Thursday, January 14, 2010

وداعاً.. أنيس صايغ - محسن صالح

قبل عامين ونيف، عندما كان بصري مشدوداً إلى منظر مدينة طبرية وبحيرتها الساحر، وكانت كلَّ ذرة من كياني تتفاعل مع تلك اللوحة الرائعة، وبينما كنت سارحاً فيما قاله أو سيقوله "عاشق طبريا" أنيس صايغ عن مدينته، دقّ جرس الهاتف النقال ليقطع سكون المكان حيث أقف على مرتفعات أم قيس شرقي الأردن. يا الله، إنه أنيس صايغ نفسه يتصل من بيروت مهنئاً بعيد الفطر. وكأنه التقط اللحظة الأروع والأنسب، للمشاركة في حب فلسطين.

لا أدعي علاقة قديمة بأنيس، فعلاقتي لا تزيد على بضع سنوات هي فترة إقامتي في بيروت، وهناك المئات من تلامذته ومريديه ومحبيه ممن سبقوني إليه. ولكن وجوده معنا في الهيئة الاستشارية لمركز الزيتونة، ومستشاراً للتقرير الإستراتيجي الفلسطيني، ومشاركته الدائمة ودعمه الدائم لأنشطتنا الأكاديمية ومؤتمراتنا جعلتنا على قرب منه.

"
كان أنيس مستعداً لدفع ثمن مواقفه، وقد فعل، وحتى يكون حرّاً صادقاً مع نفسه، فضَّل أن يعيش عيشة بسيطة في شقة مستأجرة، على الرغم من أنه كان يملك مواهب وإمكانات وعلاقات واسعة تفتح له آفاقاً لا يحلم بها الكثيرون
"
كان أنيس يجمع مواصفات قلما اجتمعت في رجل، فكان يجمع بين الزهد والتواضع وبين عزة النفس وكبريائها، وكان لطيفاً مؤدباً مع الجميع، لكنه كان يرفض أن يكون في "جيب" أحد أو تحت "جناح" أحد، كما كان يكره التملق والنفاق. كان جاداً يحترم الدقة والانضباط والعمل المثمر. وقبل ذلك وبعده كان ابن فلسطين كل فلسطين... دونما تنازل عن ذرة من ترابها.

كان مستعداً لدفع ثمن مواقفه، وقد فعل، وحتى يكون حرّاً صادقاً مع نفسه، فضَّل أن يعيش عيشة بسيطة في شقة مستأجرة، على الرغم من أنه خريج الدكتوراه من جامعة كمبردج، كان يملك مواهب وإمكانات وعلاقات واسعة تفتح له آفاقاً لا يحلم بها الكثيرون. فضّل أنيس أن يقدم نموذج المثقف الحر، الذي لو حذا حذوه مثقفونا المعاصرون لربما حدثت حركة نهضوية في أمتنا، تقود الجماهير، وتصوب مسيرة الأنظمة والحكومات، بدلاً من العمل أذناباً للسلاطين ومحامين عن الشياطين.

مثَّل أنيس صايغ حالة منتمية لبلاد الشام تكسر الحدود التي اصطنعتها اتفاقية سايكس بيكو، فهو ابن طبرية الفلسطينية، ووالده عبد الله يعود إلى حوران السورية، وأمه عفيفة تعود إلى البترون اللبنانية، وزوجته هيلدا شعبان إلى السلط الأردنية.

ولم يكن غريباً على أنيس الذي ولد في 3/11/1931 أن ينتمي في ريعان شبابه إلى الحزب القومي السوري، كما سبقه إليه أخواه يوسف وفايز. ولكن أنيس تبنى الفكر القومي العربي مع صعود نجم جمال عبد الناصر. ولم تكن ميوله العلمانية وانتماء عائلته المسيحي البروتستانتي لتنتقص من اعتزازه بعروبته ووعائها الحضاري وتاريخها الإسلامي، بل مثَّل حالة من التمازج والاندماج الطبيعي غير المتكلف بين الوطني والقومي وبين المسيحي والإسلامي، وترفَّع عن المشاعر الطائفية ليركز على ما يجمع الناس في نهضتهم وفي مواجهتهم المشروع الصهيوني. لذا نجده نقطة التقاء واحترام الوطنيين والقوميين والإسلاميين، والعلمانيين، واليساريين، والليبراليين.

أنيس صايغ الذي كان والده قسيساً، لم يكن متديناً بالمعايير الكنسية المسيحية، وكان في طفولته يفضّل أن يَعُدَّ في سرِّه من الواحد إلى المائة أو أن يكرر كلمة "بطاطا" بدلاً من تلاوة "أبانا والسلام"، على الرغم من أن جوّ بيته المتدين كان يفرض أن يصلي الواحد ستّ مرات يومياً، واحدة منها جماعية، وهو لم يذهب إلى كنيسة منذ سنة 1955. وقد عكس ذلك شخصية ناقدة ساخرة حرة لا يحكمها المألوف، ولكنها ظلَّت تتميز بالرقة والأدب، دون أن يمنعها ذلك عن التعبير الصريح عن مواقفها.

"ولد والقلم بين أصابعه"، هكذا وصفه أحد الكتاب العرب؛ كان ذلك شاهداً صادقاً على ارتباط حياته بالقلم والكتابة. وهو ما يؤكده قائلاً "لم أقم في حياتي بعمل أو نشاط إلا وكان القلم أداتي الأولى". ويضيف "لم أكن إلا كاتباً، ولا أحب أو أستحق أن أوصف إلا ككاتب...".

"
كان أنيس يُسلم مقالاته خُفية لصحيفة الحياة لئلا يعرف صاحبها كامل مروة عمره الحقيقي فيوقف النشر, وكان مروة يظن أن الكاتب يحمل الدكتوراه، ولا يضع حرف الدال قبل اسمه تواضعاً منه، فكان مروة يتبرع بنفسه بإضافة هذا اللقب
"
كتب في فترة دراسته في الجامعة الأميركية ببيروت مقالات كثيرة في مجال تخصصه في العلوم السياسية وفي التخصص الذي يحبه "التاريخ" نُشر معظمها في جريدة الحياة. وكان يُسلم مقالاته خُفية لئلا يعرف صاحب الجريدة كامل مروة عمره الحقيقي فيوقف النشر. وكان مروة يظن أن الكاتب يحمل الدكتوراه، ولا يضع حرف الدال قبل اسمه تواضعاً منه، فكان مروة يتبرع بنفسه بإضافة هذا اللقب!!

كان كتاب "لبنان الطائفي" هو أول كتاب نشره سنة 1955 لأنه بحسب تعبيره هاله التعصب الطائفي في لبنان "وأنا القادم من فلسطين لا نعرف للطائفية معنى". ثمّ أصدر "سوريا في الأدب المصري القديم". وأجهد نفسه لسنوات في إعداد كتاب "العلاقات السورية المصرية" وقابل عبد الناصر وحصل منه على مقدمة للكتاب، لكنه لم ينشره لأنه كان يريد أن يخرجه بشكل أفضل بعد عودته من الدراسة والتدريس في جامعة كمبردج 1959-1964، وهو ما لم يحدث لانشغاله بأمور أخرى.

وتابع نشر كتبه "جدار العار"، و"الفكرة العربية في مصر"، و"تطور المفهوم القومي عند العرب"، وفي "مفهوم الزعامة السياسية"، و"فلسطين والقومية العربية"، و"ميزان القوى بين العرب وإسرائيل"، و"بلدانية فلسطين المحتلة"، و"الجهل بالقضية الفلسطينية"، و"ملف الإرهاب الصهيوني"، و"الوصايا العشر للحركة الصهيونية"... وغيرها.

وفي أثناء وجوده في كمبردج اهتم بتاريخ العائلة الهاشمية فجمع ما استطاع من مصادر ووثائق، حيث أصدر بعد عودته لبيروت كتاب "الهاشميون وقضية فلسطين" وكتاب "الهاشميون والثورة العربية الكبرى"، وقد راجا رواجاً كبيراً، غير أنهما منعا من النشر في الأردن والعراق وسوريا، كما مُنع أنيس صايغ نفسه من دخول الأردن 16 عاماً (1966-1982).

تولى أنيس الصايغ منصب مدير عام مركز الأبحاث في منظمة التحرير الفلسطينية 1966-1976، حيث أعطاه كل وقته وجهده وفكره، "وذاب المركز فيّ مثلما ذبت فيه" على حد قوله. وتطور المركز خلال إدارته من شقة متواضعة إلى ستة طوابق واسعة، وأصدر أكثر من ثلاثمائة كتاب، أضيف إليها مجلة شهرية، ونشرة رصد تصدر مرتين يومياً، وارتفع عدد الباحثين من ثلاثة إلى أربعين، وعدد الإداريين من خمسة إلى عشرين، وجهاز التوثيق من أربعة إلى عشرة، وحوى مكتبة غنية بأنفس الكتب والوثائق.

أدرك الصهاينة خطورة دوره ودور مركز الأبحاث، فتعرض أنيس صايغ لثلاث محاولات اغتيال كان أبرزها في 19/7/1972 عندما انفجر طرد بريدي بيديه مما أفقده جزءاً من سمعه وبصره، كما تضررت يده. وفي 14/12/1974 أطلقت ثلاثة صواريخ باتجاه مركز الأبحاث كادت تودي بحياته وحياة من فيه.

رأس أنيس صايغ تحرير أربع مجلات هي من أفضل ما شهدته الحياة الثقافية العربية وهي شؤون فلسطينية (1971-1977)، والمستقبل العربي (1978-1979)، وشؤون عربية (1981-1982)، وقضايا عربية (1979-1981)، وكان هو الرجل المؤسس للمجلات الثلاث الأولى.

شارك أنيس صايغ في "الموسوعة الفلسطينية" مستشاراً وعضواً ومقرراً في مجلس إدارتها منذ 1978، وأشرف على طباعة القسم الأول من الموسوعة، وتولى تحرير القسم الثاني، واستلم رئاسة مجلس الإدارة منذ أوائل 1988، واستمر يعمل فيها حتى 1993. وكانت الموسوعة من أفضل ما صدر في الشأن الفلسطيني، ومن أفضل ما صدر في العالم العربي.

"
كان أنيس صايغ مدافعاً شرساً عن القضية الفلسطينية، فقد كان باحثاً صارماً عن الحقيقة العلمية حتى لو خالفت صحتها الموروث الشعبي أو ما يتداوله الكتاب والصحفيون
"

وكما كان أنيس صايغ مدافعاً شرساً عن القضية الفلسطينية، فقد كان باحثاً صارماً عن الحقيقة العلمية حتى لو خالفت صحتها الموروث الشعبي أو ما يتداوله الكتاب والصحفيون. كنتُ في زيارة له، فسألني بعدما عرف تخصصي في الوثائق البريطانية وتاريخ فلسطين الحديث والمعاصر، عما إذا كنت قد أطلعت على وثيقة كامبل بنرمان؛ وهي وثيقة تنسب إلى رئيس وزراء بريطانيا في سنة 1907، تتحدث عن مؤتمر برعاية حزب المحافظين قدمت توصياته لرئيس الوزراء بنرمان بعد سنتين من البحث توصي بإنشاء كيان غريب في شرق البحر المتوسط معادٍ لأهل المنطقة ومختلف عنهم في الدين واللغة والثقافة ومعتمد على الغرب، بهدف ضمان انقسام المنطقة وضعفها وتخلفها.

وقد أخبرته أن هذه الوثيقة قد أثارت اهتمامي بالفعل وأنني حاولت أن أحصل على أصلها الأجنبي في الأرشيف البريطاني، غير أنني لم أجد لها أثراً، على الرغم من أن كثيراً من المصادر العربية تذكرها. فأخذ أنيس يحدثني عن قصته مع الوثيقة إذ سبقني للبحث عن أصلها بنحو أربعين عاماً، ووجد أن الكتّاب العرب يحيلون إلى بعضهم بعضاً، فقرر الذهاب إلى لندن وصرف شهراً كاملاً في البحث عنها في المتحف البريطاني ودار الوثائق البريطانية وأوراق جامعة كمبردج. ووجدَ ما وجدتُ من حديث عن المؤتمر الإمبريالي في تلك الفترة دون أن يجد الوثيقة، وانكب على فهارس جريدة التايمز 1904-1907 دون أن يجد لها أثراً.

وعاد إلى بيروت مغموماً.. ليعلم بعد ذلك أن أول من ذكرها من العرب هو المحامي أنطوان كنعان، فسافر أنيس باحثاً عنه في مصر حتى وجده، فاعترف له أن رجلاً هندياً ركب معه في طائرة حدّثه عن شيء من هذا كان قد قرأ عنه. فلا هو ولا جاره الهندي اطلعا عليها...!! ولذلك فهي لم تثبت من الناحية العلمية. وهكذا منع أنيس صايغ في كل ما يشرف عليه وعلى نشره ذكر هذه الوثيقة كحقيقة ثابتة. وعلى النحو نفسه، تعامل أنيس مع بروتوكولات حكماء صهيون التي لم تثبت علمياً بالرغم من كل ما قيل عنها.

سوّد أنيس صايغ وبيّض عشرات الآلاف من الصفحات كاتباً ومحرراً ومشرفاً.. لكنه كان يعمل بروح صاحب الرسالة لا بروح الموظف الذي ينتظر الراتب آخر الشهر، وقد عانى في سبيل المحافظة على المعايير الأكاديمية والعمل المؤسسي الكثير، خصوصاً وهو يدير مؤسسة تتبع منظمة التحرير التي تعج بالعقليات والحسابات الفصائلية وشراء الولاءات والمحسوبيات.

وقد تسبب له ذلك بحالة من الجفاء والخصومة مع الكثير من قيادات المنظمة والفصائل وعلى رأسهم ياسر عرفات. وتمكن من الصبر والتحمل عشر سنوات متواصلة إلى أنه اضطر لتجميد عمله في ربيع 1976 ثم للاستقالة تماماً في السنة التالية. ويستطيع القارئ الكريم أن يطلع بألم وحسرة على المصاعب التي واجهها أنيس صايغ طوال إدارته لمركز الأبحاث وعمله في الموسوعة الفلسطينية (1966-1993)، وذلك في مذكراته التي نشرها سنة 2006 بعنوان "أنيس صايغ عن أنيس صايغ"؛ وفيها فصلان أحدهما عن المركز والموسوعة والآخر عن العلاقة بياسر عرفات.

في رأي أنيس صايغ كان "عرفات يريد أن يكون المركز ومنشوراته وباحثوه رجال إفتاء، يجيزون الأفكار والآراء والأحكام التي يريدها هو حسب مزاجه وفهمه للأمور".. كان عرفات "يريده مؤسسة خاصة تابعة له شخصياً فتخوض حروبه مع الآخرين".. كان عرفات "لا يقرأ ولكن يستمع إلى ما يرغب في سماعه من انتقادات ويتخذ موقفاً بناء على السمع".. ويتناول أنيس في مواقف كثيرة الموقف السلبي لعرفات منه ومن المركز والموسوعة.. مما لا مجال لذكره هنا.

ويخلص إلى القول "رحمه الله عرفات وغفر له. لقد عمل على قتل المركز والمجلة والموسوعة، ونجح، لكن الخاسر كان فلسطين قضية وثقافة ونضالاً"، ويضيف "لا أزعم أني الضحية الوحيدة لعرفات. كان عرفات ضد المؤسسات المستقلة، ضد عقلية المؤسسة. لا يريد إلا أتباعاً أفراداً أو مؤسسات".

ويحدد أنيس صايغ في ختام فصله عن عرفات عشر نقاط في خلافه معه، تضمنت فضلاً عما سبق أن عرفات "لم يكن يثمن العلم والأسلوب العلمي"، وأنه كان يسخر من النظام والانضباط في المركز، وأنه طبق نظرية "من ليس معي فهو ضدي"... وغير ذلك.

قرر أنيس منذ تقاعده من العمل الرسمي سنة 1993 أن "يتعاقد مع الحياة للموت واقفاً" حسب تعبيره، وأن يستمر على التزامه وخدمته لقضيته واستعداده للتضحية ولكن بأشكال جديدة، على أن يظل مستقلاً دون انضمام لأي جهة. وكان اتفاق أوسلو (13/9/1993) في رأيه كارثة هائلة؛ فقرر أن يوجه هجومه على أعوان العدو "والمستسلمين له ودعاة الهزيمة والردة في صفوف ثورتنا الفلسطينية والعربية" بعد أن كان منغمساً في الهجوم على العدو الصهيوني وشحن الأمة بالمعلومات والتحليلات.

قرر أن يتقدم بقصد "تحطيم الأصنام .. والهرطقة السياسية" وخاض معركته مع "اتفاق الذل والاستسلام" حسب ما وصفه، على أكثر من جهة، وأصدر كتاباً سماه "13 أيلول" ضد اتفاق أوسلو وضد السياسة التي قادت إليه.

"
ظل أنيس على عطائه حتى اللحظة الأخيرة كاتباً ومستشاراً وناشطاً في الجوانب التي تخدم قضية فلسطين وقضايا الأمة العربية, رحل بهدوء كما ترحل الزيتونة في الأرض المباركة تعيش واقفة ولا تموت إلا واقفة
"
بيد أن أنيس صايغ فُجع بممارسات عدد فصائل المعارضة كما فُجع بمؤيدي أوسلو. فقد كانت هناك استجابة لندائه من التيارات المعارضة المختلفة لعقد المؤتمر الوطني الفلسطيني لحماية الميثاق الوطني الفلسطيني والذي عُقد فعلاً سنة 1998، وقد شارك في الاجتماعات التحضيرية، واختير في جلسة الافتتاح نائباً للرئيس ومقرراً وناطقاً باسم المؤتمر ومشرفاً على لجنة الصيانة.

لكنه بصراحته المعهودة وبحزن وألم سجّل قائلاً "لم أشهد في حياتي فوضى وعبثاً ولامبالاة ولا مسؤولية مثلما شهدت في تلك الاجتماعات.. كانت الاجتماعات تجري بلا جدول أعمال ولا محاضر ولا مقررات...".

وزاد إحباطه أن أمين عام فصيل فلسطيني عضو التقى رئيس "دولة إسرائيل" فتمّ طرده من اللجنة، ثم في الأسبوع التالي عقد رئيس اللجنة التي انتخبها المؤتمر لقاء مع التلفزيون الإسرائيلي يغازل فيه سياسة عرفات!! وهكذا، ماتت اللجنة بعد بضعة أشهر "بدون جنازة ولا حفل تأبين" حسب تعبير أنيس صايغ.

كان أنيس يشرف على إعداد كتاب تكريماً للراحل شفيق الحوت وكان قد ضرب موعداً نهائياً لاستلام المقالات نهاية سنة 2009، وكنت واحداً ممن يلملمون أوراقهم وأفكارهم لتسليم المقال في الموعد المحدد، ولكن الموت عاجله قبل الموعد بأيام.

أنيس صايغ ظل على عطائه حتى اللحظة الأخيرة كاتباً ومستشاراً وناشطاً في الجوانب الثقافية والاجتماعية والسياسية التي تخدم قضية فلسطين وقضايا الأمة العربية. رحل بهدوء كما ترحل الزيتونة في الأرض المباركة تعيش واقفة مغروسة في الأرض تحفل بالعطاء... وعندما تموت لا تموت إلا واقفة.

Wednesday, January 13, 2010

هوامش للكتابة - خواطر عام مضى جابر عصفور

انتهى عام 2009 بخيره وشره، كانت أيامه الأخيرة محبطة، فقد صدر في أيامه الأخيرة الحكم برفض الاستئناف الذي تقدمت به وجريدة «الأهرام» القاهرية ضد الحكم الابتدائي الذي قضى بتغريمي خمسين ألف جنيه مصرياً مع جريدة «الأهرام» لأني كتبت مقالاً بعنوان «أيها المثقفون اتحدوا». وكنت أريد من المقال أن يكون تحذيراً للمثقفين الذين يضيعون وقتهم وجهدهم في خلافات ثانوية، واقتراف صغائر تصغر بها قاماتهم وتضعف من موقفهم في المواجهة الأساسية مع قوى التطرف الديني التي نجحت في إصدار أحكام قضائية ضد المثقفين المصريين، ابتداء من أحمد عبدالمعطي حجازي، مروراً بجمال الغيطاني ومحمد شعير وعزت القمحاوي وانتهاء بي. وللأسف كما انتصر الشيخ يوسف البدري (الذي اشتهر بمطاردة المثقفين فضائياً، وكان له دور في التفرقة بين نصر أبو زيد وزوجه) في القضايا التي رفعها على المثقفين في العامين المنصرمين، سجّل نصره الأخير بتثبيت الحكم القضائى ضدي وجريدة الأهرام وهكذا أصبح علينا أن ندفع خمسين ألف جنيه مصريٍّ ثمناً للدفاع عن حرية الرأي والتفكير.

ولقد ذكّرني هذا الحكم بما يعانيه المثقفون في أوطاننا، فهم محصورون بين مطرقة التطرف الديني وسندان الحكومات الاستبدادية، والنتيجة انخفاض أكبر لسقف حرية التعبير والفكر وحق الاجتهاد والاختلاف.

والحق أنه لم يحزنني في هذا العام المنصرم سوى الصغار الذي شاع بين أنصاف وأرباع المبدعين، وما نتج عن هذا الصغار في بيروت بعد إعلان نتيجة «بيروت 39» وما انتقل من شرر هذا الصغار إلى القاهرة وغيرها، وظهر في الحملة الخسيسة التي انتهت باستبعاد المبدعة علوية صبح من اللائحة القصيرة بجائزة «بوكر» العربية، لا لشيء إلا لأن الألسنة الكثيرة أشادت بروايتها «اسمه الغرام» فكانت النتيجة حملة ماكرة للضغط على لجنة التحكيم بوهم وجود مؤامرة لإكسابها الجائزة، ونسي الجميع قيمة هذه الرواية التي تستحق التقدير فعلاً لا قولاً، بشهادة عشرات النّقّاد.

وعلى رغم ذلك فقد منعت الرواية في أكثر من قطر عربي، ضمن حملات التعصب وضيق الأفق على الإبداع الأصيل الذي يفرض حركته الحرة، غير عابئ بالقيود أو السدود لكن، يبقى اختلاط الأحوال في الحياة الثقافية العربية واضطراب المعايير، فيختلط الحابل بالنابل على نحو عبثي في أحوال كثيرة ولا أدل على ذلك من استمرار الخلط بين ذيوع عمل من الأعمال لأسباب لا علاقة لها بالقيمة الجمالية الموجودة في أعمال أقل ذيوعاً. وها هي أكثر من عاصمة عربية تخلط بين العمل الإبداعي الأصيل والعمل الجماهيري الذي يجذب الانتباه إليه لأسباب لا علاقة لها بالأدب أو الفن ولذلك أصبحنا نجد ظاهرة الرواية الرائجة التي توزّع عشرات الألوف من النسخة لأنها تدخل مناطق الجنس، وتقوم بدور أفلام الـ «بورنو»، كما أصبحنا إزاء الرواية الأكثر رواجاً ويصل توزيعها إلى مئات آلاف من النسخ لأن صاحبها نجح في أن يصنع توليفة مليئة بتوابل الجنس والشذوذ والهجاء السياسي الذي يقوم بدور التنفيث عن المكبوتات، لا تصعيدها إلى مستويات الفن الباقي. وهو أمر يذكرني بما كتبه أحد منظري الفن، وهو روبين كولنجوود، في كتابه «مبادئ الفن» الذي كتبه من منظور نظرية التعبير، حيث ذهب إلى أن الفن الحق تعبير أصيل، أما الفن الزائف الذي يشتبه بالفن في أعين السذج فهو الفن الذي يهدف إلى التعليم أو التسلية والترفيه، ومعهما التنفيث عن المقموع، أو الصنعة الخالصة. وأظن أننا بهذا المقياس يمكن أن نمايز بين أي عمل إبداعي لهمنغواي، مثلاً، وما كتبه داني براون في «شفرة دافنشي» التي وزعت من النسخ ما يفوق بمئات المرات ما وزعته أنجح روايات همنغواي الذي تظل أعماله خالدة، باقية، لا تتضاءل قيمتها مع الزمن.

ومن شجون العام المنصرم الذي تثاقل في رحيله، وزاد في ثقله، ما سلبنا من أعلام إبداعية وفكرية. ففي مصر فقدنا محمود أمين العالم الذي كنت آراه بمثابة أب للفكر الماركسي، وكان احترامي له عميقاً بسبب مرونته التي لم تجعله يتخلى عن مبادئه السياسية التي ظل منطوياً عليها على رغم تراجع الكثيرين من حوله بسبب «ورطات الدنيا». وقد لحق به صديقه عبدالعظيم أنيس أستاذ الرياضيات، عاشق الأدب الذي شارك العالم في كتابة «في الثقافة المصرية» الذي أحدث ضجة هائلة، عند صدوره عام 1955، مع تقديم حسين مروة الذي سبق زميليه إلى الرحيل. وأضيف إلى هؤلاء الصحافى الشريف محمود عوض الذي ظل قابضاً على قلم كأنه الجمر، فاضطهده الزمن الساداتي الذي لم يكن يصلح له.

وكان حزني عميقاً على الطيب صالح الصديق والروائي المبدع الذي أعدّه أباً للرواية الحداثية في العالم العربى، وستبقى رواياته علامات مضيئة في سماء الرواية العربية. ولا أزال أذكر حواراتنا وسمرنا في ليالي القاهرة وإعجابي بذاكرته الشعرية التي لم أر لها مثيلاً بين كتاب الرواية. وأضيف إلى هؤلاء من مصر الشاعر الشاب وليد منير الذي اختطفه المرض اللعين مثلما اختطف يوسف أبو رية الروائي الواعد، وكذلك أحمد فؤاد سليم الفنان التشكيلي، وصديق عمري الشاعر الكبير محمد صالح الذي امتدت صداقتي به إلى نصف قرن. وكم حزنت لوفاة الصديق محمد السيد سعيد الكاتب المفكر الذي كنا لا نزال ننتظر منه الكثير، فسلبه منا المرض اللعين نفسه، فارتحل عنا بعد أن كان نموذجاً فريداً لوحدة القول والفعل، والتطابق بين الفكر المتقدم والممارسة التي تضيف إلى الواقع ما يرتقي به. وأضيف إلى ذلك الجميل بسام حجار ذا الموهبة المتألقة، والمؤرخ الفلسطيني أنيس صايغ والمغربي عبدالكبير الخطيبي الذي جمعني به محمد بنيس، وقرأت في أعماله ما فتح عقلي على فضاءات أوسع وأخيراً، الشاعر على الجندي الذي أعجبني شعره وشخصه ودوره في حركة الشعر المعاصر.

وها أنذا أزداد حزناً كلما استرجعت كل هذه الأسماء وغيرها، فأشعر بالمزيد من الفقد، وأننا نخسر كل عام من تتجمل بهم الحياة وتكتحل، وتترك ذكرى فقدهم مرارة في النفس، تذكرني ببيتي أمل دنقل: كل الأحبة يرتحلون، فترحل شيئاً فشيئاً، عن العين، ألفة هذا الوطن.

ولكني أعترف أن عام 2009 لم يكن ثقيل الوطأة تماماً، ففي وسط العتمة تتولد أضواء توحي بالأمل. ولم أر هذه الأضواء إلا في الإبداع الأدبي، وعلى رأسه الرواية والمجموعات القصصية التي تؤكد أننا لم نعد في زمن الرواية فحسب، بل في زمن السرد، حيث تتضافر الرواية والقصة القصيرة. والحق أن هذين النوعين طرفا متصل سردي واحد، الطرف الأول منه يستوعب اللحظات القصيرة المكتنزة التي تقترب من الشعر في كثافتها، وما تنطوي عليه من مفارقة، وهو طرف القصة القصيرة التي تنبني حول حدث، أو فكرة، أو لحظة أو مشهد، أما الطرف المقابل فهو زمن اللحظات المتتابعة الممتدة عبر الزمان والمكان والشخصيات التي تتعدد تعدد الحبكات الفرعية والأفكار والمواقف التي تتصارع، مجسدة نوعاً من درامية السرد وإيقاعه المتباين، هو عالم الرواية التي عرّفها أحد النقاد بأنها النوع الأدبي الذي لا حدّ لتنوعاته. ويمكن أن يتعامد على هذا المتصل السردي ما هو أقرب إليه من غيره، خصوصاً حين يتحول السرد إلى فيلم روائي، أو إلى مسلسل تلفزيوني، تاريخي أو اجتماعي معاصر. وقد حاولت بسط هذه الفكرة في ملتقى القاهرة للقصة العربية القصيرة الذي رأست لجنة تحكيم جائزته التي كان لا بد من أن تذهب إلى الكاتب السوري المبدع زكريا تامر الذي وهب عمره لإبداع القصة القصيرة التي لم يشاركها في وجدانه نوع آخر، فأبدع فيها ما لم يسبقه إليه أحد، سواء على مستوى التقنية الفريدة، أو على مستوى المضامين الجسورة التي لا تكف عن تقليم أظافر الطغاة، والكشف عن مثالب الواقع بما يجعل منها تمثيلاً إبداعياً نادراً للصدق العريان.

وقد استمتعت هذا العام بقراءة عدد وفير من الروايات التي منحتني متعة خاصة، منها رواية «أبناء الجبلاوي» للكاتب الشاب إبراهيم فرغلي. وهى رواية متميزة، يصعب قراءتها على الناقد التقليدي الذي يبحث بشكل حرفي عن بداية ووسط ونهاية، تتوسطها حبكة واحدة، فرواية فرغلي متعددة الحبكات والمستويات، تتراكب طبقة فوق طبقة، على نحو معقد التركيب بما يستلزم قراءة فاهمة لعوالم روايات ما بعد الحداثة بتقنياتها النوعية. وقد أسعدني اكتشاف «ملحمة السراسوة» للكاتب أحمد صبري عبدالفتاح الذي كان الجزء الأول منها سبباً لمتعة غامرة، أطارت النوم من عيني طوال الليل، فلم أتركها حتى فرغت منها مع طلوع الصباح. وأضيف إلى ذلك «فى كل أسبوع يوم جمعة» للكاتب الكبير إبراهيم عبدالمجيد، فهي رواية تخوض أفقاً جديداً، وتفتح عوالم معاصرة تماماً، يصل ما بين جوانبها موقع في الإنترنت. وأضيف إلى ذلك رواية «القانون الفرنسى» لصنع الله إبراهيم التي لم أشعر فيها بجديد أو إضافة حقيقية لما سبق أن كتب، ولا بأس بذلك فكل كاتب له مرتفعات ومنخفضات. ولا أنسى الإبداع الشاب لمنصورة عز الدين في روايتها «ما وراء الفردوس» و «الغزال العاشق» لصابرين الصباغ ولا «بيت العائلة» لسامية سراج الدين وقد دخلت رشيدة تيمور عالم الرواية التاريخية، وأضاف حجاج أدول إلى إبداعه «رحلة السندباد الأخيرة». أما جمال الغيطاني فقد أصدر الجزء السابع من دفاتر التدوين. ولم يفرغ العام من الأصداء المدوية لرواية «عزازيل» ليوسف زيدان، فقد أصدر الأنبا بيشوي كتاباً كاملاً للرد على الرواية بعنوان الرد على البهتان، ولم تنقطع الكتابة عن المعتقلات التي تواصلت مع رواية سيد إسحق «المحاريث». ولا أنسى الرواية الأخيرة للمحلاوي محمد المنسي قنديل التي دخلت القائمة القصيرة للبوكر لجدارتها لا لجدارة لجنة التحكيم التي تحولت إلى لجنة هزلية.

أما الإبداع خارج مصر فما أكثره، عبده خال يواصل مسيرته الخلاقة، ويوسف المحيميد فاجأني بروايته «الحمام لا يطير بريده». ورجاء عالم متألقة في روايتها الأخيرة، والكاتب العراقي سلام إبراهيم لا أزال أقرأ روايته «الحياة لحظة» وعلى مكتبي عشرات من الروايات اللبنانية والفلسطينية والسورية والسعودية والمغربية. وأنظر إلى هذا الكم الذي أصبح يفوق قدرتي على القراءة، وأبتسم متذكراً الذين سخروا واعترضوا على عنوان كتابي «زمن الرواية» خصوصاً بعد أن دخلوا، رغماً عنهم، في ما أسميه، الآن، «زمن السرد»، وأضيف إليه المجموعات القصصية لكل من خيري شلبي «ما ليس يضمنه أحد» ومحمد البساطي «نوافذ صغيرة».

وبالطبع، لم يتوقف الشعر، فزمن السرد ليس قاتلاً للشعر، ولا نقيضاً له كما توهم بعض السذّج، كل ما في الأمر أن صوته خفت، لكنه موجود. وقد تأثرت جداً بديوان «لا شيء يدل» لمحمد صالح الذي فقدناه، وأبكتني فاطمة قنديل في ديوانها «أنا شاهد قبرك» سامحها الله، لكن صوتها المتميز في «قصيدة النثر» يؤكد صعود هذه القصيدة التي صادفت هوى تمرد الشبان على كل شيء فاسد في أوطاننا العربية الممتدة كالجرح الدامي من المحيط إلى الخليج ولكن إبداع الرواية يظل متفوقاً على إبداع الشعر، وذلك على نحو يمكن أن نضيف إلى ما سبق من روايات أعمالاً أخرى تشمل رواية لينا الحسن «سلطانة الرمل» ومحمود الريماوي «من يؤنس السيدة» وعمرو عبدالسميع «أنا والحبيب» وعلاء خالد «ألم خفيف كريشة طائر» ورواية ربيع جابر «أمريكا» التي ظلمتها شيرين أبو النجا في غضبها على لجنة البوكر سامحها الله فضلاً عن رواية على المقّري التي عالجت موضوع الأنا الآخر على نحو بالغ الجسارة المضمونية والتشويق التقني، ما دفعني إلى أن أقرأ «اليهودي الحالي» في جلسة واحدة، طويلة، من دون شعور بالملل، بل بمتعة السرد وجسارته في رسم شخصية اليهودي الحالي (الجميل)، في علاقته بفاطمة ابنة المفتي، وهي رواية تاريخية في ظاهرها الذي يبدأ من 1644م، ولكنها رمزية في دلالتها التي تؤكد الوصل الإنساني الذي يربط بين البشر مهما اختلفت أو تباعدت أو تصارعت دياناتهم.

ويبدو أن خفوت صوت الشعر وازى خفوت صوته النقدي، فلا أذكر كتاباً استثنائياً في نقد الشعر في العام المنصرم لكن المفاجأة المفرحة التي أسعدتني، على المستوى البحثي، فهي كتاب «السيدة مريم في القرآن الكريم قراءة أدبية» قامت بها حُسن عبود، في دراسة بالغة الجدة والأصالة، جامعة ما بين أحدث مناهج النقد الأدبي والدراسات الدينية، فقدمت كتاباً أطروحة، لا بد من تهنئتها، وتهنئة المشرف عليها رضوان السيد على إنجاز هذا البحث الذي أرجو أن لا تناله أظافر المتطرفين والجامدين دينياً.

Monday, January 11, 2010

حكايات عجوز فلسطيني : من هو الارهابي؟ منير شماء

نشب خلاف كبير بيني وبين مدير القسم العربي في عام 1947، مستر ستيفنسون. وكان يحفظ لي الود والاحترام ويتلطف معي في الكلام. لذلك فوجئت عندما دخل عليّ في مكتبي، صباح احد الايام، فلم يحيّني بتحية الصباح كعادته، وانما بادرني بقوله 'ماذا فعلت بنا يا منير؟' ثم قال 'تعال معي الى مكتبي'. وكان من عادته ان لا يترك على طاولة مكتبه اي ورقة، حرصا منه على اسرار عمله. فلما دخلت ذهلت اذ رأيت على مكتبه كومة ضخمة من الرسائل... أشار اليها وقال: 'أنظر!' قلت 'ماذا أنظر؟' قال 'هذه الرسائل.. مئات منها.. بست لغات او اكثر، من شتى انحاء العالم، يطالب كاتبوها اليهود برأسك!' قلت في دهشة 'يطالبون برأسي؟ لماذا؟' قال 'انهم يحتجون عليك لانك تقول في نشرات الاخبار' 'اليهود المجرمون' و'المجرمين اليهود' بدل ان تقول الارهابيون اليهود والارهابيين! انظر ماذا فعلت بنا! هؤلاء اليهود جميعاً يطالبون بطردك فورا من عملك! وكثير منهم يطالبون بمحاكمتك ويطلقون عليك اسم هتلر الاذاعة البريطانية! وبعضهم يشتمونك بأقذر الشتائم ويهددون بقتلك! 'فلم أتمالك ان ضحكت فقال 'أو تضحك؟ الا تدرك خطورة الموقف؟' قلت له 'هون عليك يا مستر ستيفنسون. انني لم اجد في اللغة العربية اي كلمة مناسبة لمعنى كلمة TERRORIST، فاستعملت كلمة مجرم'. قال 'عجبا! اني لا اعرف اللغة العربية ولكنني سمعت انها اغنى لغات العالم قاطبة! افتعجز عن ان تجد فيها الكلمة المناسبة لكلمة TERRORIST؟ ما أغرب ما تقول! 'قلت له: 'هذه هي الحقيقة. ان الكلمة المستعملة حاليا هي كلمة 'ارهابي'. ولكن الارهابي هو الذي يرهب الناس، اي يخوفهم ولا تفي الكلمة بجزء من مئة جزء من القاتل السفاح الذي ينسف الفنادق، كفندق الملك داوود في القدس، ويعلق الضباط البريطانيين على المشانق ويقتل الناس الابرياء جزافا وبالجملة! وأولى بهؤلاء اليهود الغاضبين ان يشكروني لانني استعملت كلمة مجرم التي هي أخف وألطف من كلمة TERRORIST. فالمجرم كلمة عامة لا عنف فيها اذ تنطبق على عموم المجرمين، كاللصوص والمزوّرين ومرتكبي المخالفات الصغيرة للقانون'.
قال ـ انني لا افهم هذا الكلام. فأطالبك بأن تكتب ردك الخطي حتى اعرضه على خبراء اللغة العربية!
وكتبته، وعرضه على الخبراء، وهم الاستاذ الشيخ محمد محمود جمعة، استاذ اللغات الشرقية في جامعة لندن، والدكتور سارجنت، المستشرق المستعرب الشهير والخبير الاول في العالم بلهجات القبائل اليمنية، ونيفيل باربر المستشرق وخبير اللغة العربية، وباكستون الذي ترجم الى الانكليزية كتاب طه حسين 'الايام'، واجمعت آراؤهم كلهم على تصديق كلامي. وتعجب مستر ستيفنسون، ولم ير بدا من ان يعتذر لي وترك لي الحرية.. فواصلت دأبي على ترجمة الـJEWISH TERRORIST الى المجرمين اليهود. فتلقيت مكالمات تلفونية من يهود يهددونني بالقتل والسحل والتقطيع وقلع العينين وشتى التهديدات والشتائم، ولم اعرها اي اهتمام، فكنت ارد على كل منها بعبارة مختصرة هي 'Go to hell'! ومعناها اذهب الى جهنم! ذلك لانني كنت وما أزال مقتنعاً بأن الذي يعتزم قتل الناس لا يهددهم! وبأن الاعمار بيد الله وحده. فاذا قدر الله لي ان اقتل فلا مرد لقضائه. وجاءني 'الزميل' اليهودي المدعو ليون ابو العافية (ومعنى ليون هو الاسد! يا صباح الشؤم)، جاء يحاججني ويعترض على تسميتي اليهود بالمجرمين ورفع صوته عليّ بوقاحة وقال ان العرب هم المجرمون! فعصف بي الغضب...، وما شعر الا بصفعة طرحته ارضا وبرفسة قام على اثرها يجري هارباً متهدداً. وجاءني صديقي وزميلي ادوارد عمون وقال 'خذ حذرك من هذا الوغد ليون ابو العافية! جاء يشكو لي انك ضربته ورفسته. وهو يتهددك ويقول ان عقدك مع الاذاعة لن يتجدد بعد انتهائه'. قلت لإدوارد 'انه ليون بالاسم فقط! وقد اثارني عندما قال ان العرب هم المجرمون. ولا أظن كلامه عن عدم تجديد عقد العمل الا بدافع حقده ولا اصدقه'.
ولكن ليون ابو العافية قد صدق فيما قال! فقد وصلتني رسالة قليلة الكلمات من مساعد المدير، مستر باربر، يعلمني فيها، بمزيد الاسف، ان عقدي لن يتجدد، ولم يزد على ذلك حرفا. لكنه جاءني الى مكتبي وجلس، على غير عادته، وأعرب لي عن أسفه الشديد لاضطراره لتنفيذ القرار المتخذ بعدم تجديد عقدي. فلما سألته عن السبب لم يجبني، ولكنه دعاني الى العشاء بعد يومين في ناديه. فقد كان عضوا في احد نوادي لندن العريقة. ولا اذكر اسم النادي ولكنه كان فخما وكأنه من النوادي التي ذكرها سامويل بيبس (1633 ـ 1703) في ذكرياته اليومية الشهيرة! وكرر نيفيل باربر اسفه لذلك القرار وأسرّ لي انه اتخذ من جانب 'أرقى الدوائر!' وان اعتراضه عليه لم يلق اي استحسان، وان سببه الذي لا يباح به هو استياء اليهود لتسميتي اياهم بالمجرمين. وتمنى لي ان اجد عملا خيرا مما حرمت. وأهداني نسخة من كتابه QUO VADIS الذي اختصر فيه كارثة فلسطين في عدد كبير من الوثائق الهامة والاحداث المؤرخة. وقد استعار الكتاب احد 'الاصدقاء' ولم يرجعه ونسيت من كان. والعوض على الله!
شعرت بالاحباط بعد حرماني من عملي عقابا على اختلاف على كلمة في اللغة. وحزنت لما رأيت من دليل على نفوذ اليهود في لندن. ولكنني في قرارة نفسي، حمدت الله على ما حصل لأنني سوف اعود الى وطني، وسأزور بلدتي الحبيبة صفد، وقدسي الغالية... وسأرى اقاربي وأحبابي. وكان حنيني الى فلسطين والى صفد بالذات ومن فيها يكاد يقتلني غما وهما، ففرحت رغم خيبتي، خاصة وان المرحوم الاستاذ محمد البرادعي العباسي (من صفد)، وكان كبير قضاة فلسطين، يومئذ، قد وعدني بأن أوظف مديراً لأول دار سينما عربية تبنى في فلسطين، في مدينة حيفا الجميلة، لتعويض شباب العرب عن الذهاب الى سينمات اليهود. فاختلط حزني على ضياع عملي بفرحتي بانتهاء الغربة وقرب العودة الى الحبيبة فلسطين.
ولكنني، قبل العودة، واجهتني مشكلة جديدة: فقد كنت اقوم بعمل اضافي زيادة على عملي في الـ'بي بي سي'، وكان ذلك العمل لشركة كومونت بريتيش (Gaumont BRITISH) السينمائية، وهو التعليق بصوتي على شريط الانباء 'حول العالم' الذي كانت الشــــركة تصدره مرة كل اسبوع، في استوديوهاتها في شبردزبش، ويعرض في كثير من المدن العربية في دور السينما مقدمة للفيلم الرئيسي. وكنت استهله بقولي: 'شريط الانباء حول العالم: تحية لجميع العرب في كل مكان' وأختمه بقولي 'سلام عليكم من الراوي منير شماء'.
وكان الشريط دعاية للمصنوعات البريطانية وللسياحة في بريطانيا بالاضافة الى اخبار عالمية طريفة ومسلية. فعندما علم مستر كلي (KELLEY) المسؤول عن ذلك الشريط، بعزمي على العودة الى وطني، اعترض. فأفهمتته ان الـ'بي بي سي 'قد انهت عقدي. فقال: 'لكننا نحن لم ننه عقدك. وقد كنا وما نزال نحبك ونعتبرك صديقا لا مجرد زميل في العمل، فكيف تتخلى عنا؟ 'وأخجلني بعتابه، وكان دخلي من هذا العمل تافها، لا يزيد على ستة جنيهات في الاسبوع، بينما المعلق البريطاني باللغة الانكليزية على نفس الشريط كان يقبض اضعاف هذا المبلغ.
ولكنني لم أشأ ان اخيب رجاء مستر كلي الطيب فقد طلب مني ان اوافق على بقاء العقد نافذا وان اطلب اجازة لمدة شهر او شهرين وان اعود. فقبلت بدافع المجاملة، مع النية على ان ارسل من حيفا استقالتي واعتذاري عن تعذر عودتي. وعدت الى فلسطين الحبيبة في 7 /تشرين الاول/اكتوبر 1947. وكانت فرحتي بلقاء أهلي وفرحتهم بلقائي، في منزلنا على سفح جبل الكرمل في حيفا، حديث الاسرة والجيران. لكن الفرحة كانت قصيرة الامد: فقد رأيت بعيني مبنى السينما العربية، بعد ان اكتمل، تدكه مدافع الهاون اليهودية من جبل الكرمل دكا. فدكت آمالي في ان أجد عملاً! واضطررت الى العودة الى لندن وشريط الانباء حول العالم في كانون الاول/ديسمبر 1947.

Monday, January 4, 2010

أنيس عبد الله صايغ: قامة تستعصي على القياس ,د. عبد القادر حسين ياسين, 04/01/2010

'طوى الجزيرة حتى جاءني خبرٌ
فزعت منه بآمالي إلى الـــــكذب..'
أبو الطيب المتنبي
غـيـَّـبَ الموت يوم الأحـد الماضي، السادس والعشرين من كانون الأول/ديسمبر، عميد البحث العلمي الفلسطيني، ومدير مركز الأبحاث التابع لمنظمة التحرير الفلسطينية، و'والد' الموسوعة الفلسطينية، المفكر الفلسطيني البارز الدكتور أنيس عـبـد الله صايغ، فأخرجه فَحسب، من صفِّ الأحياء بامتياز، حيثُ أمضى عُمُراً قاربَ الثمانية والسبعـين عاماً، إلى صفِّ الخالدين، حيث العُمرُ يتواصلُ بلا نهاية.
رحل أنيس صايغ، بعد أن أحاط بالمرحلة تماماً، ورصدها جيداً، وكان فكراً وممارسة في عمقها، وقد أدى دوره في توثيق مفاصل وحلقات الثقافة الفلسطينية وتجربتها.
ولد أنيس عـبـد الله صايغ في الثالث من تشرين الثاني/نوفمبر عـام 1931 في طبرية، التي يقول إنها 'الفردوس الذي اجتاحه الأشرار وتنازل عنه السماسرة'. فوالده عبد الله الصايغ ووالدته عفيفة البتروني أنجبا ثمانية بنين كان آخرهم أنيس. وكان عبد الله قسيساً يتبع المذهب الإنجيلي (البروتستانتي). أخوه الكبير الدكتور يوسف صايغ من أبرز الخبراء الاقتصاديين العرب، وعضو المجلس الوطني الفلسطيني واللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير، ومدير عام مركز التخطيط ورئيس الصندوق القومي الفلسطيني. وأخوه فايز الأستاذ الجامعي، ومدير مكتب الجامعة العربية في نيويورك، ومؤسس مركز الأبحاث الفلسطيني، وعضو المجلس الوطني الفلسطيني، واللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية.
انخرط معظم أفراد العائلة في صفوف 'الحزب السوري القومي الاجتماعي'، وغادروا الحزب كلٌ على حدة، لأسبابه الخاصة وتبنّوا الفكر القومي العربي .
بدأ دراسته في طبرية وأنهى الثانوية في مدرسة الفنون الإنجيلية في صيدا، التي انتقل إليها بعد الاحتلال الصهيوني لمدينة طبرية. نال شهادة البكالوريوس في العلوم السياسية والتاريخ من الجامعة الأمريكية في بيروت. وحصل على الدكتوراة من جامعة كامبردج في العلوم السياسية والتاريخ العـربي، وعـُين في جامعة كامبردج أستاذاً في دائرة الأبحاث الشرقية.
عين مديراً عاماً لمركز الأبحاث في منظمة التحرير الفلسطينية في بيروت، وعميداً لـ 'معهد البحوث والدراسات العربية ' التابع للجامعة العربية.
أسـَّسَ وترأس تـحرير أربع مجلات ثقافية شهرية: 'شؤون فلسطينية'، و'المستقبل العربي'، والسلسلة الجـديدة عـن 'قضايا عربية'، و'شؤون عـربية'، وهي مجلات تميزت بالمستوى العلمي والدقة والموضوعية مع بساطة المظهر. كما عمل مستشاراً لجريدة 'القبس' الكويتية، فأنشأ لها مركزاً للمعلومات والتوثيق.
أشرف على مشروع 'الموسوعـة الفلسطينية' (1977 ـ 1992)، مستشـاراً ومـقـرراً لمجلس الإدارة، ثم رئيسـا للتحرير، ثم رئيسـاً لمجلس الإدارة ومـديرا عـامـا. وشـارك في إدارة و/أو تحرير خمسـة مشـاريع موسوعيـة أخرى في بيروت والقـاهـرة ودمشـق وبـغـداد.
شـارك في 'اللجـنـة الدائـمـة للاعـلام العـربي' (1969 ـ 1975)، وفي لـجـنـة وضع إستراتيجيـة الثـقـافـة العربية (1982 ـ 1985) وفي لجان الترجمة التابـعـة للمنظمة العربية للثـقـافـة والعـلـوم 'الاليكسـو'، طيلة الثمانينات في الكويت وتونس.
في كتابـه 'أنيس صـايغ عـن أنيس صـايـغ' يتحدث عن حياته الدراسية، ويعـترف هذا الأكاديمي الفلسطيني العريق بأنه 'كره الدرس كطالب وكره التدريس كأستاذ طيلة حياته...'، وأن أبشع ذكرياته كانت أيام التلمذة والأستذة، وأن معاهد التعليم كانت 'أبشع الأماكن التي اضطر للتردد إليها... رغم أنه كان طالباً متفوقاً في جميع المراحل والأول بلا منازع. ..!! وكان يتمنى لو تخصص في التاريخ وليس في العلوم السياسية.
عـنـدمـا كان في الثانية عشرة من عـمـره بـعـث برسالة الى صحيفـة 'الـدفـاع' الفلسطينية مصحّحاً لها خطأً في النشر. ويشير إلى الكتب التي ألفها، فكان كتاب 'لبنان الطائفي' أولها، تلاه كتاب 'الأسطول الحربي الأموي في البحر المتوسط'، وقام بإعداد كتاب 'العلاقات السورية المصرية' في بضع سنوات، وحصل من جمال عبد الناصر على مقدمة له سنة 1954، لكنه لم ينشره (حتى الآن) لأنه لم يرض عن مستواه!
وتوالت كتبه وكان من بينها 'الهاشميون والقضية الفلسطينية' و'الهاشميون والثورة العربية الكبرى'، وقد مُنع بسببهما من دخول الأردن في الفترة 1966-1982، ولا يزال الكتابان ممنوعين من النشر في الأردن. وكَتَب 'مفهوم الزعامة السياسية من فيصل إلى عبد الناصر' كما كتب '13 أيلول' ضد اتفاق أوسلو.
وصرف النظر عن فكرة كتاب عن 'الحاج أمين الحسيني في صعوده وهبوطه'، لأنه شعر أن بعض محتوياته ستكون 'قاسية بحقّ رجل ظلمه التاريخ، ولم أرغب أن أشارك في ذلك'.
في عـام 1966 كلفه أحمد الشقيري، الذي يذكره بمزيد من التقدير والاحترام، بإدارة مركز الأبحاث التابع لمنظمة التحرير الفلسطينية، خلفاً لأخيه فايز، وتطوّر المركز تحت إدارته في بيروت من شقة متوسطة إلى ستة طوابق واسعة، بينها طابقان كاملان للمكتبة، وغادره أنيس سنة 1976، وقد نشر نحو 300 كتاب، مع مجلة شهرية، ونشرة رصد، بينما ارتفع عدد باحثيه من ثلاثة إلى نحو أربعين.
وكان ممن تعهدهم المركز العديد ممن برزوا كباحثين وسياسيين أمثال، إبراهيم العابد وأحمد خليفة وأسعد عبد الرحمن وبسام أبو شريف وبلال الحسن وجميل هلال وخيرية قاسمية وصبري جريس وعيسى الشعيبي ومحمود درويش ونبيل شعث والهيثم الأيوبي وغيرهم.
اهتم مركز الأبحاث بالتعريف بالعدو الصهيوني وأصدر سلاسل 'دراسات فلسطينية، كتب فلسطينية، أبحاث فلسطيــــنية، حقائق وأرقام، صور وخرائط، والدراسات الخاصة'. ونشر بعضها بلغـــات عدة.
ودفع النجاح العلمي لمركز الأبحاث، الصهاينة إلى محاولة اغتياله. فـفي التاسع عشر من تموز/يوليو 1972 انفجرت رسالة ملغومة عندما حاول فتحها، وأصيب في يده وكتفه ووجهه، وبعد طول علاج استرد بعض بصره ونسبة من السمع بأذن واحدة، لكن طنين الأذن لازمه طول حياته. وبعد الانفجار بعشرين دقيقة كانت الإذاعة الإسرائيلية تعلن مقتل أنيس صايغ، الذي كان 'يتولى تدريب الإرهابيين الفلسطينيين في أوروبا على القتال' في فلسطين حسب زعمها!!
ويشير صايغ إلى أن العدو الصهيوني استهدف عدداً من موظفي المركز وباحثيه، ونجح في قتل عشرة منهم وإصابة آخرين. وأثناء الاجـتيـاح الاسرائيلي لبيروت عام 1982 استهدف العدو مكتبة المركز وقام بمصادرة كل ما يهمّه فيها (نحو عشرة آلاف مجلد)، أما قصة استعادتها فكانت قصة مأساوية بحق، لأنه بعد استعادتها وإرسالها للجــزائر، جرى إهمالها من قِبل المعنيين في منظمة التحرير الفلسطينية وتعرضت للتلف والضياع.
لـقـد سعى صايغ إلى أن يكون مركزالأبـحـاث مستقلاً ومهنياً يُراعي الكفاءة والموضوعية، بينما أراد عرفات أن يتعامل مع المركز 'كما يتعامل مع هيئات منظمة التحرير ودوائرها، بتقسيم الوظائف والمِنح حسب الفصائل وعلاقاتها معه ٍخاصة تابعة له شخصياً'.
ويعتبر الدكتور صايغ أن يوم 13 أيلول/سبتمبر 1993 (توقيع اتفاقيـة أوسلو) كان يوم ولادة جديد له قرر فيه 'خوض المعركة مع العدو عبر ملاحقة حلفائه المحليين'، ويسجل بعض أنشطته في هذا المجال، لكنه يسجل إحباطه من بعض الممارسات الحزبية في المعارضة الفلسطينية.
وبـعــد؛
لـقـد كان الدكتور صايغ عاشـقا لفلسـطين، وكان ذا نزوع مثالي اليها، ولم ييأس من فكرة العودة، ولا من فكرة النصر. مشى أيامه ببطء المتزن الواثق الرصين، ولم يكترث لشيء خاص، سوى حقه الصغير، في خبز وكتاب وقلم يبوح به بأسرار كل اللحظات، لكي يظل الفلسطينيون جديرين بتراث وطنهم وقضيته!
لقد فـقـد شعبنا الفلسطيني برحيله، علما فكريا وثقافيا وعلميا ... مات أحد أعز المكافحين، بنبل وحيوية، صامتاً حيال أوجاع اللحظات الأخيرة. ستظل آثاره، سراجاً يُشعل ضوءاً أبدياً، بينه وبين وطنه، لا تُطفئه دموع الغيم، ولا أنواء البحر.
أنيس صـايغ، أيها الأسـتاذ الكبير والأخ العزيز والصديق الصدوق، هل أقول سـلامـا، أم أقول وداعـا؟ أنيس صـايغ؛ أنت أكبر من السـلام، وأكبر من الوداع.
من حسن حظي أنني عشـت في زمن الكبار.... ومن بين هؤلاء الكبار عملاق فلسـطيني تعلمت منه كيف أطرح السـؤال، وكيف أبقى مخلصـا لما تعلمت منه...على الرغم من أن كل ما يحيط بنا في هذا العالم العربي الممتـد من طنجة الى أم القـيـوين يقدم الخيبة تلو الأخرى، والنكسـة تلو الأخرى، حتى نكاد ننـدم على ما تعلمنـاه...
وما كنت فعلت.
أنيس صـايغ؛ سـلامـا وتحيـة، ففي التحيـة الحياة...
التحية هي المحافظة على وديعـتك التي أودعتـهـا لدى كل من لا يزال مؤمنـا بأن المقاومة هي كل ما نملـك، وبأن الوعي النقـدي هو الطريق.
أنيس صـايغ؛ أيـهـا الفلسـطيني الكبير، ســلامـا...!!

حكايات عجوز فلسطيني: ابو اصبع ,منير شماء, 04/01/2010

في مدينتي الحبيبة صفد، في السنة الدراسية 1937 في الكلية الاسكتلندية، ايام الاضراب الكبير الذي دام سبعة شهور، احضرت حكومة الانتداب البريطانية كتيبة من فرقة البلاك ووتش الرهيبة، لتأديب ابناء صفد الذين هبوا للجهاد فأزعجوا الصهيونيين وحماتهم. وهذه الفرقة كانت (وربما ما زالت) تعتبر افضل فرقة مقاتلة في القوات البريطانية، وجنودها لا يقبلون في صفوفهم من في قلبه ذرة واحدة من الرحمة. فهم اشرس من شياطين جهنم، ولهذا السبب كانوا مهابين، يكفي اسمهم ليدب الرعب في قلوب اعدائهم. ولكن ابناء صفد... كانوا لا يعرفون الخوف فلا يخافون الا من الله تعالى، ولا يبالون من يقاتلون دفاعا عن وطنهم، فلقي جنود البلاك ووتش منهم أذى عظيماً، اذ كان بعض الشبان من القناصين يتصيدونهم في الليل ويختفون في النهار. وكانت فرقة البلاك ووتش هذه تحت قيادة قائد عتو زنيم يلقي القبض على صغار الفتيان ذاهبين الى المدرسة او عائدين منها، فيسجنهم ويعذبهم في سعيه ليعترفوا بـ'جرائم' آبائهم الذين يتصيدون جنوده في الليالي المظلمة.
وكان بعض القناصين من ابناء صفد يحاولون كف اذى ذلك القائد العاتي، ولكن لم يسعدهم الحظ وكانوا يسمونه 'ابو شنب'، لانه كان له شارب ضخم، وكان عظيم الافتخار بذلك الشنب.. يفتله وهو يختال في مشيته او يجابه الاطفال الذين كان يلقي القبض عليهم ويجرهم الى السجن والتعذيب. وكان في صفد شاب شجاع، بل في منتهى الشجاعة، يملك دكان عطار في شارع الغزاوية الرئيسي. وكانت له اصبع مبتورة، لذلك اطلق عليه الناس اسم 'ابو اصبع'! اما اصبعه المبتورة فقد خسرها عندما هاجمه فهد فتي مثله بينما كان يصطاد غزالا. فأبو اصبع هذا كان يتعيش من صيد الغزلان في الجبال المحيطة بصفد. فيترصدها قرب المغارات التي تؤوي اليها. فاذا طارد غزالا، لم يكن يكف عن مطاردته حتى تكل قوى الغزال ويرتمي منهكا عاجزا عن مواصلة الفرار، فيأسره ابو اصبع بكل سهولة ويقتاده الى صفد سالماً من اي كسر او جرح، فيبيعه للانكليز بثمن كبير. وفي احدى مطارداته لغزال في الجبال، برز له مطارد آخر... فهد جائع طمع في اصطياد الغزال، فهاجم ابا اصبع، وتعاركا، فقتل ابو اصبع ذلك الفهد، ولكن بعد ان قضم الفهد اصبع الصياد... ونجا منهما الغزال السعيد. وفي احد الايام، مرّ ابو شنب محاطا ببعض جنوده، امام دكان ابو اصبع ودخل الدكان ليشتري سكائر، ورأى على الجدار صورة ظن انها صورة فوزي القاوقجي، المجاهد الذي دوّخه وجنوده وتعذر عليه القاء القبض عليه. فاغتاظ ابو شنب ونزع الصورة وصاح بأبي اصبع 'ممنوع سورة كاوكجي' وقذف الصورة على الارض وداس عليها، فاشتد غيظ ابو اصبع وصاح به:' هادي مش صورة القاوقجي هادي صورة الملك غازي' وكان رد ابو شنب في غاية الوقاحة، اذ قال :'كاوكجي... غازي... كلّو كلاب' وعاود دوسه على الصورة وخرج وهو يفتل شاربه الضخم. ولم يكن في وسع ابو اصبع ان ينتقم منه لهذه الاهانة... وبعد نحو اسبوعين، رأي ابو اصبع ذلك القائد العاتي ابو شنب، مقبلا وحده من ناحية حارة اليهود، فخرج من دكانه وهو يحمل على ظهره كيساً من الخيش فيه كمية من العدس، وتلفت يمنة ويساراً كما يفعل اللص، ومضى مسرعا في اتجاه مسرى ابو شنب، فما رآه ابو شنب حتى لحق به وأمره ان يقف، فلم يقف، بل استمر يجري مبتعداً يتظاهر بالخوف... فأسرع ابو شنب يريد القاء القبض عليه ولكنه لم يستطع اللحاق به ... وما هي الا لحظات حتى صار ابو اصبع يجري وابو شنب يلاحقه بكل جهده. ولكن انّى لذلك الاسكتلندي السمين ان يلحق بهذا الصفدي النحيل القوي وصار الناس الذين شاهدوا هذه الملاحقة يعجبون وبعضهم يشجعون ابو اصبع وهو يضحك ويجري والقائد الغبي يجري وراءه... فاذا بعدت الشقة بينهما كان ابو اصبع يتمهل قليلاً ليبقى في مجال نظر ملاحقه، فلما وصلا الى الجسر جرى ابو اصبع فوق الجسر كالغزال الذي كان يصطاد، وابو شنب يجري وراءه وهو يصيح به ان يقف ويسلم نفسه... واستمر ابو اصبع في 'فراره' من ذلك القائد العسكري الثقيل الوزن فقطع مرج الرجوم واستمر حتى اقترب من المستشفى العام فانحنى الى اليمنين وأبطأ الجري في ذلك النهج المبلط الخالي من الناس ليتيح لأبو شنب فرصة اللحاق به... وبعد ثوان اقبل عليه ابو شنب شاهراً مسدسه وأمره ان يقف... فوقف متظاهراً بالاعياء... ورفع يديه 'في استسلام' بعد ان وضع الكيس على الارض بين ساقيه، وهو يقول:
' ما في عندي شي.'.. فيقول قائد البلاك ووتش:' سلاخ هون في الكيس.'.. فيردد ابو اصبع، في خوف مصطنع:' ما عندي سلاح. هادا عدس' فصاح به او اصبع :'ارفه ايديك' ولكن ابو اصبع رفع يدا واحدة وأمسك الكيس بالاخرى وقدمه الى ابو شنب، فأمسك ذلك الغبي بالكيس وراح، بيده اليسرى يبحث في داخله عن السلاح المزعوم... والمسدس في يده اليمنى... فانتهز ابو اصبع الفرصة وانقض على يده التي فيها المسدس فأوقعه على بلاط الزقاق وسال الدم من انفه وفمه والتوت ذراعه وكسرت ساقه وأبو اصبع داس على رأسه وصاح به:' دست على صورة الملك غازي ايها الكلب الحقير فخذ حذائي فوق رأسك ' ولم يسمع منه ابي اصبع سوى انين الألم... ثم صمت وشلت حركته، فنظر ابو اصبع فوجده قد اغمي عليه وخشي ان يكون قد مات... فأخذ المسدس والكيس ومضى في سبيله حتى وصل الى المستشفى، وأبلغ انه وجد جندياً ملقى على ارض الزقاق... يئن ويتوجع، وطلب ان يكلم القشلة، وهي دار الجنود البريطانيين، وقال لهم:' احملوا زعيمكم المجرم ابو شنب من زقاق... فقد أدّبته لوقاحته ولأنه داس على صورة الملك غازي والعاقبة لكم جميعاً... انا ابو اصبع، صاحب الدكان في شارع الغزاوية، وسألقاكم أفنيكم ان بقيتم في صفد'.
وبعد ذلك اليوم اختفى ابو اصبع من صفد... وقالوا لي انه كان ينام في النهار في احد الكهوف التي كان يأوي اليها الغزلان ويسرح ويمرح في الليل يتصيد جنود البلاك ووتش. وكان من أمهر القناصين اما ابو شنب فقد صحى من اغمائته بين ايدي جنوده الذين حملوه الى المستشفى العام فصاح بهم رافضاً ان يعالج فيه وأصر على ان لا يبقى بعد ذلك ساعة واحدة في صفد، خاصة وقد اكتشف ان ابو اصبع قد قص شطرا من شنبه الفخم بخنجر جرح شفته، فحملوه الى المستشفى الحكومي في مدينة طبريا، وما كاد يشفى حتى طلب العودة الى اسكتلندا. ودب الرعب في قلوب جنود البلاك ووتش، وقيل لي انهم استبدلوا بفرقة اخرى، والله اعلم.