شوارتزكوف و باول. و تم سؤال سلاح الجو عن المدة المطلوبة لاعلامهم بوقف اطلاق النار (3-4 ساعات كان جوابهم).

و قد كان هناك رجل واحد مخول بتحديد متى تستوي الطبخة و يمكن وقف اطلاق النار. الا وهو كولن باول. فقد منحه الرئيس الامريكي كامل الثقة منذ بداية الحملة. و قد كان التدخل الوحيد للرئيس الامريكي هو الطلب من الجيش عمل ما يمكن عمله لايقاف دخول اسرائيل الحرب. و هذا هو ملخص الدروس التي تعلمها الساسة من حرب فيتنام (لا تتدخل في الحرب الا باضيق الحدود).

و قد اقتنع هذا الرجل بان الحرب حققت اهدافها في اليوم الرابع للقتال. حيث ازعجته الصور المرعبة التي اتت من "طريق الموت" حيث شن طيران التحالف في ذلك اليوم 3159 غارة على الجيش العراقي المنسحب. و قد كانت النتيجة الاف السيارات و الباصات المحترقة مع عشرات الدبابات و المدرعات. و الحقيقة حين اعلنت اذاعة بغداد ان الجيش سوف ينسحب من الكويت، كانت التقارير انه لا توجد حركة مركبات من الكويت للعراق بسبب هذه المحرقة. و سارع بوش للاعلان ان العراق يحاول ان يسرق نصرا من تسمية فلول قواته المهزومة قوات منسحبة. و ان الحملة ستستمر حتى يعلن العراق قبوله كل قرارات مجلس الامن. و قد امل بوش ان يسبب هذا الاحراج للرئيس العراقي في قلب نظام حكمه.

اضافة الى ان القصف الجوي لم يعد يحقق اي مكاسب مهمة. فقد كان هناك مقررات معاهدة جينيف التي تمنع ضرب العدو الذي يكون جليا انه يحاول الاستسلام. و قد ترك الامريكيون كل الجنود العراقيين الذين كانوا خارج مركباتهم القتالية. و رفض باول اي اقتراحات باكمال الزحف لبغداد و اراد ان ينهي الحرب بشكل لا يبقى اي حاجة لبقاء اطلاق النار او وجود قوات امريكية بعد انتهاء الحملة. و كان باول ضد تحطيم النظام العراقي بشكل يخلق فراغا يكون النظام الايراني او السوري جاهزين لملئه.

بحلول يوم الخميس، كان باول يعلم ان قواته ستكون على حدود البصرة. و كان هناك شيء يقلقه ان تتواجد قوات متحفزة الى جانب تجمعات مدنية كبيرة معادية. كل هذا اضافة الى ان صور الدمار الكبير الذي حصل على طريق الموت و غيره من القطاعات العراقية سوف تصل الجمهوري الامريكي الذي سيحول النصر من انتصار عسكري مذهل الى مذبحة ضد عدو لا حول له و لا قوة. و رغم ميل شوارتزكوف لاكمال حركة الخطاف نحو البحر فان باول قدّر ان هذا الامر لو تم لن يغير اي شيء. فلا يزال للعراق حوالي 20 فرقة شمال نهر الفرات. و هذه ستنجو من الحرب سواء تم اطباق الحصار على الكويت ام لا.

و تعزز هذا الانطباع في اجتماع خلية الازمة الخاصة بالحرب الذي تم صباح يوم الخميس حيث شعر اعضاء الخلية بالصدمة من صور الدمار على طريق الموت.


================


في الشمال الجبهة (جنوب العراق) سارت الامور يوم الخميس كأي يوم قتال عادي. حيث استمر زحف الفيلق السابع معززا بالفرقة 24 المدرعة (26 الف جندي - 1800 دبابة و مدرعة). و قد وصلت اول الوية الفرقة الى الطريق السريع رقم 8 الذي يربط البصرة بالناصرية في الساعة 1 صباحا. و تم قطع الطريق امام القوات العراقية المنسحبة. و تم اسر 1200 جندي، و تدمير 100 الية عراقية بالدبابات و صواريخ التاو. و قد وضع الفلاحون العراقيون الاعلام البيضاء و وجهوا الدبابات الامريكية لكي تتجنب حقول الطماطم الخاصة بهم.  و جنوب الطريق السريع اكتشف الامريكيون مخزن سلاح هائل (مساحة لا تقل عن 180 كم مربع) بعتاد يكفي جيشا لعدة اشهر.

و رغم الضباب و نقص الوقود، استمر التقدم حسب المخطط. و في الساعة 6:30 صباحا بدأ قصف قاعدة جلبة الجوية بخمس كتائب مدفعية. و كان ارتباك الدفاع العراقي واضحا عندما بدأ العراقيون يطلقون الدفاعات الجوية (كان عدد الرشاشات حوالي 80) ظنا ان القصف ما هو الا غارة جوية جديدة! و اقتحمت الدبابات القاعدة الجوية و بدأت بتدمير كل ما يمكن تدميره من خزانات وقود و طائرات على الارض. عند الساعة العاشرة سقطت القاعدة الجوية.

و بينما كانت معظم قطعات الفرقة تعيد التزويد بالوقود استعدادا للاندفاع نحو البصرة. اقنع قائد الفرقة قائد الفيلق ان يرسل قوات مدرعة لاحتلال قاعدة الطليل غرب قاعدة الجلبة بحوالي 60 كم. و كان الامر محال نقاش بين الاركان. حيث قال المعترضون ان هذه توزيع للجهد لا داع له. بينما قال المؤيدون انه يجب ازالة هذا الخطر قبل استخدام القاعدة كمستودع وقود للقوات المتوجهة غربا. تم ارسال كتيبة دبابات للغرب و توجهت باقي القوات شرقا مع ترك حطام دبابتين و عربتي برادلي سقطوا في قنوات الري المحيطة بالمنطقة و قام الامريكان بضربهم و تعطيلهم.

اما قوات الفوج المدرع الثالث فقد بدأت اندفاعها شرقا منذ مساء الاربعاء. و عند الفجر وصلت القوات الى مسافة 30 كم غرب هور الحمار. و بدأت عملية قصف مكثفة للقطاعات العراقية المدافعة عن غرب البصرة. و كانت الخطة ان يتم ارسال لواء مدرع شمال المدينة و اخر للسيطرة على القناة المائية غرب البصرة و الثالث من الناحية الجنوبية. و بمجرد حصار المدينة، كان تقدير قائد الفرقة انها لن تصمد كثر من 12 ساعة.

و بخصوص الفرقة المجوقلة 101. فقد صدرت لها اوامر يوم الاربعاء: "العدو يحاول الهروب من خلال البصرة و من ثم شمالا. توجه شرقا قدر ما تستطيع". ارسل قائد الفرقة اللواء الثاني مع لواء جوي. اما اللواء الثاني فقفز بالمروحيات لمسافة 120 كلم شرقا و عسكر جنوب معسكر جلبة. و اما اللواء الجوي فهاجمت مروحياته القطعات العراقية على الطريق السريع رقم 6 المتوجه من البصرة نحو القرنة. و تم تدمير السيارات قرب الهور.

جنوب الطريق السريع اسقط الدفاع الجوي العراقي طائرة F-16. و فيما كان الطيار الامريكي ينزل بالباراشوت بدا العراقيون يطلقون النار عليه! فاستغاث الطيار على الموجة المفتوحة. و توجهت 3 طائرات مروحية لانقاذ الطيار. و لكن كثافة النيران العراقية اجبرت الطائرات على التراجع و اصطدمت طائرة بلاك هوك باحدى الهضاب اثناء المناورة بسرعة عالية. و دمرت الطائرة و قتل 5 من ضمنهم الطيار و مساعده. و اسر 3 اضافة للطيار الامريكي الاول.

كان تقدير الفرقة للنوايا العراقية خاطئا. فالقطاعات العراقية التي دخلت البصرة بقيت فيها للدفاع عن المدينة. و بالتالي لم يجد الامريكيون اي دبابة تخرج من المدينة للشمال. و عليه تم ايقاف طلعات المروحيات و تم التخطيط لارسال لواء مجوقل لقطع الطريق السريع رقم 6 و عزل البصرة من الشمال. و  وافقت قيادة الفيلق على الخطة. 





====================*

بقي امام المارينز مهمة واحدة قبل اعلان انتهاء عملهم بشكل غير رسمي. احتلال مطار الكويت. قبل ذلك كان المارينز دخلوا قاعدة الجابر بدون مقاومة (لكن العراقيين فخخوا الابواب و المسجد القريب بالغام ايطالية مضادة للدروع). بحلول المساء تم تطويق المطار الدولي. و خلال ساعات تم تطهير المطار المهجور. و رفع العلم الامريكي و الكويتي ثم انزال العلم الامريكي. و عكفت اركان المارينز و القبعات الخضر على دراسة خارطة شوارع الكويت لتحديد كيفية دخول المدينة.

كان لشوارتزكوف رأس اخر. حيث كان يرى انه اصوب من الناحية السياسية ان يحرر العرب المدينة. حتى انه طلب سحب قوات المارنز التي دخلت السفارة الامريكية قبل وصول القوات العربية.

اما العرب، فقد بدأت المشاكل بينهم حول من سيدخل المدينة اولا. حيث اصر الكويتيون - بشكل اغضب الامير خالد - على ان يدخلوا عاصمتهم. و بينما كان شواتزكوف يستعجل التقدم المصري (الذي لا يزال بطيئا)، قرر ان يكون الحل توافقيا. يدخل الكويتيون اولا مع دعم من القوات العربية المدرعة (بالاخص المصرية). و باستثناء بعض المستشارين من القبعات الخضر و المارينز. ستبقى القوات الامريكية في الضواحي. تم تقسيم العاصمة لست قطعات. و كل قطاع يكون مسؤولية قوة كويتية: الوية التحرير، الخلود، الشهيد من القوات الكويتية الملحقة بالقوات العربية الشمالية ( المصرية غالبا) و الوية البدر و النصر و الصدق الكويتية الملحقة بالقوات العربية الشرقية (ألسعودية غالبا).

و قد كان القلق الامريكي من عمليات انتقام محتملة من قبل الطرف الكويتي بعد التحرير مطروحا منذ شهر ديسمبر. حيث كان الخوف على الاسرى العراقيين و المواطنين الفلسطينيين الموجودين في الكويت. و ﻷكثر من شهر، قامت القوات الخاصة الامريكية بتدريب الكويتين على اصول التعامل مع الاسرى و المعتقلين. و كان هناك ايضا قلق ان تحصل مشاكل بين الكويتين الذين رحلوا و الثلث الذي بقي في الكويت.

عموما وصل موكب التحرير مدينة الكويت الساعة 9 صباحا (بعد تأخير ساعتين، حيث اصر القائد المصري على انتظار اذن من الرئيس مبارك للتحرك!). دخل الكويتيون بسيارات نصف نقل تحمل رشاشات على ظهرها و اقاموا الحواجز. و تم اعتقال المشتبه بتعاملهم مع العراقيين. من المستحيل لتحديد كم من عمليات القتل الانتقامي التي حصلت في تلك الايام. لكن عشرات الفلسطينيين تم تعذيبهم بشكل استدعي ادخالهم المشافي و تم اعدام بعض الافراد. و قد ازدادت هذه الاحداث لدرجة انها استدعت انتباه قيادة القوات الخاصة الامريكية. حيث ارسلوا قوات ل 16 مخفر في العاصمة ليطلبوا منهم التوقف عن هذا الهراء. و قد افاد تقرير مركز امريكي لحقوق الانسان ان عدد المحتجزين الفلسطينيين وصل 6 الاف. و طبعا كان للجانب العراقي نصيب من هذه المخازي، حيث قتل العراقيون اكثر من 1000 كويتي حسب تقارير الامم المتحدة. و كان التعذيب بالمثقاب الكهربائي، و الاسلاك الكهربائية، و الاسيد و حتى الاغتصاب.

و كان حجم الدمار و النهب في الكويت يفوق الوسط. من سرقة ذهب بنك الكويت المركزي الى قتل حيوانات حديقة الحيوان و ضرب الرصاص على الفيل الهندي فيها. الى سرقة مقاعد استاد جامعة الكويت البلاستيكية، الى نهب 170 الف شقة سكنية من كل اثاث - حتى الحمامات.

دخل قائد الفرقة الامريكية الكويت العاصمة يوم الاربعاء وسط تهليل الكويتيين. انتهت الحرب بالنسبة للمارينز بخسارة 22 مقاتل و 88 جريح. 

=========================

 و سط الوف من الاسرى العراقيين و الوف اخرين ممن استماتوا في القتال. استمر اندفاع الفيلق المدرع السابع نحو طريق البصرة الكويت. و مع اكتمال الفرق الخمسة، صار امام قائد الفيلق جبهة بعرض 120 كم. و بدأت التفكير بحصار كل القوات العراقية جنوب مدينة البصرة. و كانت الصور و المسوحات تشير الى استمرار حركة الاف المركبات من الكويت للشمال. حيث تجنب العراقيون استخدام الطرق السريعة التي ضربت سابقا.

كان هناك اهداف كثيرة لسلاح الجو ان يضرب. لكن كان هناك اتفاق اثناء الحرب ان لا يدخل سلاح الجو الامريكي شرق خط الطول عشرين مخافة الاشتباك مع طيران البحرية و طيران مشاة البحرية. و هذا الخط ينتهي قبل طريق البصرة الكويت ب 20 كم. و قد طالب قائد الفيلق قيادة العمليات بتعديل الخط حتى يستطيع ارسال طائرات الاباتشي للقضاء على فلول العراقيين. لكن فشلت قيادة الاركان في الاتفاق على ذلك و لم يصل الخبر لشوارتزكوف! و هكذا مع مرور الساعات نجح المزيد من العراقيين في الوصول للبصرة مفوتين على الامريكان فرصة ذهبية لتدمير المزيد من القوات العراقية.

كان هذا محبطا قليلا لفرانكس. لكن شغله الاكبر كان كيفية تنسيق حركة هذه القوات الكبيرة دون حوادث نيران صديقة. ففي اثناء المعركة مع فرقة توكلنا. توغلت بعض القوات الامريكية ابعد من نقاط التوقف المقررة. الامر الذي ادى لتعرضها لنيران صديقة و مقتل 6 جنود و جرح 30 و تدمير 5 دبابات ابرامز و 5 عربات برادلي و ذلك في 3 حوادث منفصلة. صباح الاربعاء اتصل قائد الفرقة المدرعة الاولى بقائد الفيلق و اخبره برغبته بالاندفاع نحو طريق البصرة الكويت. و وعد ان يصل قبل مساء الاربعاء. وافقت قيادة الفيلق.

على جنوبهم كانت القوات البريطانية تتقدم بدون اي خسائر . باستثناء مقتل جندي واحد و تدمير مدرعته يوم الثلاثاء. لكن المقتلة الكبرى كانت بيد النيران الصديقة. حيث ضربت طائرتان A-10 القوات البريطانية التي كانت مشتبكة مع العراقيين. و رغم ان الانجليز ادعو انهم اعطوا الامريكان احداثيات بعيدة عن تلك النقطة. و رغم ان الطائرتان حلقتا مرتين فوق الاهداف (على ارتفاع عال اول مرة ثم على ارتفاع متوسط ثاني مرة) فلم يروا لا الاضواء الفسفورية و لا حرف V المقلوب للدلالة على انها قوات صديقة. تم اطلاق صاروخي مافريك مما ادى لمقتل 9 جنود و جرح 11. و في اليوم التالي جرح جنديان اخران هذه المرة من نيران صديقة من الارض (دانة دبابة واحدة فقط من اللواء الاول).

كانت الخطة ان يتقدم الانجليز من جانب القوات الامريكية للذهاب شمالا. لكن الانجليز ابدوا قلقا من ان يتسبب هذا بالمزيد من النيران الصديقة. و بالتالي تم تعديل الخطط و اكمال المسير شرقا. و بعد تغيير الخطة مرة اخرى صدر الامر بالمسير. و رفع الجنود البريطانيون اعلامهم على مصفحاتهم حرصا على عدم تكرار الحوادث السابقة. و كان بعض محبي المزاح منهم قد  رفع اعلاما بيضا على سياراتهم ايضا قبل ان يطلب منهم انزالها.

كان تقييم الاستخبارات العسكرية الامريكية انه من اصل 42 فرقة بدأت الحرب في مسرح عمليات الكويت. لم يبق منهم غير فرقتين تشكلان اي خطر على الهجوم الامريكي: فرقة حمورابي و فرقة المدينة. و كانت النكتة بين موظفي البنتاغون ان الجيش العراقي تحول من رابع اكبر جيش في العالم الى ثاني اكبر جيش في العراق. اما فرقة حمورابي، فلم يكن احد يعرف مكانها بسبب الحفاظ على الصمت اللاسلكي و حالة الجو و تغيير المواضع رغم ان الشك هو ان الفرقة رحلت شمالا. اما فرقة المدينة فقد كان مكانها معروفا. و من اسباب كشف موضعها هو خرق الصمت اللاسلكي باشارة ان الفرقة تشكل خط دفاعي ثاني خلف فرقة توكلنا 50 كم جنوب البصرة.

اما فرقة توكلنا فقد انتهت: لواء دمر في معركة الخط 73 و لوائين دمرا بعدها. و في اكثر من مرة ذكرت تقارير الامريكان ان العراقيين كانوا متفاجئين من سرعة التقدم الامريكي لدرجة انهم امسكوا بعدة قطاعات و بطاريات الدبابات مفكوكة و تستخدم لأغراض الانارة و التدفئة! و اخيرا بدأت طلائق الفرقة الثالثة المدرعة تصل حدود الكويت.

جنوب العراق، عند الفرقة الاولى دروع الامريكية. و صلت معلومات بتحرك قوات مشاة ميكانيكية من فرقة عدنان جنوبا لاعتراض التقدم الامريكي. و يذكر للفرقة و مدفعيتها اصابة 23 جندي امريكي بالقصف العراقي. و حصل قصف مضاد و هجوم بالمروحيات و المدرعات. مما ادى لخسارة عدة مركبات عراقية و انسحاب عراقي ظهر الاربعاء.

و قبيل الظهر في نفس اليوم، شمال الكويت، شكل اللواء الثاني من فرقة المدينة اخر خط دفاعي منظم للجيش العراقي في حرب الخليج. و في امر ذي دلالة، كان الخط الدفاعي العراقي مواجها للجنوب و لكن تم تعديله في اخر لحظة لمواجهة الهجوم الامريكي من الغرب. كان قوام الهجوم الامريكي 166 دبابة ابرامز من اللواء الثاني للفرقة الاولى المدرعة. و تم فتح النار من الطرف الامريكي على مسافة 3 كم. و كان مشكلة خطة فرقة المدينة - مثلما حصل مع فرقة توكلنا - مشكلة كبيرة. حيث كان العراقيون يخططون ان تكون منطقة القتل خلف القوات الامريكية.  بحيث ان يدفع الدرع العراقي الهجوم الامريكي للتراجع و من ثم تضربهم المدفعية العراقية. لكن المشكلة ان مدى T-72 هو نصف مدى الابرامز. و بالتالي لم يكن العراقيون قادرين على ارجاع الدروع الامريكية للخلف بحيث تضربها المدفعية العراقية. و طوال المعركة كانت المدفعية العراقية تضرب خلف القوات الامريكية.

انتهت المعركة خلال اقل من ساعة. لا خسائر امريكية، و تم تدمير 60 دبابة عراقية و عشرات المدرعات. و قامت الاباتشي و الالوية المجاورة بمطاردة الفلوف العراقية و تدمير اي مقاومة. و كانت الحصيلة النهائية 300 مركبة عراقية مقابل مقتل جندي امريكي واحد.

الساعة 3:30 عصرا اجتمعت قيادة الفرقة لدراسة الخطوات التالية. كانت اول مشكلة نقص الوقود. فبعض الالوية لم يبق لها غير مخزون ساعتين من الوقود. و الغالب بقي له 10 ساعات من الوقود. تم حل الازمة بموكب وقود كان موجود عند قوات اخرى و بالتالي تأمن الاندفاع ليوم اخر.

المشكلة الثانية هو اتجاه الحركة. فبعد قرار عدم ارسال الانجليز شمالا. تقرر دفع الفرقة الاولى مشاة عبر الطريق بين البصرة و الكويت و من ثم التوجه شمالا نحو البصرة على الناحية الشرقية للطريق. بينما تتقدم دروع الفرقة الثانية شمالا على الجهة الغربية للطريق. و عند الوصول للبصرة يبدأ التطويق.

==============

خطة التطويق و الهجوم على البصرة تم وأدها في واشنطن خلال ساعات. ففي مساء يوم الاربعاء (بتوقيت الرياض) اجتمع المجلس الرئاسي ليستمع بوش الى تقارير الحرب. و بعد عرض سريع قال كولن باول ان الفرصة الان متاحة للرئيس ان يقرر متى تتوقف الحرب. فالجيش العراقي هزم و هو لا يقوم بغير محاولات الهرب.  و نحن نقتل اعدادا كبيرة منهم بدون اي داع. و كان هذا الانطباع تعزز طوال يوم الاربعاء عندما بدأ القتال يتحول الى مذبحة. فالمخابرات العسكرية لا تجد فرقا عسكرية عراقية، و لا حتى الوية، و لا حتى كتائب لضربها.

"هل تريد يوما اخر؟" سأل الرئيس. و كان الرد ان يوما اخر لن يغير شيئا على الارض. فنحن لا نحارب عدوا منظما. و لا يوجد شيء للفيالق الاربعة لتضربه. و الحرس الجمهوري انتهى. و اتفق كل الحضور على ضرورة ان لا تتحول حرب نظيفة كحرب الخليج لمذبحة. فقد تم تحقيق اهداف الحرب الاستراتيجية: اخراج العراق من الكويت، و تدمير قدرة صدام على تهديد الدول المجاورة.

كون الجيش العراقي قد هزم فهذا امر مسلم به. اما حصار القوات العراقية الهاربة من الكويت فلم يكن واضحا. فقد قيل لتشيني قبل الاجتماع ان الحرس الجمهوري قد حوصر قبل انسحابه للبصرة. و هو نفس ما ورد في تقرير الاركان اليومي. و قد كان هذا خطأ فادحا في التقدير و ايصال المعلومة. فلم تصل القوات الامريكي لجنوب البصرة بعد ولم يتم قطع طريق الانسحاب للاليات العراقية الثقيلة المتوجهة شمالا. و بسبب صعوبة تنسيق الحركة بين الفيلق المدرع السابع و الفيلق 18 المجوقل. كان هناك فراغ بعرض 50 كم بين الفيلقين. و قد هربت معظم فرق الحرس الجمهوري الثلاث الباقية: عدنان و نبوخذنصر و الفاو عبر هذا الفراغ نحو منطقة الفرات او البصرة. اما الدروع فقد كانت دروع فرقتين تقريبا تنتظر دورها لعبور جسور مؤقتة انشئت على شط البصرة. و رغم  غارات الاباتشي و القاذفات فلم يتم تدميرها بشكل كلي.

و كان لشوارتزكوف بعض الذنب في هذا الخطأ. حيث اعلن في مؤتمره الصحفي - قبل الاجتماع مع الرئيس- ان قواته حققت اهدافها و سيكون سعيدا متى ما طلب الرئيس وقف اطلاق النار. و استخدم كلام مثل ان البوابة اغلقت و ان لا مجال للهرب و ان كل فرق الحرس الجمهوري دمرت ما عدا اثنتين ما زالتا تقاتلان. و لكن عندما سئل هل امسكت قواته طريق الانسحاب للبصرة اجاب ب "لا". و اضطر ان يوضح انه يقصد انه لا مجال لانسحاب الاليات الثقيلة كالدبابات و المدفعية. اما الجنود فمن المكن لهم الهرب نحو البصرة.

عموما شرح باول للرئيس ان بعض الطيارين بدأو يشتكون ان الغارات على عدو بهذا الحال المزري لم يعد قتالا عادلا. و ان ضرب العدو بعد هزيمته الماحقة له كلفة نفسية على الجيش بشكل عام. طلب الرئيس رأي شوارتزكوف و سأله باول: عرضنا الموقف و التفكير العام هو نحو انهاء الحرب الليلة، ما رأيك؟ كان الجواب: لا مانع. و نشير الا ان سلاح الجو طلب يوما اخر لاكمال تدمير الحرس الجمهوري لكن شوارتزكوف لم يطرح الامر على الرئيس.

و كانت المسألة الاخيرة هي كيف و متى سيتم وقف اطلاق النار. و عوضا عن اعلانه بالطريقة التقليدية، مما يوحي بوجود مفاوضات، فسيقوم الامريكيون بفرض "توقف للعمليات العسكرية" بشكل احادي بشكل يبقى الخيار لهم بالعودة للقتال لو ارادوا. و بالنسبة للتوقيت فقد اقترح باول ان يتم الامر الساعة 8 صباح الخميس بتوقيت الرياض. مما سيعطي عدة ساعات بعد خطاب الرئيس و كذلك سيعطي قواته ساعتين من ضوء الفجر لعمل اي عمل عسكري ضروري.

في قيادة شوارتزكوف كان الانطباع ان الحرب فعلا قد انتهت. فلم يبق اي اهداف لتدميرها، و احتلال البصرة لا معنى له بدون اكمال الاندفاع لبغداد. و كانت التقديرات ان الجيش العراقي المنكسر في البصرة سيقوم على الارجح بتمرد مسلح. و قد تفاجأت قيادة سلاح الجو بسرعة انتهاء القتال البري و حاولوا الحصول على اذن ببعض الغارات على مواقع مكتشفة حديثا في بغداد. و كانت المزحة ان الجيش الامريكي يحاول ان يكسر رقم الجيش الاسرائيلي القيادي بهزيمة الجيوش العربية في حرب 1967 ب 6 ايام.

و قد كان لسلاح الجو فرصة تجربة قنبلة جديدة تزن اكثر من طنين! و كانت صنعت حديثا لاختراق تحصينات بسمك اكثر من 4 متر من الاسمنت المسلح. حيث كان يوجد ملجأ في معسكر التاجي لم تنجح معه كل قنابل الحلفاء. و كان الملجأ مستخدم من قبل القيادة العراقية و كان سلاح الجو يأمل ان يكون صدام هناك. تم تدمير الملجأ و لكن لم يكن الرئيس العراقي هناك.

عموما حين اعلن شوارتزكوف القرار لجنرالاته اصيبوا بالدهشة. فما اعلن هو ليس وقف اطلاق نار. بل من الممكن العودة للقتال لو استمر العدو به. و لكن لماذا؟ كان رد شوارتزكوف ان ما حصل في المطلاع اثر في الادارة. "و ماذا عن حصار البصرة؟ لماذا لا ننفذه؟" لأن الادارة قررت ذلك كان الجواب.

 بالنسبة للحلفاء فقد ابدى الانجليز بعض الاعتراض. فقواتهم على الارض نقلت لهم الصورة كاملة و كان هناك نقاش مع الرئيس بوش الذي اكد ان الحملة حققت اهدافها و لكن الانجليز لم يقتنعوا. و الكثير من قادة الفرق لم يكونوا مقتنعين بالقرار الصادر و قد ارادوا يوما او يومين لانهاء اعمال القتال. و استمر نقاش طويل لسنوات بعد الحرب بعد ان تبين حجم القوات العراقية التي نجت.

و كانت تقديرات الاستخبارات اللاحقة ان نحو 80 الف جندي تمكن من الهرب للبصرة. و ان حوالي ثلث دبابات T-72 تمكنت من الانسحاب نحو البصرة. و رغم ان الحرس الجمهوري ضرب بقوة، فان وحدات كاملة تمكنت من الانسحاب بدون اي مشاكل. لام شوارتزكوف الفيلق المدرع على هذا التقصير، لكن العدل يشير اللى انه هو من كان يجب ان يطرح استمرار القتال لفترة اطول لانهاء المهمة. و اما الغضب الشغبي على ما حصل في طريق الموت، فلم يحصل. و لكن من ناحية الاخرى، لا يوجد دليل على ان وجود هذه القوات من عدمه كان له اي تأثير على مجريات الامور لاحقا. فالعراق ابقى حوالي ثلث قواته شمال نهر الفرات مع حوالي 3000 الية ثقيلة تشمل مئات الدبابات و ايضا حوالي 1000 قطعة مدفعية.

و قد تراوحت التقديرات حول خسائر العراق في الحرب. و كان تقدير الاستخبارات بعد الحرب بسنتين ان العراق يملك 40% من المعدات التي كان يملكها قبل غزو الكويت. وان اكبر النقص كان في المعدات الحديثة. و طبعا انتهى سلاح الجو و شبكة الدفاع الجوي العراقي المركزية. و كانت تقدير الخسائر حوالي 10-12 الف قتيل اثناء القصف الجوي و مثل هذا العدد في 4 ايام من الحرب البرية.

و كانت النكتة ان الاخبار وصلت الفيلق المدرع ان وقف اطلاق النار هو الساعة 8 مساء و ليس صباحا. و لعدة ساعات كان الفيلق المكلف بمطاردة الجيش العراق و حصاره متوقفا عن القتال. و في الساعة 3 فجرا تم تصحيح الموقف و اخبارهم ان امامهم 5 ساعات لعمل ما يريدون عمله. و بالنسبة للفيلق المجوقل، فقد كان الاعلان الخاطئ كافيا لالغاء انزال على طريق البصرة العمارة. و كان الغضب شديدا عندما جاء التوقيت الصحيح و كان غير كاف حتى لارسال طائرات المروحيات في غارة جديدة.

و خطأ اخر كان ايقاف تقدم لواء من الفرقة الثالثة المدرعة - بسبب حادث نيران صديقة - نحو منطقة صفوان. و عدم سماء قائد الفرقة لقرار اكمال الهجوم بعدها ب 15 دقيقة. و بالتالي بقيت صفوات بيد العراقيين دون ان يعرف الامريكيون ذلك حتى جاء وقف اطلاق النار و قرر الامريكيون ان يتم عمل المفاوضات هناك ظنا انها معهم!

=================

تم تثبيت الهدنة - ما خلا بعض الاشتباكات المتفرقة - على طول مسرح العمليات لمدة يومين. و صباح يوم 2 مارس وصلت تقارير عن توجه موكب على الطريق السريع رقم 8 نحو القوات الامريكية. "راقب و لا تطلق النار الا لو تم اطلاق النار عليك". كانت تعليمات الجانب الامريكي.

اظهر استطلاع المروحيات ان سلاح الهندسة العراقي يقوم بعمل ممر من خلال هور الحمار لتمر قواته من جانب المناطق التي تم قصفها بالقنابل العنقودية. و قد توجهت مئتي مركبة نحو الشمال و مئات المركبات نحو غرب باتجاه القوات الامريكية. انها الفرقة حمورابي!

بعد ساعة تم اطلاق قذيقة مضادة للدروع من الجانب العراقي. رد عليها الامريكيون. و بدأ العراقيون بناورون بدروعهم بشكل يشي بنوايا قتالية مع تحريك مدافع مدرعاتهم نحو القوات الامريكية. و كان هذا اكثر من كاف للامريكان لبدء القتال. و استمر القتال لعدة ساعات حتى العصر. مع تدمير 30 دبابة عراقية و 147 مدرعة و 400 شاحنة. و خسر الامريكيون دبابتين و جرح جندي امريكي واحد. كانت هذه معركة حقل الرميلة. و لا شك ان وقوع هذه المعركة العنيفة و المنسية بين لواء مدرع عراقي و القوات الامريكي بعد يومين من وقف اطلاق النار امر يتناسب مع ما حصل من فوضى في اخر ايام الحرب البرية.

===========================

لا يمكن الحكم بدقة على نجاح الحملة العسكرية الامريكية و المزاج السياسي الامريكي الا بتقديم عجلة التاريخ لعدة شهور بعد اتفاق صفوان. حيث عادت معظم القوات الامريكية لبلادها في الصيف. و لم يكن الرئيس بوش يشارك الجنود فرحتهم في تلك الايام. حيث كان يأمل ان يقوم العراقيون بالثورة على رئيسهم و ان يقوم الجيش باسقاط الرئيس.

على العكس، فقد قامت ثورتان دمويتان شمال العراق و جنوبه. و وقف الجيش العراقي مع الحزب وراء الرئيس من باب حماية انفسهم. و قد قام الامريكيون و حلفائهم باخطاء اكبر حتى من اخطاء وقف اطلاق النار المستعجل. حيث رفضت الادارة دعم تمرد الجنوب خوفا من تعزيز موقف ايران في المنطقة. و فشل السعوديون في ارسال تحذير شديد لطهران بترك العراقيين و شأنهم، فكان ان ادى دعم طهران للثورة الجنوبية ان زاد تمسك الجيش العراقي بالرئيس.

و قام بوش - بعد ضغط من بريطانيا و فرنسا - بارسال قوات لحماية الاكراد في الشمال. بينما لم يتم اي شيء من هذا في الجنوب. و تجادل اطراف الحكومة لمدة اسبوعين حول منع العراق من استخدام طائراته المروحية - بعد ان سمح بها شوارتزكوف اثناء اجتماع خيمة صفوان الشهير. و كان رد باول ان المروحيات لا تمثل اقوى ما يستخدمه العراق ضد الثوار. و ان اسقاطها قد يؤدي لبقاء قوات امريكية في المنطقة و تدخلها في حرب اهلية. و ماذا لو فتح العراق نيران المدفعية؟ هل نضربها ايضا؟ هل ندعم الشيعة و نقسم البلاد؟

و ازاء اقتراح عمل منطقة منزوعة السلاح جنوب العراق باشراف الامم المتحدة، كان الجيش الامريكي معارضا لهذا. حيث كان هناك قلق من ابقاء المزيد من القوات الامريكية لمدى غير منظور - مثلما هو الحال في كوريا. و بمجرد ان تم اقرار شروط اطلاق النار و وافق عليها العراق في ابريل، انسحب الجيش الامريكي من العراق باسرع ما يمكن. و عاد صدام يحكم كل العراق باستثناء اقليم كردستان.

و الحصيلة النهائية، مقتل 390 امريكي، و جرح 458 اخرين. و مقتل او اصابة 510 من باقي التحالف. و خسارة كل من العراق و الكويت حوالي 200 مليار دولار.

اما الجيش الامريكي فقد شفي من وهن حرب فيتنام. و تم افهام القوى الاقليمية ان للعالم شرطي يجب ان يحسب له حساب.

اما شوارتزكوف فاختار التقاعد بعد 35 عاما من الخدمة. و رغم النصر فان هناك الكثير من الامور التي اثيرت حول اسلوب ادارته للحرب:
1- اخطا الجنرال بفارق كبير في حساب الوقت و القوات اللازمة لطرد العراق من الكويت.
2- رفض ايلاء اكبر خطر استراتيجي على الحملة: الصواريخ العراقية.
3- لم تعكس الخطة الامريكية اي ابداع من طرفه، بل كان التميز هو للجنود و ضباط الميدان.

اما ابرز قراراته الصائبة فكانت:
1- عدم القيام بغزو برمائي.
2- نجاحه في قيادة قوات متعدد الجنسيات بدون مشاكل تذكر.
3- شجع المبادرة من القيادات الاصغر.
4- نجح في تقليل الخسائر البشرية بشكل ادهش اكثر المتفائلين

الحملة العسكرية الاستراتيجية فشلت. فلا ضرب المراكز القيادية ادى لقتل اي قيادات بارزة. و لا تدمير المنشئات النفطية اثر في العراق بسبب قصر امد الحرب. و لم تنجح اسابيع القصف في تدمير اي من برامج الدمار الشامل العراقية. بل نجى 100 صاروخ سكود، و 19 منصة اطلاق متحركة، و كذلك مصانع الصواريخ. اما الغارات التكتيكية 22 الف غارة فقد نجحت تقريبا في تدمير نصف معدات الجيش العراقي في الكويت و لكن نجى ثلثي الجيش العراقي و نصف الحرس الجمهوري في النهاية.

كانت مشكلة الحرب في النهاية هي الصورة الاعلامية. فخطاب الرئيس الامريكي ركز عند اندلاع الازمة على البعد الاخلاقي. و ان الامور ليس فيها مجال للرمادية. و لكن هذه هي الصورة التي انتهت اليها الحرب. ذهب بوش و تاتشر و غورباتشوف و متران خلال اقل من سنتين. و بقى صدام حسين! و بدأت الاشتبكات الجوية و تحدي العراق لمنطقة الحظر الجوي بشكل استدعى ان تبقى امريكا حوالي 24 الف جندي في الخليج و 150 طائرة مقاتلة. و بينما ارتكب صدام حسين اخطاء لا تحصى اثناء الحرب، ادرك ان بقائه في الحكم هو النصر النهائي الذي يحتاجه. فقام بحملة متميزة لاعادة اعمار العراق وسط العقوبات. و خلال عامين تم اعادة بناء كل الابنية الرسمية و الجسور المدمرة تقريبا. و بقى العراق خارج قواعد اللعبة الامريكية لعقد اخر من الزمان.


تم بحمد الله