Saturday, August 29, 2009

كُتٌب ليست للقراءة! خيري منصور - القدس العربي

منذ تحولت الكتابة الى اسم حركي او مستعار للبطاقة وأصبح عدد الجامعات ودور النشر ينافس عدد الحوانيت والصيدليات ومحطات البنزين، حدث الافتراق الحاسم بين المقدمات والنتائج، وصارت القطيعة بين المهنة وما ينسب اليها أمرا مألوفا علينا جميعا ان نتأقلم معه، ومثلما تحولت الاحزاب السياسية في مجتمعات باترياركية وثيوقراطية يحظر فيها تداول السلطة الى اندية اجتماعية لإشباع الهوايات هكذا تحولت الكتابة ايضا، من ابداع يخضع للمساءلة النقدية الى ممارسات معزولة عن تاريخ الكتابة، لأنها استبدلت الأقانيم الخالدة الثلاثة، وهي المؤلف والقارىء والناقد بثالوث من طراز آخر، قد يكون فانتازيا لا يهدف الى ما هو أبعد من الاستعراض المؤقت او الموسمي، وقد يكون مجرد تعبير عن فائض مال او فراغ او سايكوباثيا، وفي هذه الآونة التي تشهد حفلات توقيع يومية هي أشبه بحفلات تنكرية، اصبحت الكتب ليست للقراءة، او النقد بقدر ما هي للعرض في الواجهات وعلى الأرصفة، او مجرد اضافة أرقام الى فهارس الناشرين والسير الذاتية لأصحابها! وثمة روايات منها عشر على الاقل تحظى بشهرة واسعة، لكنها بلا قراء، منها ما هو لنساء أرَدْنَ حرق المراحل واختصار الطريق بغلاف يصلح قرينة للاستمناء او يدخل من باب الجسد الاكثر ضيقا، ومنها ايضا اعمال يصعب بل يتعذر تصنيفها جماليا وابداعيا، ما دام مصطلح الرواية المضادة او اللارواية حسب تعبير سارتر عن كتاب الرواية الجديدة في فرنسا قد أسيء فهمه ككل شيء آخر، لقد حاكى عرب كثيرون روايات غرييه وكلود سيمون، واستبدلوا الزمان بالمكان والانسان بالشيء، لكن بلا رؤى او ادراك لهذا التحول الانقلابي في الوعي الذي كان صدى او على الاقل متناغما مع الظاهراتية او الفينومينولوجيا. وهذا ما حدث في شعرنا الحديث قبل اكثر من نصف قرن عندما فهم البعض ان التفاصيل اليومية تكفي لإنجاز نص شعري، فأخذوا ملاعق الشاي والقهوة من ت. س. إليوت والشكوى من المدينة الحديثة الساحقة للانسان من سيتويل وباوند، رغم ان مدننا في ذلك الوقت كان نصفها على الأقل يضاء بمصابيح النفط وضواحيها تعج بالابقار والخيول التي تحرث الأرض.
وما يروج الآن من روايات البورنو سواء بالمضامين او تصميم الاغلفة او استخدام المفردات التي طالما عوملت كما لو انها عورات في اللغة، هو تسديد مديونية من طراز آخر، هو جنسوي بامتياز، وحين تجتذب هذه النصوص قرّاءً حتى من هؤلاء الذين يتفحصونها امام اكشاك بيع الكتب فإن السبب هو ما اشار اليه منير العكش قبل اكثر من ثلاثين عاما، عندما اختبر عددا من المتلقين من خلال تقديم نماذج شعرية متباينة، منها ما هو لنزار قباني والسياب وآخرين، وتوصل العكش في تلك الدراسة الميدانية والسايكولوجية الرائدة إلى ان معظم استجابات المتلقين لشعر نزار مثلا هي عضوية، وذات منابع جسدية وهرمونية، فما يثيرهم ويهيّجهم ليس الشعر بل المفردات ذات التاريخ المكبوت، وبالطبع ستكون حصة التجريد في مثل هذه المجتمعات أقل بأضعاف من أية حصص أخرى سواء تعلق بالشعر او الفلسفة او الرسم، وقد تكون شحة الدارسين في مجالي علم النفس الاجتماعي وعلم التخلف هي السّبب في عدم تقصي ظواهر ثقافية وافرازات هلامية لمجتمعات ضلّت الطريق الى ذاتها قبل أي مكان آخر.
وهناك الآن ما يشبه النادي، وإن كان اقل من استحقاقه لهذه التسمية، لأنه تشكل جيولوجي وهو حسب تعبير شهير لازوالد اشبنجلر، يوحي لك بأن ما تراه هو جبل او بحيرة، لكنه في الحقيقة من ابتكار العين، كالسراب تماما، ان نادي الحفاة هذا يشترط للانتساب اليه أمرين، اولهما ان لا يكون لدى العضو اي هاجس او قلق او اشتباك مع واقعه، وثانيهما ان يمتلك قدرا من النفاق ببعديه الاجتماعي والسياسي يتيح له ان يكون مع الله وقيصر في اللحظة ذاتها، ومع الرأسمالي والاشتراكي ومع الاتباعي والحداثوي ما دام الرهان بل الاحتكام كلّه لنيل اعتراف حتى لو كان من مؤسسة ثقافية يقودها أميّ ٌ أعمى، وترتبط بخط تلفوني ساخن مع اجهزة الأمن.
ان هناك من تورطوا في هذا النادي نصف الليلي لكنهم استقالوا وطالبوا بسحب عضويتهم، مقابل آخرين شمّوا عن بعد الرائحة ولم يتورطوا، لكنهم دفعوا اثمانا لاستقلالهم وعدم ارتهانهم وإصرارهم على ان الفيل ليس عصفورا ، والجنرال ليس حكيما.
إن من يجرؤ على الكلام الآن ليس من اصابه العمى لشدة ما تكسرت اجفانه امام اولياء النّعم، وليس من يمشي بمحاذاة الجدار حتى لو كان آيلا للسقوط كي لا يضبط متلبسا بعاره الاخلاقي او السياسي، وثمة نمط من المتسولين يطيب لهم على سبيل العلاج والتعويض ان يمارسوا دور السادة الكرماء ويبحثوا عن متسولين او ادنى منهم كي يعطوهم شيئا مما كسبوا، ومن يصابون بضيق التنفس لمجرد طرح قضايا من هذا النّوع، انما يحترزون من افتضاحهم ولو بعد حين!

* * * * * * *
هل انتهت مهنة الكتابة عند ثلاثة طقوس لا تعيش اكثر من ايام العزاء، سواء كان في سرادق على شارع او في صالة مكيفة الهواء وذات نسب ثقافي مشكوك فيه. ..
نشر الكتاب والاهتمام بغلافه والكلمة على صفحته الاخيرة، ومن ثم حفلة توقيع حتى لو كان روادها سبعة من اصدقاء المؤلف او الناشر، ومن ثم تعليق سطحي في جريدة يومية، وبعد ذلك ينتهي كل شيء بانتظار صدور كتاب آخر.
لقد طلب مني ذات يوم ان اشارك في الكلام حول كتاب لسيّدة في حفل توقيع، وقبل ان اعتذر قالت لي الوصيفة او سمسارة الحفل التنكري ان من واجبي ان امتدح الكتاب، وذلك من اجل المساهمة في تسويقه، وفوجئت السيدة باعتذار مزدوج، ولو صحّ ما يقال عن الكتب في حفلات التوقيع فإن هذه الكتب تجترح معجزات، اذ لا يمكن لكتاب واحد ان يكون مشجبا لمقولات جمالية ينوء بسبب هشاشته بنصف واحدة منها!
وهذه مناسبة اخرى لدرء التباس او استدراك ما حول نفوذ ثقافة النميمة على عقولنا، بحيث يطلب من احدنا وهو يتصدى لظاهرة او مفهوم ان يسمي الاشخاص او يحدد تواريخ الوقائع ويأتي بالشهود، ومردّ هذا باختصار الى سطوة الشخصنة على المفهوم، فنحن نادرا ما نتعامل مع الفكرة المجردة، لأنها اشبه بالموسيقى التي لا تتخللها كلمات. حتى اللوحات، نفرض عليها ان تترجم الى كلمات كي تفهم وهذا ايضا ما يفسر لنا قلة الرسوم الكاريكاتورية التي تكتفي بخطوطها دون اضافات لغوية، وأقرب الامثلة الينا الآن، ما يقدم من افكار وندوات عن المرض عندما يبدأ بالتحول الى وباء، وانفلونزا الدجاج او الخنازير او الثقافة لا تسمح لنا بعد ان تحولت الى اوبئة بأن نتوقف عند السيرة الذاتية لأحد المصابين، او معرفة اسماء من انتقلت اليهم العدوى في الصين والهند واستراليا!

* * * * * * * *
النادي او شبه النادي في طريقة التحول ليصبح مافيا، لها صفقاتها ومقايضاتها، والشيفرا الخاصة بأعضائها، وقد يأتي يوم قريب تحكم فيه المافيا قبضتها على صحف وفضائيات ودور نشر، لأنها تصاب بالهلع من أية ريح تهدد نوافذها بالخلع، ومن أية انجازات تشكك في قيمة وصدقية معيارها المتدني والمتواطأ عليه، لكن مثل هذه الحالات لبلابية، ولا تعيش الا اذا كانت متسلقة على جدار او أي شيء آخر، فهي بلا عمود فقري، وبلا مضمون ذاتي، لهذا فمعمرها أقصر بكثير مما يتصور اعضاؤها، ولأن هذا النادي نصف الليلي وربع الثقافي والرهينة الاعلامية لم يعلن بعد رئيس مجلس ادارته او أمينه العام او الخاص بحيث نتوجه اليه بطلب الاعفاء من العضوية حتى لو كانت بالتزكية، فنحن مضطرون الى انتظار ما تبقى من هذه الكوميديا الزرقاء نسبة الى الحبر وليس الى الماء او عيني زرقاء اليمامة. ..
ما يجب وبإلحاح التذكير به في هذا السياق، هو اننا نعيش مرحلة تأدلجت فيها الخرافة، وانعطبت البوصلات كلها، الاخلاقية والسياسية والثقافية ولم تسلم حتى البوصلة التربوية والوطنية من هذا العطب، فلا ندري الى أين نحن متجهون، شرقا ام غربا ام شمالا ام جنوبا أم الى جهة خامسة. لقد كانت التفاهة في كل الأزمنة عرضا جانبيا محتملا للحضارات، وهامشا ضئيلا غير فاعل واحيانا كان الناس بحاجة اليها لكي يتأكدوا من نقيضها باعتبارها وسيلة ايضاح لا أكثر، لكنها الآن تلعب دور البطولة في السينما والمسرح والأدب والنقد والغناء واسواق المال والحراك السياسي المتلفز الطافي على السطح. لقد قال اسلافنا بحكمة تقطرت من الحنظل وليس من الياسمين او البرتقال لا خير في قوم اذا جهّالهم سادوا، وحسب حكاية شعبية بالغة الدلالة وقابلة للتأويل البشري، فإن الاسد قرر مغادرة الغابة لأن الكلب قيّده بعد ان خدعه، والقرد فك قيده وحرره، وقال ان عالما تربط فيه الكلاب وتحل القردة لا يعاش فيه.
ومنذ طفولتنا كنا نلهو بقافلة من الخشب، لجمال مربوطة الى بعضها بالسلاسل ويقودها حمار صغير، ونسأل البالغين عن سرّ هذه الاحجية لكننا لا نظفر بإجابة، ثم ادركنا الدلالة التي تتجلى في نظم حكم ومعادلات مقلوبة.
عشر مجلات ذات أغلفة صقيلة تنزلق عنها العين ومثلها من الكتب بينها روايتان او ثلاث نرتطم بها في مدخل المول والحانوت وصالات المطار وواجهات اكشاك الكتب وعلى الأرصفة، وتسعون بالمئة على الأقل من الحوارات تتم مع هذه اليعاسيب التي تروي مغامراتها في افراز العسل.. رغم ان دورها، إن كان لها دور، ينتهي عند تلك العملية الانتحارية الخرقاء. ..
التخارج الآن كنقيض للتقاطع او التداخل هو سمة الظواهر الاكثر رواجا وسيادة في حياتنا، فالكتب ليست للقراءة، والديموقراطية ليست لتداول السلطة، والجامعات لتفقيس الموظفين، وكلام المجتمع المدني كومبرادور ما بعد الحداثة الذي يتعاطى اجرا سخيا على التزييف والبَدْوَنة باسم التمدين.
سنقول اخيرا بل اوّلا ً وقبل ان تلامس اصابعنا الوتر، أن من يصابون بضيق التنفس بسبب طرح قضايا من هذا النمط هم المبتلون الذين استتروا، والمنبتّون الذين لا ثقافة قطعوا ولا خجلاً أبقوا.

Saturday, August 22, 2009

العصاميّ الذي صافح نفسه ! - خيري منصور - القدس العربي


انه ليس بطلا روائيا على غرار العصامي اوجينيه في رواية 'الغثيان' لسارتر، وهو ليس النقيض التربوي للعظامي في أدبياتنا الاجتماعية التي انفصلت وانقطعت عن الحراك الفعلي للواقع، وادرجت في متحف المواعظ، هذا العصامي هو المثقف العربي ما قبل الاخير، لأنه في اقاصي العزلة يقبض على الجمرة باللسان، ولو اتيح له ان يفعل ما فعله الإله اندره في الاسطورة لاختفى في ساق زهرة اللوتس، ما دام الشيطان قد امتلك القوة كلها وحكم العالم، واذا كان صعلوك الامس قد تقاعد بعد أن سحبت الصحراء من تحت قدميه، فإن حفيده المعاصر يعيش غربة مزدوجة وله منفَيان، أحدهما التاريخ والآخر هو نفسه، بعد ان شطرته الشيزوفرينيا الى شاهد وشهيد، فلا هو هنا ولا هو هناك، انه المنبتّ الحديث الذي لا ثقافة قطع ولا جسدا أبقى، فالانسان البدائي، يملك جسده على الاقل، ويتعامل مع الكون بحواسه المشحوذة اليقظة، لكن هذا العصامي يقتاده جسده كما تفعل القطط وهي تدنو من شقوق الابواب لتلوذ بما يتسرب من هواء بارد في عزّ القيظ .
ان العصامي الذي لا يعثر على يد ثالثة يصافح بها نفسه يضطر الى ان يبدو كما لو كان يصفق، لأن مصافحة الذات متعذّرة، تماما كما هو تقبيل الذات متعذّر ايضا، فالآخر هنا ضرورة حتى لو كان جحيما، اننا نضطر الى ابتكاره عندما يغيب، لكن المثقف الأعزل الا من حلم غير قابل للتحقق، يصبح احيانا كبطل الاسطورة المعلق بين الارض والسماء، شفتاه مشققتان من الظمأ، ويقرض باطن خديه من الجوع، بينما تدنو منه العناقيد لتنأى وكلما اقترب من الماء وأوشك على ملامسته بشفتيه نأى ايضا، واذا كانت النصوص الادبية في احد ابعادها وثائق تاريخية ووجدانية، فإن بامكان اي مؤرخ قادم ان يفعل ما فعله ذلك الناقد المكسيكي عندما استخلص تاريخ حقبة من بلاده من خلال نصوص ادبية، وهذا ايضاً ما فعله الشاعر الامريكي كيمنغز عندما اصر على كتابة اسمه بحروف صغيرة ، كي ينبىء من سوف يقرأونه ذات يوم بأنه انسان صغير عاش في زمن صغير، او عصر الترانزستور كما سماه ويلهالم رايش الذي عوقب من الاشتراكيين والرأسماليين معا، لأنه تخطى قشرة الايديولوجيا وبلغ النخاع .

' ' '

كان امام العصامي ان يبحث عن احتياطياته الاستراتيجية في ذاكرته وموروثه، او في الناس الذين حذفتهم الدولة المستبدة من اقانيمها، وأنابت سماسرتها عنهم، لكنه شعر بالخذلان، لأن استلاب الوعي لدى الناس حوّلهم الى امعاء تسعى كالثعابين، وان كانت لا تفرغ سمها الا في جسدها، ونادرا ما يعترف العصامي بهذا الخذلان والاغتراب، لأنه يعاني ايضا من استلاب في الوعي يجعله بالغ الحذر من إدانة الناس من حوله ما داموا هم كل ما تبقى، ان هذا التواطؤ بين المثقف في اقصى العزلة والناس في ذروة الانهماك بما هو ضـروري وأولي يعمّق الفجوة، ويفاقم سوء التفاهم، بحيث لا تسمى الاشياء بأسمائها، ذلك ببساطة لأن من يعملون لحساب سادة الفقر والعنف والاستبداد ليسوا كائنات هبطت من كواكب اخرى، او خرجوا من صندوق باندورا اليوناني المليء بالشرور، انهم من هذه الارض، ومن ذوي العصامي المخذول وجيرانه وأصهاره وزملائه .
وكم يبدو الجدار العازل بين نظام سياسي عربي رسمي وآخر شعبي مثيرا للسخرية، اذا عرفنا بأن الاثنين هما توأما ثقافة وأعراف وتقاليد واحدة، وهذا ما يفسر السرعة القياسية التي تعود لها المعارضات الى الاستبداد ذاته عندما تصل الى الحكم، لهذا لا سبيل الى خلق توازن وهمي بتبرئة التخلف من حصته في تبرير الاستبداد، وادامة عمــر النظم الباترياركية التي تجسده، وتحرم القاصرين من حق الفطام .
ان كثيرا من التشخيصات والاجابات على اسئلة مزمنة تبدو عديمة الجدوى، وعقيمة، لأن الخلل كما يقول التوسير يكون احيانا في الصياغة الخاطئة للأسئلة، ولو أخذنا التخلف مثالا قدر تعلقه بعالمنا العربي فإن ما يغذيه ويدفعه الى الامام مدججا بقوة لا تقاوم هو جملة من الأعراف والتقاليد والمفاهيم السائدة والتي تستخدمها الدولة الاستبدادية باستثمار ذكي وبلا حدود لإدامة بقائها وتبريره، وقد يكون ما ترسب في اللاوعي الجمعي من المخاوف والحـــذر والاحتراز من التأويل اسباب كافية لغياب الاسئلة الجذرية، واحلال الاجرائي مكان الاستراتيجي، وبالتالي التورط في عقد اجتماعي طويل، فالعرب سياسيا يعيشون ما قبل الماكنـــاغارتا وبالتـــأكيد ما قبل الدولة ايضا، لأن ديناميات الحكم والسيطرة منـــــوطة حتى الان بقــوى تراوح بين الدين والقبيلة، خصوصا في هذه الآونة التي ساد فيها حكم المال، الذي بدأ هذه المرة ينتج القبيلة، والنفوذ ويعوّض عدة مفقودات تقليدية .

' ' '

العصامي مطرود من الجحيم ايضا وليس من الجنة فقط، ولا هامش على الاطلاق للمراوحة في منطقة الاعراف حسب ادبياتنا او ما يسميه دانتي الليمبو، وهذا النمط الجديد من المنفى يتجاوز الجغرافيا والتاريخ معا، ويقترب من الميتافيزيقا، لأن هذا المطرود يضطر احيانا للهبوط الى العالم السفلي، او للتماوت على طريقة البعير كي ينجو، وبالرغم من ذلك فهو لا ينجو، لأن العقاب يشمل النوايا، وثمة محترفون لترجمة الصمت بحيث يحولونه الى نص بليغ في المعارضة، والعصيان، ان ثقافة موشومة بالوشاية منذ بواكيرها لا تطيق البطالة عن فقه الاستعداء وتحويل النّميمة خصوصا في بعدها السياسي الى نمط انتاج، وما قاله هربرت ريد عن التحالف الاستراتيجي بل الأزلي بين المثقف المرتهن والقارىء الاعمى يقبل التأويل الى تحالف من الطراز ذاته بين الدولة المهجوسة بالبحث عن شرعية استمرارها وبين المثقف الذي يعاني من عقدة اللااستحقاق، والذي يستكثر على نفسه اي شيء، لهذا فهو مستعد لأن يسبق الحرامي كما يقال في امثالنا الشعبية لإرضاء وليّ النعمة بالنسبة اليه، وولي النقمة بالنسبة لسواه. اننا جميعا نراوح بين سؤال ناقص واجابة مبهمة والمريض العربي المسجى الآن تعالج اورامه بكمادات الماء البارد، وما كان حتى الامس مجرد حمّى تحول الى التهاب سحايا... والاستخفاف على اشده بكل شيء، حتى من قبل هؤلاء الذين انتدبوا انفسهم ناطقين رسميين باسم الشقاء القومي، ومن لم يشهدوا الطائرة لحظة الاقلاع، عبثا نطالبهم بأن يتابعوا حجمها الصغير وهي تختفي وراء الغيوم، وما اقلاع الطائرة وفق هذا المفهوم الا جذر المسألة كلّها، سواء كان هاجعا في تربويات كيدية ملغومة بثقافة التنابذ والاقصاء المتبادل او في شكل السلطة التي تجد من شهود الزور ما يكفي لأن يكون الزواج شرعيا، ليس بين بطلي رواية او فيلم على غرار شيء من الخوف فقط بل بين سلطة ذكورية وشعب يصطبغ بصفات انثوية، فهو الزوجة التي تعاد الى بيت الطاعة بالقوة وهو ايضا الغنيمة لمن يسبق ويسطو على مصيره وقراره .

' ' '

ثمة لحظات تنتاب الانسان يود فيها لو انه اثنان هذا على الاقل ما قاله جان جويو وهو يكتب عن المثقف الذي ينوء بعزلته، وقد تسقط عليه فكرة كالرؤيا يزوغ معها بصره، هذا الكائن الذي يحتاج الى مجدافين وهو يعبر النهر الصّعب، يضطر احيانا الى تقبيل ذاته او مصافحتها، وقد يتزوج نفسه اذا استبدت به الوحشة، لا بالمعنى الجنسوي الساذج الذي يتبادر الى الذهن في مثل هذه الحالات، بل بالمعنى الميتافيزيقي العالي، ما دام الانسان الفاني والعابر بجسده، هو ايضا الأبدي والباقي لهذا لا نبرىء معظم من درسوا الصوفية من القصور، عندما عزلوها عن السياسة، مثلما عزل دارسو الحب العذري عن السياسة ايضا، والتهميش الاجتماعي، الى ان فتح الباحث الاجتماعي الطاهر لبيب أفقا في هذا السياق .
وانني لأتساءل احيانا عن سرّ الانقلاب في حياة مثقفين وناشطين من العرب بحيث يميلون الى الزهد وينكفئون داخل شرانقهم في النهايات... ما الذي يصاب به هؤلاء؟ هل هو اليأس الذي يتحول الى قنوط وبالتالي استقالة شاملة من التاريخ ! ولدينا من أمثولات التخلي والخذلان والردّة ما يكفي لأن نجد تفسيرا لهذه الظاهرة ليس بمعنى ان لنا كعرب طبيعة من طراز غير بشري، كما قال بعض المستشرقين ومنهم طومسون الذي وصف العقل العربي بثمرة الصّبير ورينان الذي صنّف العقل العربي بأنه ما قبل منطقي، ولكن بمعنى سايكولوجي محض، فالافراط في العسف والاستبداد يشلّ الارادة الانسانية، وقد يحول الضحية الى مريض بالماسوشية يستمرىء الألم والاضطهاد، ولا يعيش من دونهما .

' ' '

ان العصامي يقف الآن بين ارهابَيْن، وطاغيتين أحدهما سلطوي مسلح له قوة المحتل او لم يكن اسمه، والآخر تخلف مدجج بأعراف تتفوق على القوانين، والرّوم الذين يقفون خلف الروم كما قال المتنبي هم الآن من صلب هذه الضحية الخرساء، التي تتطوّع بصمتها لكي تصبح جريمة الاجهاز عليها كاملة وبلا شهود او نقصان !

Monday, August 17, 2009

النخب أمام تحديات النهوض - هيثم مناع - الجزيرة نت


ما هي النخبة، وما هي علاقتها بقضايا الناس والأمة، وهل من معنى لديها لكلمات مثل التنمية والتنوير ونهضة الأمة؟ بل لنقل هل يوجد إجماع نخبوي على تعريف النخبة وقضايا الأمة؟ بقدر ما يبدو هذا السؤال سهلا، بقدر ما هو معقد وشائك ومتعدد القراءات.

خلال عقود طويلة كان تعريف النخبة نفسه موضوع ازدراء ورفض من قبل الفكر الماركسي الذي آثر عليه مصطلحات أخرى مثل: "الطليعة" في التراث اللينيني، و"المثقف العضوي" عند أنطونيو غرامشي. أما الفضاء الفكري المتسع بين ما عرف بالأحزاب الاشتراكية الديمقراطية والديمقراطية المسيحية، فقد استعمل بأريحية كلمة المثقف للدلالة على النخبة بالمعنى الواسع. في حين استعاد الفكر الإسلامي السياسي منذ المودودي فكرة الدعاة، للتعبير عن "المثقفين المجهزين المدربين الأخصائيين" كما يصفهم حسن البنا. "النخبة المؤمنة الملتزمة بالإسلام نظاما وإماما ودينا ودولة".

"جميع البشر مثقفون"، يقول غرامشي، " إلا أن جميع البشر لا يمارسون وظيفة المثقف في المجتمع" ، يضيف في "دفاتر السجن". المثقف هو أداة التراضي "العفوي" وضمانة الطاعة الشرعية للجماعة السائدة، والخارج عن هذه القاعدة هو المثقف العضوي، أي المثقف الملتزم المدرّب والمناضل.

عند فرانسوا شاتليه "المثقف الكبير" و"النخبة الفاعلة" هما ضمن التعريف الذي يخرج منه صغار المثقفين والمثقفين الهزل والعديمي الدور، ويطالب الفيلسوف الفرنسي بحد أدنى من الوجود، الحافز، الحرية، المسؤولية.

ينوه كارل منهايم إلى الطبيعة الاعتباطية لتعريف المثقف وضبابية الحديث في النخب، مركزا على ضرورة أخذ الواقع التاريخي والاجتماعي بعين الاعتبار، جاذبا بمأثورة ألفرد فيبر "الإنتلجنتسيا غير المرتبطة اجتماعيا" إلى واقعتي الزمان والمكان.

"المعرفي الأميركي الذي يعمل في إطار الطاقة الذرية ليس مثقفا، يقول سارتر.. وإنما تقني للمعرفة العلمية، وهو يصبح مثقفا عندما يطرح على نفسه السؤال حول أهمية القنبلة الذرية وينتهي باستنكار ما يعمل".

في الكتاب الجماعي "مجرمو السلم"، يتخطى سارتر ازدواجيته الدائمة بين مثقف متأقلم مع السلطة ومثقف خارجي ضمن منظومة السلطة، منضما إلى روزا لوكسمبورغ حيث يقول: "في الأصل، المثقف هو إنتاج للمؤسسة البرجوازية، لكن عندما ينجح في القبض على تناقضاته بقوة، لا يبقى أمامه سوى حل واحد، أن يلقي بنفسه في اللا شرعية، وهذا يعني في الآخرين، أن يلقي بنفسه في حالة رفضٍ واحتجاجٍ لكلية المجتمع الذي كوّنه، وهذا يفترض أن يناضل من أجل مجتمع لا يوجد فيه المثقف"، أي مجتمع كل إنسان فيه مثقف.

مهما كان تعريف النخبة أو المثقف يوحي بالعالمية، فإنه كان في معظم القراءات إيديولوجي الطابع، ولا يخلو بالتالي من ثنائية النحن والآخر، وفي حالات كثيرة، من استئصال تلقائي للواقعين خارج المنظومة الفكرية لصاحب التعريف. ولعل من الضروري التأكيد على أن هذا "الترف" غير مسموح به في بلدان الجنوب التي تعيش بالأساس أزمة في إنتاج النخب واندماجها في عملية التنوير والتغيير، خاصة في مجتمعات تمارس بسهولة رياضة التخوين والتكفير.

إن التتبع الميداني والمعرفي لموضوع النخبة يظهر بوضوح أنه لا مجال لتعميم تعريف تحليلي صالح لكل زمان ومكان. فهناك مراحل تاريخية كانت النخب فيها تلعب دورا كبيرا في وعي قضايا المواطن والمجتمع والأمة في مجتمعات محددة. ولم يكن ذلك مرتبطا بالضرورة بمجموع الشبكة الاجتماعية التي تشملها هذه الكلمة بأكثر تعريفاتها عملية، بل غالبا بالمنسلخين اجتماعيا وسلطويا عن هذا الوضع. أي ليس بمن يفكر بالثقافة كمشروع سلطة، بل بإدراك دوره النقدي كسلطة مضادة بامتياز. وهنا محك العلاقة بين النخبة والمجتمع، بين المثقف والمشروع الحضاري لمجتمعه.

فالشبكة الاجتماعية التي تشملها كلمة النخبة تعطي بخصبها للسلبي والإيجابي، المؤثر والمتأثر والقامع والمقموع، حيث من الصعب فصلها عن المجتمع الموجودة فيه. إلا أن لكل واحد من أفراد هذه الشبكة موقعا وموقفا. فالصمت موقف والتأييد موقف والشجب موقف، وليس ثمة حياد ضمن قواعد المجتمع المشهدي لهذا الموقف، لكونه يوظف كصاحبه. بل يمكن للمثقف أن يلعب دور "المتسلط الثقافي" في مؤازرة "المتسلط الأمني". وقد أدركت الجماعات الحاكمة أن بالإمكان جعل النخب سلطة في السلطة وللسلطة وأعطتها هذا الدور.

كل معركة ثقافية وحضارية تفتح ملف النخبة ودورها من جديد، وكل تحّول يضع هذه القضية في معمعان الأحداث. فربط هذه الكلمة، حقا أو باطلا، بالأكثر نضجا وإدراكا ومعرفة بالذات والواقع وسبل الإصلاح، يجعل الأنظار تتوجه إلى رموزها كلما وقع طارئ يمزق روتين الحياة اليومية.

ففي مجتمع يبلغ فيه التفريد درجة من الضعف لا يحسد عليها، تتوجه الأنظار إلى كل كادر أثبت جدارته في ميدان ما، ولو كان هذا الميدان خارج الشأن العام، ليكون لسان حال الأفراد المضطرين للسكوت. وإلا ما هو معنى توريط النخب، بالمعنى الواسع للكلمة، في وضع حدٍ لانسدادٍ سياسي أو استعصاءٍ اجتماعي بما يسمى "حكومات التكنوقراط"؟

شاءت أم أبت، النخب الفكرية في بلدان الجنوب، منذ النديم والكواكبي وعبده والأفغاني وشبلي شميل وحسن البنا، تتحدث باعتبارها ملتزمة، أو لنقل مكلفة برسالة. الأمر الذي لا يعني بالضرورة قيامها بها أو استجابتها للحاجات الفعلية والجوهرية لمجتمعاتها. من هنا ضرورة الانتقال إلى الواقع ونقده للخروج من الرغبة الشاعرية بتناول هذه الظاهرة.

لقد ارتبطت ظاهرة النخب والأطر في الأزمنة العربية المعاصرة بواقعتين جديرتين بالاهتمام:

الأولى، هي الخناق الذي تعيشه الفئات التعليمية والتثقيفية والتقنية في المجتمع، أكان ذاتيا بتكوينها المعتمد على إعادة إنتاج المؤسسة الثقافية الغربية بدلا من ابتكار الأنموذج القادر على استلهام التجربة الغربية والاستجابة للاحتياجات المحلية، أو موضوعيا بعلاقة التبعية لهذه المؤسسة بالسلطة الحاكمة في غياب فكرة الدولة الحامية لمواطنيها والمعبرة عن الجسم المجتمعي. الأمر الذي حدد فعالية دخول المؤسسة التعليمية والجامعية في المجتمعات العربية، وحجّم دور الفئات الجديدة في التنوير والتغيير، وأبقى للتعبيرات التاريخية المهيمنة للثقافة دورا فاعلا في قطاعات شعبية واسعة.

أما الثانية، فتتمثل في الدخول الكثيف لجمهور واسع يبحث عن لقب أو مهنة في نادي المثقفين أو العلماء أو المجتمع المدني أو غيرها من الكلمات التي احتفظت بشيء من الرونق، وإمكانية الخوض في مشاريع ذات علاقة بالسلطة الاجتماعية أو السياسية أو المالية. فيما جعل تبني اللقب يتم في نطاق البحث عن دور أكثر منه عبر بلورة مواقف. دور مرتبط بمفهوم المصلحة الذاتية أيضا أكثر من ارتباطه بالمشاركة والمصلحة العامة. الأمر الذي تمثل على أرض الواقع في الثلاثين عاما الأخيرة في فئتين متداخلتين تغطيان فضاء النخب:

1 – النخبة التقنية، وهي تشمل شرائح اجتماعية معينة تغطيها عموما عباءة الطبقات الوسطى وتنفرز حسب طبيعتها المهنية إلى الإنتلجنتسيا التقنية والمثقفين. باستعمال تعبيري غولدنر، يشمل القسم الأول جموع الكوادر العلمية والتقنية، والثاني جملة العاملين في الميادين الثقافية والعلوم الإنسانية ومجالات الكتابة المختلفة كمحترفين. هذه النخبة التقنية تفوق في حقبتنا الراهنة مشكلاتها الذاتية هموم الأمة الموضوعية وتطرح أسئلة من نمط الاستحقاق المهني وسلم الأداء والاختصاص وتحسين الوضع المادي.. وهي شئنا أم أبينا مصنفة من قبل الجمهور والعامة بالنخبة.

2- قطاع المشاركة: إننا هنا أمام مجموعة انخرطت في العمل العام المدني والسياسي والثقافي، وتتصدى لدور وموقف كقوة اقتراح، كما تحمل منذ عقدين من الزمان، إلى جانب تعريف المثقف، مصطلحا آخر في حالة تضخم هو المجتمع المدني.. بالإمكان تتبع هذه الظاهرة عبر عودة بسيطة بل مبسطة إلى تعريف سولجنتسين "الإنتلجنتسيا هي مجموع الذين يلقبون أنفسهم بالمثقفين".

لقد ولدت معظم حركات الإصلاح والتغيير السياسي وحقوق الإنسان والشعوب، بتعبيراتها الفكرية والتنظيمية، في حضن النخب. وليس من الغريب أن يغادر صفوفها العديد من هؤلاء للالتحاق بمنصب حكومي. فالحدود بين السلطة والسلطة المضادة، الفكر السائد والفكر النقدي، ليست واضحة في الوعي العام. كما أنه ما زالت التعبيرات المستقلة عن السلطات الحديثة العهد في التكوين المجتمعي والثقافي، مثلما يلخص ابن خلدون، في ذهن الأغلبية، "السيف والقلم كلاهما آلة لصاحب الدولة يستعين بهما على أمره".

لقد انتهى القرن العشرين وما زالت قضايا أساسية للأمة مثل: مفهوم المواطنة، والدولة التعاقدية، والهوية السياسية والثقافية للأمة، والتكتل الاقتصادي والثقافي لحماية الوجود المادي للناس في عالم غير متكافئ ينهب فيه القوي الضعيف، إضافة لموضوعات تعزز الوحدة والنسيج المجتمعي، مثل الحريات الأساسية وحقوق الإنسان، ما زالت قضايا كهذه تعيش حالة وعي جنيني وهلامي، بل وصراعي في صفوف النخب يتعزز في النضال اليومي والمقاومة اليومية.

في حين أنها في بلدان الشمال، حيث كانت ابنة صراعات مجتمعية وثقافية، أنجزت دورها المحلي والمباشر، وإن لم تحقق بعد النقلة من الوعي المدني المحلي إلى الأفق الأممي والنظرة العالمية. ففي مدينة فرنسية صغيرة تعدادها سبعة آلاف مواطن، لا نستغرب وجود أكثر من مائة جمعية يتنوع اختصاصها من تحسين البيئة وتطوير الأبحاث ضد السرطان ومقاومة الفساد إلى مراقبة أداء البلدية وصولا لدور البلد في البناء الأوروبي.. في حين تنتظر بعض الجمعيات في عدة بلدان عربية خمسة عشر عاما لتنال ترخيصا بالعمل.

إن الغيرة على دور تنويري تاريخي هي نقطة اللقاء الأساسية بين المدافع عن الكرامة الإنسانية والمثقف النقدي والمفكر السياسي. فكل من هؤلاء يعيش هاجس الانعتاق من أربعة جدران: سجن الماضي، وقيود العرف الاجتماعي، وعسف السلطة، وهيمنة الغرب. الرباعية البائسة الكافية لأن تصبح غالبية النخب طرفا في ثقافة الخوف، وأن يدخل في دمها فيروس الإرضاء والمراضاة.

لعلنا نعيش اليوم نهاية حقبة نزيف الأدمغة من المحيط إلى دول المركز، في ظل الإنتاج الواسع والفائض عن الحاجة للنخب في دول الشمال. الأمر الذي يضطر النخب الصاعدة للتفكير أكثر فأكثر في دور ومكان في مجتمعاتها. فقد فتحت العولمة الخبيثة الحدود للبضائع والأموال، وقيدتها في كل ما يتعلق بحركة البشر.

ربما كان من الممكن للنخب في نصف القرن المنصرم، ممارسة استقالة ذاتية بعدم التصدي لمهمة التوعية المجتمعية أو تقديم تقييم ووصف دقيق للواقع. لكن عدم المشاركة اليوم في الهم الجماعي، ينعكس بالضرورة على ظروف الحياة الذاتية والوجود الموضوعي للنخبة. لأن العالم بات حالة تداخل شاملة في كل المظاهر، تداخل بين الخاص والعام، بين الذاتي والموضوعي، بين الوطني والإقليمي والدولي، بين الخصوصيات الثقافية والمشتركات العالمية.. هذا التداخل يجعل دخول النخب حيز المشاركة العامة والانخراط في هموم المجتمع ومستقبل الأمة، تعبيرا عن حالة وعي متقدمة للمصالح الذاتية، وليس فقط عن تضحية من أجل الآخرين.

فالثمن الذي تدفعه المجتمعات ذات النخب الهزيلة يشمل كل مكونات الفضاء الجغرافي لها، أي الدولة والمجتمع، الأفراد والجماعات، ومستقبل الأجيال القادمة. من هنا يشكل الالتزام، بالمعنى النبيل للكلمة اليوم، ليس فقط انخراطا في قضايا الأمة كمشروع كبير، وإنما أيضا حالة متقدمة للدفاع عن الذات.

تصبح عودة النخب للتاريخ مفعّلة عندما تخوض النخب في القول والفعل، ومن داخل الإنسانية الواعية، عملية صناعة إرادة الأشخاص الأحرار الذين يستعيدون اكتشاف عهد الذمة في الذمة العامة. أي يحققون النقلة الفكرية من الخليفة السيد إلى المواطن السيد. المواطن المدرك لحق وواجب حفظ النفس والجسد والتعلم، حرية الرأي والمعتقد، والمساواة أمام القانون.

وجود النخبة القادرة على خوض معركة التنوير هذه، يمكن أن يعيد لجملة تيودور أدورنو راهنيتها: "طالما استمر التكوين المتصارع للمجموع، وطالما أن الأفراد ليسوا عبيدا للمجتمع، بل عناصر فعالة ترغب اليوم في القضاء على ما يحط من كرامتها عن طريق فكرة "الدور"، فإن التاريخ لا يهدأ أبدا".


Thursday, August 13, 2009

الأستاذية الحقة - جابر عصفور