Thursday, July 22, 2010

فتح: هل هي 'الطريقة الشاذلية' أم أنها 'النواة الحقيقية - براء الخطيب للثورة العربية'؟

في أوائل عام 1978 والحرب الأهلية مستعرة في بيروت وبعد زيارة السادات إلى الكيان الصهيوني في الشهر قبل الأخير من عام 1977، وفد إلى بيروت في ضيافة 'منظمة التحرير الفلسطينية' كثيرون من مناضلي وكتاب ومثقفي العالم المختلفين تماما في المذاهب والتفكير والانتماءات، لكن سوف يتبقى، بالنسبة لي على الأقل، اثنان من شرفاء مصر الأكثر تأثيرا في تكويني لوجهة نظر حقيقية خاصة بي عن 'فتح' بالإضافة إلى حياتي اليومية وسط القادة والمقاتلين، وهما: الكاتب المناضل الكبير عبد الرحمن الخميسي والدبلوماسي الشهير الدكتور مراد غالب، بالنسبة لـ'الخميسي/القديس' فقد طبقت شهرته الآفاق حيث كانت أعمال 'الخميسي/القديس' قد ترجمت إلى لغات عديدة منها، الانكليزية والروسية والفرنسية وغيرها، وكانت موضوعا لرسائل الدكتوراه في جامعات أوروبية عديدة، وهو الذي قال عنه يوسف إدريس إنه 'أول من حطم طبقية القصة، وانه الرجل الذي عاش قويا عملاقا مقاتلا إلى ألف عام'، وكتب عنه الكاتب الكبير أحمد بهاء الدين قائلا: 'دهشت عندما عرفت أن عمره سبعة وستين عاما فقط وكنت أظنه أكبر من ذلك لكثرة ما أنتج وكثرة ما عاش، وكثرة ما سجن، وكثرة ما سافر في أنحاء الدنيا، وكثرة ما ترك من الأبناء والبنات في شتى عواصم العالم'، وكانت رحلة غربة 'الخميسي/القديس' الطويلة في عنفوانها، تلك الرحلة الطويلة التي تنقل فيها ما بين بيروت وبغداد وليبيا وروما وباريس وموسكو، عندما جاء 'الخميسي/القديس' قابلته في بيت الشاعر الكبير معين بسيسو أو 'وردة فلسطين الحمراء' كما كان الخميسي يحب أن يسميه، وكان الخميسي لا يدخن ولا يشرب الخمر، لكنه كان محبا في نهم شديد للطعام الفاخر، مما جعل زوجة معين بسيسو تتفنن في الطعام البسيط الذي قدمته لنا على شرف الخميسي، وعلى الرغم من بساطة الطعام الذي قدمته لنا السيدة الكريمة، إلا أنه كان من ألذ الأطعمة التي تذوقتها في حياتي، ليلتها كان الخميسي على موعد في التاسعة مساء مع 'الختيار/أبو عمار' وبعد تناول الطعام رافق الجميع الخميسي إلى مكتب أبي عمار، وكان هناك آخرون من القادة الفتحاويين سواء في الإعلام أو الأمن، وفي هذه الليلة تحدث الخميسي كثيرا عن 'فتح' بطريقته المرحة النافذة التي كانت تلخص ببساطة متناهية حقيقة 'فتح'، وقال الخميسي ليلتها إن فتح ليست منظمة واحدة ذات فكر واحد أو نظرية سياسية واحدة مثلها مثل 'الجبهة الشعبية' أو 'الديمقراطية' مثلا، بل هي أقرب لأن تكون مثل 'الطريقة الشاذلية' وضحك أبو عمار كثيرا مستملحا التشبيه، وراح الخميسي في جدية يشرح ماهية الطريقة الشاذلية الصوفية التي تضم الصوفيين في تيارات وطرق صوفية في جماعات متباينة ومختلفة الأغراض والتوجهات بحيث يكون هناك شيخ/قائد لكل طريقة أو تيار، وكل شيخ/قائد وله طريقة، بحيث يخضع كل الشيوخ/القادة لهذه التيارات المختلفة لـ'الشيخ الأكبر'، الذي يفرض سيطرته الكاملة على كل 'المشايخ/القادة' لأنه هو الوحيد الذي يملك كل دخل الطريقة الشاذلية من نقود النذور والتبرعات، كما أنه الوحيد الذي يمتلك الشرعية التاريخية في تولي المشيخة حتى تحولت الطريقة الشاذلية عند المريدين من الصوفيين إلى 'سفينة الحياة' التي تمر بركابها الأيام والأعوام وهم في جوف سفينة الحياة، فإذا صلحت أعمالهم فسوف تقودهم هذه السفينة نحو الفلاح وإن ساءت أعمالهم فسوف تقودهم هذه السفينة نحو الضياع، فضحك أبو عمار كثيرا وهو يقول داعيا: 'اللهم أصلح أعمالنا، اللهم أصلح أعمالنا'.
أما بالنسبة للدبلوماسي الشهير الدكتور مراد غالب فقد طُلب مني أن أصحب الإعلامي الكبير والكاتب المناضل زياد عبد الفتاح/أبو ديما، أمد الله في عمره ومتعه بأحفاده، لاستقبال الدكتور مراد غالب، الذي كان سفيرا لمصر في يوغوسلافيا، بعد أن أعلن استقالته كسفير لمصر في يوغوسلافيا في تشرين الثاني/نوفمبر عام 1977 مع كل من وزير الخارجية المصري آنذاك، إسماعيل فهمي وسفير مصر في لندن الفريق سعد الدين الشاذلي، حيث قدموا استقالاتهم احتجاجا على إعلان السادات ذهابه إلى إسرائيل، ولم يعد الدكتور مراد غالب إلى مصر قبل أن يحل ضيفا على منظمة التحرير الفلسطينية التي استقبلته ضيفا كبيرا في فندق من أقدم وأفخم فنادق بيروت على البحر قريبا من الروشة، طلب الدكتور بنفسه النزول فيه، وقرر زياد عبد الفتاح أن يدعو الدكتور مراد غالب الى الغداء على نفقته الخاصة فتأكد أولا من أن في جيبه مبلغا من النقود يكفي غداءنا نحن الثلاثة، ويومها اختار الدكتور مراد غالب أن يكون غداؤه من السمك فهو مشتاق لأكلة سمك في بيروت، فأشار علينا مدير الفندق أن ننتقل من مطعم الفندق ونتناول الطعام في 'تراس' زجاجي على البحر تماما في مواجهة الفندق.
وتخير الدكتور بنفسه لنا السمك الذي سوف نأكله، وجلسنا في مواجهته أنا وزياد عبد الفتاح ونحن نأكل ونشرب العرق اللبناني وسألني الدكتور عن نفسي وعندما عرف اني كنت طالبا في كلية آداب الإسكندرية قال بأنه هو الآخر تخرج من كلية الطب وعمل أستاذا في طب الإسكندرية بعدما حصل على الدكتوراه في طب الأنف والأذن والحنجرة حيث كان يرتبط بعلاقات صداقة وطيدة بكل من صلاح الدسوقي وكمال رفعت وحسن التهامي، حيث كان الثلاثة من ضباط ثورة تموز يوليو 52 وهم الذين قدموه للرئيس جمال عبد الناصر الذي طلب منه أن يترك الطب وعينه عبد الناصر سكرتيرا ثالثا في السفارة المصرية في موسكو ومرافقا للسفير الفريق عزيز المصري، حيث ساعده ذلك على إتقان اللغة الروسية، وبعد ذلك استدعاه عبد الناصر من موسكو إلى القاهرة وعينه مستشارا سياسيا له ثم عينه وكيلا لوزارة الخارجية المصرية ثم عاد سفيرا لمصر في موسكو، وراح الدكتور مراد غالب يحكي لنا عن تعيين السادات له سفيرا في يوغوسلافيا بعد وفاة عبد الناصر، حيث عرف بزيارة السادات لإسرائيل بل وقرأ برنامج الزيارة الذي كان يحتوي على شكل الاستقبال الرسمي فقد أصدر رئيس وزراء إسرائيل مناحيم بيغن مرسوما بأن 'يستقبل الرئيس السادات بشرف وكرامة لا تليق برئيس دولة فقط، وإنما برئيس دولة حليفة قريبة'، وزيارة المسجد الأقصى والصلاة فيه، زيارة قبر الجندي المجهول ووضع باقة ورد عليه، ثم زيارة تمثال 'ياد فاشيم' للمحرقة، وفي هذه اللحظة مسح الدكتور مراد غالب يده بفوطة كانت أمامه ووضع يده في جيبه وأخرج ورقة صغيرة نظر فيها للحظات كمن يريد أن يتذكر شيئا ما ثم أعادها إلى جيبه وعاد يتحدث عن أن السادات سوف يجد من المصريين من يوافقه على إبرام معاهدة للسلام مع الإسرائيليين ولن يقتصر الأمر على بعض المصريين فقط فسوف يكون هناك أيضا بعض الفلسطينيين في الأرض المحتلة فقد رحب بزيارة السادات رجل اسمه فريجي يقولون إنه عمدة بلدة اسمها بيت لحم وقد كان فريجي هذا من بين بعض وجهاء الضفة الغربية الذين استقبلهم السادات، وبدا الغضب والأسى واضحا على وجه الدكتور وهو يكمل حديثه قائلا بأن عقاب السادات سوف يكون سريعا سواء على يد المصريين أو الفلسطينيين، السادات يحكم قبضته بأجهزته الأمنية الموالية له، لكنه لا يملك نفس القبضة على الفلسطينيين، لذلك فإنه سوف يحاول إفساد منظمة التحرير الفلسطينية ولأنه (أي السادات) يعرف أن 'فتح' هي الجسد المقاتل للشعب الفلسطيني (من يومها وأنا أستخدم نفس التعبير) وروح منظمة التحرير، فسوف يعمل السادات على إفساد 'فتح' وسوف ترون أنه سوف يرفع شعار 'إفساد فتح أولا' حتى يستطيع أن يمرر معاهدته مع إسرائيل، ثم سألني الدكتور سؤالا مباشرا: هل يفترض فيك أن تقدم تقريرا لجهة ما عن مقابلتك معي؟ ترددت في الإجابة رغبة في عدم إحراج زياد عبد الفتاح الذي كان رئيسي المباشر في وكالة الأنباء الفلسطينية لكنه لم يكن يعرف (أو هكذا كنت أتصور لحظتها) أنه من المفروض أن أقدم تقريرا بالفعل، ولاحظ زياد عبد الفتاح ترددي فتصرف بنبل حتى لا يسبب لي الإحراج، وكما لو كان لم يسمع السؤال فقد نهض واقفا وهو يستأذن من الدكتور للذهاب إلى دورة المياه.
وقال الدكتور انه لا يريد أن يعرف الجهة ولا المسؤول الذي سوف أكتب له تقريري عن هذا اللقاء، لكنه يريد أن يعرف فقط هل سأكتب تقريرا أم لا، فأجبته بـ'نعم' فأخذ يوصيني بأن أكتب في تقريري كل ما قاله لي عن السادات وعن 'فتح' وعما يتصوره هو نفسه عن محاولات السادات القادمة لا محالة لإفساد 'فتح' للتخلص نهائيا من منظمة التحرير الفلسطينية، وبعدها حكي عن محاولة 'أبو عمار' مع الرئيس (الراحل) جمال عبد الناصر في إقناعه بالموافقة على إنشاء قناة تلفزيونية فلسطينية في التلفزيون المصري (لم تكن هناك فضائيات بعد) أسوة بمحطة الإذاعة الفلسطينية من القاهرة، لكن الرئيس جمال عبد الناصر رفض (أو أجل تنفيذ الفكرة)، وأخذ الدكتور مراد غالب يتحدث عن الإمكانات التحريضية للثورة الفلسطينية بقيادة 'فتح' والإمكانات العظيمة لـ'فتح' لتلعب الدور الرئيسي كبؤرة أساسية مسلحة للثورة العربية الشاملة وتثوير الشعوب العربية لدعم الثورة الفلسطينية بدلا من تدخلات أنظمة الحكم العربية على اختلاف توجهاتها في أمور وتكتيكات واستراتيجيات الثورة الفلسطينية، 'فتح'، هي الكيان الثوري الوحيد في الوطن العربي المؤهل للعب الدور الرئيسي في قيادة الثورة العربية على المدى المنظور، وبمراجعة وجهة النظر التي تقول بأن 'فتح' في طريقة تكوينها تشبه 'الطريقة الشاذلية' لتعدد 'القادة/المشايخ' الذين يرأسهم 'الشيخ/القائد' الكبير سوف نجد أن وجهة النظر هذه تلخص (كانت) الأمر برمته رغم ما في التشبيه من تبسيط فني أو روائي، فقد كانت 'فتح' تتكون من تيارات يمينية وتيارات يسارية (صينية أو سوفييتية) وبعثيين (سوريين أو عراقيين) وقوميين عرب، وكان القائدان/الشيخان خليل الوزير/أبو جهاد وصلاح خلف/ أبو إياد هما شيخا التيارين اليميني واليساري، حيث يقود كل منهما بقية التيارات الفرعية حيث كان لكل فرع يتفرع من هذه التيارات شيخ/قائد فرعي يعاون القائد الرئيسي لهذا التيار أو ذاك مثل نمر صالح/أبو صالح أو سعيد موسى مراغة/أبو موسى أو ماجد أبو شرار أو هايل عبد الحميد أو سعد صايل، إلى آخر هذه الأسماء التي لعبت دور الصف الثاني لقادة 'فتح'، وغير صحيح أن أبو جهاد أو أبو إياد كان كل منهما بمثابة الرجل الثاني في 'فتح' بل كان كل منهما شريكا (كامل الشراكة) مع القائد العام (الشيخ الكبير) ياسر عرفات، على الرغم من أن كلا منهما كان يرفض التصنيف يمينيا كان أو يساريا فقد كان أبو جهاد يقول بأن من حق كل الناس أن تصنف بعضها لكني لا أعرف سوى 'العاصفة' وقتال العدو، وكان أبو إياد يرى أن مهمته الرئيسية ليست هي أن يكون يساريا (صينيا أو سوفييتيا) بل كان يرى أن مهمته الرئيسية هي تأمين الثورة من اختراقات الأعداء.
نعم 'فتح' في كبوة لكنها قادرة بسواعد أبنائها على الخلاص من هذه الكبوة في اليوم الذي تستطيع فيه تخليق قادة حقيقيين يقودون المقاتلين (بالسلاح أو بالفكر) يقودهم قائد كبير (شابا كان أو شيخا)، قائد تتجسد فيه كل القيم النضالية الحقيقية التي تأسست عليها 'فتح' على أيدي القادة العظام (الآباء المؤسسين) الذين دافعوا عن ثورة الشعب الفلسطيني بدمائهم وأرواحهم 'فتح' الشعار الحقيقي ثورة حتى النصر.

Tuesday, July 20, 2010

الثقافة والحرب المستمرة - الياس خوري

السؤال ليس عن التسوية في فلسطين، اذ لا تسوية لا الآن ولا في المستقبل المنظور، وكل كلام آخر مجرد وهم.
نحن نعيش مرحلة جديدة من النكبة، لكنها تختلف عن السابق في واقع ان الحسم العسكري الاسرائيلي لم يعد ممكناً. عام 1948 نجح الاسرائيليون في تنفيذ جريمة التطهير العرقي الكبير من دون خسائر. حتى على المستوى الأخلاقي غض العالم 'المتحضر'، اي الغرب، النظر، وكان على العالم العربي الذي ارتضى تناسي ما جرى، ان ينتظر هزيمته المروعة عام 1967، كي يكتشف ان اسرائيل فتحت ابواب الجحيم، وان الحرب التي تشنها على الفلسطينيين والعرب، لا يمكن لها ان تنتهي.
وبالفعل فالمشرق العربي يعيش منذ ثلاثة واربعين عاما حروبا متواصلة، كأنها حلقات في سلسلة واحدة. اتخذت هذه الحروب اسماء شتى: حرب الشعب، حروب اهلية، نضال من اجل التحرر الوطني، حرب استقلال، حرب اسلامية... الأسماء كانت مجرد اقنعة او اغطية ايديولوجية، لكن جوهر المسألة واحد. لذا شهدت الحرب انزياحات ايديولوجية مستمرة في الطرفين الفلسطيني- العربي والاسرائيلي. قوميون صاروا ماركسيين وماركسيون صاروا اسلاميين، والحبل على الجرار. المهم ان تجد المعركة المفتوحة غطاء ايديولوجيا. وهذا ما حصل ايضا في اسرائيل، شارون يقفز من حزب العمل الى الليكود ومن الليكود الى كاديما، بيريس يتخلى عن العمل ليلتحق بشارون، باراك يحول العمل ذيلا لليكود والى آخره...
لا تعبّر هذه الانزياحات عن ازمة في الايديولوجيات الكبرى فحسب، بل تعبّر ايضا عن انسداد سياسي مطلق في المشرق العربي.
هذا هو المعنى العميق للنكبة المتجددة، فالمشروع الاسرائيلي مشروع كولونيالي له قوانينه الخاصة. قانونه الاساسي هو الحرب الدائمة على الجبهة الفلسطينية. يرفض اي تسوية سياسية لأنه لا يستطيع القبول بمنطق الانسحاب من الاراضي المحتلة او القبول بأي تنازلات جدية، لأن اي تنازل يعني بداية انهياره. كما انه لا يستطيع التوقف عن الغزو التوسعي قبل ان يحكم سيطرته على كل فلسطين، وحتى لو تسنى له ذلك، فليس هناك ما يضمن ان تتوقف شهيته التوسعية عند هذه الحدود.
ما يجب فهمه هو ان المشرق العربي لا يزال في المراحل الأولى من الحرب. صحيح ان حرب تشرين- اكتوبر 1973 كانت آخر حرب خاضتها الجيوش النظامية العربية، لكنها لم تكن آخر حرب خاضها الجيش الاسرائيلي. حرب تشرين انهت احدى مراحل الحرب لكنها افتتحت مراحل جديدة اكثر وحشية ودموية، كان مسرحها الرئيسي لبنان ابتداء من عام 1978 وشملت ايضا الضفة الغربية وغزة.
السؤال ليس عن الحرب المفتوحة التي صارت واقعاً لا يحتاج الى برهان، بل عن كيفية تأقلم البنى الثقافية في المشرق، وخصوصا في لبنان وفلسطين، حيث توجد ارض الاشتباك الرئيسية، مع هذا الواقع.
حين تكون الحرب مفتوحة وبلا أفق منظور، تجد الثقافة نفسها في مأزق لا سابق له. اذ ليس صحيحا اننا نستطيع، على المستوى الثقافي، مقارنة واقعنا الحالي بمرحلة الحروب الافرنجية التي اطلق عليها الغربيون اسم الحروب الصليبية. فالثقافة العربية اليوم هي وريثة النهضة والحداثة، ولا يمكن مقارنتها بالجمود الثقافي الذي جاء بعد تفكك الدولة العباسية. لذا فالمسألة الثقافية اليوم تحتل حيزا كبيرا في بناء القدرة على الصمود والمقاومة.
لكن فقدان المركز السياسي/الثقافي الذي يمكن الاتكاء عليه، يعرض الثقافة لمخاطر شتى. فبعد الانهيار المصري الذي اعقب كامب دايفيد، فقدت الثقافة السياسية العربية نصابها، حتى وان تشكّل هذا النصاب كاعتراض على الناصرية وخطابها القومي الذي ارتكز على العسكريتاريا. وبعد حرب 1973، برز الخطاب الوطني الفلسطيني كوريث للخطاب القومي، رغم انه علق في حبائل الحرب الأهلية، وبعد اوسلو وانهياراتها تداعى هذا الخطاب، خصوصا بعد هزيمة الانتفاضة الفلسطينية الثانية ليرثه خطاب اسلاموي ينتمي الى مصادر مختلفة، ومتناقضة.
هذا من دون ان ننسى الأثر المباشر لانهيار الامبراطورية السوفياتية على التداعي الفكري والتنظيمي الذي اصاب اليسار العربي في شكل عام.
كانت هذه البنى الايديولوجية متداخلة. يجب ان لا ننسى دور فكر الاخوان المسلمين في المراحل الأولى من نشوء حركة فتح مثلا، او كيفية التحول الماركسي في حركة القوميين العرب التي بدت اشبه باستبدال قبعة قديمة بقبعة جديدة. هذا التداخل جعل من الايديولوجيا اداة لاستمرار الصراع. فعندما تنهزم بنية ايديولوجية يتم استبدالها ببنية اخرى، لأن متطلبات الصراع تفترض ذلك، ولأن مقاومة احتلال استئصالي كالاحتلال الاسرائيلي لا تسمح بفسحة للتأمل واستخلاص الدروس.
هذا الواقع يعني ان ما نشهده من تبدّل ايديولوجي يبدو هائلا في الشكل، لا يعدو ان يكون مجرد تبدل في الوسائط، من دون ان يعني ذلك ابدا تبدلا استراتيجيا في الرؤية. قد يكون هذا مؤشرا على ان المشرق العربي لا يزال في مرحلة محاولة صدّ الهجوم، ولم يستطع رغم التضحيات الهائلة الانتقال الى مرحلة بلورة رؤية استراتيجية للتحرير، تبني اساسا متينا لبنية سياسية وثقافية قادرة على صوغ فكرة الانتقال من الدفاع الى الهجوم.
الدفاع افضل واشرف من الخنوع والاستسلام، لذا فان اي شكل تتخذه المقاومة، اكثر جدوى من غيابها، فالمقاومة ضرورة وواجب، حتى كدفاع سلبي عن النفس. غير ان هذا الواقع، وأفق الصراع الذي لا نجد علامات على قرب الخروج من نفقه، لا يبرران الكسل الفكري الذي يضرب النخب السياسية والثقافية العربية، ويجعلها تتلون كالحرباء بحسب مقتضيات المرحلة. بل ان هذا الأفق بالذات يطرح على الفكر السياسي العربي تحدي الخروج من المقاومة السلبية الى صوغ مشروع تاريخي جديد.