Saturday, December 26, 2009

من يوميات الانكسار الكبير, عبدالعزيز المقالح


- 1 -

لا نهاية للحزن

للبحر حدٌ،

وللأرض حدٌ

وحزني مُتسعٌ

لا نهاية له.

- 2 -

أيها الأصدقاء

لماذا أتينا الى عالم الناس

بعد أفول المسرَّات

بعدَ نضوب الينابيع

بعد ظهور القيامة والزلزلهْ؟!

- 3 -

يا لمملكة الروح!

مثقلةٌ بالمخاوف

يرتجف القلبُ من هول ما حملت

من همومٍ

وما حَشدت من بلَهْ؟!

- 4 -

أين أهرب منّي

وفي أي زاويةٍ أدفن الكلمات

التي رسمتني،

والأرضُ محروقةٌ

والفضاءاتُ بالحقد مشتعلهْ؟!

- 5 -

رجع المؤمنون من الحج

معتمرين بتوبتهم

ورجعتُ من الحرب

لا قلبَ لي

لا ظلالَ ألوذ بها

غير قافية بالأسى مثقلهْ.

- 6 -

لا ضِفاف لحزني

وفي كل آنِ يصوّر لي

أنه يحتوي الأرضَ

أن قد غدا سيد الكائنات

له أمسُنا،

وأباريق أيامنا المقبلهْ!

- 7 -

هبط الليل

من أين جاء

وكيف أغار على ما تبقى

من الضوء؟

كيف دنا من نوافذنا

المقفلهْ؟!

- 8 -

جسدُ الأرض

ما عاد مبتهجاً مثلما كان

ما عدتُ مندهشاً

مثلما كنتُ،

من ينقذ الروح من هذه البلبلهْ؟!

- 9 -

لا غيومَ على الأفق

لا شيءَ يسند روحي

لا شيء خلف ظلال الكلام العتيق

ولا ماءَ في الأرض

أو سنبلهْ!

- 10 -

طازجاً

كان حبُ الرجالِ

لأوطانهم... للنساءِ

وكان الخيالُ طليقاً

ولم يختبئ خلف فاجعةٍ

أو تجرجره مهزلهْ!

- 11 -

أيها الشعراءُ

لماذا قصائدكم شاحباتٌ

كأوجهِ أطفالِكم؟

والحدائقُ مُذ هجمَ الغرباء

على أرضكم فقدت كل ألوانها

وغدتْ مزبلهْ؟!

- 12 -

خمدتْ شمسُنا

لم يعُد دمُنا يكتب الورد

والكلماتِ النديّةَ،

رائحةُ الموت

والجثث اللامغطاة

تقتل أحلامَنا

تقتل الشعرَ والمسألهْ.

- 13 -

ربضتْ في مرابطها الخيلُ

خانعةً،

ترقب الطرقات القريبةَ

والطرقات البعيدةَ

لا من دليلٍ هناك

ولا قافلهْ.

- 14 -

يا القصيدةُ... يا نبضَ روحي

اغسليني

اغسلي كبدي من فواجعهِ

واغسلــي لغتـي من رماد الحروبِ

ومن عَفَنِ المرحلهْ.

Monday, December 21, 2009

فقر التعصب والتدين اليابس 21/12/2009 محمد بن المختار الشنقيطي

قل ابن رجب في "ذيل طبقات الحنابلة" عن ابن عقيل مدحا لحنابلة بغداد جاء فيه أنهم: "قوم خُشُن، تقلصت أخلاقهم عن المخالطة، وغلظت طباعهم عن المداخلة، وغلب عليهم الجد، وقل عندهم الهزل". وتحدث العلامة الذهبي في كتابه (العبر في خبر من غبر) عن الشيخ عبد الستار المقدسي، فقال: "عنيَ بالسنة، وجمع فيها، وناظر الخصوم وكفَّرهم، وكان صاحب حزبية وتحرُّق على الأشعرية فرموه بالتجسيم، ثم كان منابذاً لأصحابه الحنابلة، وفيه شراسة أخلاق مع صلاح ودين يابس".

"
السلفيون مولعون بالجدل والمناظرة في أمور الاعتقاد، وهو أمر يدل على أن السلفية المعاصرة تحولت إلى ما يشبه المدرسة الكلامية التي تطنب في الحديث عن دقائق العقائد دون داع شرعي
"
كما علق الذهبي في كتابه (سير أعلام النبلاء) على قول الشيخ أبي حاتم بن خاموس: "كل من لم يكن حنبليا فليس بمسلم"، فقال الذهبي: "قد كان أبو حاتم... صاحب سنة وإتباع وفيه يبسُ وزعارةُ العجم". ويلخص وصف ابن عقيل لمزاج الحنابلة ووصف الذهبي لشخصية كل من المقدسي وابن خاموس أهم الملامح الفكرية والنفسية التي يتسم بها بعض الدعاة والناشطين السلفيين اليوم:

* فهم منشغلون بجمع السنة النبوية والتدقيق في أسانيدها. وقد نفع الله بهم عموم الأمة في هذا الجانب، فلم يعد التساهل في النقل سائدا كما كان الحال في القرون المتأخرة. بيد أن السلفيين لم يمزجوا ثمرات النقل بنظرات العقل، فجاء التأصيل عندهم خاليا من التحليل، والنقلُ مجردا من الفقه. بل إن "العقلانية" أصبحت سبة في عرف بعض السلفيين، فتخلوا عن عقولهم بمحض إرادتهم، وكأنهم لم يسمعوا قول الشاعر عمر بن الورد: "كيف يسعى في جنونٍ مَن عقَلْ؟"

* وهم مولعون بالجدل والمناظرة في أمور الاعتقاد، وهو أمر يدل على أن السلفية المعاصرة تحولت إلى ما يشبه المدرسة الكلامية التي تطنب في الحديث عن دقائق العقائد دون داع شرعي، وهو ما لا ينسجم مع منهج السلف القائم على البساطة، والبعد عن التكلف والتمحل النظري، وتجنب الخوض في تلك المباحث الدقيقة إلا لضرورة.

* وهم يتحرقون تحرقا على مخالفيهم من المسلمين، ويكفرونهم في أمور كثيرة يسوغ فيها الخلاف. ويمكن القول إنه في الوقت الذي يجتهد فيه أتباع الديانات الأخرى على زيادة أعدادهم، فإن بعض السلفيين يجتهد على تقليص أعداد المسلمين. وبالطبع فقد جلبت بعض الجماعات السلفية متاعب كثيرة لنفسها، وفتحت شروخا عميقة في جسد الأمة بسبب الشدة على المخالفين وتكفيرهم. ولا تقف هذه العقلية الإقصائية عند حدود، فهي تضيق كل يوم وتخرج طوائف جديدة –بعضها سلفي المصدر والتوجه- من مفهوم "السنة والجماعة"، وهو المفهوم الذي حولوه إلى سور عال يفصل بينهم وبين عموم الأمة.

* ثم أخيرا تأتي سمة الجفاء والشراسة والتدين اليابس، الخالي من العطف والعاطفة، ومن الشفافية الروحية والذوق الجمالي. وهو تدين يرجح منطق الإكراه والمغالبة على منطق الإقناع والاكتساب. ويرجع هذا المنزع إلى الخلفية التاريخية والاجتماعية لبعض الجماعات السلفية، كما يرجع إلى منهاج التكوين والتربية لدى بعض السلفيين، وهو منهاج يقوم على التعالي الفكري والخوف الثقافي.

وليست هذه الملامح عامة في كافة السلفيين أو الحنابلة، فالتعميم لا يخلو من ظلم. ولا هو براءة لطبقات المتدينين الآخرين من هذه المساوئ، وهم ليسوا برآء منها. وإنما اقتصرنا هنا على المدرسة السلفية لغلبة هذه الملامح عليها، ولما للسلفيين من أثر طاغ على ساحة التدين اليوم.

حينما تغتال الهوية الإصلاح والنهضة

"
جدلية الانفتاح والانغلاق ذات صلة وثيقة بميزان القوة والضعف، فالأمم تميل أيام قوتها إلى الثقة بالنفس والفضول العلمي وحب الاستكشاف والتعطش للمعرفة، بينما تميل في لحظات ضعفها إلى ضعف الثقة بالنفس والتعصب الديني
"
وقد شخص الأكاديمي البريطاني والأستاذ بجامعة أوكسفورد عبد الحكيم مراد ظاهرة التجافي والتعالي الفكري لدى بعض السلفيين فدعاها "فقر التعصب" the poverty of fanaticism ونحن نسميها هنا "مذهب الاكتفاء والانكفاء". فالتعصب وليد إحساس بالكبرياء الفكري والاقتناع الزائف بعدم الحاجة إلى ثقافة الآخرين وعلومهم ونمط عيشهم. ومن المعلوم في التاريخ الثقافي أن التعصب يؤدي إلى الفقر الفكري والجدب الروحي، بينما يثمر الانفتاح والتسامح ثراء فكريا وروحيا.

لقد لاحظ الفيلسوف كلود ليفي ستراوس أن الإبداع لا يكون إلا على الحدود بين ثقافتين. وهو أمر ترجمه الفيلسوف محمد إقبال في النطاق الإسلامي فكتب: "إن العالم الإسلامي لن ينهض إلا بقلب شرقي وعقل غربي". فكل من يحصر نفسه في حدود ثقافته التاريخية يحكم على نفسه بالعقم والجمود. وجدلية الانفتاح والانغلاق هذه ذات صلة وثيقة بميزان القوة والضعف، فالأمم تميل أيام قوتها إلى الثقة بالنفس والفضول العلمي وحب الاستكشاف والتعطش للمعرفة، بينما تميل في لحظات ضعفها إلى ضعف الثقة بالنفس والتعصب الديني ورفض التنوع والتعدد الفكري والعرقي والثقافي.

لقد كان العرب والمسلمون أيام قوتهم وصعودهم الحضاري منفتحين مندفعين، يستكشفون العالم ويسعون للتعلم من كل أمة وثقافة، حتى وثنيات الهند وترهاتها وجدت رجلا مثل البيروني يدونها في كتابه: " تحقيق ما للهند من مقولة، مقبولة في العقل أو مرذولة". أما اليوم فنجد السلفيين يطنبون في الحديث عن "الغزو الفكري والثقافي" وما إلى ذلك من مقولات ينم عن الذات المهزوزة الخائفة على ذاتها.

وبسبب هذه الذات الفاقدة للثقة في ذاتها ضاعت فكرة الإصلاح والنهضة التي دعا إليها الأفغاني ومحمد عبده وأضرابهم منذ مائة عام، واغتالتها فكرة الهوية والخوف عليها، منذ أن صادر الشيخ رشيد رضا الفكرة الإصلاحية واتجه بها وجهة سلفية. وقد لاحظ رضوان السيد في كتابه (سياسات الإسلام المعاصر) القطيعة التي حدثت بين مدرسة الإصلاح في عصر عبده والأفغاني -وقد كانت "النهضة" همها الأهم- وبين الفكر الإسلامي في النصف الثاني من القرن العشرين الذي يركز على "الهوية".

لذلك يرى رضوان السيد أن "محمد عبده كان متقدما على رشيد رضا، ورشيد رضا كان متقدما على حسن البنا، وحسن البنا كان متقدما على سيد قطب، وسيد قطب كان متقدما على عمر عبد الرحمن". كان رشيد رضا في بادئ عهده إصلاحيا، ثم تحول فيما بعد سلفيا انكفائيا، فهو حلقة الانتقال بين المدرستين. لذلك رفض د. محمد عمارة إدراج رشيد رضا ضمن الإصلاحيين، وقد أحسن في ذلك، إذ الإصلاح والتجديد لا ينسجمان مع منهج الاكتفاء والانكفاء.

السلفية الملكية والسلفية الفوضوية

"
لم تعد السلفية تنحصر في السلفية "الملكية" والسلفية "الفوضوية"، بل ظهر إلى الوجود في العقد الأخير تيار ثالث أقرب إلى روح الإصلاح والتجديد، وهو يتلمس طريقه اليوم بين هذين الطرفين الغاليين
"
منذ أعوام خلت كان لي حديث حول السلفية مع أحد أساتذتي بجامعة تكساس، وهو من أصل لبناني، فلاحظ الأستاذ ملاحظة جديرة بالتأمل، فقال: "السلفية نوعان: سلفية ملَكية monarchist وسلفية فوضوية anarchist". وهذا تلخيص دقيق لعمق الأزمة المنهجية لدى السلفيين، فلم يختط السلفيون لأنفسهم حتى الآن طريقا منهجيا واضحا للتغيير الإيجابي، وإنما تتنازعهم نوازع الطاعة الخانعة والمواجهة الهوجاء. والحمد لله أن السلفية لم تعد تنحصر في هذين التيارين، بل ظهر إلى الوجود في العقد الأخير تيار ثالث أقرب إلى روح الإصلاح والتجديد، وهو يتلمس طريقه اليوم بين هذين الطرفين الغاليين اللذين نركز عليهما بالتحليل هنا.

إن السلفية الملَكية تشرِّع لحكام الجور أفاعيلهم، وتعظ الرعية بالإذعان لهم والطاعة، وتحذر الناس من الفتنة والشقاق.. حتى لقد أفتى بعض فقهائهم بأن المظاهرات السلمية حرام، وبأن مشاهدة قناة الجزيرة "لا تليق بطالب العلم ... لأن ولي الأمر لا يحبها"!! أما السلفية الفوضوية فهي تخرج على السلطة وعلى المجتمع معا، وتسعى إلى تفجير الكون كله أملا في ميلاد عالم جديد لا تملك تصورا واضحا عن ملامحه.

ولا يعني هذا أن المدرستين تختلفان في كل شيء، بل تتفق المدرسة الملَكية مع المدرسة الفوضوية في العنف الفكري والفقهي، وفي الخطاب الملتهب الذي يكاد يسطو بالمخالف. بل يمكن القول إن السلفية الفوضوية –على خطورة مسالكها العملية- أكثر انسجاما مع طرحها النظري وأقل تناقضا في منطقها. بينما تعيش السلفية الملكية تناقضا صارخا بين العنف الفكري والخنوع العملي.

والعلاقة المنطقية بين المدرستين السلفيتين علاقة وثيقة، فكلاهما تستمد من الأخرى أسباب البقاء والنماء. فالسلفية الملكية تجعل أي وقوف في وجه المنكرات السياسية السائدة في الدول المسلمة اليوم فتنة ونبذا للطاعة وتفريقا للجماعة، وهي عاجزة فقهيا عن التفريق بين المعارضة السلمية والخروج المسلح. وبذلك لا تدع للشباب المتحمس سوى طريق العنف الأهوج. أما السلفية الفوضوية فهي بسلوكها مسالك العنف الأعمى من غير ضابط أخلاقي أو خطة تغيير منهجي، تقوي نفوذ السلفية الملكية وتضفي مصداقية على مقولاتها المخذلة. وهكذا تتغذى كلتا المدرستين على الأخرى.

أنفة من التقليد وعجز عن الاجتهاد
إن مراحل الانتقال في أعمار الأمم لا تخلو من عنف وألم. وهذا نجده في تاريخ أوروبا أيام الثورة الفرنسية، وفي تاريخ أميركا أيام الثورة الأميركية.. وبالطبع فلن تخلو المجتمعات المسلمة من عنف في مراحل الانتقال التي نعيشها اليوم مع الأسف. فالانسداد السياسي في هذه المجتمعات عميق مزمن، وتخلفها في مجال بناء السلطة وشرعيتها وأدائها تخلف فاضح، وهذا مما يفتح الباب لأنماط كثيرة من العنف الفكري والسياسي.

وقد يتدثر هذا العنف بدثار ديني –كما هو حال السلفية الفوضوية اليوم- أو بدثار علماني –كما هو حال الجماعات اليسارية في القرن العشرين- لكنه في عمقه تعبير عن أزمة التحول الاجتماعي ومخاض الانتقال، وعرَض من أعراض انعدام الشرعية السياسية في المجتمعات الإسلامية، وخصوصا العربية منها. وما تحتاجه بلداننا اليوم هو أن يمسك الحكماء بزمام الأمور، ويقودوا مجتمعاتنا عبر مرحلة الانتقال الحالية إلى بر الأمان الفكري والاجتماعي والسياسي بأقل ثمن وأخف ألم.

"
المجتمعات الحرة تملك آليات التصحيح الذاتي وبوسائل سلمية متحضرة، أما المجتمعات المحكومة بالقوة فيلجأ الناس فيها إلى منطق القوة لأتفه الأسباب, وهي تبقى محصورة بين سيف الحاكم المتجبر وسبحة الدرويش المتملق
"
وليس العنف الفكري والسياسي خيارا شرعيا ولا بديلا للاستبداد، بل هو يزيد من وطأة الاستبداد ويشرعه ويطيل عمره. والحل هو العمل المدني المنظم والدؤوب، من أجل بناء فضاء اجتماعي وسياسي مفتوح، يتم فيه التداول السلمي للسلطة، ويُسمع الناس فيه أصواتهم بحرية، ويسود فيه منطق الاكتساب ولغة الإقناع على منطق المغالبة ولغة الإكراه.

ويتوقف الأمر إلى حد كبير على مستوى تطبيق الديمقراطية الحقة وحرية الاختيار في مجتمعاتنا. فالمجتمعات الحرة تملك آليات التصحيح الذاتي وبوسائل سلمية متحضرة، أما المجتمعات المحكومة بالقوة فيلجأ الناس فيها إلى منطق القوة لأتفه الأسباب.. وهي تبقى محصورة بين سيف الحاكم المتجبر وسبحة الدرويش المتملق، وكلاهما كارثة على مستقبل الأمة والملة، كما قال الشاعر محمد إقبال:

فإلى متى صمتي وحولي أمـة** يلهو بها السلطان والدرويشُ

هذا بسبحتـه وذاك بسيفــه** وكلاهما مما تكدَُ يعيشُ

نحن المسلمين أمة تأنف من التقليد وتعجز عن الاجتهاد.. وهذا سر محنتنا الحالية. وقد آن الأوان للخروج من هذا المأزق. أما الأنفة من التقليد فهي عزة لا يجوز التنازل عنها، وأما العجز عن الاجتهاد فهو ذلة وضعة. وإذا كان الإصلاح في أوروبا بدأ بتحرير الدولة من سلطة الدين، فإن الإصلاح عندنا يجب أن يبدأ بتحرير الدين من سلطة الدولة. فحرية الضمير هي أساس كل التزام أخلاقي حق، وحرية التفكير هي أساس كل إبداع.

وحينما تسود الحرية تنكشف مظاهر التدين المغشوش الذي يجعل من المبادئ الإسلامية المحررة للإنسان قيودا عليه، ويحوِّل روح البناء والإيجابية التي جاء بها الإسلام إلى غريزة هدم وتدمير أهوج.. لقد آن الأوان لمواجهة فقر التعصب والتدين اليابس قبل فوات الأوان.

Tuesday, October 27, 2009

الاعتقالات في دول المخابرات خالص جلبي إيلاف

تاريخ 14 أكتوبر 2009م تم اعتقال المحامي هيثم المالح، بيد النظام المخابراتي الكالح، حيث كان يوما خالد بن الوليد يخلص دمشق من قبضة الروم والرومان، لتقع في قبضة الانقلابيين الحشاشين.
وجاء في حيثيات اعتقاله عقب حواره الهاتفي مع مذيع برنامج بانوراما على فضائية بردى، عن القبضة الأمنية التي تشتدّ من شهر إلى آخر، ومن سنة إلى أخرى في سوريا.. وقال أن أحوالنا في هذا العام هي أسوأ من العام الماضي، فالاعتقالات تزداد.. وأشار إلى نهب المال العام والفساد المستشري، واعتقال زميله الأستاذ مهند الحسني لمجرّد رصده للمحاكمات التي كانت تصدر في محاكمات علنية فتضايق منه الأمن واعتقله؟!!
وأن إعلان دمشق مثلاً ينادي بالتغيير السلمي الديمقراطي المتدرّج، وأن القوانين لدينا في الكتب فقط، وأن الكتب على الرفّ منذ زمن بعيد، وأن هناك تدمير مُدَبَّر ومُمنهَج لدمشق.
كما قال أنه لا يعرف من بيده الأمر في هذا البلد من أجل حلحلة مشاكل الناس، ومن بيده مفتاح المستقبل؟!!
وقال أنه ليس من حق الدولة أن تمنع جريان نهر بردى؛ فهذه جريمة بحق دمشق... ولكن مَن يحاسب مَن في هذا البلد؟؟
واستغاث المالح قائلاً.. أن دمشق تسير نحو التصحّر وما من مجيب!!.
وفي نفس إطار الحديث عن أزمة العشوائيات، قال المالح أن سوريا دولة غنية، ولكنها ابتُليت بنهب المال العام وبالهَدْر والتبذير الذي يجري من قِبَل السلطة.
وعن حال القانون في سوريا، قال المالح أنه لا يُطبَّق إلا على الضعيف في هذا البلد، بينما القوي لديه عدة وسائط وطرق لعمل أي شيء!!
وبقي المالح متفائلاً في حديثه قائلاً أن المستقبل مرهون بيد الشعب، وأن على الناس أن تدافع عن مصالحها، وأنه على كل مواطن أن يعي حقوقه ويدافع عنها.
وفي أواخر الحوار أضاف المالح أنه يجب أن لا نتنكّر عن الحقّ وإلا تدمّر البلد؟؟
وحاليا تحرك الانترنت في كل العالم لنصرة هذا الرجل الشيخ مذكرا بسقراط الذي سممته أثينا، أما في دمشق فلا حاجة لسم الشوكران لوفرة أفاعي الصل والأناكوندا سما والتقاما.
وهو محظوظ حاليا بسبب هشاشة النظام البعثي المحتظر المحتضر، فهو في وقت شباب النظام المتوحش لبث في السجن بضع سنين، ويروي عن سجنه أنه لم يسأل كلمة في دخوله ولا كلمة في خروجه، بعد ثماني سنوات عجافا ذهبت هباء من حياته.
وأنا شخصيا لي تجارب في الاعتقالات تجعلني أفهم الأوضاع تماما؛ قبل أن أغادر ديار البعث إلى يوم البعث.فقبل أن أغادر جحور الأفاعي تم لدغي بالاعتقالات مثنى وثلاث ورباع!!
وكان الاعتقال الرابع لي أنا وداعية السلام جودت سعيد، في طريقنا لزيارة صديقنا الذكي المثقف خالد حسون في السلمية، وصدف أن تحركت مظاهرة اعتراض في حمص؛ فتم مسح المنطقة على قطر ألف كم، من حلكو وعامودة إلى سمنين وبير عجم، ومن الكلّة و(تركمان بارح) حتى نصيب ونصيبين.
تم اعتقال الآلاف على شكل (احترازي) وكان نصيبنا الفلق وتحطيم الأسنان بالبوكس الحديدي، حتى صلحت نابي المحطم في أرض الفرنسيس والجرمان.
وكان الشباب (الطيبة) يضربون بمتعة بالغة، وما زال في خيالي وجه جودت المحمر من صفعة هائلة!!
وسبق ذلك ثلاث اعتقالات الأولى حين زربنا ثلاثين وقوفا، في غرفة تتسع لسبع أنفار، وكان معنا مصاب بالبروستات فبال على الأرض تحت أقدامنا فنمنا في مستنقع؟؟
كان ذلك في قبو المخابرات العسكرية في القامشلي، وأنا أتهيأ لاجتياز أهم امتحان في حياة الطالب البكالوريا؛ فهي من تحدد مصير ومسار الطالب إلى أين؟
بعدها دخلت الطب وما زلت أمارسه حتى الساعة، فلا أمان للمفكر إلا في شاطئ المهنة، والويل للمفكر إن عول في رزقه على مهنة الكتابة وحرفة القلم والارتزاق منها، فمصيره في بطن حوت الدولة، أو سمك قرش أمير أو رفيق، أو أفعى أناكوندا من مؤسسة متهالكة، ومسئول فاسد متنفذ.
وأفرج عني قبل الامتحانات بـ43 يوما، فكنت أمر كل صباح بجنب قلعتهم وهم يلوحون لي بالقبضات العسكرية والبساطر!!
وفي مثل هذا الجو من الضغط النفسي، وتحت شعور المطاردة قدمت الامتحان في الحسكة، وكنت الأول في المنطقة؛ فتحركت إلى العاصمة الجميلة دمشق أدرس فيها الطب، ولم أعلم أن علي ثلاث زيارات منحوسات أخرى إلى فروعهم، التي تعطيك اليقين بوجود جهنم، وبذلك فقد أحيت لنا المافيا إيماننا بالقيامة وسقر؟؟
الأولى كانت حين تم اقتحام المسجد الأموي بالمصفحات والطبنجات والرصاص، وتم زرب خمسة آلاف شخص في المسكية، عند مدخل المسجد في مساحة تتسع لمائة نفر!! وساعدت طفلا من الاختناق حين رفعته فوق رأسي!!
وتعرفت يومها على معتقل الرعب الأول (سجن المزة العسكري) وقضيت فيه ثلاث أضعاف فترة القامشلي 39 يوما، ويومها فاجأنا (أمين الحافظ) أبو عبدو الملقب بـ (الجحش) فنظر في الزاوية؟ وقال من هؤلاء؟ قالوا له طلبة جامعة؟ قال يتحملوا لا تقصروا فيهم؟؟ فهجم علينا جلاد أول شيء فعله نتف لحية طالب شريعة فلسطيني ساقه حظه العاثر إلى هذه المزبلة.
أما الاعتقال الثالث فكان علي رؤية جلاد من كلاب جهنم هو الطحطوح؟؟
وكنت شاهدا في كراكون الشيخ حسن على حفلات تعذيبه الليلية، فالرجل (السيكوبات) أبو فواز ؟!! كان مولعا مثل دراكولا بالقدوم نصف سكران عند الفجر، فلا تطلع الشمس إلا على ملسوع أو مفجوج أو مفدوغ أو مهشم العظام مكسر الأسنان، أو واحدا مثلي مشبوحا إلى حائط يحمل على كتفيه دولاب سيارة في تعذيب مستمر لأيام؟؟
وسمعت عنه أنه هذه الأيام قد أصبح تاجر عقارات مرموق من أموال الضحايا؟؟ فقد خدم وتعب ويأكل رزقه من عرق الجبين والجلد؟؟
أما في سجن القلعة فله رواية رعب رائعة؛ فقد غنى المعتقلون يوما يا ظلام السجن خيم إننا نهوى الظلاما!! فقدم مع الزبانية، فأخرج الجميع وحاجاتهم البائسة، ثم صب المازوت والكاز على أمتعتهم وطعامهم الهزيل، ثم أمرهم بالتدحرج والتقلب عليها مثل ألأفعوان، ثم أمسك بشاب راقه الضرب على رأسه، فما زال يضرب على اليافوخ، حتى فار الدم، ووقع في نوبة تشنج صرعية، فما زال يعاني منها حتى اليوم؟؟
وأبو فواز كان يحب الضرب على الرؤوس كما رأيت ذلك في حفلة أبو راكان في سجن الشيخ حسن.
بجنب مقبرة الدحداح اجتمعنا بالأموات الأحياء، وحشرت في انفرادية لمدة 54 بدون ذنب وجناية سوى التقارير السرية والشبهة والحكاية!!
إنها أيام خالدات لا تنس يجب رواياتها لأولادنا وأحفادنا وذرارينا من بعدنا، وتسجيلها وتوثيقها وإنشاء مركز استراتيجي لها، كما فعل وايزمان مع حكايات النازيين، والتقاطهم على مدار قطر الكرة الأرضية ولو بعد ثمانين عاما؟؟
يجب حفظها وروايتها حتى لا تُنس قط، وتعرف الأجيال ثمن الحريات!! فمسلسل الدياسبورا وروايات الفاشيين والنازيين البعثيين مع قصة المالح في ظل النظام الكالح لم تختم بعد؟؟
يجب نصب تذكاري لمصرع الألف في ليلة، في تدمر، وكما فعل الكنديون عند حدود بلجيكا فرفعوا نصبا هائلا يحمل جناحيه أسماء كل القتلى في الحرب الكونية، وكذلك يجب أن يفعل السوريون عند بقايا زنوبيا في تدمر؟؟
إن مشكلة الأنظمة الشمولية أنها تخضع لقوانين دول المخابرات وليس الدستور كما طالب المالح فتحول إلى قالب ملح في بطن الحوت؟
ولكن ما هي قوانين المخابرات؟
عندما اعتلى الثعلب (محمد علي باشا) كرسي الخلافة في مصر عام 1805 م طلب من وزيره الأرمني (آرتين) أن يترجم له من الإيطالية كتاب (الأمير ) لمكيافيللي.
وينقل (علي الوردي) في كتابه (تاريخ العراق الحديث) عن الوزير أنه كان يترجم له كل يوم عشر صفحات، حتى كان اليوم الرابع حينما استوقفني قائلاً:
"لقد قرأت كل ما أعطيتني إياه من مكيافيللي؛ فلم أعثر على شيء جديد يذكر في صفحاتك العشر الأولى، إلا أنني كنت آمل أن تتحسن الحال.
لكن الصفحات العشر الأخرى لم تكن أفضل. أما الأخيرة فليست سوى مجرد عموميات.
إنني أرى بوضوح أنه ليس لدى مكيافيللي ما يمكنني أن أتعلمه منه؛ فأنا أعرف من الحيل فوق ما يعرف. فلا داعي للاستمرار في ترجمته"
وفي كندا روت لي طالبة كانت تدرس العلوم السياسية في جامعة (مك جيل) في مونتريال، أن الأستاذ وقف يوما فقال هل تعلمون كيف يحكم فلانا وذكر أحد الأنظمة الاستخباراتية؛ فبدأ الطلبة الكنديون الأبرياء الذي عاشوا عمرهم في الديمقراطية يعصرون أدمغتهم في محاولة استحضار كل أساليب الشيطان الممكنة.
وفي كل مرة يضحك الأستاذ من سذاجتهم ويقول لا.. لا.. إنه أذكى منكم جميعا؟!!
ثم بدأ يشرح بشكل ماكينة الحكم والعبقرية الإستخبارتية التي وصل إليها قائد البلد المنكوب.
وكان تحت قانون التنين بسبع عشرة رأساً كما سوف أشرحها.
يجب فتح العين على حقيقة مفزعة أن المواطن وصل إلى مرحلة مطبقة من اليأس، وهو مستعد أن يتقبل أي وضع يغير وضعه، فلم تكن أمريكا لتأتي لولا ذلك، وحين يجتمع النمل أو تحلق النسور، فحول جثة ذبابة وجيفة بقرة، ولكن المشكلة أن هذه (غريزة) وليست (وعياً)؛ فعندما فرت الديناصورات من يوكوتان عندما ضربها المذنب قبل 65 مليون سنة، هلكت بالشتاء النووي.
وعندما زال (صدام) جلس (مصدوم) محله.
إنه من المهم أن يفتح المواطن عينيه على الواقع المدمر المليء بالإحباط فهذا وعي مقدس، وجميل أن يتعذب فيضرب ويهان على يد كلاب جهنم من الجلادين، وتكسر أسنانه وتطحن عظامه، لأنه لاشيء يبقى في الذاكرة مثل الألم. ولا شيء يطهر الإنسان مثل الألم. ولاشيء يحرض على تغيير الظلم مثل الألم.
والألم هو الذي غير غاندي حينما رمي في تلك الليلة الباردة من القطار لأنه جلس في مكان البيض درجة أولى؟!
ويجب استيعاب أن الوطن لا يبقى وطنا مع تبخر أمن المواطن، وإذا وصلت الأمور إلى هذه الحافة؛ فيجب على المواطن أن يوطن نفسه على أمرين: فإما غادر المكان وهاجر، والتحق بوطن جديد فيه حرية.
وإما كرس نفسه واستعد للمقاومة، وإلا حاقت به لعنة الله والملائكة والناس أجمعين.
ويجب أن تكون المقاومة مدنية، والاستعداد بالتخفف من كل ثقل، مثل سفينة تواجه الإعصار؛ فتلقي كل حمولة زائدة، لأن أي متعة لن تبق متعة، وكل طفل يولد سيولد للمعاناة والفقر في ظل الظروف الديكتاتورية. وفي يوم هرب تركماني في شمال العراق بعد أن تم طلبه لقذفه في أتون الحرب الإيرانية؛ فصعد للسطح وهم بإلقاء طفلته الرضيعة من السطح، وهو ينظر في السماء ويقول أي حياة تنتظرها وأي مستقبل لها؟
ولكن هاتفا هتف به أن يرفق بالرضيعة فنجت من الموت.
ثم ترك بيته وما يملك، وهرب مع تسعة من أفراد عائلته عبر جبال كردستان، وهو يردد لعنة لوط ولا يلتفت منكم أحد وامضوا حيث تؤمرون.
ويجب أن لا نخش من السجن بل نعتمد استراتيجية تفجير السجن؛ فالنظام لا يمكنه أن يسجن عشر الأمة.
ويجب أن نعالج الأوضاع ليس بالكراهية؛ فالطبيب الذي يعالج مريضه يحقنه الدواء ولا يكرهه.
ولو فعلت المقاومة في الجزائر ضد الجنرالات المتفرنسين هذا لما مات عشر معشار ما مات حتى الآن.
والأهم ولادة الأمة على نحو سليم محررة من علاقات القوة. لأن من أخذ الأمور بالسيف بالسيف يهلك، ومن أزال القوة بالقوة سقط رهين القوة. ومن أزال اللاشرعية ونظام المخابرات استبدل السافاك بالساماك، كما فعل الملالي في إيران.
ويجب أن لا نراهن على المصالحة، لأنها تدخلنا اللاشرعية حيث نظام المخابرات يتغذى على الدماء مثل الدراكولا، بل يجب تغيير البنية الأساسية في الحكم والتربة الثقافية.
فهذه قوانين وجودية.
في العالم العربي قانونان الأول اسمه الدستور وهو مكتوب.
والثاني اسمه قانون المخابرات وهو خفي وعملي وغير مكتوب.
ولكن الحياة لها قوانين عملية ولا تأبه بالمكتوب، ولذا فإن حياة المواطن تخضع لقانون المخابرات، مثل قوانين القراصنة سابقاً، مع فارق أن القرصان الجديد إذا صعد إلى سطح السفينة تلوا عليه قانون القراصنة. والناس مثل المالح تتحدث عن القانون المكتوب؟؟
ينص قانون المخابرات (غير المكتوب ؟؟) على سبع فقرات مثل أبواب جهنم السبعة، لكل باب منهم جزء مقسوم. وهذا القانون غير المكتوب سوف نحاول كتابته.

(1) الفقرة الأولى:
اعتماد الكذب هادياً ودليلاً؟؟
فيجب أن يكذب العنصر على زوجته التي في حضنه. وتحت آلية الكذب؛ فيجب أن يكذب ولو لم تكن هناك حاجة للكذب. وفي يوم اعتقالي الرابع كانت زوجتي تسأل عن مصير زوجها؟ فقال لها المجرم عدنان الدباغ: هو بخير وسنفرج عنه بعد أيام؟!
ولكن لم يكن زوجها (بخير) قط بل كان يفلق ويحرق وتكسر أسنانه ولم يفرج عنه إلا بعد سنة.
والشاهد أن الجبار رئيس الفرع الأمني قوي، ولا يحتاج للكذب، ولكن الكذب أصبح في دمهم مثل الكريات الحمراء، فلا يتنفس ولا يزفر إلا كذبا.
وفي النهاية مات عدنان الدباغ الجبار رئيس فرع المخابرات العامة حتف أنفه مختنقا بسرطان الرئة، مثل أي كذاب أشر، ويوم القيامة هو من المقبوحين.
ومن الغريب أن رجل المخابرات يسّود وجهه مع الوقت، بما عانت نفوسهم، فطبعت النفس بصمتها على الجباه.
وهي ظاهرة يعرفها من رآهم وعرفهم.
وفي القرآن تغشى وجوههم قطعا من الليل مظلما...
وهي تحتاج لدراسة بذاتها.

(2) والفقرة الثانية من القانون الاستخباراتي تقول:
لا ضمانة لأي شيء أو إنسان في أي زمان ومكان.
وتطبيق هذه الفقرة هي استباحة المواطن في كل شيء، والمخابرات هنا ليست وظيفتها التجسس للخارج، بل التجسس على المواطن.
وفي ألمانيا الشرقية كان (الستازي STASI) جهاز الاستخبارات عنده عشرين ألف غرفت للتنصت على المواطنين. وزجاجات فيها روائح المعارضين فقد ثبت احتفاظها بالرائحة وصمودها وزيادة تركيزها مع الوقت، وليس أسهل من شمشمة الكلاب الرائحة ثم إطلاقها على المعارضة والمعارضين..
وهو يذكر بمرض خطير في الطب في التهاب اللوزات، تحت قانون حاميها حراميها؛ فهي بالأصل خلقت كجهاز للدفاع عن الجسم، ولكنها مع الوقت تتحول إلى وكر للجراثيم؛ فترسل الذيافين والسموم إلى كل الجسم فتلحس المفاصل وتعض القلب وتعطب الكلية.
والأطباء عندها يلجئون إلى الجراحة فيستأصلون اللوزات. وهو ما فعله الشعب الروماني مع السيكورتات التي خلقها تشاوسسيكو اللعين. بعملية جدا دموية
وتحت الفقرة الثانية يجب ترويض المواطن، وترويعه، واقتحام خصوصيته، والاستيلاء على الفاكس في بيته، ومصادرة سيارته (وموتورسيكله كما فعلوا معي) ونهب ممتلكاته المنقولة وغير المنقولة، وإخضاعه للرب الأعلى الذي اسمه الحاكم لأنه ظل الله على الأرض. ويجب أن يرى المواطن المخابرات في المنام وأثناء مضاجعة زوجه تلوح في الأفق مثل ملائكة العذاب فتعكر كل حياته.
نعم يجب إدخال القلق وداء الرعاش وعدم الهدوء إلى ضمير المواطن، ويجب أن يشعر بهم، ولو هاجر إلى كندا، واختفى في غابات يوكوتان، وجزيرة كمشتكا وبتاغونيا.
وفي يوم اعتقالي وكنت طالبا جامعيا فقير الحال مع موتورسيكلي الذي أتنقل به، فلما أفرج عني لم أستطع المشي من تيبس المفاصل، فقد كنا مزروبين عشرة في غرفة لشخصين؟ وكان موتورسيكلي أشلاء فقد استعمله رجال الفرع بمتعة وتدمير طول فترة الاعتقال.
وإذا استبيح الإنسان فما معنى أغراضه التافهة؟

(3) والفقرة الثالثة:
تنص على استخدام أي أسلوب للوصول إلى المعلومة ولو تبق معلومة.
وتطبيق مبدأ (الحلاوة والكرباج)، أي (حلحلة) المواطن بين قطبين من الترغيب المعسول والتهديد الماحق. وأي أسلوب مشروع. وكل حديث عن القيم ليس بقيمة. وكل المحرمات مسوغة. وإذا تطلب اغتصاب زوجة المستجوب فعلوا ولم يترددوا، ويجب أن تكون بحضوره.
وكان لينين يعطي تعليماته بشنق المعارضين بعد انتقاء كرام القوم وبحضور الناس أجمعين.
وفي يوم طالب فرع الأمن السياسي مني مراجعته بورقة صفراء ممزعة قبيحة ناولوني إياها من بوابة المطار، لمراجعة الفرع 223 ؟!! والأرقام كثيرة؟؟!!
لاكتشف أن الأمر يعود إلى تقرير كيدي، من امرأة طلقها زوجها قبل عشرين سنة.؟!!
وعندما راجعتهم بدأوا من نقطة الصفر، فلعلهم يفوزون بشيء جديد ينافسون به الفروع الأمنية الأخرى، بعد أن تحول المواطن إلى حمار لم يبق على ظهره مكان للركوب.
بدأوا أولا في السؤال عن نوع الحليب الذي تغذيت به في الطفولة هل كان سيريلاك أو سيميلاك؟؟
وفي النهاية بعد مراجعة مضنية لمدة 17 يوما، قالوا لي كان بإمكاننا اعتقالك من الحدود؟ قلت نعم أشهد بذلك.
قالوا له إن الأمن في بلدنا مستقر!! يشهد بهذا القاصي والداني؟؟ قلت لهم نعم أشهد...
وهمست بيني وبين نفسي؛ إنه هدوء يشبه سكون المقابر؛ فلم يبق مواطن، بل قبور تبلع، وحفّار جاهز بالرفش وجثث تتوافد.
وعندما صعدت الطائرة وأنا أنفض عني غبار الاعتقال، كان بجانبي راكب باكستاني، قلت له ما الذي لفت نظرك في بلدنا؟
تردد الباكستاني ثم ابتلع ريقه وقال لم أر هدوءً وأمنا مثل هذا البلد!!
ثم تنحنح وتابع، ولكن صور الزعيم كثيرة جدا في البلد؟!
وفي صالة مستوصف حقير في خان أرنبة وهي قرية حدودية تافهة، كان على الجدران 17 صورة للقائد الأبدي وابنه، ولا ديمومة إلا لله، واليوم أصبح وجه القائد طعاما للدود؟؟

(4) الفقرة الرابعة:
الشك والشك بدون حدود.
وعندما انتشر تنظيم العباسيين في خراسان كان أبو مسلم زعيم عصابة المخابرات، وكانت التعليمات تقضي بأن يقضى على كل مشتبه به، ولو كان طوله خمس أشبار.
وفي يوم قال ضابط أمني لواحد، هل تعلم لماذا ضحك عليكم الزرزور وكان تاجرا جمع أموال الناس بدعوى الربح السريع الوفير؟!
وكان منهم قسم من أفراد عائلتي وضعت في يده مليون ريال!!
قال: لأنكم تثقون ونحن لا نثق بأحد، ولو زوجتي التي في حضني، وابنتي التي ربيت؟!!
إنها كائنات مشوهة، كما جاء في رواية التحول عند (كافكا) فأصبح الإنسان صرصورا بحجم فيل له خرطوم طويل وذيل وثيل؟؟

(5) الفقرة الخامسة:
مسك الناس بقانون الرعب!!
فيجب ضرب أبشار الناس، ونشر أخبار الضرب، وبكل سبيل يوعدون ويصدون عن سبيل الله، وعلى كل منبر ووحيا، من بين الأسطر والتعبيرات، ونقل هذه الأخبار عن طريق المجندين من خلاياهم السرية، ومن سار في دربهم إلى يوم الدين؛ فالأفعى تتغذى على هذا القانون. والضفدع الذي يرى الثعبان يتجمد من الرعب فيلتهمه الثعبان.
وعندما دخل المغول بغداد، كان الجندي المغولي يمسك العشرات لوحده فينبطح الناس للنطع والسيف.
وفي أحد الحفلات افتقد الجندي سلاحه فلم يكن على جنبه؟! قال لهم امكثوا ولا تبرحوا، قالوا سمعا وطاعة، فغاب ساعة، ولم يفكر أحد بالهرب. فعاد وذبحهم بشفرة حادة فلم يتألموا كثيرا.
وفي ألمانيا بعد أن عرض فيلم الهولوكوست عام 1982م ذكر يهودي تجربته، أنهم كانوا يؤخذون إلى خنادق الموت وحفر القبور الجماعية والرشاشات تحصد من قبلهم، وما زال فيهم ولو (جزيء Molecule) ـ شدد وعصّب عند هذه الكلمة ـ من أمل أنه ربما عفي عنهم؟!
ولم يتحولوا في معتقداتهم حتى أطبق عليهم اليأس.
ومن أساليب المخابرات قانون (الفنتيل) أي (التنفيس) وعدم إيصال الأمة إلى حافة اليأس، كما في مسرحيات الكوميديا للعظمة والطوشة، فهم يرتزقون، أما رياض الترك ففي الانفرادية 17 عاما، لأن بعدها الطوفان. وهو ما أشار له أتيين لابواسييه في بحثه عن جذور الاستبداد في كتابه العبودية المختارة أن أسلوب التلهية اعتمده أباطرة الرومان، ومن أجل هذا بني الكولوسيوم فقتل في مائة يوم خمسة ألف من الحيوانات الضواري ومعها عشرة آلاف مجالد؟؟ واليوم استبدلت بفرق كرة القدم؟؟
والمجرم يريد حلب الناس إلى يوم القيامة ولذا فهو يسمح بالتنفيس مثل المسلسلات المضحكة، أو الاستعراضات لمجالس شعبية، وانتخابات مزيفة، ومظاهرات مسيرة من الباب للمحراب، لصناعة مجالس قرود يمكن أن تغير الدساتير في اللحظة الحرجة في دقيقة أو دقيقتين، فهي لهذا صنعت، ومن أجل هذا بنيت، وهي ضحكة كبيرة يطلقها الطاغوت من فم ابتلع كل العباد.

(6)الفقرة السادسة:
الوصول بالمواطن إلى (التوبة النصوح) حسب شروط فقهاء العصر العباسي؟؟
بمعنى الندم عما فعل، والاعتراف بالخطأ، وأن لا يعاود النشاط للمستقبل، وأن يفتح كتاب (النبات) ويدرس (وظائف) النبات؛ فيكون النبات له قدوة؟!
مثل هل يتغذى النبات ويتكاثر؟ الجواب نعم.. إذا على المواطن أن يتغذى ويتناسل مثل الأرانب لإنتاج مزيد من العبيد.
ومثل هل يتحرك النبات أو يحرك؟ والجواب لا يتحرك ولكن يُحرَك مثل نقل النباتات من نافذة لأخرى. إذا على المواطن أن لا يتحرك في مظاهرة بل تحركه يد المخابرات.
ومثل هل يفكر النبات؟ والجواب لا النبات لا يفكر قط.
وعلى المواطن الصالح أن لا يفكر، لأن التفكير خطير، ومصيره أن يصبح نزيل أقبية المخابرات، يرفس بالغدو والآصال.

(7) قانون التنين:
بمعنى خلق كائن أسطوري له تسعة عشر رأسا.
وفي مونتريال في كندا كان أستاذ العلوم السياسية يشرح للطلبة هذا القانون، وهو أن رئيس العصابة يسخر الفروع الأمنية، أن تعمل بشكل غير مركزي. وتتنافس فيما بينها. ولا يوجد تقاطع في المعلومات. ولا أحد يعطي معلومة لأحد. وكل يعمل بذراعه وحافره ورجله ومسدسه.
وكل يركب المواطن من الأمام أو الخلف بالطريقة التي يشتهيها.
وأن نسبة القتل المسموح بها 6%؟!
وأنه مسموح لهم باعتقال من يشاءون، بالكمية التي يرغبون، ولكن إطلاق عصفور ويعسوب تتم بيده ومذيلة بتوقيعه.
وبذلك يتحول البلد الواحد إلى 19 دولة، وينقلب الوضع إلى قبائل أمنية، بفارق أن القبيلة الأمنية مضاربها كل البلد، وشيخها يمسك أي مواطن، في أي لحظة؛ فيفعل به ما يشاء.
عندما سمع الطلبة الكنديون ذلك فتحوا أفواههم من الدهشة ولم يعقبوا.
يختلف العرب في كل شيء إلا الموضوع الأمني، ولذا تسامر وتحابب وتصاهر رؤوساء الفروع الأمنية في العالم العربي، ونشأت بينهم علاقات القربى الحميمة وزواج ومصاهرة مع الحريم والشيطان.
والكل معه جواز سفر كندي أو أوربي له ولذريته من بعده، تحسباً ليوم الزلزلة إذا زلزلت الأرض زلزالها؟
والكل عنده حسابات سرية بأسماء سرية للزوجة والذرية، في البحرين واليونان وليشتن شتاين، ليوم الفصل وما أدراك ما يوم الفصل.
ويل يومئذ للمكذبين.
والكل يرسل أبناءه إلى دول الاستعمار والرأسمالية، وهو يحارب الاستعمار والرأسمالية على الورق، وفي المظاهرت المزيفة.
وإذا وقع مواطن عربي في يد واحد منهم، قاموا بتسليمه لبعضهم بأريحية عربية وكرم حاتمي، ولا حرج من حفلة دربكة على جلده، كما فعل بعرار السوري الكندي، المشحون من أمريكا، عبر بوابة خلفية من نظام ملكي رجعي إلى نظام تقدمي ثورجي من جبهة الصمود؟!.
وبقدر اختلاف الأنظمة العربية ونزاعها، بقدر توافقها وتفاهمها الاستخباراتي.
فهي مسألة بقاء ونزع الروح؟؟
وفي يوم كنت على حدود بلد عربي، فأرادوا إلقاء القبض علي، فتعجبت وقلت لهم لعل في الأمر خطأ؟؟ قالوا لا ..
ثم قالوا لي ألست أنت خالص جلبي الملقب بكنجو، من أيام المدرسة الثانوي؟!
قلت نعم وأهنئكم على ذلك.
وقلت في نفسي إن ملفي لا شك أصبح عند الموساد.
بعد أن اغتال سليمان الحلبي الجنرال الفرنسي (كليبر) قلبوا مصر بحثاً عنه، حتى وجدوه بجانب جدار يصلي، ومعه المدية ملطخة بالدم. ولكن نهايته كانت عجيبة كما ذكر ذلك المؤرخ المصري (عبد الرحمن الجبرتي) في كتابه، فقد تمت محاكمته على الطريقة الفرنسية، ولكن تنفيذ الحكم تم بطريقة المماليك حرصا على التقاليد المحلية، فشويت يده، ثم وضع إسته على الخازوق بالطريقة العصملية؟؟
مع كل الظلام المطوق للضمير العربي فمن المهم أن نعرف ثلاث حقائق:
(1) الأولى أن عصر الجليد انكسر وذاب. وأن عصر الديناصورات انقرض وولى. وأنهم يكافحون حتى الرمق الأخير للاحتفاظ بامتيازاتهم.
وأنهم يشبهون ساحرات العصور الوسطى، فيقاتلون بمكانس القش الأطباق الطائرة من فوقهم، تطير بسرعة الضوء.
ومع أنهم ينفقون أموالهم لمراقبة الانترنيت، أكثر مما أنفقوا لبنائه، فسينفقون أموالهم للمخابرات، ثم تكون عليهم حسرة، ثم يغلبون، والذين كفروا إلى جهنم يحشرون.

(2) والحقيقة الثانية الاستعداد للمقاومة المدنية، وعدم اللجوء إلى استخدام القوة والسلاح والعنف، لأنهم يتمنون ذلك، ونكون بذلك دخلنا بطن الحوت من جديد، من حيث أردنا أن يلفظنا من جوفه، كما فعل مع النبي يونس.
(3) والحقيقة الثالثة أن هناك جوهر صاعق وسر مكنون في الإنسان، لا يمكن إطفاء سراجه.
وسحرة فرعون كانوا يريدون المال؟؟ فقالوا أئن لنا لأجراً إن كنا نحن الغالبين؟ ولكن فرعون أضاف إليها المراكز الحزبية والنفوذ؟!! فقال نعم وإنكم لمن المقربين.
ولكن خلال لحظات انقلبوا سجدا لله رب العالمين، وقالوا لفرعون اقض ما أنت قاض إنما تقض هذه الحياة الدنيا.
فهذا السر الرائع من تمرد الإنسان، هو الذي يصنع التاريخ، وهو الذي نراهن عليه.
ولتعلمن نبأه بعد حين.
وفي النهاية فإن نظام المخابرات يشبه السرطان؛ فيقضي على نفسه بنفسه، حينما يبلغ الحجم المدمر، وهو ما أشار إليه فوكوياما في كتابه (نهاية التاريخ) أن النظام السوفييتي شعر بالخطر من جهاز الرعب، الذي يسمى الأمن مقلوبا، فعمد إلى تفكيكه، بعد أن أصبح يعيد قصة فرانكنشتاين.
وهذا المصير سيلحق جمهوريات البطالة والرعب والمخابرات، كما سيلحق أمريكا بأجهزتها التنينية، ولن ينجو من هذا المصير ملكيات وممالك ومشيخات وجمهوريات وجملوكيات المنطقة..
وإن عدتم عدنا وجعلنا جهنم للكافرين حصيرا. إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم ويبشر المؤمنين الذين يعملون الصالحات أن لهم أجرا كبيرا..

Saturday, October 24, 2009

Seven Pillars of Wisdom, T.E. Lawrence (2)

This is a lovely account about the status of slaves in Arabia. Lawrence says:
"When we awoke we found a meal of bread and dates prepared for us by the people of the house. The dates were new, melting sweet and good, like non I had ever tasted. They told us that the locusts had made of them a small crop this year. The owner of the property, a Harbi, was away like his neighbours serving with Feisal, and his women and children were out in the hills in his goat-hair tents, pasturing his camels. At the most the tribal Arabs of Wadi Safra lived in their village houses four months in the year. For the other seasons the gardens were entrusted to their slaves, negroes like the grown labs who brought in the tray to us, and whose thick limbs and plump shinning bodies looked curiously out of place among the bird-like Arabs. Khallaf told me the blacks were all originally from the Sudan, brought over as children by their nominal Takruri fathers, and sold in Mecca during the pilgrimage. When grown strong they were worth from fifty to eighty pounds apiece, and were looked after carefully as befitted their price. Some were kept as house or body servants with theirs masters, but the majority were sent out to the palm villages of the feverish valleys with running water, whose climate was too bad for an Arab to labour in, but where they flourished, and built themselves houses, and mated with women slaves, and did all the manula work of the holding.

They were very numerous - for instance there were thirteen villages of them in forty miles of this Wadi Safra - so they formed a society of their own, and had power to live much at their pleasure. Their work was hard, but the supervision loose, and escape easy. Their legal status was bad, for they had no appeal to tribal justice, or even to the Sherif's courts, but public opinion and self- in terest deprecated any cruelty towards them, and te tenet od the faith that to enlarge a slave was a good deed meant in practice that nearly all gained their freedom in the end. They made pocket money of their own during their serviece, if they were ingenious. Those I saw were in pissession of property, and declared themselves contented. Wadi Safra had become their country, and they had no thought of leaving it. They gre melons, marrowsm cucumbers, tobacco and grapes, for their own account, in addition to the dates they owed to their masters. These masters were all Beni Salem...(ch14)

"Yet the craving for solitude seemed part of the delusion of self-sufficiency, a fictitious making rare of the person to enhance his own strangeness in his own eyes." (ch27)

Tuesday, October 13, 2009

Seven Pillars of Wisdom, T.E. Lawrence

They were the least morbid of peoples, and accepted the gift of life unquestionably, as axiomatic. To them it was a thing inevitable, entailed on man, a usufruct, beyond control. Suicide was a thing impossible, and death no grief. (CH5).

The desert Arab found no joy like the joy of voluntarily holding back. He found luxury in abnegation, renunciation, self-restraint. He saved his own soul, perhaps, and without danger, but in a hard selfishness (5).

Sunday, October 4, 2009

المثقف الرابع! خيري منصور 10/2/2009

هناك حكاية ذات مغزى عميق تروى عن ثلاثة من الأنذال، صادفوا في طريقهم امرأة جاوزت الثمانين، وقد احدودب ظهرها وحفرت الثمانون تضاريسها في الوجه الذي برز منه الأنف وغارت العينان، وقرر الثلاثة أن يتنافسوا على لقب أنذل انسان في التاريخ، فاقترب الاول منها وضربها حتى سقطت مغشيا عليها وقد تضرجت بدمها، وعلى الفور أعقبه الثاني الذي قال بأنها تحولت الى سلحفاة مقلوبة على ظهرها فأجهز عليها حتى الموت ..
عندئذ لم يبق أمام الثالث ما يتفوق به على الإثنين، لكنه صاح بصوت من حقق نصراً: إن هذه العجوز هي أمي. لهذا استحق لقب الأنذل بين الابناء في تاريخ البشرية ...
عندما قرأت هذه الواقعة خطر ببالي النذل الرابع الذي شاهد ما جرى ورواه بلا أي تدخّل، فلم يكن في تلك الايام أقمار صناعية او هواتف نقّالة تصور ما يحدث، إذ لا بدّ من شاهد عيان... وهذا الشاهد هو الرابع، وحين كتبت الاسبوع الماضي في هذه الزاوية الحرجة عن المثقفين الثلاثة ادركت على الفور ان هناك مثقفا رابعا يشهد، ويصنّف ويروي ويصف أيضا، قد يكون الكاتب ذاته او ما يرشح من لا وعيه، لهذا اصبح لزاما على من يكتب عن الثلاثة، سواء كانوا من الأنذال او الفرسان او أثافي الثقافة الرمادية، ان يحدد موقعا وموقفا، ويتطلب هذا قدرا من الاعتراف، والشهادة عن وقائع وسياقات عيشت في نظم تزعم بأنها تقدمية رغم ما انتهت اليه من شمولية، ونظم أخرى تعيش ما قبل الدولة، ونظم ثالثة تراوح بين اشتراكية خجولة ورأسمالية متوحّشة...
لقد شهدت الأنماط الثلاثة من المثقفين عن كثب وأتاحت لي الظروف هامشا مرتفعا الى حدّ ما يحيط بالمشهد على نحو بانورامي. المثقف الداجن او اللاحم تبعا لمصطلحات اللحم الأبيض يؤدي التحية كل صباح وقبل أن يذهب الى الجامعة او الوظيفة للتمثال الهندي، الذي لا يرى ولا يسمع ولا يتكلم... وهناك فنان آسيوي اضاف الى هذا الثالوث بعدا رابعا عندما حوّل التمثال الى خنثى، فلا هو ذكر ولا هو انثى، بل هو أشبه بنوع من الضباع او الأفاعي ذات الجنس المزدوج، وهذا المثقف يحفظ عن ظهر قلب وبثقة الماكناغارتا والعقد الاجتماعي لروسو ويحفظ خطابات دانتون، ولابد انه قرأ عن روبسبير ونهاية لافوازييه حيث سقط رأسه المقطوع في سلة كانت قرب الجلاد. ويعرف هذه الاشياء وغيرها، لكنه يعتقد أنها لا تخصه، فالغضب للآخرين، وكذلك الحزن والموت، اما هو فلا شأن له بما يقرأ او يسمع، وقد تكون ردّة فعله الوحيدة على قراءة احصاءات الجوع او الوجبة الاخيرة لمن قضوا جوعا وهي ما تبقى من أسمالهم هي التجشؤ والتسبيح بحمد من وفّر له القمح والشعير.
انه يسعى لنيل شهادة حسن السلوك من الأبوين والأبناء والقبيلة والدولة، ويحرص على ان يكون عديم اللون والطعم والرائحة، بحيث يتنقل بحرية ودونما اعتراض من أحد او حدود ...
وقد تكون رواية حضرة المحترم لنجيب محفوظ مثاله الحيّ والأبدي، بحيث لا يريد اكثر من البقاء على قيد وظيفته والحصول على ترقية حتى لو كانت تافهة قبيل الموت بأيام وفي لحظات الاحتضار .

* * * * *
مثال المثقف الثاني وأمثولته معـاً زكريا بطل مسرحية الراحل سعد الله ونّوس 'الفيل يا ملك الزمان'، فهو يقبل بالتضحية شرط ان يكون الآخرون جديرين بدمه، لكنه يكتشف في اللحظة الحاسمة ان المجتمع يريد ان يحوله الى كبش فداء، ثم يتخلى عنه، لهذا عندما طلب منه أهل القرية ان يشكو للملك من الفيل الذي يقتل عددا من الاطفال كل يوم، حاول ان يبدأ، لكنه نظر حوله وخلفه فلم يسمع احدا، عندئذ قرر الانتقام، وهو مديح الفيل، ومناشدة الملك بأن يزوّجه كي تكون هناك عائلة من الفيلة تقتل اضعاف عدد الاطفال يوميا وهي تمشي في أزقة القرية ...
المثقف اليساري الذي اعتذر تحت عناوين من طراز كنت شيوعيا، او عاد اليّ الوعي، او أدركتني التوبة، وظّف خبرته وذكاءه وامتيازه الثقافي لصالح من ادّعى ذات يوم بأنهم خصومه التاريخيون، لهذا اصبح اشدّ فتكا وخطرا من العسس الأميين، وقد تكون الأوبئة التي اصابت ثقافتنا العربية في عقدي السبعينات والثمانينات من القرن الماضي سببها هذه الفيروسات الرشيقة، وسريعة التأقلم، فهي تعرف اكثر من سواها اسرار الرفاق القدامى.
ان ظاهرة زكريا تجلّت مرارا لكن ليس على صعيد بشري خالص، فثمة من انتدبوا للشكوى من ديكتاتور او سلطة غاشمة، لكن اصابهم ما اصاب زكريا من زوغان البصر وهم يجلسون بين أعمدة الرخام ويرون مظاهر من البذخ لم تمر حتى بخيالهم، وقد حدث مثل هذا في ' خريف البطريرك ' لماركيز، لكن بطل الرواية لم يصب بالدوار وهو يشم روائح العطور والتوابل ويرى الملابس البيضاء الأنيقة للخدم وقفازاتهم وهي تداعب الأواني المذهبة، لأنه تساءل: أين تعشش غربان السّلطة في هذا العالم الوثير والناعم؟؟
ان زكريا وتجلياته في ثقافتنا يحتاج الى تأملات وحفريات سايكولوجية لا آخر لها، لأن الخداع الذي مارسته النّخب المعروضة للبيع او الاعارة او الايجار قايضت وطنا بشقّة، ومستقبلا بلحظة راهنة، وتاريخا بوظيفة، وأخذتها العزّة بالاثم لانها لم تتعرض حتى الآن الى مساءلة!

* * * * * *
شهدت ذات لقاء نظمّته اليونسكو لإصدار ما عرف باسم 'كتاب في جريدة' في احدى العواصم العربية، وكان من أبرز المشاركين أدونيس وجابر عصفور، وكنّا بصدد اختيار مسرحية عربية لنشرها في الصحف المشاركة، وأذكر ان ادونيس اقترح مسرحية 'الفيل يا ملك الزمان' لأن مؤلفها الراحل ونّوس كان في طور الاحتضار، وسرعان ما اعترض ثلاثة من المشاركين لأنهم قادمون من ممالك.. وعنوان المسرحية ' الفيل يا ملك الزمان '!!
ثم رشح كتاب آخر للراحل ونّوس هو 'مغامرة رأس المملوك جابر' فاعترض ايضا بعض المشاركين، وحين ذكر عنوان رواية للطيّب صالح هي 'عرس الزين' اعترض ايضا احد المشاركين، فاقترح الحضور مسرحية رائدة لتوفيق الحكيم هي 'السلطان الحائر' لنفاجأ باعتراض جديد من مشارك آخر. هذه عيّنة من ثقافة اصابها الحذر وكثرة الاحترازات بالشّلل .. وإن كنت ارويها الآن فذلك ليس على سبيل الاستطراف، بل باعتبارها وسيلة ايضاح ميدانية تبيّن ارتهان الثقافة للسياسة، وما تعجّ به ذاكرات المثقفين عن الاشباح!
المثقف الرابع يجد نفسه في أقصى العزلة والصّمت لأنه يدرك بأنه خارج التصنيف والخانات والجداول التي تتراشق بها اتحادات الكتّاب او الكتبة في عالم عربي لم تتبلور فيه مهنة المثقف، فهي صفة مرنة ومطاطية، تُمنح مجانا للأميين بمقياس غير اكاديمي، وعلى المثقف الذي يرى بعينيه ويسمع بأذنيه، ولا ينحني للتمثال الهندي صباح مساء ان يشهد بأن بدائله المجهزين في الثلاجات هم النقيض التاريخي والمعرفي له، تماما كما ان النقيض الفعلي للديموقراطية هو الشبيه الشكلاني الزائف، ويتوهم هذا البديل بأنه قادر على ان يكون مع الله والشيطان في وقت واحد، وبالتالي مع السّلطة والحرية. ان حالته هي الوحيدة التي لا تقبل الاقامة في المساحة الرمادية، فإما ان يكون هناك... او هنا، والمقولة الكلاسيكية عن اعطاء ما للرب للرب وما لقيصر لقيصر انتهت الى اعطاء كل شيء للقياصرة... وهناك حواريتان خالدتان تختصران هذه التراجيديا قدر تعلقها بالمثقف، الاولى سومرية دارت بين سيد وعبده التابع، وانتهت الى ان ضجر السيد وأعدم العبد لأنه مجرد صدى لصوته، والثانية بين شاعر وطاغية، رواها رسول حمزاتوف . فقد سأل هذا الطاغية الشاعر كم يساوي في نظره، فأجاب خمسة آلاف دينار.. فانتفض الطاغية وهو يزبد وقال ان ثمن حزامه الذهبي خمسة آلاف دينار.. عندئذ ضحك الشاعر وقال له : وهل انت الا حزامك؟؟ ولا بأس ان نضيف حوارية أخرى لحمزاتوف ايضا عن طاغية قرر اعدام المثقف الوحيد الذي أعلن العصيان ولم يسبّح بحمده، وعندما اجتمع الناس في ساحة عامة لكي يشهدوا الاعدام اصيب الطاغية بنوبة صحو مفاجئة وصاح بالجلاد: اترك لهذه البلاد مثقفها الوحيد!!!

* * * * * * * *

ان من روى حكاية الانذال الثلاثة سيضاف اليهم اذا اكتفى بنقل الواقعة، ولم يتدخّل لإنقاذ تلك العجوز، لهذا فإن المثقف الرابع قد يكون الجدار الرابع في البيت او البعد الرابع في مفهوم ظلّ مبتوراً واحادي البعد لعدة قرون، ومن استثمروا الجهل والفاقة والأمية وظنّوا بأنهم نجوا بجلودهم وبما نهبوا وما شهدوا به من زور، عليهم انتظار المساءلة بدءا من ابنائهم وأمهاتهم اللواتي توزع دمهن بين الانذال الثلاثة!!!

مذنبون أمام المعرفة بلقيس الكركي 03/10/2009

'أنتَ لم تفهمني يوماً واحداً طوال حياتنا!'، تقول المرأة لزوجها بعد زواج امتدّ أربعين عاماً، وبعد أن أوشكا على الطلاق. يقول هو لأخرى: 'زوجتي لا تفهمني، ولا أولادي، ولا من أسمّيهم أصدقائي، ولا أحد ô أنا وحيد ô أتفهمين عليّ؟' تُسِرّ هذه الأخرى لصديقتها: 'الغبيّ! يحسَبُ أنّه يفهمني'. يقول هو لصديق 'مثقّف' يوشك على الهجرة: 'هذا أفضل لك. في هذا البلد لن يفهمك أحد'. يصرخ ابنه المراهق في وجه والديه وأختَيه: 'أنتم لا تفهمونني!' ويُكسّر ما تيسّر له قبل الخروج. تقول أخته لأختها: 'يجب ألاّ يصل الأمر إلى أخي المجنون، فهو لن يتفّهم الأمر أبداً'. تُسِرّ لعاشقها المحروم مثلها: 'كم تفهمني...'. تركُن أختها -مشروع الشاعرة - إلى غرفتها وتكتب: 'وأنا كذلك لا شيءَ يفهمني'، ثم تمحوها 'لأنّ أحداً لن يفهم التناصّ الجميل هنا'. 'المثقّف' يزور العائلة بعد فترة قصيرة من السفر: 'عدتُ لأنّ الغرباء لم يفهموني.' تقول له البنت الشاعرة: 'الغربة مصير الذين يفكّرون ويقرؤون لأنّ هذا العالم الجاهل لن يفهمهم. قرأتَ المتنبّي بالطبع؟'. يتزوّجان لأنهّا 'تفهمه' ولأنّه 'يفهمها'، يوشكان على الافتراق لأنّها 'لا تفهم' حاجته للخصوصيّة، ويفترقان فعلاً حين 'لا يفهم' أنّ الآخر الذي كانت معه 'مجرّد صديق'...
يبدو أنّ لنا، بني آدم، قدرة مدهشة على أن نكون مأفونين لا نفهم شيئاً، واهمين، ومزيّفين. فالكلّ ـ بلا استثناء تقريباً - يبدو لنفسه في مرآته فاهماً إيّاها والآخرين، ضحيّةَ سوء فهمهم له، غيرَ مذنب في حقّ نفسه أو في حقّهم أو ـ قبل هذا كلّه ـ في حقّ الفهم والمعرفة. أظنّ - وأنا أيضاً واهمة بالفهم - أنّ الذنب الأخير هذا، أعني ذنوبنا في حقّ المعرفة، هو جوهر المشكلة البعيد، والذي بسببه نعيش هذه المشاهد السخيفة كلّ يوم.

طبعاً السخف هذا 'مفهوم' بالنظر إلى أنّ البشر يبحثون غريزيّاً عن الحياة ويتّخذون ما تيسّر من حقيقة سريعة وسيلةً للاستمرار فيها بالطريقة التي يُهيّأ لهم أنّها أفضل. أما العكس، أي جعل البحث عن الحقيقة غاية غريزيّة باتّخاذ ما تيسّر من حياة وسيلة لها، فهذا استثناء لا نستطيع دعوة العالم إليه. وهو على أيّ حال ـ أي العالم ـ لن يكون يوتوبيّاً إذا ما اكتظّ بغير المذنبين في حقّ المعرفة: إذ كيف سيربّي من يشكّون في أنفسهم ـ بل وفي أنّهم موجودن حقّاً - أجيالاً تتناسل، كيف سيعملون وينتجون؟ ماذا سيقول من هو كهؤلاء عن نفسه وطموحاته في مقابلة عمل مثلاً؟ 'أبحثُ عن الحقيقة'؟؟ هل سيكون العالم أجمل بلا كلام عاطفيّ مجّانيّ، فيما لو أصبح العشّاق غير مذنبين في حقّ المعرفة؟ لو استبدل عاشق غير مذنب بـ'أنت جميلة' كلاماً أقلّ ذنباً من مثل ـ
'شيء ما فيكِ اليوم تحديداً ـ رغم أنني غير متأكّد من أنّه فيكِ لا فيّ ـ يجعلني أشعر بما قد يجوز لي أن أسمّيه مؤقّتاً إحساساً (على أن أعود لاحقاً لمحاولة فهم معنى الشعور والإحساس) أظنّه في اللحظة الحاليّة ممتعاً إيجابيّاً لأنّك هنا ووصالك محتمَل، وإلاّ لكان ربّما مؤلماً سلبيّاً لو كنتِ غائبة ورأيت صورتك مثلاً. لا لا آسف، الفصل بين اللذة والألم هكذا متعسّف، فقد تكون الحاجة ألماً لذيذاً، أم إنّ هذا عزاء المحرومين وإذن لا مشكلة في اللغة ولا تعسّف في الثنائيّات؟ أعود إلى الموضوع. لا أعرف إن كان عادلاً أن أرجع الإحساس هذا لصفاتك أو 'جمالك' بين قوسين أكثر من حرماني وقلّة خبرتي بالنساء، ولا أعرف إن كان لما يسمّى الجمال علاقة مباشرة بالرغبة وإذن يستحيل له أن يكون موضوعيّاً - وطبعاً هذا لا يعني أن كلّ ما هو غير موضوعيّ متعلّق بالرغبة، فأنا قد أصف أمّي بالجمال من باب الانحياز لا الرغبة، وهذا أيضاً موضوع خلاف - وهذا لأنّني غير متأكّد من طبيعة اختلاف إدراكنا لـ'جمال' من نرغب فيهم جسديّاً من البشر عن إدراكنا لـ'جمال' الطبيعة مثلاً. لا بدّ من العودة إلى داروين وكانط قليلاً. لا بل كثيراً. بالمناسبة، هل تعلمين أنّك لو عشتِ قبل ألف أو ألفي عام لاعتبرك الناس 'قبيحة'؟'

ـ هل سيعود هذا 'عشقاً' أصلاً؟ وهل سيكون العالم أجمل لو استبدلنا بـ'أحبّك' بكلّ ما تنطوي عليه غالباً من مغالطات لا تحصى واتفّاقات متوهَّمة حول معانيها، مونولوجاتٍ تذكّر العاشق بجهله أكثر من رغبته؟ كيف يعيش الناس بلا أفكار جاهزة وأجوبة سريعة وكلام مجّانيّ غير مفكَّر فيه، بلا ذنوب في حقّ المعرفة؟ كيف ستستمرّ دون المذنبين الحياة (وإن كانت مجنونة غالباً، مليئة بالزيف والغباء)؟

بالطبع ليس لأحد أن يصادر على الآخرين، مهما بدوا له مغفّلين غير قادرين على التفكير أو غير راغبين فيه، حقّهم في الوجود، وحريّتهم في قول ما يريدون (على افتراض أنّهم من الفئة الأولى عند راسكولنيكوف/دوستويفسكي: فئة الحاضر التي تحافظ على الجنس، لا فئة الغد التي تحاول أفكاراً جديدة كي تدفع العالم باتّجاهها). لكن للفئة الثانية هذه الحقّ في أن تعترض، على الأقلّ، على ادّعاء الأولى الفهم والمعرفة من غير أن تفهم أنّ 'المعارفَ في أهلِ النُّهى ذِمَمُ' كما يقول المتنبّي، أي أنّها عهدة وأمانة عند أصحاب العقل. وإذن من حقّ هؤلاء - بل واجبهم - كشفُ المواطن المشوّهة في نسخ المعرفة التي يتخّذها أغلب الناس أساساً لادّعاء كلّ منهم فهم نفسه والعالم أكثر من الآخرين، أو ـ وهذه تتكرّر كثيراً - فهمه الآخرين أكثر مما يفهمون أنفسهم هم، أو لتحميلهم وحدهم ذنب تعاسته أو فشله أو إساءة فهمه. لكنّ المصيبة الكبرى تكمن في أنّ الجميع يدّعون السلامة من التشوّه المنطقيّ والمعرفيّ، وفي أنّ البعض يذهب في ادّعاء هذه السلامة حدّ اعتبار نفسه من الفئة الثانية، التي تفكّر وتنقد، وكنوع من التمويه، نراهم يتحدّثون عن حماقات 'سابقة' نجمَت عن سذاجات 'سابقة' سببها قلّة الفهم 'السابقة'، لأنّهم في الحاضر يفهمون ويعرفون ويفكّرون في كلّ ما يقولون ويفعلون. وقد أصبح يندر جدّاً ـ حدّ الاستحالة - أن نرى أحداً وقد راوده احتمال قلّة فهمه أو محدوديّة عقله أو ضحالة ثقافته، بل كنوع من الهجوم المضادّ، يكون غالباً على استعداد لتسمية من يعرف من أصحاب 'الجهل المركّب'، أي الذين لا يعرفون ولا يعرفون أنّهم لا يعرفون، وهو الداء الذي يستثني كلّنا نفسه منه وهو واثق مرتاح البال. أما الحالات التي نرى فيها من يعترفون بجهلهم، فأغلبها تواضع مفتَعَل يروم انتزاع الإعجاب بصاحب العقل الذي يعرف قيمة نفسه جيّداً. هل يعقل أنّنا في معظمنا من 'أهل النّهى'، نعرف و'نفهم' حدود معارفنا وقيمة أنفسنا؟ لو كان ربعُنا كذلك لما كان العالم مغفّلاً هكذا: كم نحن حقّاً مزيّفون.

قد تكون المشكلة هي في سوء فهم مفهومَي الفهم والمعرفة أصلاً، وبالتالي في الاستهانة بهما والاستهانة بمتطلّباتاهما، وأوّلها القراءة الحقيقيّة والتفكير الذي لن يترك صاحبَه يهدأ إن كان له أن يسمّى 'تفكيراً' حقّاً. فإذا كانت زيادة علم الإنسان تزيده علماً بجهله، فإنّ قلّة عِلمه تزيده وهماً بمعرفته بلا شكّ. لكي نفهم لا بدّ أن نقرأ ونفكّر، وكي نفكّر لا بدّ أن نسأل عن كلّ شيء ـ هذا الدرس يحفظه الجميع. لكن غياب التطبيق بالمطلق في كلّ ما حولنا من قول وفعل يعني أن الدرس لم يُفهم أصلاً، وهذا يفسّر مظاهر السخف والفوضى واللامنطق الكارثيّة اليوميّة. ليست المشكلة أن تقول العاشقة المكبوتة لعاشقها المكبوت 'كم تفهمني'، وليس لأحد أن يصادر على الآخرين العشق، بل المشكلة هي في افتراضها أنّ هناك شيئاً معقّداً غير الحرمان بحاجة لأن يفهمه ذلك العاشق العبقريّ، الذي قد يتّخذ بدوره كلامَها شهادةً على سِعة فهمه، ويظنّها السبب في رغبة عاشقته - صاحبة الشخصيّة المعقّدة والتقييم السليم - به. المشكلة ببساطة هي أنّهما لم يفكّرا للحظة واحدة ـ وهو ما تفضحه اللغة بسهولة ـ وهذا ما يجعل 'كم تفهمني' لا تطاق لسذاجتها. لكن الحقّ معها طبعاً في أن لا ترغب بأن يصل الأمر إلى أخيها 'غير المتفهّم'، رغم أنها لم تفكّر في أنّ تحوّلاتٍ تاريخيّة كثيرة أثمرت عن بقاء التخلّف المسؤول عن 'عدم التفهّم ' هذا. ولأنها لم تفكّر، فقد تمنع - حين تكبرُ - ابنتهَا من أن تعيش عشقاً مماثلاً في مراهقتها فتعاني هذه الأخرى من 'عدم تفهّم' أمّها وأبيها وأخيها. ومن يدري، فقد تُقتل الابنة في جريمة بطلها أخٌ يعاني هو الآخر من سوء الفهم، فيكون سببها الخفيّ ذنوبنا المتراكمة في حقّ التفكير، والفهم، والمعرفة. أقول ذنوبنا وأقصد الأفراد، خاصّة الذين يلومون وينتجون أجيالاً تلوم مفاهيم تجريدّية على ما نحن فيه: كالمجتمع، والتقاليد البالية، والتاريخ، وحتّى مفاهيم الجهل والتخلّف ذاتها ـ موضوع المشكلة ـ من غير أن يكون هناك مذنب واحد أو متخلّف واحد إلى جانب القاتل - إذا اعتبر مذنباً أصلاً- بما في ذلك الأمّ التي عشقت من قبل و'لم يتفهّمها' أخوها 'المجنون' وتزوّجت من أنجب وإيّاها قاتل أخته، رغم أنّ ذنب هذا الأخير أو ذنب قاتل هابيل عموماً ليس أقلّ أبداً من ذنب كلّ مَن عقولهُم كيديه: ملوّثة بالدماء لكثرة ما أهانت المنطق وشوّهت المفاهيم وآذت المعرفة.

كذلك ليست المشكلة في إحساس 'المثقّف' بأن أحداً في بلاده وبلاد الغرباء لا يفهمه، فالإحساس الصادق بالغربة ـ مهما كان مبتذلاً ـ كغيره من المشاعر، حقّ لا يحقّ لأحد إنكاره أو تحريم التعبير عنه. لكنّ المشكلة هي في ظنّه أنّه يفهم العالم وأحواله جيّداً، وأنّ تحديده لأسباب اغترابه وتقييمه لقيمته الحاليّة أو المحتملة قياساً إلى أهل الأرض دقيق إلى حدّ كبير. أي أنّه ببساطة لا يفكّر كثيراً ، وهو ما يفضحه تحديده 'الدقيق' أو تقييمه شبه الواثق ذاته. وهو بهذا لا يختلف عن المراهق الذي يعتقد أنّ أهله هم المذنبون في عدم فهمه وفي غربته، بغضّ النظر عن صدق إحساسه بالظلم الواقع عليه. وكذلك ليست المشكلة في عدم قدرة الزوجين على التواصل وعدم رغبة أحدهما في الاستمرار، بل المشكلة هي في افتراضهما أنّ 'سوء الفهم' هو المشكلة: في افتراض كلّ منهما أنّ لديه ما هو جدير بمحاولة الفهم، وأنّ ما يفهمه من نفسه هو الأقرب إلى الحقيقة، وأنّ زوجه لو فهم ما يريد منه فهمه لرغب فيه بجنون ولرجاه أن يستمرّا معا إلى الأبد، وإلاّ يكون مذنباً ظالماً. مصدر 'سوء الفهم' إذن، أنّ أيّاً منهما لم يتعب نفسه في التفكير بقصد الفهم والإفهام، وهذا هو وحده ذنبه الكبير الذي لا يعرفه.

أما الشاعرة التي حمّلت الجمهور مسؤولية سوء فهم تناصّها 'الجميل' ـ قبل أن يقرأ القصيدة ـ فليست المشكلة في إعجابها بما كتبت، فهي حرّة فيما تفعل أو تحبّ، لكن المصيبة هي أنّها تثق بذائقتها ـ إن كانت تعرف معنى الذائقة - وهذا ما يصدر غالباً عمّن لم يفكّروا يوما في مفهوم الجمال، وشروط صناعته، وتأثير ظروف تلقّيه فيه. والشاعرة هذه قد وصلت في ذنوبها حدّ افتراض أنّ لديها ما يجعل 'سوء فهم' العالم لها ما كان لدى المتنبّي، وهو ما تظنّ أنّه أعجب 'المثقّف' 'الغريب عن العالم' فيها. وهكذا تزوّج العبقريّان بعد أن جمعتهما أوهام كثيرة: منها وهم الاختلاف والتميّز، ووهم بأنّ هذا الأخير هو بلا شكّ سبب إحساسهما المشترك بالغربة (إن كان صادقاً أصلاً؛ فقد يكون مصدر الإحساس محض تقليد لبيت امرئ القيس 'أجارتنا إنّا غريبان ها هنا/ وكلّ غريبٍ للغريب نسيبُ' أو لغيره مما يحلو للكثيرين ادّعاؤه وتقمّصه وانتهاكه). وطبعاً لن يكون إلاّ كارثيّاً زواج لا طرف فيه يفكّر حقّاً: فليست المشكلة في أنّ زوجته الشاعرة - التي 'لا شيء يفهمها' - 'لم تفهم' حاجته للخصوصيّة، بل في أنّه لو أرادها حقـّاً لما عاد إلى بلاده، ولما تزوّج ابنة صديقه، أو لفكّر أو عرف أو فهم أنّه لم يتزوّج من تفهم مثل هذه الحاجة (إن كانت موجودة أصلاً، فالإنسان قد يكذب على نفسه بسهولة حين يكون مزيّفاً). وكذلك ليست المشكلة في أنّ 'المثقف' 'لم يفهم' أنّ صديق زوجته مجرّد صديق، بل في أنّها - طالما أنّ لها عقل المتنبي كما تفترض- لم تفكّر في أنّ من تزوّجت ليس مؤهّلاً لأن يفهم أنّ رجلا آخر قد يكون 'مجرّد صديق' لزوجته الشاعرة (إن كان هذا الأخير مجرّد صديق حقّاً، وكأنّ الفرق بين الصداقة والحبّ سهل التحديد والتمييز هكذا). لو كان التفكير جزءاً من خطواتنا وأنفاسنا ووجودنا، لما كان كلامنا هكذا: نصفه يكشف عن جهل، ونصفه الآخر عن وهمنا بالفهم، وتفضح كلّ كلمة نقولها خطايانا التي لا تغتفر أمام الفهم والمعرفة.

ليس المطلوب بالطبع أن يعرف الناس - ولا أن يعتنقوا - آراء نيتشه في الصمت، الذي اعتبره ردّ فعل عقلانيّاً على محدوديّة القدرات التعبيريّة للغة، وردّ الفعل الأمثل ضدّ 'ثرثرة' الحياة اليوميّة. ليس مطلوباً أن يسمع الجميع نصيحته بأن 'على الإنسان أن يتكلّم فقط حين لا يمكن له أن يصمت'، ولا أن يكونوا مثل 'أكثر الناس صمتا' كما قال نيتشه عن زرادشت وكما تخيّل سقراط، ولا أن يأبهوا كثيراً لقوله إنّ الصمت ضروري كي يبقى المرء فيلسوفاً لأن 'كلّ كلمة هي حكم مسبق.' ليس هذا مطلوباً - ولا ممكناً - لأنّ معظمنا بحاجة للكلام والآخرين إذا ما اختار الحياة على ما اختاره سقراط. لكنّنا أجرمنا في حقّ الفهم والمعرفة (واللغة بالطبع) حدّ أنّ ثرثراتنا المليئة بـ'سوء الفهم' المزعوم أصبحت عائقا أمام الحياة ذاتها وأمام احتمالها. لقد أصبحنا كمن يتخبّطون في ظلام دامس يعجّ بالفوضى والضوضاء والضجر والابتذال لأكثر الأشياء نبلاً (كالفهم، والعشق، والاغتراب). وإذا لم تحدث معجزة تجعلنا نكفّر عن بعض هذه الخطايا والذنوب (وكلّها في حقّ المعرفة، إذ 'ليس ثمّة ظلام، بل جهل' كما في مسرحيّة 'كوميديّة' لشكسبير)، فإنّ هذه المهزلة ستستمرّ إلى ما لا نهاية، وتعاقبنا عليها كلّ يوم أثينـا، ربّة الحرب والمعرفة.

كاتبة من الأردن

Sunday, September 27, 2009

المثقفون الثلاثة! - خيري منصور - القدس العربي


المثقفون الثلاثة!
خيري منصور

مصطلحات عديدة بحاجة الى اعادة الاعتبار، وتحريرها من هذا الاستيطان الغوغائي الذي أفرغها من مضامينها وأفقدها الدلالات، في مقدمتها مصطلح المثقف، الذي يطلق في عالمنا العربي جزافا على غير الأميّ، سواء كان شبه متعلم او ذا صلة بالمجال الاكاديمي، وأول ما يخطر ببال هنا هو اطلاق الكاتبة سيمون دي بوفوار صفة المثقفين على أبطال رواية شهيرة لها، والمثقفون هم أبرز مفكري فرنسا في النصف الاول من القرن العشرين والعقد الفريد الذي أعقبه، وفي مقابلة شهيرة أجرتها مجلة الاكسبرسو الايطالية مع جان بول سارتر عرّف المثقف بأنه الوجدان الشقي، ثم ألّف كتابا يجيب فيه عن السؤال المزمن 'من هو االمثقّف؟' ولأن العرب حديثو عهد بالكثير من هذه المصطلحات فقد فلطحوها، مثلما فعلوا بمصطلح الوجودية الذي سرعان ما تحوّل من خلال ترجمات سياحية الى الحرية المجانية او العدمية التي تبرر كل شيء، رغم انها في الصميم من معناها الحرية القاسية، التي تفرض على الانسان ان لا يفعل ما يريد وليس العكس، وقد وضع سارتر هذه المسألة في الحوار المطوّل مع نافيل الماركسي، وحين تبنى بعض العرب تعريف غرامشي للمثقف العضوي وظفوا هذه التعريف في سياقات عجيبة، ومنهم من لم يسمع حتى الآن ان هناك اطروحات ناقدة لغرامشي، منها ما قاله كاتب ايطالي عن كون هذا المثقف الذي قال بأن لكل طبقة مثقفيها،فقد قال ان غرامشي نفسه لم يسلم من التعبير عن مصالح شركة عجلات في بداياتها وقبل ان تتحول الى شركة سيارات فيات المعروفة.
ان التعامل المجزوء والانتقائي مع المعرفة تسبب الى حد كبير في هذا الاضطراب الذي أصاب عدة بوصلات بالعطب، بحيث يصبح الشرق غربا والجنوب شمالا، ولكي لا نستطرد في هذا السّجال النظري حول مصطلح المثقف علينا ان نبدأ من أول السطر في كتابنا العربي الذي زاوج بين الأبجدية واللاتينية على نحو كاريكاتوري، وكم نشعر بالبؤس حين نقرأ بيان موت الحداثة في ألمانيا عام 1815 أي قبل ما يقارب القرنين، وقد غاب عن الوعي الزائف والمستلب ان لكل ثقافة حداثتها، وهذا ما دفع هنري لوفيفر الى ان يضيف ' نا ' الى كلمة حداثة، كي يوحي لقارئه بأنه يكتب عن حداثة بعينها وليس عن الحداثة بالمطلق .

' ' '

ما اعنيه بالمثقفين الثلاثة، ليس مرادفا للفرسان الثلاثة، الرواية الرومانسية لالكسندر دوماس، وليسوا ايضا ثلاثة من المثقفين المحددين بالاسماء والنصوص بل هو مفهوم يبدأ تجريديا واجرائيا وقد ينتهي واقعيا ومرئيا بوضوح ...
المثقف الاول، هو من حوّل ثقافته الى ركام من المعارف وهي تشبه قبّعة او طربوشا، ترتدى عند الكتابة او في مناسبات ذات علاقة بالثقافة، لكنه سرعان ما يخلع هذه المعارف، ويعود سالما الى موقعه.. هذا المثقف نموذج للشيزوفرينيا في أقصى تجلياتها، بحيث يستطيع التأقلم الحربائي السريع مع اي طارىء، ويعود اذا اقتضى الأمر فردا في القطيع او فردا من قبيلة غزيّة التي تفكر له وتحلم نيابة عنه وهو مجرد رقم أصمّ في نسيجها .
قد يتحدث هذا المثقف عن الحرية، والعصيان، والدور التاريخي للنّخب، لكن ما إن يتعرض لأول اختبار حتى يرسب بعدة امتيازات، والأمثلة لا تحصى... فهو استاذ جامعي في التاريخ او علم الاجتماع او الاداب، تنتهي مهمته عند حدود مهنته، فما إن يعود من الجامعة حتى يلتئم السياق الاجتماعي، باحثا بقوة عن شهادة حسن سير وسلوك، فالتاريخ بالنسبة اليه هو ما غَبَر،والآداب هي مجرد أخيلة لا صلة لها بحياته اليومية، وعلم الاجتماع لا امتداد له في المجتمع ومجمل علائقه المعقدة.
هذا المثقف يتزوج ويجاور وينجب ويعيش ويموت فردا ضالا في قطيع، فلا هو ذاته ولا الآخر الذي قرأ عنه وحاول تقمّصه لبعض الوقت، وحجته هي على الأغلب ان المجتمع أقوى منه وأنه لا يستطيع السباحة ضد تيار عارم، لهذا لا يضع رأسه بين الرؤوس ويمشي بمحاذاة الجدار، ويقرفص كي لا تصبح ساقاه أطول من فراشة، ولأن هاجسه الوحيد هو النجاة بجلده فإن اي تأويل لمواقفه او تحميلها ما لا تحتمل يصيبه بالهلع، لهذا فهو ابن بار للدولة، وغير عاقّ للمجتمع، وتوشك قبضته ان تتيبس على منتصف العصا، وخطورته ليست في ما يلحقه بذاته من أذى، بل بالنموذج الذي ينسجه للمثقف امام ذويه وتلامذته في الجامعة او جيرانه، فهم سيدركون بمرور الوقت ان عبارة العلم الذي لا ينتفع به تليق بهذا الكائن الذي يمتلك القدرة على ان يستدير مئة وثمانين درجة كي يقول بأن الارض ليست كروية ولا تدور.
انه نتاج مفهوم شعبي عن الثقافة شاع بعد الحرب العالمية الثانية متزامنا مع بواكير الاستقلال الشكلي والعثور على مجالاات عمل في الشركات التي تنقّب في الصحارى، لهذا تحوّل العلم كله الى نمط انتاج بديل للأرض، وصار الإقبال الشديد على ثالوث الهندسة والطب والصيدلة تعبيرا عن طموحات للعمل بأجور أغلى، وتراجعت الانسانيات وأصبح الناس يسخرون ممن يدرس الأدب او الفيزياء لأنه ينتهي الى معلم بائس في بلاد كذب شاعرها عندما قرن المعلمين بالرسول وطالب بالوقوف تبجيلا لهم، تبعا للموعظة الممنوعة من الصرف والقائلة من علّمني حرفا كنت له عبدا، والأصح من اعطاني رغيفا او دينارا كنت له عبدا ...

' ' '

المثقف الثاني، حسم أمره منذ البداية، بحيث يعيش حياتين، احداهما سرية لطقوسه وقراءاته وموسيقاه ومجمل شجونه المعرفية، والأخرى علنية متوائمة مع القطيع، فالليل له والنهار للآخرين، وقد يكون قد أهّل عقله وبالتالي لسانه كي يكون اثنين لا يلتقيان حتى لو تدخّل اينشتاين بنظريته النسبية لتحقيق هذا الالتقاء.
وثمة عدة عوامل أدّت الى مثل هذا الانشطار الاميبي لدى المثقف اللامثقف، لأن مهنته في بلدان لم تغادر الرعوية غير مفروزة وغير معترف باستحقاقاتها، ولتعذّر اكتفائه بمحصول معرفته يضطر الى العمل في مجالات لا صلة لها بالثقافة، فمن هؤلاء من عمل سائق سيارة أجرة او موظفا في البريد او محاسبا في شركة الكهرباء، ولكي يستطيع مواصلة الحياة عليه ان يقدّم تنازلات يومية، بحيث لا يختلف مع السائد من حوله خشية من النّبذ والاقصاء، فهو يعرف جيدا حكاية العنزة السوداء في القطيع والبعير الأجرب، رغم انه كان مؤهلا لو امتلك الارادة والقوة لقلب المعادلة، فالقطيع هو الأجرب، والعنزة السوداء هي بيضاء قطيعها، وقد ظنّ مثل هذا المثقف المنشطر الى ليل شخصي ونهار جماعي ان المسألة حلّت وحسمت لصالحه، ليكتشف بعد فوات الاوان ان النهار زحف الى ليله، ووجد نفسه ملقى على قفاه في ظهيرة سوداء، لا يتعرف فيها على نفسه لأنه أصبح سواه تماما، وتعرّض الى أسوأ استيطان وجودي عرفه الانسان في تاريخه.
ومن ممارسات هذا المثقف المنشطر الى ليل أبيض ونهار اسود، انه يفضل الزواج من فتاة صغيرة شبه أميّة كي يتولى بنفسه تربيتها، ثم ينشىء اطفاله على غرار ما أنشأه والداه الأميّان، ويعيد انتاج تربويات الزجر والعقاب والتحريض على الكذب بحثا عن النجاة بألفاظ جديدة، لأنه يريد ان يكون في الربع الأول من القرن العشرين وفي العقد الأول من القرن الحادي والعشرين دون ان يخسر شيئا، ويريد زوجة وابناء ماهرين في الكذب واسترضائه لأنه لا يقوى على عبء حرياتهم التي تنمو بعيدا عن وعيه ورغما عنه . وقد يدلو بدلوه المثقوب في ندوة عن السلطة والمعرفة، والحرية والارتهان، فيقول اقوال الاخرين لبضع دقائق فقط رغم ان مسامير بسطار السلطة مغروزة بين عينيه.

' ' '

المثقف الثالث، ليس ثالثة الاثافي في هذه الخيمة العربية المصنوعة من رخام مستورد، انه الاطروحة المضادة، والمحاولة الباسلة للبقاء على قيد ضميره ومهنته، قابضا على الجمرة بلسانه لا بيده، فهو يكابد على مدار الساعة محروما من النوم للدفاع عما تبقى من ملكوت لم يتسرب اليه العسس او المتسللين بين الطبقات والمهن لإرباك المعيار وحذف الفارق بين النعيق والهديل وبين الفحيح والحفيف، والكتابة عن هذا المثقف الثالث الذي يرى بعينيه ويسمع بأذنيه ويشم بأنفه متمردا على منة تأجير الحواس، تستحق اضعاف ما كتب عن المثقفين السابقين، لكن حصة الفردوس كما قال دانتي في كوميدياه هي أقل بأضعاف من حصة الجحيم ...
لهذا المثقف الثالث، تشرق شمس الغد اذا اشرقت... ولنقيضه الزائف المصنوع بأنبوب الدولة والحزب والقبيلة تنعب بومة الغسق، فهو الشرارة الهاجعة في الصوّان، وشفق الكون الأبدي... لأنه رديف القيامة، واللقاح في زمن الوباء، وآخر دفاع علني عن خجل الانسان!
فأين هو ؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟

Wednesday, September 23, 2009

Monday, September 7, 2009

Exerpts from The Flowers of Evil "Les Fleurs Du Mal", Charles Baudelaire

Preface:
"France is passing through a period of vulgarity. Paris, a center radiating universal stupidity. Despite Moliere and Beranger, no one would ever have believed that France would take to the road of progress at such a rate. Matters of art, terrae incognatae.

Great men are stupid.
My book may have done some good; I do not regret that. It may have done harm; I do not rejoice that. "

"We are all hanged or hangable. "

"GIANTESS"

when nature once in lustful hot undress
Conceived gargantuan offspring, then would I
Have loved to live near a young giantess,
Like a voluptuous cat at a queen's feet.

To see her body flower with her desire
And freely spread out in its dreadful play,
Guess if her heart concealed some heavy fire
Whose humid smokes would swim upon her eye.

To feel at leisure her stupendous shapes,
Crawl on the cliffs of her enormous knees,
And, when in summer the unhealthy suns

Have stretched her out across the plains, fatigued,
Sleep in the shadows of her breasts at ease
Like a small hamlet at a mountain's base.

"THE DANCING SERPENT"

Dear indolent, I love to see,
In you body bright,
How like shimmering silk the skin
Reflects the light!

On the deep ocean of your hair
Where perfume laves,
Odorous and vagabond sea
Of blue and brown waves,

Like a vessel awakening
When morning winds rise
My dreaming soul begins to sail
Toward remote skies.

Your two eyes that neither sweetness
Nor bitterness hold
Are two chilly gems mingled of
Iron and gold.

When you walk in rhythm, lovely
With abandonment,
You seem th be swayed by a wand,
A dancing serpent.

Your child's head under the burden
Of your indolence
Sways as delicately as a Young elephant's,

And your body bends and straightens
Like a slender ship
That, plunging and rolling, lets the
Yards in water dip.

When, like a stream by thawing of
Glaciers made replete,
The water of your mouth rises
Up to your teeth,

I drink a Bohemian wine,
Powerful and tart,
A liquid sky that sows its stars
Within my heart!

"THE BALCONY"

Mother of memories, mistress of mistresses,
O thou, my pleasure, thou, all my desire,
Thou shalt recall the beauty of caresses,
The charm of evenings by the gentle fire,
Mother of memories, mistress of mistresses!

The eves illumined by the burning coal,
The balcony where veiled rose-vapour clings -
How soft your breast was then, how sweet your soul!
Ah, and we said imperishable things,
Those eves illumined by the burning coal.

Lovely the suns were in those twilights warm,
And space profound, and strong life's pulsing flood;
In bending o'er you, queen of every charm,
I thought I breathed the perfume of your blood.
The suns were beauteous in those twilights warm.

The film of night flowed round and over us,
And my eyes in the dark did your eyes meet;
I drank your breath, ah! sweet and poisonous,
And in my hands fraternal slept your feet-
Night, like a film, flowed round and over us.

I can recall those happy days forgot,
And see, with head bowed on your knees, my past.
Your languid beauties now would move me not
Did not your gentle heart and body cast
The old spell of those happy days forgot.

Can vows and perfumes, kisses infinite,
Be reborn from the gulf we cannot sound;
As rise to heaven suns once again made bright
After being plunged in deep seas and profound?
Ah, vows and perfumes, kisses infinite!

"REVERSIBILITY"

Angel of gaiety, have you tested grief?
Shame and remorse and sobs and weary spite,
And the vague terrors of the fearful night
That crush the heart up like a crumpled leaf?
Angel of gaiety, have you tested grief?

Angel of kindness, have you tested hate?
With hands clenched in the dark, and tears of gall,
When Vengeance beats her hellish battle-call,
And makes herself the captain of our fate,
Angel of kindness, have you tested hate?

Angel of health, did ever you know pain,
Which like an exile trails his tired footfalls
The cold length of the white infirmary walls,
With lips compressed, seeking the sun in vain?
Angel of health, did ever you know pain?

Angel of beauty, do you know wrinkles know?
Know you the fear of age, the torment vile
Of reading secret horror in the smile
Of eyes your eyes have loved since long ago?
Angel of beauty, do you wrinkles know?

Angel of happiness, and joy, and light,
Old David would have asked for your afresh
From the pure touch of your enchanted flesh;
I but implore your prayers to aid my plight,
Angel of happiness, and joy, and light.

"CONVERSATION"
You are an autumn sky, suffused with rose ...
Yet sadness rises in me like the sea,
And on my somber lip, when it outflows,
Leaves its salt burning slime for memory.

Over my swooning breast your fingers stray;
In vain, alas! My breast is a void pit
Sacked by the tooth and claw of woman. Nay,
Seek not my heart; the beasts have eaten it!

My heart is as a palace plundered
By the wolves, wherein they gorge and rend and kill,
A perfume round thy naked throat is shed...

Beauty, strong scourge of souls, O work thy will!
Scorch with thy fiery eyes which shine like feasts
These shreds of flesh rejected by the beasts!

"THE GLADLY DEAD"

In a soil with snails and rich as grease
I've longed to dig myself a good deep grave,
There to stretch my old bones at ease
And sleep in oblivion, like a shark in a wave.

Wills I detest, and tombstones set in rows;
Before I'd beg a tear of anyone,
I'd rather go alive and let the crows
Bleed the last scrap of this old carrion.

O worms! Black comrades without eye or ear,
Here comes a dead man for you, willing and gay;
Feasting philosophers, sons born of decay,

Come burrow through my ruins, shed not a tear;
But tell me if any torture is left to dread
For this old soulless body, dead as a dead?

"HEAUTONTIMOROUMENOS"

I'll strike you, but without the least
Anger - as butchers poll an ox,
Or Moses, when he strucj the rocks -
That from your eyelid thus released,

The lymph of suffering may brim
To slake my desert of its drought.
So my desire, by hope made stout,
Upon your salty tears may swim,

Like a proud ship, far out from shore.
Within my heart, which they'll confound
With drunken joy, your sobs will sound
Like drums that beat a charge in war.

Am I not a faulty chord
In all this symphony divine,
Thanks to the irony malign
That shakes and cuts me like a sword?

It's in my voice, the raucous jade!
It's in my blood's black venom too!
I am the looking-glass, wherethrough
Megaera sees herself portrayed!

I am the wound, and yet the blade!
The slap, and yet the cheek that takes it!
The limb, and yet the heel that breaks it,
The torturer, and he who's flayed!

One of the sort whom all revile,
A Vampire, my own blood I quaff,
Condemned to an eternal laugh
Because I know not how to smile.

"THE IRREMEDIABLE"
A Dream, a Form, a Creature, late
Fallen from azure realms, and sped
Into some Styx of mud and lead
No eye from heaven can penetrate;

An angel, rash wanderer, who craves
To look upon deformity,
The vast nightmare's gulf to try
As swimmer struggling with the waves,

And battling (anguish fierce and stark!)
Against gigantic whirlpools
That, singing, go like mad fools
Pirouetting in the dark;

One spellbound in sorcery,
Groping vainly as he makes
To flee a place alive with snakes,
Seeking the candle and the key;

A lost and lampless soul descending,
Within a gulf whose foetid scent
Betrays its damp and deep extent,
A railless staircase never ending,

Where clammy monsters guard the way,
Whose great eyes' phosphoric light
Makes even blacker still the night,
And nothing but themselves betray;

A vessel icebound at the pole,
As in a crystal trap secure,
Seeking the fatal aperture
By which it reached that prison goal:

-Perfect emblems, clear and true,
Of irremediable Fate,
They make us think the Devil's hate
Does well whatever he will do!

The dialogue is dark and clear
When a heart becomes its mirror!
Black well of Truth, but none is clearer,
Where that livid star appears,

That ironic and primaeval
Beacon, torch of Satan's grace,
Our sole glory and our solace -
Consciousness in doing Evil!

"THE CLOCK"

The Clock, calm evil god, that makes us shiver,
With threatening finger warns us each apart: -
"
Remember! Soon the vibrant woes will quiver,

Like arrows in a target, in your heart.


To the horizon Pleasure will take flight
As flits a vaporous sylphide to the wings.
Each instant gnaws a crumb of the delight
That for his season every mortal brings.

Three thousand times and more, each hour, the second
Whispers 'Remember!' Like an insect shrill
The present chirps, 'With Nevermore I'm reckoned.
I've pumped your lifeblood with my loathsome bill.'
Remember! Souviens-toi! Esto Memor!

My brazen windpipe speaks in every tongue.
Each moment, foolish mortal, is like ore

From which the precious metal must be wrung.

Remember. Time the gamester (it's the law)
Wins always, without cheating. Daylight wanes.
Night deepens. The abyss with gulfy maw
Thirsts on unsated, while the hourglass drains.

Sooner or later, now, the tie must be
When Hazard, Virtue (your still-virgin mate),
Repentance (your last refuge), or all three -
Will tell you, 'Die, old Coward. It's too late!'"

"A LANDSCAPE"
I would, when I compose my solemn verse,
Sleep near the heaven as do astrologers,
Near the high bells, and with a dreaming mind
Hear their calm hymns blown upon the wind.
Out of my tower, with chin upon my hands,
I'll watch the singing, babbling human bands;
And see clock-towers like spars against the sky,
And heavens that bring thoughts of eternity;

And softly, through the mist, will watch the birth
Of stars in heaven and lamplight on the earth;
The threads of smoke that rise above the town;
The moon that pours her ale enchantment down.

Seasons will pass till Autumn fades the rose;
And when comes Winter with his weary snows,
I'll shut the doors and window-casements tight,
And build my faery palace in the night.
Then I will dream of blue horizons deep,
Of gardens where the marble fountains weep,
Of kisses, and of ever-singing birds --
A sinless Idyll built of innocent words.
And Trouble, knocking at my window-pane
And at my closet door, shall knock in vain;
I will not heed him with his stealthy tread,
Nor from my reverie uplift my head;
For I will plunge deep in the pleasure still
Of summoning the spring-time with my will,
Drawing the sun out of my heart, and there
With burning thoughts making a summer air.

"THE LITTLE OLD WOMEN"

In sinuous folds of cities old and grim,
Where all things, even horror, turn to grace,
I follow, in obedience to my whim,
Strange, feeble, charming creatures round the place.

These crooked freaks were women in their pride,
Fair Eponine of Lais! Humped and bent,
Love them! Because they still have souls inside.
Under their draughty skirts in tatters rent.

They crawl: a vicious wind their carrion rides;
From the deep roar of traffic see them cover,
Pressing like precious relics to their sides
Some satchels stitched with mottoes or a flower.

They trot like marionettes along the level,
Or drag themselves like wounded deer, poor crones!
Or dance, against their will, as if the devil
Were swinging in the belfry of their bones.

Cracked though they are, their eyes are sharp as drills
And shine, like pools of water in the night, -
they eyes of little girls whom wonder thrills
To laugh at all that sparkles and is bright.

The coffins of old women very often
Are near as small as those of children are.
Wise Death, who makes a symbol of a coffin
Displays a taste both charming and bizarre.

And when I track some feeble phantom fleeing
Through Paris's immense ant-swarming Babel,
I always think that such a fragile being
Is moving softly to another cradle.

Unless, sometimes, in geometric mood,
To see the strange deformities they offer,
I muse how often he who saws the wood
Must change the shape and outline of the coffer.

Those eyes are wells a million teardrops feed,
Crucibles spangled by cooling ore,
Invincible in charm to all that breed
Whom stern Misfortune suckled with her lore.

II

vestal whom old Frascati could enamour:
Thalia's nun, whose name was only known
To her dead prompter: madcap full of glamour
Whom Tivoli once sheltered as its own -

They all elate me. But of there a few,
Of sorrow having made a honeyed leaven,
Say to Devotion, "Lend me wings a new,
O powerful Hippogriff, and fly to heaven."

One for her fatherland a martyr: one
By her own husband wronged beyond belief:
And one a pierced Madonna through her son -
They all could make a river with their grief.

III

Yes, I have followed them, time and again!
One, I recall, when sunset, like a heart,
Bled through the sky from wounds of ruddy stain,
Pensively sat upon a seat apart,

To listen to the music, rich in metal,
That's played by bands of soldiers in the parks
On golden, soul-reviving eves, to fettle,
From meek civilian hearts, heroic sparks.

This one was straight and stiff, in carriage regal,
She breathed the warrior-music through her teeth,
Opened her eye like that of an old eagle,
And bared a forehead moulded for a wreath.

IV

Thus then, you journey, uncomplaining, stoic
Across the strife of modern cities flung,
Sad mothers, courtesans, or saints heroic,
Whose names of old were heard on every tongue,

You once were grace, and you were glory once.
None know you now. Derisory advances
Some drunkard makes you, mixed with worse affronts.
And on your heels a child-tormentor prances.

Ashamed of living, shrivelled shades, who creep
Timidly sidling by the walls, bent double;
Nobody greets you, ripe for endless sleep,
Strange destinies, and shards of human rubble!

But I who watch you tenderly: and measure
With anxious eye, your weak unsteady gait
As would a father- get a secret pleasure
On your account, as on your steps I wait.

I see your passionate and virgin crazes;
Sombre or bright, I see your vanished prime;
My soul, resplendent with your virtue, blazes,
And revels in your vices and your crimes.

Poor wrecks! My family! Kindred in mind, you
Receive from me each day my last addresses.
Eighty-year Eves, will yet tomorrow find you
On whom the claw of God so fiercely presses?

COMEST THE CHARMING EVENING

Comes the charming evening, the criminal's friend,
Comes conspirator-like on soft wolf tread.
Like a large alcove the sky slowly closes,
And man approaches his bestial metamorphosis.

To arms that have laboured, evening is kind enough,
Easing the strain of sinews that have borne their rough
Share of the burden; it is evening that relents
To those whom and angry obsession daily haunts.
The solitary student now raises a burdened head
And the back that bent daylong sinks into its bed.
Meanwhile darkness dawns, filled with demon familiars

Who rouse, reluctant as business-men, to their affairs,
Their ponderous fight rattling the shutters and blinds.
Against the lamplight, whose shivering is the wind's,
Prostitution spreads its light and life in the streets:
Like an anthill opening its issues it penetrates
Mysteriously everywhere by its own occult route;
Like an enemy mining the foundations of a fort,
Or a worm in an apple, eating what all should eat,
It circulates securely in the city's clogged heart.
The heat and hiss of kitchens can be felt here and there,
The panting of heavy bands, the theaters' clamour.
Cheap hotels, the haunts of dubious solaces,
Are filling with tarts, and crookes, their sleep accomplices,
And thieves, who have never heard of restraint or remorse,
Return now to their work as a matter of course,
Forcing safes behind carefully re-locked doors,
To get a few days' living and put clothes on their whores.

Collect yourself, my soul, this is a serious moment,
Pay no further attention to the noise and movement.
This is the hour when the pains of the sick sharpen,
Night touches them like a torture, pushes them to the open
Trapdoor over the gulf that is all too common.
Their groans overflow the hospital. More than one
Will not come back to taste the soup's familiar flavour
In the evening, with some friendly soul, by his own fire.

Indeed, many a one has never even known
The hearth's warm charm. Pity such one.

THE VOYAGE

For children crazed with maps and prints and stamps-
The universe can sate their appetite.
How vast the world is by the light of lamps,
But in the eyes of memory how slight.

One morning we set sail, with brains on fire,
And hearts swelled up with rancorous emotion,
Balancing, to the rhythm of its lyre,
Our infinite upon the finite ocean.

Some wish to leave their venal native skies,
Some flee their birthplace, others change their ways,
Astrologers who've drowned in Beauty's eyes,
Tyrannic Circe with the scent that slays.

Not ot be changed to beasts, they have their fling
with space, and splendour, and the burning sky,
The suns that bronze them and the frosts that sting
Efface the mark of kisses by and by.

But the true travellers are those who go
Only to get away: hearts like balloons
Unballasted, with their own fate aglow,
Who know not why they fly with the monsoons:

Those whose desires are in the shape of clouds,
Who dream, as raw recruits of shot and shell,
Of mighty raptures in strange, transient crowds
Of which no human soul the name can tell.

II

Horror! We imitate the top and bowl
In swerve and bias. Through our sleep our sleep it runs.
It's Curiosity that makes us roll,
As the fierce Angel whips the whirling suns.

Singular game! Where the goal changes places;
The winning-post is nowhere, yet all round;
Where Man tires not of the mad hope her races
Thinking, some day, that respite will be found.

Our soul's like a three-master, where one hears
A voice that from the bridge would warn all hands.
Another from the foretop madly cheers
"Love, joy, and glory" ... Hell! we're on the sands!

The watchman think each isle that heaves in view
An Eldorado, shouting their belief;
Imagination riots in the crew
Who in the morning only find a reef.

The fool that dotes on far, chimeric lands -
Put him in irons, or feed him to the shark!
The drunken sailor's visionary lands
Can only leave the bitter truth more stark.

So some old vagabond, in mud who grovels,
Dreams, nose in air, of Edens sweet to roam;
Wherever smoky wicks illuminate hovels
He sees another Capua or Rome.

III

Amazing travellers, what a noble stories
We read in the deep oceans of your gaze!
Show us your memory's casket, and the glories
Streaming from gems made out of stars and rays!

We, too, would roam without a sail or stream,
And to combat the boredom of your jail,
Would stretch, like canvas on our souls, a dream,
Framed in horizons, of the seas you sail.

What have you seen?

IV

"We have seen stars and waves,
We have seen sands and shores and oceans too,
In spite of shocks and unexpected graves,
we have been bored, at times, the same as you.

The solar glories on the violet ocean
And those of spires that in the sunset rise,
lit, in our hearts, a yearning, fierce emotion
To plunge into those ever-luring skies.

The richest cities and the scenes most proud
In nature, have no magic to enamour
Like those which hazard traces in the cloud
While wistful longing magnifies their glamour.

(enjoyment adds more fuel for desire,
Old tree, to which all pleasure is manure;
As the bark hardens, so the boughs shoot higher,
And nearer to the sun would grow mature.

Tree, will you always flourish, more vivacious
Then cyress? ) None the less, these views are yours:
We took some photographs for your voracious
Album, who only care for distant shores.

We have seen idols elephantine-snouted,
And thrones with living gems bestarred and pearled,
And palaces whose riches would have routed
The dreams of all the bankers in the world.

We have seen wonder-striking robes and dresses,
Women whose nails and teeth the betel stains
And jugglers whom the rearing snake caresses."

V

What then? What then?

VI

"O childish little brains,
Not to forget the greatest wonder there -
We've seen in every country, without searching,
From top to bottom of the fatal stair
Immortal sin ubiquitously lurching:

Woman, a vile slave, proud in her stupidity,
Self-worshipping, without the least disgust:
Man, greedy, lustful, ruthless in cupidity,
Slave to a slave, and sewer to her lust:

The torturer's delight, the martyr's sobs,
The feasts where blood perfumes the giddy rout:
Power sapping its own tyrants: servile mobs
In amorous obeisance to the knout:

Some similar religions to our own,
All climbing skywards: Sanctity who treasures,
As in his downy couch some dainty drone,
In horsehair, nails, and whips, his dearest pleasures.

Prating Humanity, with genius raving,
As and today as ever from the first,
Cries in fierce agony, its Maker braving,
'O God, my Lord and likeness, be thou cursed!'

But those less dull, the lovers of Dementia,
Fleeing the herd which fate has safe impounded,
In opium seek for limitless adventure.
-That's all the record of the globe we rounded."

VII

It's bitter knowledge that one learns from travel.
The world so small and drab, from day to day,
The horror of our image will unravel,
A pool of dread in deserts of dismay.

Must we depart, or stay? Stay if you can.
Go if you must. One runs: another hides
To baffle Time, that fatal foe to man.
And there are runners, whom no rest betides,

Like the Apostles or the Wandering Jew,
Whom neither ship nor waggon can enable
To cheat the retiary. But not a few
Have killed him without stirring from their cradle.

But when he sets his foot upon our nape
We still can hope and cry "Leave all behind!"
As in old times China we'd escape
With eyes turned seawards, hair that fans the wind,

We'll sail once more upin the sea of Shades
with heart like that of a young sailor beating.
I hear the rich, sad voices of the Trades
Who cry "This Way! all you who would be eating

The second Lotus. Here it is they range
The piles of magic fruit. O hungry friend,
Come here and swoon away into the strange
Trance of an afternoon that has no end."

In the familiar tones we sense the spectre;
Our Pylades stretch arms across the seas.
"To salve your heart, now swim to your Electra,"
She cries, of whom we used to kiss the knees.

VIII

O Death, old Captain, it is time. Weigh anchor!
To sail beyond the doldrums of our days.
Though black as pitch the sea and sky, we hanker
For space; you know our hearts are full of rays.

Pour us your poison to revive our soul!
It cheers the burning quest that we pursue,
Careless if Hell of Heaven be our goal,
Beyond the known world to seek out the New!

THE UNFORESEEN

Harpagon watched his father slowly dying
And musing on his white lips as they shrunk,
Said, "There is lumber in the outhouse lying
It seems: old boards and junk."

Celimene cooed, and said, "How good I am
And, naturally, god made my looks excel."
(Her callous hear, thrice-smoked like salted ham,
And cooked in the fires of Hell!)

A smoky scribbler, to himself a beacon,
Says to the wretch whom he has plunged in shade-
"Where's the Creator you so loved to speak on,
The Saviour you portrayed?"

But best of all I know a certain rogue
Who yawns and weeps, lamenting night and day
(Impotent fathead) in the same old brogue,
"I will be good- one day!"

the clock says in a whisper, "He is ready
The damned one, whom I warned of his disaster.
He's blind, and deaf, and like a wall unsteady,
Where termites mine the plaster."

Then one appeared whom all of them denied
And said with mocking laughter, "To my manager
You've all come; to the Black Mass I provide
Not one of you's a stranger.

You've built me temples in your hearts of sin.
You've kissed my buttocks in your secret mirth.
Know me for Satan by this conquering grin,
As monstrous as the Earth.

D'you think, poor hypocrites surprised red-handed,
That you can trick your lord without a hitch;
And that by guile two prizes can be landed-
heaven, and being rich?

The wages of huntsman is his quarry,
Which pays him for the chill he gets while stalking.
Companions of my revels grim and sorry
I am going to take you walking,

Down through the denseness of the soil and rock,
Down through the dust and ash you leave behind,
Into a palace, built in one solid block,
Of stone that is not kind:

For it is built of Universal Sin
And holds of me all the is proud and glorious."
-Meanwhile an angel, far above the din,
Sends forth a peal victorious

For all whose hearts can say, "I bless thy rod;
And blessed be the griefs that on us fall.
My soul is not a toy, Eternal God,
Thy wisdom's all in all!"

And so deliciously that trumpet blows
On evenings of celestial harvestings,
It makes a rapture in the hearts of those
Whose love and praise it sings.