Tuesday, October 27, 2009

الاعتقالات في دول المخابرات خالص جلبي إيلاف

تاريخ 14 أكتوبر 2009م تم اعتقال المحامي هيثم المالح، بيد النظام المخابراتي الكالح، حيث كان يوما خالد بن الوليد يخلص دمشق من قبضة الروم والرومان، لتقع في قبضة الانقلابيين الحشاشين.
وجاء في حيثيات اعتقاله عقب حواره الهاتفي مع مذيع برنامج بانوراما على فضائية بردى، عن القبضة الأمنية التي تشتدّ من شهر إلى آخر، ومن سنة إلى أخرى في سوريا.. وقال أن أحوالنا في هذا العام هي أسوأ من العام الماضي، فالاعتقالات تزداد.. وأشار إلى نهب المال العام والفساد المستشري، واعتقال زميله الأستاذ مهند الحسني لمجرّد رصده للمحاكمات التي كانت تصدر في محاكمات علنية فتضايق منه الأمن واعتقله؟!!
وأن إعلان دمشق مثلاً ينادي بالتغيير السلمي الديمقراطي المتدرّج، وأن القوانين لدينا في الكتب فقط، وأن الكتب على الرفّ منذ زمن بعيد، وأن هناك تدمير مُدَبَّر ومُمنهَج لدمشق.
كما قال أنه لا يعرف من بيده الأمر في هذا البلد من أجل حلحلة مشاكل الناس، ومن بيده مفتاح المستقبل؟!!
وقال أنه ليس من حق الدولة أن تمنع جريان نهر بردى؛ فهذه جريمة بحق دمشق... ولكن مَن يحاسب مَن في هذا البلد؟؟
واستغاث المالح قائلاً.. أن دمشق تسير نحو التصحّر وما من مجيب!!.
وفي نفس إطار الحديث عن أزمة العشوائيات، قال المالح أن سوريا دولة غنية، ولكنها ابتُليت بنهب المال العام وبالهَدْر والتبذير الذي يجري من قِبَل السلطة.
وعن حال القانون في سوريا، قال المالح أنه لا يُطبَّق إلا على الضعيف في هذا البلد، بينما القوي لديه عدة وسائط وطرق لعمل أي شيء!!
وبقي المالح متفائلاً في حديثه قائلاً أن المستقبل مرهون بيد الشعب، وأن على الناس أن تدافع عن مصالحها، وأنه على كل مواطن أن يعي حقوقه ويدافع عنها.
وفي أواخر الحوار أضاف المالح أنه يجب أن لا نتنكّر عن الحقّ وإلا تدمّر البلد؟؟
وحاليا تحرك الانترنت في كل العالم لنصرة هذا الرجل الشيخ مذكرا بسقراط الذي سممته أثينا، أما في دمشق فلا حاجة لسم الشوكران لوفرة أفاعي الصل والأناكوندا سما والتقاما.
وهو محظوظ حاليا بسبب هشاشة النظام البعثي المحتظر المحتضر، فهو في وقت شباب النظام المتوحش لبث في السجن بضع سنين، ويروي عن سجنه أنه لم يسأل كلمة في دخوله ولا كلمة في خروجه، بعد ثماني سنوات عجافا ذهبت هباء من حياته.
وأنا شخصيا لي تجارب في الاعتقالات تجعلني أفهم الأوضاع تماما؛ قبل أن أغادر ديار البعث إلى يوم البعث.فقبل أن أغادر جحور الأفاعي تم لدغي بالاعتقالات مثنى وثلاث ورباع!!
وكان الاعتقال الرابع لي أنا وداعية السلام جودت سعيد، في طريقنا لزيارة صديقنا الذكي المثقف خالد حسون في السلمية، وصدف أن تحركت مظاهرة اعتراض في حمص؛ فتم مسح المنطقة على قطر ألف كم، من حلكو وعامودة إلى سمنين وبير عجم، ومن الكلّة و(تركمان بارح) حتى نصيب ونصيبين.
تم اعتقال الآلاف على شكل (احترازي) وكان نصيبنا الفلق وتحطيم الأسنان بالبوكس الحديدي، حتى صلحت نابي المحطم في أرض الفرنسيس والجرمان.
وكان الشباب (الطيبة) يضربون بمتعة بالغة، وما زال في خيالي وجه جودت المحمر من صفعة هائلة!!
وسبق ذلك ثلاث اعتقالات الأولى حين زربنا ثلاثين وقوفا، في غرفة تتسع لسبع أنفار، وكان معنا مصاب بالبروستات فبال على الأرض تحت أقدامنا فنمنا في مستنقع؟؟
كان ذلك في قبو المخابرات العسكرية في القامشلي، وأنا أتهيأ لاجتياز أهم امتحان في حياة الطالب البكالوريا؛ فهي من تحدد مصير ومسار الطالب إلى أين؟
بعدها دخلت الطب وما زلت أمارسه حتى الساعة، فلا أمان للمفكر إلا في شاطئ المهنة، والويل للمفكر إن عول في رزقه على مهنة الكتابة وحرفة القلم والارتزاق منها، فمصيره في بطن حوت الدولة، أو سمك قرش أمير أو رفيق، أو أفعى أناكوندا من مؤسسة متهالكة، ومسئول فاسد متنفذ.
وأفرج عني قبل الامتحانات بـ43 يوما، فكنت أمر كل صباح بجنب قلعتهم وهم يلوحون لي بالقبضات العسكرية والبساطر!!
وفي مثل هذا الجو من الضغط النفسي، وتحت شعور المطاردة قدمت الامتحان في الحسكة، وكنت الأول في المنطقة؛ فتحركت إلى العاصمة الجميلة دمشق أدرس فيها الطب، ولم أعلم أن علي ثلاث زيارات منحوسات أخرى إلى فروعهم، التي تعطيك اليقين بوجود جهنم، وبذلك فقد أحيت لنا المافيا إيماننا بالقيامة وسقر؟؟
الأولى كانت حين تم اقتحام المسجد الأموي بالمصفحات والطبنجات والرصاص، وتم زرب خمسة آلاف شخص في المسكية، عند مدخل المسجد في مساحة تتسع لمائة نفر!! وساعدت طفلا من الاختناق حين رفعته فوق رأسي!!
وتعرفت يومها على معتقل الرعب الأول (سجن المزة العسكري) وقضيت فيه ثلاث أضعاف فترة القامشلي 39 يوما، ويومها فاجأنا (أمين الحافظ) أبو عبدو الملقب بـ (الجحش) فنظر في الزاوية؟ وقال من هؤلاء؟ قالوا له طلبة جامعة؟ قال يتحملوا لا تقصروا فيهم؟؟ فهجم علينا جلاد أول شيء فعله نتف لحية طالب شريعة فلسطيني ساقه حظه العاثر إلى هذه المزبلة.
أما الاعتقال الثالث فكان علي رؤية جلاد من كلاب جهنم هو الطحطوح؟؟
وكنت شاهدا في كراكون الشيخ حسن على حفلات تعذيبه الليلية، فالرجل (السيكوبات) أبو فواز ؟!! كان مولعا مثل دراكولا بالقدوم نصف سكران عند الفجر، فلا تطلع الشمس إلا على ملسوع أو مفجوج أو مفدوغ أو مهشم العظام مكسر الأسنان، أو واحدا مثلي مشبوحا إلى حائط يحمل على كتفيه دولاب سيارة في تعذيب مستمر لأيام؟؟
وسمعت عنه أنه هذه الأيام قد أصبح تاجر عقارات مرموق من أموال الضحايا؟؟ فقد خدم وتعب ويأكل رزقه من عرق الجبين والجلد؟؟
أما في سجن القلعة فله رواية رعب رائعة؛ فقد غنى المعتقلون يوما يا ظلام السجن خيم إننا نهوى الظلاما!! فقدم مع الزبانية، فأخرج الجميع وحاجاتهم البائسة، ثم صب المازوت والكاز على أمتعتهم وطعامهم الهزيل، ثم أمرهم بالتدحرج والتقلب عليها مثل ألأفعوان، ثم أمسك بشاب راقه الضرب على رأسه، فما زال يضرب على اليافوخ، حتى فار الدم، ووقع في نوبة تشنج صرعية، فما زال يعاني منها حتى اليوم؟؟
وأبو فواز كان يحب الضرب على الرؤوس كما رأيت ذلك في حفلة أبو راكان في سجن الشيخ حسن.
بجنب مقبرة الدحداح اجتمعنا بالأموات الأحياء، وحشرت في انفرادية لمدة 54 بدون ذنب وجناية سوى التقارير السرية والشبهة والحكاية!!
إنها أيام خالدات لا تنس يجب رواياتها لأولادنا وأحفادنا وذرارينا من بعدنا، وتسجيلها وتوثيقها وإنشاء مركز استراتيجي لها، كما فعل وايزمان مع حكايات النازيين، والتقاطهم على مدار قطر الكرة الأرضية ولو بعد ثمانين عاما؟؟
يجب حفظها وروايتها حتى لا تُنس قط، وتعرف الأجيال ثمن الحريات!! فمسلسل الدياسبورا وروايات الفاشيين والنازيين البعثيين مع قصة المالح في ظل النظام الكالح لم تختم بعد؟؟
يجب نصب تذكاري لمصرع الألف في ليلة، في تدمر، وكما فعل الكنديون عند حدود بلجيكا فرفعوا نصبا هائلا يحمل جناحيه أسماء كل القتلى في الحرب الكونية، وكذلك يجب أن يفعل السوريون عند بقايا زنوبيا في تدمر؟؟
إن مشكلة الأنظمة الشمولية أنها تخضع لقوانين دول المخابرات وليس الدستور كما طالب المالح فتحول إلى قالب ملح في بطن الحوت؟
ولكن ما هي قوانين المخابرات؟
عندما اعتلى الثعلب (محمد علي باشا) كرسي الخلافة في مصر عام 1805 م طلب من وزيره الأرمني (آرتين) أن يترجم له من الإيطالية كتاب (الأمير ) لمكيافيللي.
وينقل (علي الوردي) في كتابه (تاريخ العراق الحديث) عن الوزير أنه كان يترجم له كل يوم عشر صفحات، حتى كان اليوم الرابع حينما استوقفني قائلاً:
"لقد قرأت كل ما أعطيتني إياه من مكيافيللي؛ فلم أعثر على شيء جديد يذكر في صفحاتك العشر الأولى، إلا أنني كنت آمل أن تتحسن الحال.
لكن الصفحات العشر الأخرى لم تكن أفضل. أما الأخيرة فليست سوى مجرد عموميات.
إنني أرى بوضوح أنه ليس لدى مكيافيللي ما يمكنني أن أتعلمه منه؛ فأنا أعرف من الحيل فوق ما يعرف. فلا داعي للاستمرار في ترجمته"
وفي كندا روت لي طالبة كانت تدرس العلوم السياسية في جامعة (مك جيل) في مونتريال، أن الأستاذ وقف يوما فقال هل تعلمون كيف يحكم فلانا وذكر أحد الأنظمة الاستخباراتية؛ فبدأ الطلبة الكنديون الأبرياء الذي عاشوا عمرهم في الديمقراطية يعصرون أدمغتهم في محاولة استحضار كل أساليب الشيطان الممكنة.
وفي كل مرة يضحك الأستاذ من سذاجتهم ويقول لا.. لا.. إنه أذكى منكم جميعا؟!!
ثم بدأ يشرح بشكل ماكينة الحكم والعبقرية الإستخبارتية التي وصل إليها قائد البلد المنكوب.
وكان تحت قانون التنين بسبع عشرة رأساً كما سوف أشرحها.
يجب فتح العين على حقيقة مفزعة أن المواطن وصل إلى مرحلة مطبقة من اليأس، وهو مستعد أن يتقبل أي وضع يغير وضعه، فلم تكن أمريكا لتأتي لولا ذلك، وحين يجتمع النمل أو تحلق النسور، فحول جثة ذبابة وجيفة بقرة، ولكن المشكلة أن هذه (غريزة) وليست (وعياً)؛ فعندما فرت الديناصورات من يوكوتان عندما ضربها المذنب قبل 65 مليون سنة، هلكت بالشتاء النووي.
وعندما زال (صدام) جلس (مصدوم) محله.
إنه من المهم أن يفتح المواطن عينيه على الواقع المدمر المليء بالإحباط فهذا وعي مقدس، وجميل أن يتعذب فيضرب ويهان على يد كلاب جهنم من الجلادين، وتكسر أسنانه وتطحن عظامه، لأنه لاشيء يبقى في الذاكرة مثل الألم. ولا شيء يطهر الإنسان مثل الألم. ولاشيء يحرض على تغيير الظلم مثل الألم.
والألم هو الذي غير غاندي حينما رمي في تلك الليلة الباردة من القطار لأنه جلس في مكان البيض درجة أولى؟!
ويجب استيعاب أن الوطن لا يبقى وطنا مع تبخر أمن المواطن، وإذا وصلت الأمور إلى هذه الحافة؛ فيجب على المواطن أن يوطن نفسه على أمرين: فإما غادر المكان وهاجر، والتحق بوطن جديد فيه حرية.
وإما كرس نفسه واستعد للمقاومة، وإلا حاقت به لعنة الله والملائكة والناس أجمعين.
ويجب أن تكون المقاومة مدنية، والاستعداد بالتخفف من كل ثقل، مثل سفينة تواجه الإعصار؛ فتلقي كل حمولة زائدة، لأن أي متعة لن تبق متعة، وكل طفل يولد سيولد للمعاناة والفقر في ظل الظروف الديكتاتورية. وفي يوم هرب تركماني في شمال العراق بعد أن تم طلبه لقذفه في أتون الحرب الإيرانية؛ فصعد للسطح وهم بإلقاء طفلته الرضيعة من السطح، وهو ينظر في السماء ويقول أي حياة تنتظرها وأي مستقبل لها؟
ولكن هاتفا هتف به أن يرفق بالرضيعة فنجت من الموت.
ثم ترك بيته وما يملك، وهرب مع تسعة من أفراد عائلته عبر جبال كردستان، وهو يردد لعنة لوط ولا يلتفت منكم أحد وامضوا حيث تؤمرون.
ويجب أن لا نخش من السجن بل نعتمد استراتيجية تفجير السجن؛ فالنظام لا يمكنه أن يسجن عشر الأمة.
ويجب أن نعالج الأوضاع ليس بالكراهية؛ فالطبيب الذي يعالج مريضه يحقنه الدواء ولا يكرهه.
ولو فعلت المقاومة في الجزائر ضد الجنرالات المتفرنسين هذا لما مات عشر معشار ما مات حتى الآن.
والأهم ولادة الأمة على نحو سليم محررة من علاقات القوة. لأن من أخذ الأمور بالسيف بالسيف يهلك، ومن أزال القوة بالقوة سقط رهين القوة. ومن أزال اللاشرعية ونظام المخابرات استبدل السافاك بالساماك، كما فعل الملالي في إيران.
ويجب أن لا نراهن على المصالحة، لأنها تدخلنا اللاشرعية حيث نظام المخابرات يتغذى على الدماء مثل الدراكولا، بل يجب تغيير البنية الأساسية في الحكم والتربة الثقافية.
فهذه قوانين وجودية.
في العالم العربي قانونان الأول اسمه الدستور وهو مكتوب.
والثاني اسمه قانون المخابرات وهو خفي وعملي وغير مكتوب.
ولكن الحياة لها قوانين عملية ولا تأبه بالمكتوب، ولذا فإن حياة المواطن تخضع لقانون المخابرات، مثل قوانين القراصنة سابقاً، مع فارق أن القرصان الجديد إذا صعد إلى سطح السفينة تلوا عليه قانون القراصنة. والناس مثل المالح تتحدث عن القانون المكتوب؟؟
ينص قانون المخابرات (غير المكتوب ؟؟) على سبع فقرات مثل أبواب جهنم السبعة، لكل باب منهم جزء مقسوم. وهذا القانون غير المكتوب سوف نحاول كتابته.

(1) الفقرة الأولى:
اعتماد الكذب هادياً ودليلاً؟؟
فيجب أن يكذب العنصر على زوجته التي في حضنه. وتحت آلية الكذب؛ فيجب أن يكذب ولو لم تكن هناك حاجة للكذب. وفي يوم اعتقالي الرابع كانت زوجتي تسأل عن مصير زوجها؟ فقال لها المجرم عدنان الدباغ: هو بخير وسنفرج عنه بعد أيام؟!
ولكن لم يكن زوجها (بخير) قط بل كان يفلق ويحرق وتكسر أسنانه ولم يفرج عنه إلا بعد سنة.
والشاهد أن الجبار رئيس الفرع الأمني قوي، ولا يحتاج للكذب، ولكن الكذب أصبح في دمهم مثل الكريات الحمراء، فلا يتنفس ولا يزفر إلا كذبا.
وفي النهاية مات عدنان الدباغ الجبار رئيس فرع المخابرات العامة حتف أنفه مختنقا بسرطان الرئة، مثل أي كذاب أشر، ويوم القيامة هو من المقبوحين.
ومن الغريب أن رجل المخابرات يسّود وجهه مع الوقت، بما عانت نفوسهم، فطبعت النفس بصمتها على الجباه.
وهي ظاهرة يعرفها من رآهم وعرفهم.
وفي القرآن تغشى وجوههم قطعا من الليل مظلما...
وهي تحتاج لدراسة بذاتها.

(2) والفقرة الثانية من القانون الاستخباراتي تقول:
لا ضمانة لأي شيء أو إنسان في أي زمان ومكان.
وتطبيق هذه الفقرة هي استباحة المواطن في كل شيء، والمخابرات هنا ليست وظيفتها التجسس للخارج، بل التجسس على المواطن.
وفي ألمانيا الشرقية كان (الستازي STASI) جهاز الاستخبارات عنده عشرين ألف غرفت للتنصت على المواطنين. وزجاجات فيها روائح المعارضين فقد ثبت احتفاظها بالرائحة وصمودها وزيادة تركيزها مع الوقت، وليس أسهل من شمشمة الكلاب الرائحة ثم إطلاقها على المعارضة والمعارضين..
وهو يذكر بمرض خطير في الطب في التهاب اللوزات، تحت قانون حاميها حراميها؛ فهي بالأصل خلقت كجهاز للدفاع عن الجسم، ولكنها مع الوقت تتحول إلى وكر للجراثيم؛ فترسل الذيافين والسموم إلى كل الجسم فتلحس المفاصل وتعض القلب وتعطب الكلية.
والأطباء عندها يلجئون إلى الجراحة فيستأصلون اللوزات. وهو ما فعله الشعب الروماني مع السيكورتات التي خلقها تشاوسسيكو اللعين. بعملية جدا دموية
وتحت الفقرة الثانية يجب ترويض المواطن، وترويعه، واقتحام خصوصيته، والاستيلاء على الفاكس في بيته، ومصادرة سيارته (وموتورسيكله كما فعلوا معي) ونهب ممتلكاته المنقولة وغير المنقولة، وإخضاعه للرب الأعلى الذي اسمه الحاكم لأنه ظل الله على الأرض. ويجب أن يرى المواطن المخابرات في المنام وأثناء مضاجعة زوجه تلوح في الأفق مثل ملائكة العذاب فتعكر كل حياته.
نعم يجب إدخال القلق وداء الرعاش وعدم الهدوء إلى ضمير المواطن، ويجب أن يشعر بهم، ولو هاجر إلى كندا، واختفى في غابات يوكوتان، وجزيرة كمشتكا وبتاغونيا.
وفي يوم اعتقالي وكنت طالبا جامعيا فقير الحال مع موتورسيكلي الذي أتنقل به، فلما أفرج عني لم أستطع المشي من تيبس المفاصل، فقد كنا مزروبين عشرة في غرفة لشخصين؟ وكان موتورسيكلي أشلاء فقد استعمله رجال الفرع بمتعة وتدمير طول فترة الاعتقال.
وإذا استبيح الإنسان فما معنى أغراضه التافهة؟

(3) والفقرة الثالثة:
تنص على استخدام أي أسلوب للوصول إلى المعلومة ولو تبق معلومة.
وتطبيق مبدأ (الحلاوة والكرباج)، أي (حلحلة) المواطن بين قطبين من الترغيب المعسول والتهديد الماحق. وأي أسلوب مشروع. وكل حديث عن القيم ليس بقيمة. وكل المحرمات مسوغة. وإذا تطلب اغتصاب زوجة المستجوب فعلوا ولم يترددوا، ويجب أن تكون بحضوره.
وكان لينين يعطي تعليماته بشنق المعارضين بعد انتقاء كرام القوم وبحضور الناس أجمعين.
وفي يوم طالب فرع الأمن السياسي مني مراجعته بورقة صفراء ممزعة قبيحة ناولوني إياها من بوابة المطار، لمراجعة الفرع 223 ؟!! والأرقام كثيرة؟؟!!
لاكتشف أن الأمر يعود إلى تقرير كيدي، من امرأة طلقها زوجها قبل عشرين سنة.؟!!
وعندما راجعتهم بدأوا من نقطة الصفر، فلعلهم يفوزون بشيء جديد ينافسون به الفروع الأمنية الأخرى، بعد أن تحول المواطن إلى حمار لم يبق على ظهره مكان للركوب.
بدأوا أولا في السؤال عن نوع الحليب الذي تغذيت به في الطفولة هل كان سيريلاك أو سيميلاك؟؟
وفي النهاية بعد مراجعة مضنية لمدة 17 يوما، قالوا لي كان بإمكاننا اعتقالك من الحدود؟ قلت نعم أشهد بذلك.
قالوا له إن الأمن في بلدنا مستقر!! يشهد بهذا القاصي والداني؟؟ قلت لهم نعم أشهد...
وهمست بيني وبين نفسي؛ إنه هدوء يشبه سكون المقابر؛ فلم يبق مواطن، بل قبور تبلع، وحفّار جاهز بالرفش وجثث تتوافد.
وعندما صعدت الطائرة وأنا أنفض عني غبار الاعتقال، كان بجانبي راكب باكستاني، قلت له ما الذي لفت نظرك في بلدنا؟
تردد الباكستاني ثم ابتلع ريقه وقال لم أر هدوءً وأمنا مثل هذا البلد!!
ثم تنحنح وتابع، ولكن صور الزعيم كثيرة جدا في البلد؟!
وفي صالة مستوصف حقير في خان أرنبة وهي قرية حدودية تافهة، كان على الجدران 17 صورة للقائد الأبدي وابنه، ولا ديمومة إلا لله، واليوم أصبح وجه القائد طعاما للدود؟؟

(4) الفقرة الرابعة:
الشك والشك بدون حدود.
وعندما انتشر تنظيم العباسيين في خراسان كان أبو مسلم زعيم عصابة المخابرات، وكانت التعليمات تقضي بأن يقضى على كل مشتبه به، ولو كان طوله خمس أشبار.
وفي يوم قال ضابط أمني لواحد، هل تعلم لماذا ضحك عليكم الزرزور وكان تاجرا جمع أموال الناس بدعوى الربح السريع الوفير؟!
وكان منهم قسم من أفراد عائلتي وضعت في يده مليون ريال!!
قال: لأنكم تثقون ونحن لا نثق بأحد، ولو زوجتي التي في حضني، وابنتي التي ربيت؟!!
إنها كائنات مشوهة، كما جاء في رواية التحول عند (كافكا) فأصبح الإنسان صرصورا بحجم فيل له خرطوم طويل وذيل وثيل؟؟

(5) الفقرة الخامسة:
مسك الناس بقانون الرعب!!
فيجب ضرب أبشار الناس، ونشر أخبار الضرب، وبكل سبيل يوعدون ويصدون عن سبيل الله، وعلى كل منبر ووحيا، من بين الأسطر والتعبيرات، ونقل هذه الأخبار عن طريق المجندين من خلاياهم السرية، ومن سار في دربهم إلى يوم الدين؛ فالأفعى تتغذى على هذا القانون. والضفدع الذي يرى الثعبان يتجمد من الرعب فيلتهمه الثعبان.
وعندما دخل المغول بغداد، كان الجندي المغولي يمسك العشرات لوحده فينبطح الناس للنطع والسيف.
وفي أحد الحفلات افتقد الجندي سلاحه فلم يكن على جنبه؟! قال لهم امكثوا ولا تبرحوا، قالوا سمعا وطاعة، فغاب ساعة، ولم يفكر أحد بالهرب. فعاد وذبحهم بشفرة حادة فلم يتألموا كثيرا.
وفي ألمانيا بعد أن عرض فيلم الهولوكوست عام 1982م ذكر يهودي تجربته، أنهم كانوا يؤخذون إلى خنادق الموت وحفر القبور الجماعية والرشاشات تحصد من قبلهم، وما زال فيهم ولو (جزيء Molecule) ـ شدد وعصّب عند هذه الكلمة ـ من أمل أنه ربما عفي عنهم؟!
ولم يتحولوا في معتقداتهم حتى أطبق عليهم اليأس.
ومن أساليب المخابرات قانون (الفنتيل) أي (التنفيس) وعدم إيصال الأمة إلى حافة اليأس، كما في مسرحيات الكوميديا للعظمة والطوشة، فهم يرتزقون، أما رياض الترك ففي الانفرادية 17 عاما، لأن بعدها الطوفان. وهو ما أشار له أتيين لابواسييه في بحثه عن جذور الاستبداد في كتابه العبودية المختارة أن أسلوب التلهية اعتمده أباطرة الرومان، ومن أجل هذا بني الكولوسيوم فقتل في مائة يوم خمسة ألف من الحيوانات الضواري ومعها عشرة آلاف مجالد؟؟ واليوم استبدلت بفرق كرة القدم؟؟
والمجرم يريد حلب الناس إلى يوم القيامة ولذا فهو يسمح بالتنفيس مثل المسلسلات المضحكة، أو الاستعراضات لمجالس شعبية، وانتخابات مزيفة، ومظاهرات مسيرة من الباب للمحراب، لصناعة مجالس قرود يمكن أن تغير الدساتير في اللحظة الحرجة في دقيقة أو دقيقتين، فهي لهذا صنعت، ومن أجل هذا بنيت، وهي ضحكة كبيرة يطلقها الطاغوت من فم ابتلع كل العباد.

(6)الفقرة السادسة:
الوصول بالمواطن إلى (التوبة النصوح) حسب شروط فقهاء العصر العباسي؟؟
بمعنى الندم عما فعل، والاعتراف بالخطأ، وأن لا يعاود النشاط للمستقبل، وأن يفتح كتاب (النبات) ويدرس (وظائف) النبات؛ فيكون النبات له قدوة؟!
مثل هل يتغذى النبات ويتكاثر؟ الجواب نعم.. إذا على المواطن أن يتغذى ويتناسل مثل الأرانب لإنتاج مزيد من العبيد.
ومثل هل يتحرك النبات أو يحرك؟ والجواب لا يتحرك ولكن يُحرَك مثل نقل النباتات من نافذة لأخرى. إذا على المواطن أن لا يتحرك في مظاهرة بل تحركه يد المخابرات.
ومثل هل يفكر النبات؟ والجواب لا النبات لا يفكر قط.
وعلى المواطن الصالح أن لا يفكر، لأن التفكير خطير، ومصيره أن يصبح نزيل أقبية المخابرات، يرفس بالغدو والآصال.

(7) قانون التنين:
بمعنى خلق كائن أسطوري له تسعة عشر رأسا.
وفي مونتريال في كندا كان أستاذ العلوم السياسية يشرح للطلبة هذا القانون، وهو أن رئيس العصابة يسخر الفروع الأمنية، أن تعمل بشكل غير مركزي. وتتنافس فيما بينها. ولا يوجد تقاطع في المعلومات. ولا أحد يعطي معلومة لأحد. وكل يعمل بذراعه وحافره ورجله ومسدسه.
وكل يركب المواطن من الأمام أو الخلف بالطريقة التي يشتهيها.
وأن نسبة القتل المسموح بها 6%؟!
وأنه مسموح لهم باعتقال من يشاءون، بالكمية التي يرغبون، ولكن إطلاق عصفور ويعسوب تتم بيده ومذيلة بتوقيعه.
وبذلك يتحول البلد الواحد إلى 19 دولة، وينقلب الوضع إلى قبائل أمنية، بفارق أن القبيلة الأمنية مضاربها كل البلد، وشيخها يمسك أي مواطن، في أي لحظة؛ فيفعل به ما يشاء.
عندما سمع الطلبة الكنديون ذلك فتحوا أفواههم من الدهشة ولم يعقبوا.
يختلف العرب في كل شيء إلا الموضوع الأمني، ولذا تسامر وتحابب وتصاهر رؤوساء الفروع الأمنية في العالم العربي، ونشأت بينهم علاقات القربى الحميمة وزواج ومصاهرة مع الحريم والشيطان.
والكل معه جواز سفر كندي أو أوربي له ولذريته من بعده، تحسباً ليوم الزلزلة إذا زلزلت الأرض زلزالها؟
والكل عنده حسابات سرية بأسماء سرية للزوجة والذرية، في البحرين واليونان وليشتن شتاين، ليوم الفصل وما أدراك ما يوم الفصل.
ويل يومئذ للمكذبين.
والكل يرسل أبناءه إلى دول الاستعمار والرأسمالية، وهو يحارب الاستعمار والرأسمالية على الورق، وفي المظاهرت المزيفة.
وإذا وقع مواطن عربي في يد واحد منهم، قاموا بتسليمه لبعضهم بأريحية عربية وكرم حاتمي، ولا حرج من حفلة دربكة على جلده، كما فعل بعرار السوري الكندي، المشحون من أمريكا، عبر بوابة خلفية من نظام ملكي رجعي إلى نظام تقدمي ثورجي من جبهة الصمود؟!.
وبقدر اختلاف الأنظمة العربية ونزاعها، بقدر توافقها وتفاهمها الاستخباراتي.
فهي مسألة بقاء ونزع الروح؟؟
وفي يوم كنت على حدود بلد عربي، فأرادوا إلقاء القبض علي، فتعجبت وقلت لهم لعل في الأمر خطأ؟؟ قالوا لا ..
ثم قالوا لي ألست أنت خالص جلبي الملقب بكنجو، من أيام المدرسة الثانوي؟!
قلت نعم وأهنئكم على ذلك.
وقلت في نفسي إن ملفي لا شك أصبح عند الموساد.
بعد أن اغتال سليمان الحلبي الجنرال الفرنسي (كليبر) قلبوا مصر بحثاً عنه، حتى وجدوه بجانب جدار يصلي، ومعه المدية ملطخة بالدم. ولكن نهايته كانت عجيبة كما ذكر ذلك المؤرخ المصري (عبد الرحمن الجبرتي) في كتابه، فقد تمت محاكمته على الطريقة الفرنسية، ولكن تنفيذ الحكم تم بطريقة المماليك حرصا على التقاليد المحلية، فشويت يده، ثم وضع إسته على الخازوق بالطريقة العصملية؟؟
مع كل الظلام المطوق للضمير العربي فمن المهم أن نعرف ثلاث حقائق:
(1) الأولى أن عصر الجليد انكسر وذاب. وأن عصر الديناصورات انقرض وولى. وأنهم يكافحون حتى الرمق الأخير للاحتفاظ بامتيازاتهم.
وأنهم يشبهون ساحرات العصور الوسطى، فيقاتلون بمكانس القش الأطباق الطائرة من فوقهم، تطير بسرعة الضوء.
ومع أنهم ينفقون أموالهم لمراقبة الانترنيت، أكثر مما أنفقوا لبنائه، فسينفقون أموالهم للمخابرات، ثم تكون عليهم حسرة، ثم يغلبون، والذين كفروا إلى جهنم يحشرون.

(2) والحقيقة الثانية الاستعداد للمقاومة المدنية، وعدم اللجوء إلى استخدام القوة والسلاح والعنف، لأنهم يتمنون ذلك، ونكون بذلك دخلنا بطن الحوت من جديد، من حيث أردنا أن يلفظنا من جوفه، كما فعل مع النبي يونس.
(3) والحقيقة الثالثة أن هناك جوهر صاعق وسر مكنون في الإنسان، لا يمكن إطفاء سراجه.
وسحرة فرعون كانوا يريدون المال؟؟ فقالوا أئن لنا لأجراً إن كنا نحن الغالبين؟ ولكن فرعون أضاف إليها المراكز الحزبية والنفوذ؟!! فقال نعم وإنكم لمن المقربين.
ولكن خلال لحظات انقلبوا سجدا لله رب العالمين، وقالوا لفرعون اقض ما أنت قاض إنما تقض هذه الحياة الدنيا.
فهذا السر الرائع من تمرد الإنسان، هو الذي يصنع التاريخ، وهو الذي نراهن عليه.
ولتعلمن نبأه بعد حين.
وفي النهاية فإن نظام المخابرات يشبه السرطان؛ فيقضي على نفسه بنفسه، حينما يبلغ الحجم المدمر، وهو ما أشار إليه فوكوياما في كتابه (نهاية التاريخ) أن النظام السوفييتي شعر بالخطر من جهاز الرعب، الذي يسمى الأمن مقلوبا، فعمد إلى تفكيكه، بعد أن أصبح يعيد قصة فرانكنشتاين.
وهذا المصير سيلحق جمهوريات البطالة والرعب والمخابرات، كما سيلحق أمريكا بأجهزتها التنينية، ولن ينجو من هذا المصير ملكيات وممالك ومشيخات وجمهوريات وجملوكيات المنطقة..
وإن عدتم عدنا وجعلنا جهنم للكافرين حصيرا. إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم ويبشر المؤمنين الذين يعملون الصالحات أن لهم أجرا كبيرا..

Saturday, October 24, 2009

Seven Pillars of Wisdom, T.E. Lawrence (2)

This is a lovely account about the status of slaves in Arabia. Lawrence says:
"When we awoke we found a meal of bread and dates prepared for us by the people of the house. The dates were new, melting sweet and good, like non I had ever tasted. They told us that the locusts had made of them a small crop this year. The owner of the property, a Harbi, was away like his neighbours serving with Feisal, and his women and children were out in the hills in his goat-hair tents, pasturing his camels. At the most the tribal Arabs of Wadi Safra lived in their village houses four months in the year. For the other seasons the gardens were entrusted to their slaves, negroes like the grown labs who brought in the tray to us, and whose thick limbs and plump shinning bodies looked curiously out of place among the bird-like Arabs. Khallaf told me the blacks were all originally from the Sudan, brought over as children by their nominal Takruri fathers, and sold in Mecca during the pilgrimage. When grown strong they were worth from fifty to eighty pounds apiece, and were looked after carefully as befitted their price. Some were kept as house or body servants with theirs masters, but the majority were sent out to the palm villages of the feverish valleys with running water, whose climate was too bad for an Arab to labour in, but where they flourished, and built themselves houses, and mated with women slaves, and did all the manula work of the holding.

They were very numerous - for instance there were thirteen villages of them in forty miles of this Wadi Safra - so they formed a society of their own, and had power to live much at their pleasure. Their work was hard, but the supervision loose, and escape easy. Their legal status was bad, for they had no appeal to tribal justice, or even to the Sherif's courts, but public opinion and self- in terest deprecated any cruelty towards them, and te tenet od the faith that to enlarge a slave was a good deed meant in practice that nearly all gained their freedom in the end. They made pocket money of their own during their serviece, if they were ingenious. Those I saw were in pissession of property, and declared themselves contented. Wadi Safra had become their country, and they had no thought of leaving it. They gre melons, marrowsm cucumbers, tobacco and grapes, for their own account, in addition to the dates they owed to their masters. These masters were all Beni Salem...(ch14)

"Yet the craving for solitude seemed part of the delusion of self-sufficiency, a fictitious making rare of the person to enhance his own strangeness in his own eyes." (ch27)

Tuesday, October 13, 2009

Seven Pillars of Wisdom, T.E. Lawrence

They were the least morbid of peoples, and accepted the gift of life unquestionably, as axiomatic. To them it was a thing inevitable, entailed on man, a usufruct, beyond control. Suicide was a thing impossible, and death no grief. (CH5).

The desert Arab found no joy like the joy of voluntarily holding back. He found luxury in abnegation, renunciation, self-restraint. He saved his own soul, perhaps, and without danger, but in a hard selfishness (5).

Sunday, October 4, 2009

المثقف الرابع! خيري منصور 10/2/2009

هناك حكاية ذات مغزى عميق تروى عن ثلاثة من الأنذال، صادفوا في طريقهم امرأة جاوزت الثمانين، وقد احدودب ظهرها وحفرت الثمانون تضاريسها في الوجه الذي برز منه الأنف وغارت العينان، وقرر الثلاثة أن يتنافسوا على لقب أنذل انسان في التاريخ، فاقترب الاول منها وضربها حتى سقطت مغشيا عليها وقد تضرجت بدمها، وعلى الفور أعقبه الثاني الذي قال بأنها تحولت الى سلحفاة مقلوبة على ظهرها فأجهز عليها حتى الموت ..
عندئذ لم يبق أمام الثالث ما يتفوق به على الإثنين، لكنه صاح بصوت من حقق نصراً: إن هذه العجوز هي أمي. لهذا استحق لقب الأنذل بين الابناء في تاريخ البشرية ...
عندما قرأت هذه الواقعة خطر ببالي النذل الرابع الذي شاهد ما جرى ورواه بلا أي تدخّل، فلم يكن في تلك الايام أقمار صناعية او هواتف نقّالة تصور ما يحدث، إذ لا بدّ من شاهد عيان... وهذا الشاهد هو الرابع، وحين كتبت الاسبوع الماضي في هذه الزاوية الحرجة عن المثقفين الثلاثة ادركت على الفور ان هناك مثقفا رابعا يشهد، ويصنّف ويروي ويصف أيضا، قد يكون الكاتب ذاته او ما يرشح من لا وعيه، لهذا اصبح لزاما على من يكتب عن الثلاثة، سواء كانوا من الأنذال او الفرسان او أثافي الثقافة الرمادية، ان يحدد موقعا وموقفا، ويتطلب هذا قدرا من الاعتراف، والشهادة عن وقائع وسياقات عيشت في نظم تزعم بأنها تقدمية رغم ما انتهت اليه من شمولية، ونظم أخرى تعيش ما قبل الدولة، ونظم ثالثة تراوح بين اشتراكية خجولة ورأسمالية متوحّشة...
لقد شهدت الأنماط الثلاثة من المثقفين عن كثب وأتاحت لي الظروف هامشا مرتفعا الى حدّ ما يحيط بالمشهد على نحو بانورامي. المثقف الداجن او اللاحم تبعا لمصطلحات اللحم الأبيض يؤدي التحية كل صباح وقبل أن يذهب الى الجامعة او الوظيفة للتمثال الهندي، الذي لا يرى ولا يسمع ولا يتكلم... وهناك فنان آسيوي اضاف الى هذا الثالوث بعدا رابعا عندما حوّل التمثال الى خنثى، فلا هو ذكر ولا هو انثى، بل هو أشبه بنوع من الضباع او الأفاعي ذات الجنس المزدوج، وهذا المثقف يحفظ عن ظهر قلب وبثقة الماكناغارتا والعقد الاجتماعي لروسو ويحفظ خطابات دانتون، ولابد انه قرأ عن روبسبير ونهاية لافوازييه حيث سقط رأسه المقطوع في سلة كانت قرب الجلاد. ويعرف هذه الاشياء وغيرها، لكنه يعتقد أنها لا تخصه، فالغضب للآخرين، وكذلك الحزن والموت، اما هو فلا شأن له بما يقرأ او يسمع، وقد تكون ردّة فعله الوحيدة على قراءة احصاءات الجوع او الوجبة الاخيرة لمن قضوا جوعا وهي ما تبقى من أسمالهم هي التجشؤ والتسبيح بحمد من وفّر له القمح والشعير.
انه يسعى لنيل شهادة حسن السلوك من الأبوين والأبناء والقبيلة والدولة، ويحرص على ان يكون عديم اللون والطعم والرائحة، بحيث يتنقل بحرية ودونما اعتراض من أحد او حدود ...
وقد تكون رواية حضرة المحترم لنجيب محفوظ مثاله الحيّ والأبدي، بحيث لا يريد اكثر من البقاء على قيد وظيفته والحصول على ترقية حتى لو كانت تافهة قبيل الموت بأيام وفي لحظات الاحتضار .

* * * * *
مثال المثقف الثاني وأمثولته معـاً زكريا بطل مسرحية الراحل سعد الله ونّوس 'الفيل يا ملك الزمان'، فهو يقبل بالتضحية شرط ان يكون الآخرون جديرين بدمه، لكنه يكتشف في اللحظة الحاسمة ان المجتمع يريد ان يحوله الى كبش فداء، ثم يتخلى عنه، لهذا عندما طلب منه أهل القرية ان يشكو للملك من الفيل الذي يقتل عددا من الاطفال كل يوم، حاول ان يبدأ، لكنه نظر حوله وخلفه فلم يسمع احدا، عندئذ قرر الانتقام، وهو مديح الفيل، ومناشدة الملك بأن يزوّجه كي تكون هناك عائلة من الفيلة تقتل اضعاف عدد الاطفال يوميا وهي تمشي في أزقة القرية ...
المثقف اليساري الذي اعتذر تحت عناوين من طراز كنت شيوعيا، او عاد اليّ الوعي، او أدركتني التوبة، وظّف خبرته وذكاءه وامتيازه الثقافي لصالح من ادّعى ذات يوم بأنهم خصومه التاريخيون، لهذا اصبح اشدّ فتكا وخطرا من العسس الأميين، وقد تكون الأوبئة التي اصابت ثقافتنا العربية في عقدي السبعينات والثمانينات من القرن الماضي سببها هذه الفيروسات الرشيقة، وسريعة التأقلم، فهي تعرف اكثر من سواها اسرار الرفاق القدامى.
ان ظاهرة زكريا تجلّت مرارا لكن ليس على صعيد بشري خالص، فثمة من انتدبوا للشكوى من ديكتاتور او سلطة غاشمة، لكن اصابهم ما اصاب زكريا من زوغان البصر وهم يجلسون بين أعمدة الرخام ويرون مظاهر من البذخ لم تمر حتى بخيالهم، وقد حدث مثل هذا في ' خريف البطريرك ' لماركيز، لكن بطل الرواية لم يصب بالدوار وهو يشم روائح العطور والتوابل ويرى الملابس البيضاء الأنيقة للخدم وقفازاتهم وهي تداعب الأواني المذهبة، لأنه تساءل: أين تعشش غربان السّلطة في هذا العالم الوثير والناعم؟؟
ان زكريا وتجلياته في ثقافتنا يحتاج الى تأملات وحفريات سايكولوجية لا آخر لها، لأن الخداع الذي مارسته النّخب المعروضة للبيع او الاعارة او الايجار قايضت وطنا بشقّة، ومستقبلا بلحظة راهنة، وتاريخا بوظيفة، وأخذتها العزّة بالاثم لانها لم تتعرض حتى الآن الى مساءلة!

* * * * * *
شهدت ذات لقاء نظمّته اليونسكو لإصدار ما عرف باسم 'كتاب في جريدة' في احدى العواصم العربية، وكان من أبرز المشاركين أدونيس وجابر عصفور، وكنّا بصدد اختيار مسرحية عربية لنشرها في الصحف المشاركة، وأذكر ان ادونيس اقترح مسرحية 'الفيل يا ملك الزمان' لأن مؤلفها الراحل ونّوس كان في طور الاحتضار، وسرعان ما اعترض ثلاثة من المشاركين لأنهم قادمون من ممالك.. وعنوان المسرحية ' الفيل يا ملك الزمان '!!
ثم رشح كتاب آخر للراحل ونّوس هو 'مغامرة رأس المملوك جابر' فاعترض ايضا بعض المشاركين، وحين ذكر عنوان رواية للطيّب صالح هي 'عرس الزين' اعترض ايضا احد المشاركين، فاقترح الحضور مسرحية رائدة لتوفيق الحكيم هي 'السلطان الحائر' لنفاجأ باعتراض جديد من مشارك آخر. هذه عيّنة من ثقافة اصابها الحذر وكثرة الاحترازات بالشّلل .. وإن كنت ارويها الآن فذلك ليس على سبيل الاستطراف، بل باعتبارها وسيلة ايضاح ميدانية تبيّن ارتهان الثقافة للسياسة، وما تعجّ به ذاكرات المثقفين عن الاشباح!
المثقف الرابع يجد نفسه في أقصى العزلة والصّمت لأنه يدرك بأنه خارج التصنيف والخانات والجداول التي تتراشق بها اتحادات الكتّاب او الكتبة في عالم عربي لم تتبلور فيه مهنة المثقف، فهي صفة مرنة ومطاطية، تُمنح مجانا للأميين بمقياس غير اكاديمي، وعلى المثقف الذي يرى بعينيه ويسمع بأذنيه، ولا ينحني للتمثال الهندي صباح مساء ان يشهد بأن بدائله المجهزين في الثلاجات هم النقيض التاريخي والمعرفي له، تماما كما ان النقيض الفعلي للديموقراطية هو الشبيه الشكلاني الزائف، ويتوهم هذا البديل بأنه قادر على ان يكون مع الله والشيطان في وقت واحد، وبالتالي مع السّلطة والحرية. ان حالته هي الوحيدة التي لا تقبل الاقامة في المساحة الرمادية، فإما ان يكون هناك... او هنا، والمقولة الكلاسيكية عن اعطاء ما للرب للرب وما لقيصر لقيصر انتهت الى اعطاء كل شيء للقياصرة... وهناك حواريتان خالدتان تختصران هذه التراجيديا قدر تعلقها بالمثقف، الاولى سومرية دارت بين سيد وعبده التابع، وانتهت الى ان ضجر السيد وأعدم العبد لأنه مجرد صدى لصوته، والثانية بين شاعر وطاغية، رواها رسول حمزاتوف . فقد سأل هذا الطاغية الشاعر كم يساوي في نظره، فأجاب خمسة آلاف دينار.. فانتفض الطاغية وهو يزبد وقال ان ثمن حزامه الذهبي خمسة آلاف دينار.. عندئذ ضحك الشاعر وقال له : وهل انت الا حزامك؟؟ ولا بأس ان نضيف حوارية أخرى لحمزاتوف ايضا عن طاغية قرر اعدام المثقف الوحيد الذي أعلن العصيان ولم يسبّح بحمده، وعندما اجتمع الناس في ساحة عامة لكي يشهدوا الاعدام اصيب الطاغية بنوبة صحو مفاجئة وصاح بالجلاد: اترك لهذه البلاد مثقفها الوحيد!!!

* * * * * * * *

ان من روى حكاية الانذال الثلاثة سيضاف اليهم اذا اكتفى بنقل الواقعة، ولم يتدخّل لإنقاذ تلك العجوز، لهذا فإن المثقف الرابع قد يكون الجدار الرابع في البيت او البعد الرابع في مفهوم ظلّ مبتوراً واحادي البعد لعدة قرون، ومن استثمروا الجهل والفاقة والأمية وظنّوا بأنهم نجوا بجلودهم وبما نهبوا وما شهدوا به من زور، عليهم انتظار المساءلة بدءا من ابنائهم وأمهاتهم اللواتي توزع دمهن بين الانذال الثلاثة!!!

مذنبون أمام المعرفة بلقيس الكركي 03/10/2009

'أنتَ لم تفهمني يوماً واحداً طوال حياتنا!'، تقول المرأة لزوجها بعد زواج امتدّ أربعين عاماً، وبعد أن أوشكا على الطلاق. يقول هو لأخرى: 'زوجتي لا تفهمني، ولا أولادي، ولا من أسمّيهم أصدقائي، ولا أحد ô أنا وحيد ô أتفهمين عليّ؟' تُسِرّ هذه الأخرى لصديقتها: 'الغبيّ! يحسَبُ أنّه يفهمني'. يقول هو لصديق 'مثقّف' يوشك على الهجرة: 'هذا أفضل لك. في هذا البلد لن يفهمك أحد'. يصرخ ابنه المراهق في وجه والديه وأختَيه: 'أنتم لا تفهمونني!' ويُكسّر ما تيسّر له قبل الخروج. تقول أخته لأختها: 'يجب ألاّ يصل الأمر إلى أخي المجنون، فهو لن يتفّهم الأمر أبداً'. تُسِرّ لعاشقها المحروم مثلها: 'كم تفهمني...'. تركُن أختها -مشروع الشاعرة - إلى غرفتها وتكتب: 'وأنا كذلك لا شيءَ يفهمني'، ثم تمحوها 'لأنّ أحداً لن يفهم التناصّ الجميل هنا'. 'المثقّف' يزور العائلة بعد فترة قصيرة من السفر: 'عدتُ لأنّ الغرباء لم يفهموني.' تقول له البنت الشاعرة: 'الغربة مصير الذين يفكّرون ويقرؤون لأنّ هذا العالم الجاهل لن يفهمهم. قرأتَ المتنبّي بالطبع؟'. يتزوّجان لأنهّا 'تفهمه' ولأنّه 'يفهمها'، يوشكان على الافتراق لأنّها 'لا تفهم' حاجته للخصوصيّة، ويفترقان فعلاً حين 'لا يفهم' أنّ الآخر الذي كانت معه 'مجرّد صديق'...
يبدو أنّ لنا، بني آدم، قدرة مدهشة على أن نكون مأفونين لا نفهم شيئاً، واهمين، ومزيّفين. فالكلّ ـ بلا استثناء تقريباً - يبدو لنفسه في مرآته فاهماً إيّاها والآخرين، ضحيّةَ سوء فهمهم له، غيرَ مذنب في حقّ نفسه أو في حقّهم أو ـ قبل هذا كلّه ـ في حقّ الفهم والمعرفة. أظنّ - وأنا أيضاً واهمة بالفهم - أنّ الذنب الأخير هذا، أعني ذنوبنا في حقّ المعرفة، هو جوهر المشكلة البعيد، والذي بسببه نعيش هذه المشاهد السخيفة كلّ يوم.

طبعاً السخف هذا 'مفهوم' بالنظر إلى أنّ البشر يبحثون غريزيّاً عن الحياة ويتّخذون ما تيسّر من حقيقة سريعة وسيلةً للاستمرار فيها بالطريقة التي يُهيّأ لهم أنّها أفضل. أما العكس، أي جعل البحث عن الحقيقة غاية غريزيّة باتّخاذ ما تيسّر من حياة وسيلة لها، فهذا استثناء لا نستطيع دعوة العالم إليه. وهو على أيّ حال ـ أي العالم ـ لن يكون يوتوبيّاً إذا ما اكتظّ بغير المذنبين في حقّ المعرفة: إذ كيف سيربّي من يشكّون في أنفسهم ـ بل وفي أنّهم موجودن حقّاً - أجيالاً تتناسل، كيف سيعملون وينتجون؟ ماذا سيقول من هو كهؤلاء عن نفسه وطموحاته في مقابلة عمل مثلاً؟ 'أبحثُ عن الحقيقة'؟؟ هل سيكون العالم أجمل بلا كلام عاطفيّ مجّانيّ، فيما لو أصبح العشّاق غير مذنبين في حقّ المعرفة؟ لو استبدل عاشق غير مذنب بـ'أنت جميلة' كلاماً أقلّ ذنباً من مثل ـ
'شيء ما فيكِ اليوم تحديداً ـ رغم أنني غير متأكّد من أنّه فيكِ لا فيّ ـ يجعلني أشعر بما قد يجوز لي أن أسمّيه مؤقّتاً إحساساً (على أن أعود لاحقاً لمحاولة فهم معنى الشعور والإحساس) أظنّه في اللحظة الحاليّة ممتعاً إيجابيّاً لأنّك هنا ووصالك محتمَل، وإلاّ لكان ربّما مؤلماً سلبيّاً لو كنتِ غائبة ورأيت صورتك مثلاً. لا لا آسف، الفصل بين اللذة والألم هكذا متعسّف، فقد تكون الحاجة ألماً لذيذاً، أم إنّ هذا عزاء المحرومين وإذن لا مشكلة في اللغة ولا تعسّف في الثنائيّات؟ أعود إلى الموضوع. لا أعرف إن كان عادلاً أن أرجع الإحساس هذا لصفاتك أو 'جمالك' بين قوسين أكثر من حرماني وقلّة خبرتي بالنساء، ولا أعرف إن كان لما يسمّى الجمال علاقة مباشرة بالرغبة وإذن يستحيل له أن يكون موضوعيّاً - وطبعاً هذا لا يعني أن كلّ ما هو غير موضوعيّ متعلّق بالرغبة، فأنا قد أصف أمّي بالجمال من باب الانحياز لا الرغبة، وهذا أيضاً موضوع خلاف - وهذا لأنّني غير متأكّد من طبيعة اختلاف إدراكنا لـ'جمال' من نرغب فيهم جسديّاً من البشر عن إدراكنا لـ'جمال' الطبيعة مثلاً. لا بدّ من العودة إلى داروين وكانط قليلاً. لا بل كثيراً. بالمناسبة، هل تعلمين أنّك لو عشتِ قبل ألف أو ألفي عام لاعتبرك الناس 'قبيحة'؟'

ـ هل سيعود هذا 'عشقاً' أصلاً؟ وهل سيكون العالم أجمل لو استبدلنا بـ'أحبّك' بكلّ ما تنطوي عليه غالباً من مغالطات لا تحصى واتفّاقات متوهَّمة حول معانيها، مونولوجاتٍ تذكّر العاشق بجهله أكثر من رغبته؟ كيف يعيش الناس بلا أفكار جاهزة وأجوبة سريعة وكلام مجّانيّ غير مفكَّر فيه، بلا ذنوب في حقّ المعرفة؟ كيف ستستمرّ دون المذنبين الحياة (وإن كانت مجنونة غالباً، مليئة بالزيف والغباء)؟

بالطبع ليس لأحد أن يصادر على الآخرين، مهما بدوا له مغفّلين غير قادرين على التفكير أو غير راغبين فيه، حقّهم في الوجود، وحريّتهم في قول ما يريدون (على افتراض أنّهم من الفئة الأولى عند راسكولنيكوف/دوستويفسكي: فئة الحاضر التي تحافظ على الجنس، لا فئة الغد التي تحاول أفكاراً جديدة كي تدفع العالم باتّجاهها). لكن للفئة الثانية هذه الحقّ في أن تعترض، على الأقلّ، على ادّعاء الأولى الفهم والمعرفة من غير أن تفهم أنّ 'المعارفَ في أهلِ النُّهى ذِمَمُ' كما يقول المتنبّي، أي أنّها عهدة وأمانة عند أصحاب العقل. وإذن من حقّ هؤلاء - بل واجبهم - كشفُ المواطن المشوّهة في نسخ المعرفة التي يتخّذها أغلب الناس أساساً لادّعاء كلّ منهم فهم نفسه والعالم أكثر من الآخرين، أو ـ وهذه تتكرّر كثيراً - فهمه الآخرين أكثر مما يفهمون أنفسهم هم، أو لتحميلهم وحدهم ذنب تعاسته أو فشله أو إساءة فهمه. لكنّ المصيبة الكبرى تكمن في أنّ الجميع يدّعون السلامة من التشوّه المنطقيّ والمعرفيّ، وفي أنّ البعض يذهب في ادّعاء هذه السلامة حدّ اعتبار نفسه من الفئة الثانية، التي تفكّر وتنقد، وكنوع من التمويه، نراهم يتحدّثون عن حماقات 'سابقة' نجمَت عن سذاجات 'سابقة' سببها قلّة الفهم 'السابقة'، لأنّهم في الحاضر يفهمون ويعرفون ويفكّرون في كلّ ما يقولون ويفعلون. وقد أصبح يندر جدّاً ـ حدّ الاستحالة - أن نرى أحداً وقد راوده احتمال قلّة فهمه أو محدوديّة عقله أو ضحالة ثقافته، بل كنوع من الهجوم المضادّ، يكون غالباً على استعداد لتسمية من يعرف من أصحاب 'الجهل المركّب'، أي الذين لا يعرفون ولا يعرفون أنّهم لا يعرفون، وهو الداء الذي يستثني كلّنا نفسه منه وهو واثق مرتاح البال. أما الحالات التي نرى فيها من يعترفون بجهلهم، فأغلبها تواضع مفتَعَل يروم انتزاع الإعجاب بصاحب العقل الذي يعرف قيمة نفسه جيّداً. هل يعقل أنّنا في معظمنا من 'أهل النّهى'، نعرف و'نفهم' حدود معارفنا وقيمة أنفسنا؟ لو كان ربعُنا كذلك لما كان العالم مغفّلاً هكذا: كم نحن حقّاً مزيّفون.

قد تكون المشكلة هي في سوء فهم مفهومَي الفهم والمعرفة أصلاً، وبالتالي في الاستهانة بهما والاستهانة بمتطلّباتاهما، وأوّلها القراءة الحقيقيّة والتفكير الذي لن يترك صاحبَه يهدأ إن كان له أن يسمّى 'تفكيراً' حقّاً. فإذا كانت زيادة علم الإنسان تزيده علماً بجهله، فإنّ قلّة عِلمه تزيده وهماً بمعرفته بلا شكّ. لكي نفهم لا بدّ أن نقرأ ونفكّر، وكي نفكّر لا بدّ أن نسأل عن كلّ شيء ـ هذا الدرس يحفظه الجميع. لكن غياب التطبيق بالمطلق في كلّ ما حولنا من قول وفعل يعني أن الدرس لم يُفهم أصلاً، وهذا يفسّر مظاهر السخف والفوضى واللامنطق الكارثيّة اليوميّة. ليست المشكلة أن تقول العاشقة المكبوتة لعاشقها المكبوت 'كم تفهمني'، وليس لأحد أن يصادر على الآخرين العشق، بل المشكلة هي في افتراضها أنّ هناك شيئاً معقّداً غير الحرمان بحاجة لأن يفهمه ذلك العاشق العبقريّ، الذي قد يتّخذ بدوره كلامَها شهادةً على سِعة فهمه، ويظنّها السبب في رغبة عاشقته - صاحبة الشخصيّة المعقّدة والتقييم السليم - به. المشكلة ببساطة هي أنّهما لم يفكّرا للحظة واحدة ـ وهو ما تفضحه اللغة بسهولة ـ وهذا ما يجعل 'كم تفهمني' لا تطاق لسذاجتها. لكن الحقّ معها طبعاً في أن لا ترغب بأن يصل الأمر إلى أخيها 'غير المتفهّم'، رغم أنها لم تفكّر في أنّ تحوّلاتٍ تاريخيّة كثيرة أثمرت عن بقاء التخلّف المسؤول عن 'عدم التفهّم ' هذا. ولأنها لم تفكّر، فقد تمنع - حين تكبرُ - ابنتهَا من أن تعيش عشقاً مماثلاً في مراهقتها فتعاني هذه الأخرى من 'عدم تفهّم' أمّها وأبيها وأخيها. ومن يدري، فقد تُقتل الابنة في جريمة بطلها أخٌ يعاني هو الآخر من سوء الفهم، فيكون سببها الخفيّ ذنوبنا المتراكمة في حقّ التفكير، والفهم، والمعرفة. أقول ذنوبنا وأقصد الأفراد، خاصّة الذين يلومون وينتجون أجيالاً تلوم مفاهيم تجريدّية على ما نحن فيه: كالمجتمع، والتقاليد البالية، والتاريخ، وحتّى مفاهيم الجهل والتخلّف ذاتها ـ موضوع المشكلة ـ من غير أن يكون هناك مذنب واحد أو متخلّف واحد إلى جانب القاتل - إذا اعتبر مذنباً أصلاً- بما في ذلك الأمّ التي عشقت من قبل و'لم يتفهّمها' أخوها 'المجنون' وتزوّجت من أنجب وإيّاها قاتل أخته، رغم أنّ ذنب هذا الأخير أو ذنب قاتل هابيل عموماً ليس أقلّ أبداً من ذنب كلّ مَن عقولهُم كيديه: ملوّثة بالدماء لكثرة ما أهانت المنطق وشوّهت المفاهيم وآذت المعرفة.

كذلك ليست المشكلة في إحساس 'المثقّف' بأن أحداً في بلاده وبلاد الغرباء لا يفهمه، فالإحساس الصادق بالغربة ـ مهما كان مبتذلاً ـ كغيره من المشاعر، حقّ لا يحقّ لأحد إنكاره أو تحريم التعبير عنه. لكنّ المشكلة هي في ظنّه أنّه يفهم العالم وأحواله جيّداً، وأنّ تحديده لأسباب اغترابه وتقييمه لقيمته الحاليّة أو المحتملة قياساً إلى أهل الأرض دقيق إلى حدّ كبير. أي أنّه ببساطة لا يفكّر كثيراً ، وهو ما يفضحه تحديده 'الدقيق' أو تقييمه شبه الواثق ذاته. وهو بهذا لا يختلف عن المراهق الذي يعتقد أنّ أهله هم المذنبون في عدم فهمه وفي غربته، بغضّ النظر عن صدق إحساسه بالظلم الواقع عليه. وكذلك ليست المشكلة في عدم قدرة الزوجين على التواصل وعدم رغبة أحدهما في الاستمرار، بل المشكلة هي في افتراضهما أنّ 'سوء الفهم' هو المشكلة: في افتراض كلّ منهما أنّ لديه ما هو جدير بمحاولة الفهم، وأنّ ما يفهمه من نفسه هو الأقرب إلى الحقيقة، وأنّ زوجه لو فهم ما يريد منه فهمه لرغب فيه بجنون ولرجاه أن يستمرّا معا إلى الأبد، وإلاّ يكون مذنباً ظالماً. مصدر 'سوء الفهم' إذن، أنّ أيّاً منهما لم يتعب نفسه في التفكير بقصد الفهم والإفهام، وهذا هو وحده ذنبه الكبير الذي لا يعرفه.

أما الشاعرة التي حمّلت الجمهور مسؤولية سوء فهم تناصّها 'الجميل' ـ قبل أن يقرأ القصيدة ـ فليست المشكلة في إعجابها بما كتبت، فهي حرّة فيما تفعل أو تحبّ، لكن المصيبة هي أنّها تثق بذائقتها ـ إن كانت تعرف معنى الذائقة - وهذا ما يصدر غالباً عمّن لم يفكّروا يوما في مفهوم الجمال، وشروط صناعته، وتأثير ظروف تلقّيه فيه. والشاعرة هذه قد وصلت في ذنوبها حدّ افتراض أنّ لديها ما يجعل 'سوء فهم' العالم لها ما كان لدى المتنبّي، وهو ما تظنّ أنّه أعجب 'المثقّف' 'الغريب عن العالم' فيها. وهكذا تزوّج العبقريّان بعد أن جمعتهما أوهام كثيرة: منها وهم الاختلاف والتميّز، ووهم بأنّ هذا الأخير هو بلا شكّ سبب إحساسهما المشترك بالغربة (إن كان صادقاً أصلاً؛ فقد يكون مصدر الإحساس محض تقليد لبيت امرئ القيس 'أجارتنا إنّا غريبان ها هنا/ وكلّ غريبٍ للغريب نسيبُ' أو لغيره مما يحلو للكثيرين ادّعاؤه وتقمّصه وانتهاكه). وطبعاً لن يكون إلاّ كارثيّاً زواج لا طرف فيه يفكّر حقّاً: فليست المشكلة في أنّ زوجته الشاعرة - التي 'لا شيء يفهمها' - 'لم تفهم' حاجته للخصوصيّة، بل في أنّه لو أرادها حقـّاً لما عاد إلى بلاده، ولما تزوّج ابنة صديقه، أو لفكّر أو عرف أو فهم أنّه لم يتزوّج من تفهم مثل هذه الحاجة (إن كانت موجودة أصلاً، فالإنسان قد يكذب على نفسه بسهولة حين يكون مزيّفاً). وكذلك ليست المشكلة في أنّ 'المثقف' 'لم يفهم' أنّ صديق زوجته مجرّد صديق، بل في أنّها - طالما أنّ لها عقل المتنبي كما تفترض- لم تفكّر في أنّ من تزوّجت ليس مؤهّلاً لأن يفهم أنّ رجلا آخر قد يكون 'مجرّد صديق' لزوجته الشاعرة (إن كان هذا الأخير مجرّد صديق حقّاً، وكأنّ الفرق بين الصداقة والحبّ سهل التحديد والتمييز هكذا). لو كان التفكير جزءاً من خطواتنا وأنفاسنا ووجودنا، لما كان كلامنا هكذا: نصفه يكشف عن جهل، ونصفه الآخر عن وهمنا بالفهم، وتفضح كلّ كلمة نقولها خطايانا التي لا تغتفر أمام الفهم والمعرفة.

ليس المطلوب بالطبع أن يعرف الناس - ولا أن يعتنقوا - آراء نيتشه في الصمت، الذي اعتبره ردّ فعل عقلانيّاً على محدوديّة القدرات التعبيريّة للغة، وردّ الفعل الأمثل ضدّ 'ثرثرة' الحياة اليوميّة. ليس مطلوباً أن يسمع الجميع نصيحته بأن 'على الإنسان أن يتكلّم فقط حين لا يمكن له أن يصمت'، ولا أن يكونوا مثل 'أكثر الناس صمتا' كما قال نيتشه عن زرادشت وكما تخيّل سقراط، ولا أن يأبهوا كثيراً لقوله إنّ الصمت ضروري كي يبقى المرء فيلسوفاً لأن 'كلّ كلمة هي حكم مسبق.' ليس هذا مطلوباً - ولا ممكناً - لأنّ معظمنا بحاجة للكلام والآخرين إذا ما اختار الحياة على ما اختاره سقراط. لكنّنا أجرمنا في حقّ الفهم والمعرفة (واللغة بالطبع) حدّ أنّ ثرثراتنا المليئة بـ'سوء الفهم' المزعوم أصبحت عائقا أمام الحياة ذاتها وأمام احتمالها. لقد أصبحنا كمن يتخبّطون في ظلام دامس يعجّ بالفوضى والضوضاء والضجر والابتذال لأكثر الأشياء نبلاً (كالفهم، والعشق، والاغتراب). وإذا لم تحدث معجزة تجعلنا نكفّر عن بعض هذه الخطايا والذنوب (وكلّها في حقّ المعرفة، إذ 'ليس ثمّة ظلام، بل جهل' كما في مسرحيّة 'كوميديّة' لشكسبير)، فإنّ هذه المهزلة ستستمرّ إلى ما لا نهاية، وتعاقبنا عليها كلّ يوم أثينـا، ربّة الحرب والمعرفة.

كاتبة من الأردن