Thursday, July 23, 2009

قهوة مُرّة.. جدا مُرّة... سهيل كيوان

منذ أيام وأنا أحلم بلقاء طقم نحاس، منذ قررت زيارة البلاد وأنا أراه أمامي، ليلة الأمس تقلبت، أرقت بسببه، استعدت صورة والدتي في كهولتها وهي تجمعنا حولها في بيتنا في المخيم وتقول لنا: أثناء هجيجنا من لوبية عرجنا على قرية في الجليل اسمها دير حنا، وقبل أن نواصل مسيرتنا الملعونة شمالاً، تركتُ هناك طقم نحاس، كان هذا لوالدي، جدكم أورثني إياه، وهو غال عليّ، تركته لدى امرأة فاضلة هناك..
قلت - يعني لو دخلنا الآن قرية دير حنا، وسألنا عن طقم نحاس تركته امرأة من لوبية في عام الهجيج..ألا تعتقد أنها ستكون نكتة ظريفة! ثم من ستسأل الآن عن طقم نحاس في قرية كان عدد سكانها بضع مئات وصارت الآن حوالي عشرة آلاف! ثم كم تبقى من نساء ذلك الزمن! في أحسن الأحوال سنجد بضع عجائز! بعد كل هذا الذي مر على الناس والمنطقة والعالم في الستين سنة الماضية..من يذكر طقم نحاس! ثم من يدري! لعل ابن هذه الامرأة أعجبه الطقم فأخذه لاستعماله الشخصي! بل ربما باعه أحد أحفادها! هل تعرف كم يساوي مثل هذا الطقم بالنسبة للولد! قد يكون ثروة لأسبوع على الأقل، ولا أستغرب حتى لو اهتدينا الى هذه السيدة (العجوز) أن تعتذر وتقول..إن (مقصوف الرقبة) فلاناً من أحفادها غافلها وباعه! أذكر في طفولتنا رجلاً كان يشتري منا النحاس، لا أعرف من أين كنا نعثر على كل تلك الكميات من هذا المعدن، بعض الأولاد الأشقياء لم يتورعوا عن سرقة أوان منزلية من أمام البيوت وبيعها له!
رد باسم - أنا متأكد أن طقم النحاس ما زال موجوداً....بل وأعرف الإمرأة التي تحتفظ به...إنها جدة لشاب يدعى رائف ....
رائف!
نعم ..التقيته في الدنمارك قبل بضع سنوات في نشاط سياسي...عرّف على نفسه أنه من قرية دير حنا! عندما عرفته عليّ وقلت إنني لوباني الأصل ضحك رائف وقال لي: بالمناسبة..جدتي تقول إن امرأة من لوبية مرت من هناك في عام الهجيج......تركت عندها طقم نحاس ريثما تعود....
طبعا اقشعر بدني...في كل مرة حدثتنا والدتي عن لوبية ومسيرة الهجيج، لم تنس الطقم الذي ورثته عن والدها...وتركته هناك ...والسؤال هل هو الطقم نفسه!
قلت - حسناً، دير حنا ليست بعيدة...لماذا لا نجرب! ماذا سنخسر!
- الصباح رباح....
- بل الآن ...في الصباح يخرج العمال إلى أعمالهم، فلنذهب الآن....
في حوالي العاشرة مساء دخلنا دير حنا..وهي من قرى الجليل الجميلة، تقع على هضبة، فيها قلعة من قلاع ظاهر العمر الزيداني، شوارعها القديمة مرصوفة بالحجر المدقوق، فيها معصرة زيتون على الطراز القديم ومتحف صغير لسياحة طلاب المدارس، كذلك فيها معاصر زيتون حديثة، تشرف على سفوح وكروم زيتون على مد النظر من جهة، ومن جهة على سهل البطوف الذي يسيل لعاب السلطات عليه منذ عشرات السنين، والذي كانت مصادرة أجزاء منه أحد أسباب انتفاضة يوم الأرض الأولى.
رحنا نسأل المارة عن رائف الناشط السياسي الذي التقاه باسم في الدنمارك قبل سنوات، عثرنا على أكثر من رائف واحد، ولكن لم يمض وقت طويل حتى أشار لنا أحدهم إلى فرن للخبز صاحبه نسيب لرائف، خلال دقائق كنا هناك، هبطت من السيارة وسألت عن ..رائف...
رد صاحب الفرن - أنا نسيبه...تفضلوا إشربوا إشي بارد....أهلا وسهلا.. كلوا إشي...بحياة الله .. منقوشة...فطيرة بجبنة....
وما هي سوى دقائق حتى هاتف شخصا ما، وبعد دقائق وصل مرحباً بنا...أنا أبو ماهر شقيق رائف.... رائف مسافر... تفضلوا....
عرّفته على رفيقي - هذا صديقي أصله من لوبية....يعيش في الدنمارك اليوم....التقى شقيقك رائف قبل سنوات...وقد أخبره أن لدى جدته (يعني جدّتك) طقم نحاس لامراة من لوبية منذ عام النكبة...
أعلن أبو ماهر حالة طوارئ من خلال هاتفه، استدعى أشقاءه وشقيقاته وأزواجهن الى بيته، وخلال ساعة تم ذكر عشرات الأسماء وإعادة كل اسم إلى نسبه وأصله وفصله واكتشفت صلات قربى وأنساب وصداقات ضاربة في أعماق الزمان والمكان..
نعم الجدة توفيت منذ عامين فقط، تحدثت مرارا عن طقم نحاس لسيدة من لوبية اسمها ثريا ..... كان معها زوجها وطفل ....
- والدتي هي ثريا ابراهيم ذياب والطفل هو شقيقي الأكبر...يعيش في أمريكا اليوم....قال باسم...
بعد الضيافة انتقلنا راجلين في موكب كبير إلى بيت الجدة في وسط الحي القديم، غرفتان حجريتان واسعتان وشرفة، مطبخ وسدّة، في المطبخ قاطع مفصول بستارة من قماش، وراء الستارة (شقاشيق) تستخدم في عملية قطف الزيتون، أكياس من الخيش وقطع من النايلون للهدف ذاته، برميل، أدوات منزلية ضخمة لم تعد قيد الاستعمال، جرّة ضخمة قديمة من الفخار واضح أنها تستعمل لتخزين الزيت..قال أبو ماهر: إنها تحفة قديمة، دفع لي فيها أحد جامعي الأنتيكا عشرة آلاف شيكل..ولم أتنازل عنها، ثم انحنى وسحب كانونا من النحاس عَلته الغبرة، فيه محماسة، دلة، إبريق، مصبّان، سحبه إلى وسط الغرفة، والجميع ينظرون إليه برهبة تكاد تكون مقدسة ...
قرفص (باسم)، تأمل الأواني واحدة واحدة ثم رفع الدلة الثقيلة...وراح يتحسس زخرفاتها، يفتح غطاءها وينظر داخلها..
قلت مقاطعاً تأملاته - هل تعرف مراحل غليان القهوة السادة؟
لا أعرف...
- أربع مراحل لغليان القهوة السادة...كل مرحلة لها اسم حسب حجم فقاعة القهوة على وجه الدلة، في أول غليانها يقولون ...(فوّلت)..أي أن الفقاعات صارت بحجم حبة الفول، ثم حمّصت..وعدّست..ثم سمسمت ..أي صار حجم الفقاعات بحجم حبات السمسم وصارت جاهزة للشرب.....
شغلة طويلة...قال باسم...
- طبعا.. يحتاج إعدادها إلى نهار كامل، كانت القهوة السادة فقط في بيوت المتفرغين لها،اليوم على الغالب تقدم في المناسبات، يعدّونها بسرعة ويحتسونها قبل أن تسمسم...
على كل حال...ها قد وصلت الأمانة لأصحابها بعد ستة عقود....
قال أبو ماهر متوجهاً إلى باسم ومشيرا إلى الطقم: تفضل الأمانة..إنها لك....
فرد باسم: ما قيمتها إذا أخذتها معي إلى الدنمارك! قيمتها بأن تبقى هنا...ثم وقف في مواجهة أبناء الأسرة وكأنه يستعيد ما كانت قالته والدته ربما في هذه الغرفة ذاتها قبل ستة عقود: بعد أيام سأعود إلى الدنمارك، الأسرة موزعة بين أمريكا وأوروبا ولا أعلم إلى أين قد أصل، سأنقل لأبنائي قصة طقم النحاس الذي تركته جدتهم عام الهجيج عند أسرتكم الكريمة في دير حنا، وها أنا أجدد الأمانة مرة أخرى، أتركها عندكم فأنتم خير من...من ...من..من...من يحفظ الأمانة.....م

No comments:

Post a Comment