Saturday, July 25, 2009

الإبادة الثالثة! خيري منصور 25/07/2009

عرف التاريخ نوعين من الإبادة، إحداهما دموية، والأخرى سلمية بيضاء، وقد تكون الابادة الثانية اشد خطورة وتنكيلا من الأولى، لأنها تتم بتواطؤ من الضحية ذاتها، عندما تتأقلم مع الصورة التي ترسم لها، ولكي تنجز الابادة السلمية لا بدّ للضحية ان تكون قد أوغلت في الماسوشية، واستمراء القضم، والثقافة ليست في منأى عن هذه الابادات، انها جوهرها وليس في الصميم منها فقط، سواء تمثّلت في لغة او نصوص او أية مرجعيات، لهذا يشكل انقراض اللغات الآن هاجسا جذريا لدى ثقافات تستشعر الخطر عن بعد، واللغة التي تنقرض تأخذ معها كل ما كتب فيها، لأنها ليست مجرد اناء يكسر فيسيل ما يملأه او ينقل الى اناء آخر، وذلك لأن جدلية الفكر واللغة وجمالياتها يتجاوز ثنائية الشكل والمحتوىِ، او الثمرة وقشرتها، فاللغة ليست قشرة لحضارة او ثقافة، انها الأنساغ، والجذور، ونحن نفكر بها أولا، وثمة فنون كالشعر هي فنون لغوية بامتياز لأنها تتأسس على المغامرة داخل اللغة، وقد دفع هذا الاستثناء سارتر الى اعفاء الشعرء من الالتزام الذي طالما كان اطروحته الفكرية قدر تعلق مهنة الكتابة بالتاريخ .
الابادة الحمراء، او الدموية، قد لا تحقق ما تحققه الابادة البيضاء، لأن الاولى تستولد ردود أفعال فورية، وتجتذب شهودا كي تبقى الجريمة ناقصة، اما الثانية فهي الجريمة الكاملة الوحيدة في التاريخ، لأن المفعول به يندغم في الفاعل بل يتماهى معه، ويتلاشى فيه، ونحن الان إزاء ابادة ثالثة، هي نصف دموية ونصف بيضاء، فالسياسة تتولى النصف الاحمر والثقافة تتولى النصف الابيض بلون الكفن لا بلون الياسمين او الثلج، وقدر تعلق هذا بالعرب المعاصرين، فإن امثولة النكبة الفلسطينية رغم تحفظنا على هذا المصطلح لأنه مستعار من كوارث الطبيعة وليس من كوارث التاريخ، قدمت نموذجا لثلاثة انماط من الابادة، فالبداية كانت احتلالا تحول الى استحلال، اي شرعنة السطو ونيل الاعتراف الدولي به، وتحويل المسروق الى استحقاق، ثم كانت المرحلة الثانية وهي اذابة الهوية القومية من خلال الثقافة والفولكلور، لأن استيطان الأرض يتطلب استيطانا موازيا للذاكرة، وهذا ما يفسر سطو اسرائيل على مظاهر فولكلورية في فلسطين، والزعم بأن اشكال التعبير والطقوس الشعبية في مختلف المناسبات هي ذات جذور يهودية، فالطارىء غالبا ما يكون مسكونا ومهجوسا بالريبة لهذا يسعى الى نيل الاعتراف بما اقترف، لأن مثل هذا الاعتراف في حال تحقق هو الضمانة الوحيدة للفرار من المساءلة، في بعديها السياسي والاخلاقي !

'''
ان هذه المرحلة التي دشنها الاعتراف غير المتكافىء منذ خمسة عشر عاما هي مزيج من ابادتين مجرّبتين دموية وبيضاء، وقد بدأت المسألة بما سمي كسر الحاجز النفسي، وهذه عبارة تبدو عابرة في أدبيات الميديا الاختزالية، لكنها ذات دلالات بالغة العمق والتعقيد، فالحاجز النفسي يتأسس على عداء كان سببه الأذى الكبير الذي الحقه طرف قوي بطرف أضعف منه، وتوشك عبارة الحاجز النفسي ان تكون المرادف المجازي لثأر مؤجل، ما دام الظرف الراهن لا يتيح للمعتدى عليه ان ينتقم لنفسه او يتحرر من السطو المسلح الذي حاول تدجينه وحذف هويته، فالتحالف الان استراتيجي وحاسم بين ثلاثة مستويات من الابادة، التي تكون ضحيتها خليطا من اللحم البشري والثقافة واللغة واخيرا الهوية والكينونة .
واذا كانت ردود الافعال السياسية والعسكرية على الابادة الحمراء مشروطة بما يحاصر الضحية ويحول دون استخدام ارادتها، فإن ردود الافعال الثقافية والمعرفية ليست على هذا النحو، وقد لا تستكمل الابادات الثلاث اهدافها الا حين تفرغ الثقافة من محتواها ومن شحنتها ودورها في إعادة الوعي السالب الى وضعه السوي، وما هذا التأقلم المتسارع مع الامر الواقع الا البداية الثانية لانجاز ابادة محرومة من الشهود، لأن اول ما يمكن قوله عن الضحية الخرساء والمتماهية مع جلادها، بل المتلاشية في اطروحاته الثقافية هو ان الاخرين لن يكونوا ملكيين اكثر من الملك، او ضحايا اكثر من الضحية، وما يجب التذكير به في هذا السياق وفي هذا الاوان الرمادي، هو ان الضحايا مستويات منها ما هو امتثالي وماسوشي ومتأقلم ومنها ما هو العصيان ذاته، واذا استبد وباء التأقلم بالضحية فإنه يحولها الى عدو نفسها بامتياز، وهذا ما يفسر لنا انقضاض الضحايا على ضحايا آخرين من جلدتهم بدلا من الانقضاض على الفاعل والذي يرشح ضحاياه الى ائتلاف وتناغم في مصير واحد، ان هذا أبسط الدفاعات الغريزية لدى الكائنات، لكن الانسان انفرد بهذه السايكولوجيا التي تعفّ عنها حتى الحشرات والهوام وهي تدافع عن وجودها وسرّ بقائها، وهناك حالات من ردود الافعال الباسلة على مختلف صيغ الابادات تعيد للغة ومنجزاتها الجمالية الاعتبار، فقد تقوى قصيدة عزلاء الا من رؤاها وجمالياتها وشحنتها الانسانية على صدّ ابادة منظّمة لأن فلسفة الابادة وفقه التطهير العرقي لا ينكسر امتداده الا عند حدود لغة محروسة بمبدعيها، وقد يكون النموذج الذي قدمه الفلسطينيون في المناطق المحتلة عام 1948 مدخلا مناسبا في هذا السياق، فهم منذ المستوطنة الاولى، اعلنوا العصيان على الترجمة القومية، وتشبثوا باللغة والذاكرة والتاريخ مثلما تشبثوا بالتراب، فكانوا بعد عقدين من الاحتلال التام والعزل القسري رافدا اساسيا في حركة الابداع العربي، وهذا بحد ذاته مقاومة في أقصى درجات التصدي، لأنهم لو تكاثروا عضويا فقط ولم يفرزوا هذا المنجز الثقافي لكان الوضع مغايرا... خصوصا في عصر لم يكن انقراض الهويات والشعوب فيه عضويا وماديا فقطـ، فهناك انقراض معنوي قد يطال شعبا برمته، رغم انه بان على قيد الحياة، لكن اية حياة !! انها ادنى مفاهيم البقاء الذي يتاح حتى للديدان والطحالب !

'''
للثقافة ايضا كما للأجساد الحية دورات دموية وخلايا بيضاء للمناعة، وهي تتعرض احيانا لأنيميا من طراز آخر، اشدّ فتكا، خصوصا اذا انسحب المثقف من الحلبة، وتشرنق كي يجتر ذاته الفقيرة، ويعيد انتاجها حتى وهو ينظر الى الشمس او سلسلة جبال، ولا يعنينا ما يقال او ينشر من توصيفات للمشهد السياسي العربي، والهشاشة الدفاعية لدى العسكرتاريا الصفراء، لأن هذا كله لن يكون له معنى الا اذا فقدت الثقافة مناعتها، وتحولت الى ظل وصدى وسادت عليها الروح الامتثالية الببغاوية، بحيث يجد المثقف نفسه كالمضبوع في الحكاية الشعبية، يعدو راجفا خلف الضبع الذي نفخ في وجهه وهو يناديه يا أبي ...
وثقافتنا العربية الان مضبوعة، ولا سبيل الى اعادتها للرشد التاريخي الا باسترداد الوعي، بعد كل هذه القرون لا العقود من السبات، والاستغراق في غيبوبة معرفية، لم تكن الغيبوبة السياسية الا من تجلياتها وافرازاتها السّامة !
واذا كان لا بد من فواصل تاريخية هي بمثابة مقتربات منهجية لاستقراء الابادات الثلاث، فإن عام 1492 وهو عام سقوط غرناطة، فاصل تاريخي بامتياز، دفع اكثر من مؤرخ وباحث في عصرنا الى اعادة النظام العالمي الجديد الى تلك الفترة او ذلك السقوط، وهو العام الذي تزامن مع اكتشاف العالم الجديد او الزائر غير المرغوب فيه حسب تعبير شهير لريجيه دوبريه، وقبل غرناطة، كان سقوط بغداد عام 1258 علامة فارقة، حيث أعلنت البومة الخريف ونعبت في الغسق، كنقيض للمثل الانكليزي القائل بأن السنونوة الاولى تعلن الربيع.. وقد نحتاج الى عقدين قادمين او ثلاثة كي نتأكد من ان سقوط بغداد الثاني في مطلع القرن الحادي والعشرين هو شاهدة ثانية على ضريح مغمور بالغبار، وقد يختزل هواة جمع القشور سقوط العواصم الكبرى بسقوط نظام او جنرال او حتى دولة، والحقيقة ان للسقوط دلالات أخرى تتجاوز هذا الاختزال الثأري والقراءة العوراء والكيدية للتاريخ، وكأن على النظام السياسي العربي ان يدرك في تلك الظهيرة السوداء انه فقد عذريته السياسية او ما كان يتوهم انه كذلك، خصوصا بعد ان اتضح ان الدولة العربية السايكوبيكوية هي شجرة لبلاب لا سنديانة او نخلة .

'''
الابادة الثالثة المستولدة من الابادتين الحمراء والبيضاء هي ثقافية، واللغة احد اهدافها البعيدة بل الاستراتيجية، فاذا كان ابو الطيب قد وقف غريب اللسان والقلب في شعب بوان ذات يوم فإن ذرية برمتها قد تكتشف في لحظة ما بأنها ترطن باللغة الأم، وتفتش في سرب الغربان الذي يغطي أفقها عن ريشة بيضاء او حتى رمادية، وقد تجدها، لكن في غراب اشيب .
اننا لا نحتاج الى مناسبة لفتح مثل هذه الملفات المغمورة بالغبار او الملقاة في خنادق امتلأت ببول الكلاب والمارة، وان كانت نوبة السعارالصهيونية التي تعتري دولة مسكونة بهاجس اسبارطي تحرضنا على الاسراع في فتح هذه الملفات وما يسمى عبرنة التضاريس الفلسطينية واسماء المدن والمعالم هو مقدمة لاقصاء اللغة العربية عن الاماكن الممهورة بها، لكأن هناك تاريخا آخر يبدأ بعد التاريخ .
وما يشعرنا بالهلع هو لا مبالاة الثقافة الرخوة بهذه الافخاخ، التي تستدرجها كي تصبح ثقافة أقلية تنتهي الى فولكلور وطقوس موسمية . العَبرنة والتهويد هما مستويان من الابادة، يستكملان ما بدأت به الأَسرَلة، فالاستيطان بدأ بالارض ثم تمدد الى اللغة واخيرا الى الثقافة كلها، وثمة ضحايا لديها الاستعداد ان تقايض دمها كله بحفنة علف او بوسام اقل قيمة من ريشة دجاجة ميتة .
لقد أفرط مؤرخو هذه الحقبة في وصف ما يسمون المابعديات بدءا من ما بعد الحداثة وما بعد الصهيونية وما بعد الاستعمار، واخيرا ما بعد الانسان وما بعد التاريخ، لكنهم اهملوا شيئا اساسيا هو ان هذه المابعديات الشكلاينة عودة غير مظفرة الى الماقبليات بدءا من ما قبل الدولة وما قبل التاريخ وما قبل القانون !
لقد اعلنت الدقّة الثالثة على خشبة المسرح المنهار الابادة الثالثة !!

Thursday, July 23, 2009

قهوة مُرّة.. جدا مُرّة... سهيل كيوان

منذ أيام وأنا أحلم بلقاء طقم نحاس، منذ قررت زيارة البلاد وأنا أراه أمامي، ليلة الأمس تقلبت، أرقت بسببه، استعدت صورة والدتي في كهولتها وهي تجمعنا حولها في بيتنا في المخيم وتقول لنا: أثناء هجيجنا من لوبية عرجنا على قرية في الجليل اسمها دير حنا، وقبل أن نواصل مسيرتنا الملعونة شمالاً، تركتُ هناك طقم نحاس، كان هذا لوالدي، جدكم أورثني إياه، وهو غال عليّ، تركته لدى امرأة فاضلة هناك..
قلت - يعني لو دخلنا الآن قرية دير حنا، وسألنا عن طقم نحاس تركته امرأة من لوبية في عام الهجيج..ألا تعتقد أنها ستكون نكتة ظريفة! ثم من ستسأل الآن عن طقم نحاس في قرية كان عدد سكانها بضع مئات وصارت الآن حوالي عشرة آلاف! ثم كم تبقى من نساء ذلك الزمن! في أحسن الأحوال سنجد بضع عجائز! بعد كل هذا الذي مر على الناس والمنطقة والعالم في الستين سنة الماضية..من يذكر طقم نحاس! ثم من يدري! لعل ابن هذه الامرأة أعجبه الطقم فأخذه لاستعماله الشخصي! بل ربما باعه أحد أحفادها! هل تعرف كم يساوي مثل هذا الطقم بالنسبة للولد! قد يكون ثروة لأسبوع على الأقل، ولا أستغرب حتى لو اهتدينا الى هذه السيدة (العجوز) أن تعتذر وتقول..إن (مقصوف الرقبة) فلاناً من أحفادها غافلها وباعه! أذكر في طفولتنا رجلاً كان يشتري منا النحاس، لا أعرف من أين كنا نعثر على كل تلك الكميات من هذا المعدن، بعض الأولاد الأشقياء لم يتورعوا عن سرقة أوان منزلية من أمام البيوت وبيعها له!
رد باسم - أنا متأكد أن طقم النحاس ما زال موجوداً....بل وأعرف الإمرأة التي تحتفظ به...إنها جدة لشاب يدعى رائف ....
رائف!
نعم ..التقيته في الدنمارك قبل بضع سنوات في نشاط سياسي...عرّف على نفسه أنه من قرية دير حنا! عندما عرفته عليّ وقلت إنني لوباني الأصل ضحك رائف وقال لي: بالمناسبة..جدتي تقول إن امرأة من لوبية مرت من هناك في عام الهجيج......تركت عندها طقم نحاس ريثما تعود....
طبعا اقشعر بدني...في كل مرة حدثتنا والدتي عن لوبية ومسيرة الهجيج، لم تنس الطقم الذي ورثته عن والدها...وتركته هناك ...والسؤال هل هو الطقم نفسه!
قلت - حسناً، دير حنا ليست بعيدة...لماذا لا نجرب! ماذا سنخسر!
- الصباح رباح....
- بل الآن ...في الصباح يخرج العمال إلى أعمالهم، فلنذهب الآن....
في حوالي العاشرة مساء دخلنا دير حنا..وهي من قرى الجليل الجميلة، تقع على هضبة، فيها قلعة من قلاع ظاهر العمر الزيداني، شوارعها القديمة مرصوفة بالحجر المدقوق، فيها معصرة زيتون على الطراز القديم ومتحف صغير لسياحة طلاب المدارس، كذلك فيها معاصر زيتون حديثة، تشرف على سفوح وكروم زيتون على مد النظر من جهة، ومن جهة على سهل البطوف الذي يسيل لعاب السلطات عليه منذ عشرات السنين، والذي كانت مصادرة أجزاء منه أحد أسباب انتفاضة يوم الأرض الأولى.
رحنا نسأل المارة عن رائف الناشط السياسي الذي التقاه باسم في الدنمارك قبل سنوات، عثرنا على أكثر من رائف واحد، ولكن لم يمض وقت طويل حتى أشار لنا أحدهم إلى فرن للخبز صاحبه نسيب لرائف، خلال دقائق كنا هناك، هبطت من السيارة وسألت عن ..رائف...
رد صاحب الفرن - أنا نسيبه...تفضلوا إشربوا إشي بارد....أهلا وسهلا.. كلوا إشي...بحياة الله .. منقوشة...فطيرة بجبنة....
وما هي سوى دقائق حتى هاتف شخصا ما، وبعد دقائق وصل مرحباً بنا...أنا أبو ماهر شقيق رائف.... رائف مسافر... تفضلوا....
عرّفته على رفيقي - هذا صديقي أصله من لوبية....يعيش في الدنمارك اليوم....التقى شقيقك رائف قبل سنوات...وقد أخبره أن لدى جدته (يعني جدّتك) طقم نحاس لامراة من لوبية منذ عام النكبة...
أعلن أبو ماهر حالة طوارئ من خلال هاتفه، استدعى أشقاءه وشقيقاته وأزواجهن الى بيته، وخلال ساعة تم ذكر عشرات الأسماء وإعادة كل اسم إلى نسبه وأصله وفصله واكتشفت صلات قربى وأنساب وصداقات ضاربة في أعماق الزمان والمكان..
نعم الجدة توفيت منذ عامين فقط، تحدثت مرارا عن طقم نحاس لسيدة من لوبية اسمها ثريا ..... كان معها زوجها وطفل ....
- والدتي هي ثريا ابراهيم ذياب والطفل هو شقيقي الأكبر...يعيش في أمريكا اليوم....قال باسم...
بعد الضيافة انتقلنا راجلين في موكب كبير إلى بيت الجدة في وسط الحي القديم، غرفتان حجريتان واسعتان وشرفة، مطبخ وسدّة، في المطبخ قاطع مفصول بستارة من قماش، وراء الستارة (شقاشيق) تستخدم في عملية قطف الزيتون، أكياس من الخيش وقطع من النايلون للهدف ذاته، برميل، أدوات منزلية ضخمة لم تعد قيد الاستعمال، جرّة ضخمة قديمة من الفخار واضح أنها تستعمل لتخزين الزيت..قال أبو ماهر: إنها تحفة قديمة، دفع لي فيها أحد جامعي الأنتيكا عشرة آلاف شيكل..ولم أتنازل عنها، ثم انحنى وسحب كانونا من النحاس عَلته الغبرة، فيه محماسة، دلة، إبريق، مصبّان، سحبه إلى وسط الغرفة، والجميع ينظرون إليه برهبة تكاد تكون مقدسة ...
قرفص (باسم)، تأمل الأواني واحدة واحدة ثم رفع الدلة الثقيلة...وراح يتحسس زخرفاتها، يفتح غطاءها وينظر داخلها..
قلت مقاطعاً تأملاته - هل تعرف مراحل غليان القهوة السادة؟
لا أعرف...
- أربع مراحل لغليان القهوة السادة...كل مرحلة لها اسم حسب حجم فقاعة القهوة على وجه الدلة، في أول غليانها يقولون ...(فوّلت)..أي أن الفقاعات صارت بحجم حبة الفول، ثم حمّصت..وعدّست..ثم سمسمت ..أي صار حجم الفقاعات بحجم حبات السمسم وصارت جاهزة للشرب.....
شغلة طويلة...قال باسم...
- طبعا.. يحتاج إعدادها إلى نهار كامل، كانت القهوة السادة فقط في بيوت المتفرغين لها،اليوم على الغالب تقدم في المناسبات، يعدّونها بسرعة ويحتسونها قبل أن تسمسم...
على كل حال...ها قد وصلت الأمانة لأصحابها بعد ستة عقود....
قال أبو ماهر متوجهاً إلى باسم ومشيرا إلى الطقم: تفضل الأمانة..إنها لك....
فرد باسم: ما قيمتها إذا أخذتها معي إلى الدنمارك! قيمتها بأن تبقى هنا...ثم وقف في مواجهة أبناء الأسرة وكأنه يستعيد ما كانت قالته والدته ربما في هذه الغرفة ذاتها قبل ستة عقود: بعد أيام سأعود إلى الدنمارك، الأسرة موزعة بين أمريكا وأوروبا ولا أعلم إلى أين قد أصل، سأنقل لأبنائي قصة طقم النحاس الذي تركته جدتهم عام الهجيج عند أسرتكم الكريمة في دير حنا، وها أنا أجدد الأمانة مرة أخرى، أتركها عندكم فأنتم خير من...من ...من..من...من يحفظ الأمانة.....م

Wednesday, July 8, 2009

الحمل المستكن - خالد منتصر - 7/8/2009 - ايلاف

فى مؤتمر طبى بإحدى كليات الطب الخاصة وقف أستاذ طالباً الكلمة وقال "لماذا لانناقش فى المؤتمر الحمل المستكن؟!"، ولما سأله الحاضرون عما يقصده بالحمل المستكن، رد قائلاً : أقصد الحمل الذى يظل عاماً وعامين وثلاثة وأربعه!!، إندهش الحاضرون أساتذة وطلبة وتساءلوا: هو فيه حمل بيقعد ثلاث أو أربع سنين!!، رد الأستاذ واثقاً وساخراً من جهل زملائه :طبعاً..إذا كان الإمام مالك ظل فى بطن أمه ثلاث سنوات.
خطورة هذا الرأى أنه قد صدر عن أستاذ طبيب المفروض أنه قد تعلم المنهج العلمى فى التفكير، والمفروض أن مرجعه فى الطب هو المراجع والمجلات العلمية، وفى قضية طبية مثل معلومة أقصى مدة للحمل لابد أن يعود إلى ماتعلمه وقرأه فى هذه المراجع وليس إلى ماقرأه فى كتب الفقه، ولكن هذا الأستاذ للأسف لايعبر عن نفسه ولكنه صار يمثل ظاهرة تغلب النقل على العقل، ويلخص تياراً مستعداً للتضحية بكل ماتعلمه من طب فى سبيل تغليب نص فقهى أوالإنتصار لفتوى تراثية، بدليل أن هذا الأستاذ ليس الوحيد الذى ينتصر لمثل هذه الآراء ولك أن تعلم أن من يتزعم تيار دعم وتأييد ختان الإناث لدرجة أنه قد إختصم وزير الصحة أمام المحاكم يعمل أستاذاً للنساء والتوليد!!.
بعض الفقهاء مثل الحنفية يرون أن أقصى مدة للحمل قد تطول إلى سنتين، والمالكية والشافعية أربع سنوات، والبعض يرى أنها خمس سنوات، والبعض مدها إلى أكثر من ذلك!!، وهو كلام نقبله كنوع من الفولكلور ولانقبله على الإطلاق كنوع من العلم أو الحقيقة، ومن الممكن تبريره كما سنرى لاحقاً نتيجة سوء فهم لبعض الظواهر آنذاك مثل إنقطاع الحيض والتى لم يستطع القدماء تفسيرها إلا بأنه حمل مؤكد فحدث الإلتباس، أما أن يفرض كائن من كان على تفكيرى وعقلى أن أقبل هذه الخزعبلات تحت مسمى تطبيق الشريعة فهذا ماأرفضه أولاً للإسلام دين العقل بأن تلصق به هذه الأفكار التى تنتمى للقرون الوسطى، وثانياً أرفضه بالنسبة لعقلى الذى يفرض عليه أن يقبلها لمجرد أن المفتى قد ذكرها فى كتابه أو لأن الأزهر يدرسها فى منهجه!، فكيف أقبل علمياً مالم يشاهده طبيب نساء وولادة واحد منذ إختراع علم طب النساء والتوليد، ومالم يسجله جهاز سونار واحد حتى فى بلاد واق الواق؟!!، وكيف أقبل أخلاقياً أن أسمح بطوق نجاة فقهى لإمرأة من الممكن أن تمارس الفاحشة بعد وفاة زوجها ثم تنسب طفل الخطيئة للأب المتوفى إحتماء بمظلة الحمل المستكن أو تستراً وراء فتوى فلان أو مذهب علان كما حدث فى 19 جمادى الآخرة عام 1346هجرية فى المحكمة الشرعية فى مكه عندما حكم القاضى مصطفى عبد القادر العلوى بإلحاق نسب طفل ولدته أمه بعد موت زوجها بخمس سنين!!.
ولكن السؤال المهم هل ظل مفهوم الحمل المستكن سجين كتب الفقه لايطبق إلا فى الدولة الدينية أم تسلل إلى قوانين الدولة المدنية المذعورة من شعارات جماعات ضغط الإسلام السياسى؟، هل نحن دولة تحترم العقل والتفكير أم تقدس النقل والتكفير؟.
العلم يعرف كلمة الجنين ولايعرف أو يعترف بمايسمى الحمل المستكن أو مدة الحمل التى تتعدى عشرة شهور فمابالك بحمل السنتين والأربعه!، والمفروض بداهة أن يتبعه القانون ولايحاول مجاملة الفقهاء على حساب العلم، فهذه إجتهادات زمانهم ولابد أن توضع فى إطار هذه الظروف ولاتصبح سيفاً على رقبة المشرع، ولايعقل أن يضم القانون المصرى والسورى والخليجى نصوصاً تتحدث عن الحمل المستكن بمفاهيم القرن الرابع، فعلى سبيل المثال القانون رقم 15 لسنة 1929 " لاتسمع دعوى النسب لولد زوجة أتت به بعد سنة من غيبة الزوج"، وفى القانون 131 لسنة 1948 فقرة تقول "حقوق الحمل المستكن يعينها القانون"، وفى مرسوم بالقانون رقم 67 لسنة 1980 "الحمل المستكن أهل لثبوت الحقوق.."، وفى المادة 29 من قانون الأحوال الشخصية "على الوصى على الحمل المستكن إبلاغ النيابة العامة بإنقضاء مدة الحمل.."، وكذلك فى المادة 128 من القانون السورى، وكذلك فى قانون الولاية على المال فى البحرين.
دائماً يأتى الرد من أنصار النقل وأعداء العقل بأن الفقهاء يحسبون حساب الأشياء الشاذة التى من الممكن أن تحدث ولو نادراً، والفرق كبير بين الشاذ والمستحيل، فالمرأة التى تنتمى لفصيلة الإنسان لايمكن أن تتحول فجأة لفيل آسيوى ويتجاوز حملها السنتين!، وحتى مدة السنة الشمسية التى جامل فيها القانون الفقهاء وأصابه الحرج منهم مدة مستحيلة، وبوادر إنقباضات الولادة لها أسس ونظريات علمية مستقرة وواضحة، فالرحم ليس مخزناً صامتاً، والقاعدة هى أنه مستعد للفظ الحمل كجسم غريب ولكن الحكمة الربانية تضبط الإيقاع الهورمونى فيحتفظ الرحم بالحمل حتى يحين موعد الولادة وشرارة الإنقباض التى وضع لها العلماء نظريات منها أن عضلات الرحم عندما تصل لدرجة معينة من "السترتش" والتمدد تبدأ الولادة بدليل أن التوائم تولد مبكراً لأن التمدد أكبر، ونظرية أخرى هى أنه عند نضوج الرئة تفرز مادة البروستاجلاندين التى تذهب لمستقبلات عضلات الرحم فينقبض إستعداداً للولادة، وهناك نظرية تليف وضمور المشيمة التى لها عمر محدد لن تتخطاه ولن يصل إلى الجنين أى غذاء بعدها، ولو ظل هذا الجنين أكثر من 42 أسبوع فهو معرض للوفاة داخل الرحم، ولو أكثر من 43 فسيتوفى حتماً، ولابد من تدخل الطبيب بحسم عندما تتجاوز الأم الحامل ال 42 اسبوع، فمابالكم بجنين الخمسين أسبوع الذى يتحدثون عنه، من المؤكد أنه سيتعفن داخل الرحم، وحتى هذا الطفل المتوفى داخل الرحم لن يستطيع الطبيب تركه لمزاجه وللظروف لسبب بسيط هو أن هذا الجنين المتروك ميتاً داخل الرحم سيتسبب فى تغيرات فى تجلط دم الأم التى ستصبح معرضة للموت،ومعرضة أيضاً لجلطات السائل الأمنيوسى التى ستودى بحياتها.
إذن مدة الحمل غير متروكة للصدف والإحتمالات وتغير الأمزجة والأزمنة، ومن يقل الآن أن الإمام مالك ظل ثلاث سنوات فى رحم أمه يهزل فى موضع الجد، والذنب ليس ذنب من قال قديماً، ولكن الذنب ذنب من تبنى هذا الرأى حديثاً!!،
مناقشة آراء رجال الدين والفقهاء وإنتقادها ليست إنتقاداً للدين أو إنتقاصاً منه، والمفروض ألا تكون هناك حساسية عندما تناقش مسألة علمية أخطأ فى فهمها وتفسيرها الفقهاء قديماً، ولايجب أن نرفع السيوف متحفزين عند مناقشة هذه الآراء، فالخطأ ليس خطأ من يناقشها ولكنه خطأ من يعتبرها من صلب الدين، والأسئلة الإستنكارية التى يلقيها رجال الدين مثل هل تكذبون الفقهاء؟، ومن أنتم حتى تطاولوا قامة هؤلاء؟، مثل هذه الأسئلة معوقة لأى تقدم فكرى وعلمى، فنحن لانتهم الفقهاء بالكذب بل نضع أراءهم فى ظروف زمانهم ولانقدسها لأنها فقط صدرت عن رجال ثقات، فالحقيقة العلمية لها شروط أخرى غير مدى تقوى وورع صاحبها، وأيضاً كل من يناقش رأياً فقهياً فى العلم ليس معناه أنه يناطح الفقهاء ويطاول قامتهم، من الممكن ألا يكون أفضل منهم ورعاً وإيماناً ولكنه بالقطع يمتلك وسائل بحث عصرية أفضل منهم، وهذا لايعنى بأى حال إنتقاصاً منهم أو جرحاً لإجتهاداتهم.
قضية علمية مثل أن أقصى مدة للحمل سنة أو سنتان أو أربعة، لانستطيع أن نقبل تسللها إلى نصوص القانون وأمخاخ طلاب الأزهر لمجرد أن الفقهاء القدماء قالوها ورددوها، ولكن من الممكن أن نفسر وقوعهم فى هذا الخطأ بمفاهيم زمانهم وبيئتهم، فماقيل عن أقصى مدة للحمل رددته سيدات هذا الزمن بفولكلور هذا الزمن وعلم هذا الزمن، فسروا أى إنقطاع للحيض بأنه حمل، وبدأن فى حسابات خاطئة بناء على هذا التفسير، فكان من الممكن أن ينقطع حيض إمرأة بسبب الرضاعة سنة أو أكثر ثم تحمل أثناء هذا الإنقطاع فتضيف المدة الأولى على الثانية وتتوهم أن حملها سنتان!، والحمل الكاذب من الممكن أن يعطى نفس النتيجة، ففى هذا الحمل ينقطع الحيض وتحس المرأة بنفس أعراض الحمل تقريباً من قئ وتقلصات بل وإنتفاخ بطن، وتفسر حركة الأمعاء على أنها حركة جنين، فإن تم الحمل الحقيقى أضافت هذه المرأة الملهوفة على الحمل مدته إلى مدة الحمل الكاذب، وأيضاً إذا ولدت المرأة طفلاً بأسنان،فسرت وترجمت هذا الحدث على أن هذا الطفل تجاوز العام داخل الرحم!!، مع أن هذه الأسنان زائدة وعادة ماتسقط لينمو بدلاً منها الأسنان الطبيعية ويراها أطباء النساء الآن بدون أن يفسروا ذلك على أنه معجزة طفل ولد فى سن المدرسة!!.
قضية الحمل المستكن تفتح الباب أمام مناقشة كل ماإعتبرناه علماً وطباً داخل كتب الفقه، فلايمكن الآن فى القرن الحادى والعشرين أن نقول كما قال الفقهاء قديماً أن دم الحيض هو لتغذية الجنين وينقلب لبناً أثناء الرضاعة!، ونرمى كل ماتعلمناه فى مراجع طب النساء من تغيرات هورمونية تضبط إيقاع الدورة الشهرية وتمنع حدوثها أثناء الحمل، ولايمكن أيضاً أن نعتمد على مفاهيم ماء الرجل وماء المرأة فى تناول قضايا الوراثة والسكسولوجى وعلاج العقم، ونغض الطرف ونتجاهل مفاهيم الحيوان المنوى والبويضة والإنفجار المعرفى الذى حدث بعد إكتشاف الدى إن أيه، وكذلك المفاهيم التى تلصق بالدين على أنها فرائض طبية وهى فى الحقيقة ممارسة طبية مناسبة لزمانها مثل الحجامة التى من فرط الدفاع عنها ظننتها الفريضة السادسة.
أعتقد أن هواية التحنيط لم تندثر عند المصريين، فهاهم الآن يحنطون الدين والعلم معاً.